من يتنازل خطوة يتنازل ميلاً كاملاً ومن يكذب مرة فهو قادر بعدها أن يكذب كل مرة
مثقف اليسار العربي من الكائنات البرمائية.
تأمل جيداً ما يجري في راهن مثقفي اليسار العربي والمغاربي من حولنا، يا سيدي، حاول أن تتذكر أسماء كبيرة من الجيل الأول، جيل سبعينيات القرن الماضي، كانت هذه الأسماء إلى عهد غير بعيد سيدة الساحة الأدبية والإعلامية والجامعية من بيروت، مروراً بدمشق والقاهرة وتونس والجزائر والرباط بكتابات مليئة بشعارات الثورة الاشتراكية والعدالة والديمقراطية والطبقة العاملة العالمية والفلاحين. هناك زلزال اجتماعي وسياسي وثقافي وإعلامي عنيف ضرب هذه المجموعة الاجتماعية والثقافية في الجوهر.
من خمسينيات القرن الماضي حتى سقوط جدار برلين، كان اليسار الثقافي والإعلامي والأدبي هو المهيمن على الساحة برمتها، هو من يفتي في جميع القضايا السياسية والجمالية والاجتماعية واللغوية، كانت الساحة الأدبية تقسم باسم الطبقة العاملة، وتوزع منشورات الأحزاب الشيوعية قبل دواوين الشعر والروايات.
كان مثقف اليسار ينام ويصحو على خطابات نقد الرجعية العربية سليلة الإقطاع الفلاحي أو البورجوازية الكومبرادورية؟ وكان لا يتوقف عن سلخ الأنظمة الملكية وأشباهها من أنظمة التوريث السلالي، يسهر على أغاني مارسيل خليفة والشيخ إمام وخالد الهبر، ويعتبر أم كلثوم وعبدالحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب والموسيقى الأندلسية ثقافة بورجوازية يجب محاربتها، فهي سبب تردي الذوق وسبب انتشار الوعي الزائف وسبب هزيمتنا في حرب 1967، كان مثقف اليسار العربي لا يتحدث إلا واستشهد بقول فلاديمير لينين أو جورج لوكاش أو أنطونيو غرامشي أو لوي ألتوسير، شأنه شأن الفقيه الذي في كل جملة يذكر حديثاً أو آية، يحفظ جملاً من كتب في السياسة والأيديولوجيا والبروباغندا يستشهد بها كما يستشهد بنصوص الكتب المقدسة.
ماذا حصل يا ترى لمثقف اليسار؟
تغير العالم، انقلب الوضع رأساً على عقب، فعاد "الطليعيون" و"الشيوعيون" و"الماركسيون" إلى "الحظيرة" الثقافية والسياسية العامة، غمروا أقدامهم في الماء البارد، وأصبحوا بين عشية وضحاها أرانب سعداء بما كسبوا، ليكتشف العامة من القراء والمواطنين بأن الأسد الذي كان يتعنتر في الإعلام والجامعة وملتقيات الأدب ما هو إلا أرنب لبس فرو الأسد؟ وأن النمر الذي كان يعبر الأسواق والتجمعات ما هو إلا عنزة ترتدي فرو النمر؟
ماذا حصل لمثقف اليسار العربي والمغاربي؟
كل شيء ممكن لدى المثقف، وأولها خيانة المواقف التي تبناها البارحة، أو التنكر لها، ولعل "أخطر الخيانات هي خيانة المثقف لأنه الوحيد من الخونة القادر على تبرير ما لا يبرر"، قادر على أن يقنع العامة بأن "المعزة" تطير، وأن الشمس قد تشرق من الغرب و"تطلع" من الشرق، وأن "البغلة" قد تحبل وتلد فهداً أو حصاناً بربرياً أو عربياً.
ومثقف اليسار العربي قادر أن يقنع العامة بأن ما كان يقوم به سابقاً هو من باب "نقص التجربة" و"فورة الشباب" و"المراهقة الفكرية" و"الرومانسية اليسارية" و"الاندفاع السياسي"، وقد عفا الله عما سلف. يقول كل هذا ليبرر تهافته على جوائز أدبية أو تكريمات تقدمها أنظمة ومؤسسات وشخصيات أميرية وسياسية كانت قبل هذه السنوات في خانة ما يسمى الرجعية والإقطاع والملكية بحسب قاموس مثقف اليسار العربي بكل قبائله، يجري الجميع خلف الجوائز "الإقطاعية"، وحين يحصل عليها يحولها إلى نيشان للتنوير والتحرير.
ما الذي جرى لمثقف اليسار العربي؟
هل سقط حائط برلين على أفكار مثقف اليسار فقبرها، هل سقوط النظام السياسي وتفككه في الاتحاد السوفياتي أسقط أسنان مثقف اليسار العربي فما عاد قادراً على العض وأصبح جراء ذلك من الزواحف؟
هل مثقف اليسار لم يكن سوى تابع أو ظل للسياسي المعلق في الأيديولوجيا وأوهام الجري وراء السلطة أو ضدها.
الغريب أن غالبية مثقفي اليسار العربي كانت مواقفهم ضد الماوية من خمسينيات القرن الماضي، حتى تفكك الاتحاد السوفياتي، بل كانوا يعتبرون الصين نظاماً سياسياً مشوهاً للنظرية الماركسية، لم نعرف في العرب والمغاربيين من المثقفين، وحتى من الأحزاب الشيوعية من كان مؤيداً لماو تسي تونغ وأتباعه، باستثناء بعض التنظيمات المجهرية التروتسكية التي كانت محاربة من قبل اليسار العربي السوفياتي نفسه، اليوم ذهب الاتحاد السوفياتي وبقيت الصين بحزبها الشيوعي، قوة اقتصادية وسياسية وتكنولوجية تقود العالم على كل المستويات.
بين سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة الأولى ظهر التيار الإسلاموي العنيف بمثقفيه "الدعاة"، والذي هو صنيع أميركا كخصم مشبوه بديل عن الاتحاد السوفياتي، فكان المثقف الداعية في حركة الإسلام السياسي المتبني نظرية التوليتارية الثيوقراطية يبحث عن موقع مركزي في المجتمع الثقافي والجامعي والإعلامي، فاحتل إلى حد ما مكانة مثقف اليسار الشاغرة، وانسحب مثقف اليسار إلى الظل.
وكي يستعيد مثقف اليسار العربي حضوره كديك "الخم" العمومي، التفت يميناً ويساراً بحثاً عن نموذج يقتدي به لاستعادة مجده تحت الأضواء، فأدرك أن من يحتل صدارة التأثير في الأوساط الاجتماعية والثقافية والجمالية، بعد الدعاة الإسلاميين، هو المثقف "المؤثر" على شبكة وسائل التواصل الاجتماعي.
إن صعود نجم المثقف "المؤثر" على وسائل التواصل الاجتماعي أعاد لمثقف اليسار شهية البحث من طريق العودة لمنصة التأثير "النجومي"، لكن من موقع آخر غير الموقع اليساري السابق.
كان على مثقف اليسار كي ينخرط في فلسفة "المؤثرين" ويعود إلى منصة الوجود تبديل خطابه، تغيير قناعاته، وتدوير أفكاره.
من يتنازل خطوة يتنازل ميلاً كاملاً، من يسرق بيضة يستطيع أن يسرق بقرة، من يكذب مرة فهو قادر بعدها أن يكذب كل مرة، تلك هي حكاية تنازلات مثقف اليسار العربي، يعيش سقطة سياسية أولى، ثم يتعود على السقوط نحو الهاوية، ثم يقضي وقتاً في البحث عن تبرير السقوط، ويحاول أن يقنع القارئ والمواطن بأن السقوط هو حالة صعود.
مصاب بمرض النجومية القاتل للفكر الحر والإبداع والصدق الإنساني، تسلل مثقف اليسار إلى المناطق الجديدة للثقافة العربية التي تأسست في دول الخليج البترولية التي أنشأت عديداً من مراكز بحث والقنوات الإعلامية والجامعات والمجلات والجوائز الأدبية التي يسيل لها اللعاب.
وهو يزحف في جغرافيا ثقافة أنشأتها أنظمة كثيراً ما حاربها وانتقدها في كتاباته، كان مثقف اليسار العربي يتنازل عن كل ما صنع شخصيته في الماضي، طلق ماركس ولينين وغرامشي وألتوسير وأصبح الأمير أو السلطان سيده وراعيه وصاحب نعمته، وهو الذي كان بالأمس مصنفاً في خانة الرجعية والإقطاع وما صاحب ذلك من مفاهيم كانت سائدة في النقد والرجم.
بوصول مثقف اليسار إلى حضن المال الثقافي الخليجي تنازل عن لسانه، أعطاه عشاء للقطة، وأصبح يكتب "الروايات الوردية" و"أشعار الهومان" والمقالات الصحافية التي لا رائحة فيها لتأويل قد تزعج الغوغاء والأسياد على السواء، وأصبح ينتظر نظرة من السلطان ولي نعمته أكثر ما ينتبه للقارئ الذي ما هو إلا الطريق لتكريس "نجوميته" وكبر حجمه في عين ولي أمره.
مثقف اليسار العربي من الكائنات البرمائية.
تأمل جيداً ما يجري في راهن مثقفي اليسار العربي والمغاربي من حولنا، يا سيدي، حاول أن تتذكر أسماء كبيرة من الجيل الأول، جيل سبعينيات القرن الماضي، كانت هذه الأسماء إلى عهد غير بعيد سيدة الساحة الأدبية والإعلامية والجامعية من بيروت، مروراً بدمشق والقاهرة وتونس والجزائر والرباط بكتابات مليئة بشعارات الثورة الاشتراكية والعدالة والديمقراطية والطبقة العاملة العالمية والفلاحين. هناك زلزال اجتماعي وسياسي وثقافي وإعلامي عنيف ضرب هذه المجموعة الاجتماعية والثقافية في الجوهر.
من خمسينيات القرن الماضي حتى سقوط جدار برلين، كان اليسار الثقافي والإعلامي والأدبي هو المهيمن على الساحة برمتها، هو من يفتي في جميع القضايا السياسية والجمالية والاجتماعية واللغوية، كانت الساحة الأدبية تقسم باسم الطبقة العاملة، وتوزع منشورات الأحزاب الشيوعية قبل دواوين الشعر والروايات.
كان مثقف اليسار ينام ويصحو على خطابات نقد الرجعية العربية سليلة الإقطاع الفلاحي أو البورجوازية الكومبرادورية؟ وكان لا يتوقف عن سلخ الأنظمة الملكية وأشباهها من أنظمة التوريث السلالي، يسهر على أغاني مارسيل خليفة والشيخ إمام وخالد الهبر، ويعتبر أم كلثوم وعبدالحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب والموسيقى الأندلسية ثقافة بورجوازية يجب محاربتها، فهي سبب تردي الذوق وسبب انتشار الوعي الزائف وسبب هزيمتنا في حرب 1967، كان مثقف اليسار العربي لا يتحدث إلا واستشهد بقول فلاديمير لينين أو جورج لوكاش أو أنطونيو غرامشي أو لوي ألتوسير، شأنه شأن الفقيه الذي في كل جملة يذكر حديثاً أو آية، يحفظ جملاً من كتب في السياسة والأيديولوجيا والبروباغندا يستشهد بها كما يستشهد بنصوص الكتب المقدسة.
ماذا حصل يا ترى لمثقف اليسار؟
تغير العالم، انقلب الوضع رأساً على عقب، فعاد "الطليعيون" و"الشيوعيون" و"الماركسيون" إلى "الحظيرة" الثقافية والسياسية العامة، غمروا أقدامهم في الماء البارد، وأصبحوا بين عشية وضحاها أرانب سعداء بما كسبوا، ليكتشف العامة من القراء والمواطنين بأن الأسد الذي كان يتعنتر في الإعلام والجامعة وملتقيات الأدب ما هو إلا أرنب لبس فرو الأسد؟ وأن النمر الذي كان يعبر الأسواق والتجمعات ما هو إلا عنزة ترتدي فرو النمر؟
ماذا حصل لمثقف اليسار العربي والمغاربي؟
كل شيء ممكن لدى المثقف، وأولها خيانة المواقف التي تبناها البارحة، أو التنكر لها، ولعل "أخطر الخيانات هي خيانة المثقف لأنه الوحيد من الخونة القادر على تبرير ما لا يبرر"، قادر على أن يقنع العامة بأن "المعزة" تطير، وأن الشمس قد تشرق من الغرب و"تطلع" من الشرق، وأن "البغلة" قد تحبل وتلد فهداً أو حصاناً بربرياً أو عربياً.
ومثقف اليسار العربي قادر أن يقنع العامة بأن ما كان يقوم به سابقاً هو من باب "نقص التجربة" و"فورة الشباب" و"المراهقة الفكرية" و"الرومانسية اليسارية" و"الاندفاع السياسي"، وقد عفا الله عما سلف. يقول كل هذا ليبرر تهافته على جوائز أدبية أو تكريمات تقدمها أنظمة ومؤسسات وشخصيات أميرية وسياسية كانت قبل هذه السنوات في خانة ما يسمى الرجعية والإقطاع والملكية بحسب قاموس مثقف اليسار العربي بكل قبائله، يجري الجميع خلف الجوائز "الإقطاعية"، وحين يحصل عليها يحولها إلى نيشان للتنوير والتحرير.
ما الذي جرى لمثقف اليسار العربي؟
هل سقط حائط برلين على أفكار مثقف اليسار فقبرها، هل سقوط النظام السياسي وتفككه في الاتحاد السوفياتي أسقط أسنان مثقف اليسار العربي فما عاد قادراً على العض وأصبح جراء ذلك من الزواحف؟
هل مثقف اليسار لم يكن سوى تابع أو ظل للسياسي المعلق في الأيديولوجيا وأوهام الجري وراء السلطة أو ضدها.
الغريب أن غالبية مثقفي اليسار العربي كانت مواقفهم ضد الماوية من خمسينيات القرن الماضي، حتى تفكك الاتحاد السوفياتي، بل كانوا يعتبرون الصين نظاماً سياسياً مشوهاً للنظرية الماركسية، لم نعرف في العرب والمغاربيين من المثقفين، وحتى من الأحزاب الشيوعية من كان مؤيداً لماو تسي تونغ وأتباعه، باستثناء بعض التنظيمات المجهرية التروتسكية التي كانت محاربة من قبل اليسار العربي السوفياتي نفسه، اليوم ذهب الاتحاد السوفياتي وبقيت الصين بحزبها الشيوعي، قوة اقتصادية وسياسية وتكنولوجية تقود العالم على كل المستويات.
بين سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة الأولى ظهر التيار الإسلاموي العنيف بمثقفيه "الدعاة"، والذي هو صنيع أميركا كخصم مشبوه بديل عن الاتحاد السوفياتي، فكان المثقف الداعية في حركة الإسلام السياسي المتبني نظرية التوليتارية الثيوقراطية يبحث عن موقع مركزي في المجتمع الثقافي والجامعي والإعلامي، فاحتل إلى حد ما مكانة مثقف اليسار الشاغرة، وانسحب مثقف اليسار إلى الظل.
وكي يستعيد مثقف اليسار العربي حضوره كديك "الخم" العمومي، التفت يميناً ويساراً بحثاً عن نموذج يقتدي به لاستعادة مجده تحت الأضواء، فأدرك أن من يحتل صدارة التأثير في الأوساط الاجتماعية والثقافية والجمالية، بعد الدعاة الإسلاميين، هو المثقف "المؤثر" على شبكة وسائل التواصل الاجتماعي.
إن صعود نجم المثقف "المؤثر" على وسائل التواصل الاجتماعي أعاد لمثقف اليسار شهية البحث من طريق العودة لمنصة التأثير "النجومي"، لكن من موقع آخر غير الموقع اليساري السابق.
كان على مثقف اليسار كي ينخرط في فلسفة "المؤثرين" ويعود إلى منصة الوجود تبديل خطابه، تغيير قناعاته، وتدوير أفكاره.
من يتنازل خطوة يتنازل ميلاً كاملاً، من يسرق بيضة يستطيع أن يسرق بقرة، من يكذب مرة فهو قادر بعدها أن يكذب كل مرة، تلك هي حكاية تنازلات مثقف اليسار العربي، يعيش سقطة سياسية أولى، ثم يتعود على السقوط نحو الهاوية، ثم يقضي وقتاً في البحث عن تبرير السقوط، ويحاول أن يقنع القارئ والمواطن بأن السقوط هو حالة صعود.
مصاب بمرض النجومية القاتل للفكر الحر والإبداع والصدق الإنساني، تسلل مثقف اليسار إلى المناطق الجديدة للثقافة العربية التي تأسست في دول الخليج البترولية التي أنشأت عديداً من مراكز بحث والقنوات الإعلامية والجامعات والمجلات والجوائز الأدبية التي يسيل لها اللعاب.
وهو يزحف في جغرافيا ثقافة أنشأتها أنظمة كثيراً ما حاربها وانتقدها في كتاباته، كان مثقف اليسار العربي يتنازل عن كل ما صنع شخصيته في الماضي، طلق ماركس ولينين وغرامشي وألتوسير وأصبح الأمير أو السلطان سيده وراعيه وصاحب نعمته، وهو الذي كان بالأمس مصنفاً في خانة الرجعية والإقطاع وما صاحب ذلك من مفاهيم كانت سائدة في النقد والرجم.
بوصول مثقف اليسار إلى حضن المال الثقافي الخليجي تنازل عن لسانه، أعطاه عشاء للقطة، وأصبح يكتب "الروايات الوردية" و"أشعار الهومان" والمقالات الصحافية التي لا رائحة فيها لتأويل قد تزعج الغوغاء والأسياد على السواء، وأصبح ينتظر نظرة من السلطان ولي نعمته أكثر ما ينتبه للقارئ الذي ما هو إلا الطريق لتكريس "نجوميته" وكبر حجمه في عين ولي أمره.