أمين الزاوي - نعم ''امسيردا'' أعظم وأجمل من واشنطن ومن بيكين

المكان الذي نحمله في الإبداع أكبر من الحجر ومن الشوارع ومن الزمن·
حسب عمتي ميمونة -أطال الله في عمرها- فقد ولدت في دار اسمها ''دار عثمان'' التي لا أعرفها إلا من خلال هذه العمة التي أحبها كثيرا لأنها ظلت رغم كل المحن التي بلاها بها الزمن، ظلت قوية وضحوكة ومبتسمة دائما، فقد رزقت بولدين مختلين عقليا، وماتت ابنتها الوحيدة في سن مبكرة ومات ابنها عبد القادر الذي وهب من الذكاء ما لا يتصور، مات هو الآخر شابا وقد ذهب وفي حلقه مرارة ليست كالمرارة، تتمثل في كون بعض الصغار ممن تآمروا عليه في جامعة وهران ولم يناقش رسالة الماجستير التي كتبها باجتهاد خارق عن ''القراءة عند الجاحظ''، التي سأنشرها في يوم قريب، على الرغم من أن عمتي لا تزال حتى الآن كلما التقيتها، يحصل هذا مرات قليلة لانشغالات الدنيا السخيفة، لا تزال تمسك بي، تعانقني وتضربني وتعنفني وتسبني سباب المحبة العالية، كما لو أنني لا أزال طفلا مقهقها أركب ظهرها في الحفلات والأعياد وهي تقول: أنت ولدت بدار عثمان، ومهما كان إلحاح عمتي على هذا المكان الذي لم أستطع أن أجده في ذاكرتي مطلقا، إلا أن قرية أو على الأصح دشرة ''أولاد سيدي سليمان'' التي منها عرفت العائلة الكبيرة والعالم هي التي تسكن رأسي· وقرية أولاد سيدي سليمان هذه هي ''دشرة آل الزاوي'' الذين يقال عنهم، وهذا على رواية أستاذ عالم هو الأستاذ حسني محمد -رحمه الله- وكان أستاذا للأدب المغربي القديم بجامعة وهران، الذي لم أعرف في حياتي العلمية والجامعية شخصية جادة ودقيقة المرجع والتواريخ والأنساب مثله، كان الأستاذ حسني يقول لي وأنا أدرس عليه الأدب المغربي القديم والأدب اليوناني: ''إنك من سلالة الملك الأندلسي الأمير زاوي''، وكان يتكلم مدعما حديثه بمراجع ومخطوطات لا تخلو منها محفظته، كنت أبتسم وأنا أسمع كلام هذا العالم الذي كان يتقن اللغتين العربية والفرنسية، كنت أبتسم وبين نفسي ونفسي، أنا المتشبع بالفلسفة المادية التاريخية، أقول: ألم يجد الأمير الزاوي الأندلسي هذا مكانا آخر ينزل فيه بعد أن طردتهم جيوش الملكة إزابيللا سوى هذا المكان الأحرش، ليستقر، وأضحك من ملوك عاشوا في القصور وماتوا في الدشور· ولكني وأنا أكبر في هذا المكان البسيط بدأت أدرك سحره العجيب، وبدأ يسكنني دون أن أعلم· وآمنت بأن من اختار هذا المقام سكنا لن يكون سوى أميرا أندلسيا، مسكونا بالشعر والتصوف وحب السماء والنساء·
ثم سافرت إلى تلمسان للدراسة لأقضي فيها سنوات مرحلتي المتوسط والثانوي، وكنت أخضع للنظام الداخلي، وكانت تلمسان أول مكان يسرقني من قرية ''أولاد سيدي سليمان''، ومع أنني انتقلت من دشرة أسسها أحفاد الأمير زاوي الأندلسي ودخلت مدينة أسسها وسكنها ملوك الأندلس، وهي ما هي عليه من جمال وفتنة، إلا أن دشرتي ظلت أكبر وأعز إلى قلبي من المدينة هذه بقصورها وبساتينها وموسيقاها الأندلسية، وفي مرحلة تالية مع أنني أيضا سافرت وأقمت سنوات الدراسة العليا في دمشق، إلا أن هذه المدينة التي تشبه تلمسان في كل شيء، في الرقة والتجارة والفن، التي أغرت كثيرا من علماء تلمسان للرحيل والإقامة فيها، على الرغم من كل ذلك إلا أن مدينة دمشق لم تكن بكل هذا النهر الخرافي ''بردي'' الذي غنته فيروز وجلله وخلده أمير الشعراء أحمد شوقي والغوطة ومسجد الأمويين وصباح فخري وقصر العظم··· لم تكن دمشق الفاتنة قادرة على تغطية دشرتي بامسيردا أو تحجبها ولو لدقيقة عن عيني، وحين نشرت مجموعتي القصصية ''شكيف'' عبر طائر ''لفينيقس البحر المتوسط'' بدمشق، كانت افتتاحيتها بهذه العبارة: ''من لم يعرف أحراش امسيردا لم يعرف الدنيا''· كتبت ذلك وأنا في مدينة يقال، والحجة على مؤرخها ابن عساكر، إنها كانت أول مدينة رفع سور بعد طوفان نوح عليه السلام·
لماذا يا ترى نحب الأماكن ونفضل هذا عن ذاك؟
الأماكن التي نكتب عنها هي تلك التي لعبنا فيها زمن الطفولة، ففن اللعب الطفولي كالكتابة تماما، يلتقيان في العفوية والصدق والتحدي والمتعة·
عشقت هذا المكان البسيط، الذي هو دشرتي بامسيردا، والذي أصبح اليوم يشبه الأطلال الدارسة، لأنه ملعب الطفولة، فعلى أطراف الدشرة، أذكر أننا كنا نلعب لعبة نسميها: لعبة الحجل، مع أقراني من أبناء عمومتي، ولعبة الحجل هذه تتمثل في أن يخفي كل واحد منا عشا يصنعه، ليترك الآخرين يبحثون عنه، كانت الطبيعة التي تحيط بالدشرة معشوشبة حد التوحش، وأذكر أننا كنا نلعب، وإذ الليل سقط نادت علينا أختي حفيظة لكي ندخل، وأنهينا اللعبة ولم يستطع أحد اكتشاف المخبأ الذي بنيت في العش، وتركناه هكذا، وافترقنا، وكان عليّ أن أسافر في اليوم التالي إلى مدينة تلمسان للدراسة، وقضيت في الداخلية شهورا، وحين عدت نسيت المكان الذي بنيت فيه العش، وضاع، ولا زلت حتى اليوم حينما تتاح لي فرصة زيارة تلك الأطلال أتساءل أين أخفيت ذاك العش يا ترى؟ لم تستطع المدن الكبيرة التي زرتها أو أقمت فيها من بيكين إلى واشنطن مرورا بريو دي جانيرو بباريس وفرانكفورت وكاركاس ودمشق ودبي والجزائر العاصمة وهونكونغ وشيكاغو وغيرها، جميع هذه المدن الجميلة والساحرة لم تستطع أن تحجب عني شمس دشرتي في أمسيردا، أو تسحبها من ذاكرتي·
عشقت دشرتي بامسيردا لأنني فيها قرأت كتابين عظيمين كانا علامتين في مساري الأدبي، فيها قرأت القرآن على والدي وحفظت جزا كبيرا منه دون أن أدخل كتابا من الكتاتيب، وفيها قرأت، وفي عزلة شبه دينية أيضا، جبران خليل جبران وحفظت كتاب ''النبي'' عن ظهر قلب· حين ألتفت إلى الزمن الذي مضى، أقول: إن هذا المكان في رموزيته مرتبط أصلا في ذاكرتي بهذين الكتابين·
وعشقت دشرتي بامسيردا لأن في مقبرتها الصغيرة مقبرة ''الدومة'' المطلة على وادي المالحة، فيها دفنت أختا كانت بالنسبة إليّ أماً ثانية، في مقبرتها الصغيرة هذه دفنا أختي الغالية ربيعة، رحلت عنا وهي عاتق لم تتزوج· فكانت فاجعة ليس بمثلها فاجعة·
إن المكان الذي نحمله معنا في الذاكرة وفي المخيال، هو ذاك المرتبط بالطفولة بسعادتها الملائكية وبصدماتها العنيفة كالموت أو الحب، ولا أزال حتى اليوم حين أكتب نصا بالعربية أو بالفرنسية ولو كان عن مكان حقيقي أو متخيل تتحرك فيه شخصية من شخصياتي الروائية إلا وأجدني مسكونا بطيف ذاك المكان، مكان الطفولة والأحلام·

* نشر في الجزائر نيوز يوم 01 - 11 - 2010

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى