إذا كانت المنظومة التربوية متجذرةً في المجتمع، يجب عليها، رغم هذا التَّجدُّر، أن تُتبِث أو أن تبرِّرَ وجودَها في هذا المجتحع الذي يستفيد من خدماتها. وبالمقابل، فعلى المجتمع أن يوضِّحَ علاقتَه معها. وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن وجود أية منظومة تربوية في مجتمع ما يرتكز على أسس نظرية، بدونها، لا سبيل لذكر هذا الوجود. وهذا يعني أن المنظومة التَّربوية، ككِيانٍ ملموسٍ، نابعة مسبقا من أُسسٍ نظرية، المجتمعُ هو الذي بناها.
وهذا جانب نوعي (فكري) لا يمكن إغفالُه أو تجاهُلُه في كل تحليل أو إعادة نظر تخضع لهما المنظومة المذكورة. ورغم أن هذا الأمرَ، أي الجانب النوعي (الفكري/النظري) لا يُدرَك في أول وهلة، يبقى هو العامل الأول الذي يُحدِث تأثيرا على توجُّه الممارسة التربوية، في حالة القيام بإصلاحِها. فمن المفروض أن تتمحور التحاليلُ حول هذا الجانب النوعي من أجل إيجاد عناصرَ تفسيرٍ للهوة التي تفصل بين بعض المنظومات التربوية والواقع الاجتماعي الذي تعمل فيه. وتوضيحاً لهذا الأمر، فعندما يُراد إصلاح منظومة تربوية ما، فهذا معناه أن الأسسَ النظرية التي ترتكز عليها هذه المنظومة أصبحت متجاوزة وتستدعي إعادةَ النظر فيها.
فعلا، إن أية منظومة تربوية هي إنتاجٌ نابعٌ من المجتمع، ولكن بالمقابل، فإنها تُساهم في بناء هذا المجتمع. وبعبارة أوضح، يجدر القول بأن أية منظومة تربوية، هي في الحقيقة، صورةٌ للمجتمع الذي يحتويها وأن المجتمع هو صورة لمنظومته التربوية. وحتى يبقى هذا التَّماثلُ قائم الذات بين هاتين الوحدتين (المنظومة التَّربوية والمجتمع)، من الضروري أن يكون بينهما تفاعل دائم ومستمر يجعل من كل وحدة إنتاجاً ومُنتِجةً للأخرى.
تحت تأثير بعض العوامل، وعلى الخصوص، منها تلك التي تترتَّب عن العولمة mondialisation وعن التقدم السريع للعلم والتكنولوجيا، يعرف العديدُ من المجتمعات النامية تغييراتٍ وتقلباتٍ في أنمأط فكرها وعيشها. وما يؤسف له هو أن المنظومات التربوية لهذه المجتمعات تتكيَّف ببطء شديد، أو قد لا تتكيف كليا مع هذه التغييرات التي تطال الواقع الاجتماعي، وبالتالي، تستمر هذه المظومات التربوية في العمل على فكر وأسسٍ نظريةٍ ومبادئَ وقيمٍ أكل الدهر عليها وشرب. مثل هذه المنظومات تعيش على هامش المجتمع، أو بالأحرى، تعيش في انعزالٍ تامٍّ عن هذا المجتمع. إضافةً إلى أنها تمتصُّ الأموالَ بدون فائدة.
فعوض أن تُساهمَ في التنمية البشرية، الاقتصادية والاجتماعية لهذه المجتمعات، فإن هذه المنظومات تصبح العائق الرئيسي لهذه التنمية. وهذا يعني أنها تدور في حلقة مفرغة cercle vicieux بمعنى أنها تنغلق على نفسها، وبالتالي، تصبح فريسةً للجمودية immobilisme والخمول léthargie. وبما أن هذه المنظومات لم تستوعب التغييرات التي تحصل في المجتمع وفي العالم، فإنها تتحوَّل إلى آلاتٍ ضخمة لتفريخ حاملي الشهادات ملتجأة من أجل ذلك لطُرقٍ وأساليب وتعليم تتماثل معها وأنهكها التقادم والإهمال.
ومن جهة أخرى، عندما نتحدث عن الواقع الاجتماعي، فإن الأمر لا يتعلق بوحدة مستقلة عن الفكر وتفرض نفسَها على العقل البشري. الواقع الاجتماعي هو مجرد إفرازٍ بناه الإنسان فكريا ثم عمليا. إنه ناتج عن تفاعل نفسي-اجتماعي-لغوي réactivité psycho-socio-linguistique بين أفراد مجموعة ما (مجتمع محدد). كل ما يتم فعلُه في إطار هذا التفاعل يتم بناءُه من طرف العقل البشري بكيفية فردية، وفي أغلب الأحيان، جماعية. وبعبارة أوضح، الواقع الاجتماعي هو بمثابة نظامٍ تفاعلي يشمل أشياءَ تتطابق معها معارف حصل في شأنها توافق من طرف أفراد المجتمع. وهذه المعارف، التي تم بناءُ جميع أجزائها من طرف العقل البشري، تمكِّن من التواصل communication داخل هذا المجتمع، وبالتالي، تسمح وتسهِّل اشتغالَه وعملَه.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن هذا الاشتغال هو، في الحقيقة، محكوم بنوعين من المعارف. من جهة، هناك المعارف الشائعة connaissances de sens commun، ومن جهة أخرى، هناك المعارف المعدة بدقة أي الناتجة عن البحث المنظم والمنسق connaissances scientifiques. إن هذا النوع الأخير من المعارف، عندما يتحوَّل إلى تطبيقات ملموسة، هو الذي يحدث تأثيرا على اشتغال المجتمع على المستويات الاقتصادي والتكنولوجي والسياسي والعلمي والثقافي، الخ.
غير أنه في عصرنا الحاضر، فإن هذا النوع من المعارف لم يعد محصورا، كما كان الأمرُ في الماضي، على بعض الأشخاص المنعزلين. بل بالعكس، إنه موضوعَ إنتاجٍ منتظمٍ واجتماعي بكل ما للكلمة من معنى من طرف مؤسسات اجتماعية عالية التنظيم (جامعات، مراكز بحث). وهذه المعارف، بمجرد انتقالها بطريقة أو أخرى إلى المنشآت والمستوطنات البشرية (جماعات، أوساط سياسية، مقاولات، إدارات، قطاعات الإنتاج، قطاعات الخدمات، الخ.)، هي التي تُحدِث تغييرا في المنظر الاجتماعي. غير أن التأثير الذي تمارسه المعارف على هذا المنظر ليس أحادي الاتجاه لأن المؤسسات التي تُنتجه تستمد وجودها من المجتمع. وبعبارة أخرى، إن إنتاج المعارف الدقيقة ظاهرة اجتماعية تستجيب لحاجيات المجتمع من أجل تحسين اشتغاله، أي ليتمكَّنَ من الانتقال من طور تنموي إلى آخر يتميز بجديد أو قيمة مضافة أو تطوير أو تحسُّن، الخ.
وهكذا، فعندما نتحدث عن تغييرات الواقع الاجتماعي، فالأمر يتعلق بظاهرة بُنِيت كل أجزائها من طرف المجتمع. فالتغييرات المذكورة ناتجة إذن عن حركيةٍ أو دينامية اجتماعية dynamique sociale تنتهي بإدخال تجديدات وتقلُّبات وإعادات في النظر في مختلف قطاعات الحياة اليومية وفي أنماط عيش وفكر الناس. وخلاصة القول، فإن حركيةَ المجتمع تُفرز معطيات جديدة، الشيء الذي يكون سببا في ظهور حاجيات في التكوين للإحاطة بهذه الوضعية.
المشكل كل المشكل هو أن المجتمع يعمل ويسير ويتحرك حسب نموذج نشيط ومتسارع، بينما بعض المنظومات التربوية تشتغل حسب نموذج تطبعه الجمودية (سكوني، مقاوم أو رافض للتغيير). إذا كان المجتمع يجدِّد معارفَه التي بواسطتها يخلق تغييرات في الحياة اليومية، فتلك المنظومات التربوية تجد صعوبات كبيرة في التكيف مع هذا الوضع. وهذا معناه أن المنظومات التربوية الجامدة تتقوقع حول مضامين تعليمية تعود لعدة سنوات مضت وذلك في تباعد تام مع التغييرات الاجتماعية والاقتصادية.
من هذا المنطلق، تجدر الإشارة إلى أن التَّعليم والتربية والتكوين وظائفٌ تحظى بالاهتمام المركزي للمنظومات التربوية بما في ذلك المنظومة التربوية المغربية. علما أنه، من المفترض، أن تُعتبرَ هذه الوظائف كسياق اجتماعي، أي كنظام تمت إقامته من طرف، من أجل و داخل المجتمع. و بعبارة أخرى، فإن هذه الوظائف، من المفترض، أن يكون لها، فضلا عن دورها في التثقيف، دور اجتماعي يكون بمثابة جسر يربط بين المدرسة والمجتمع.
غير أن العديدَ من المؤشرات يبيِّن أن هذا الجسر يسير نحو التلاشي إن لم نقل نحو الاندثار ليحلَّ محلَّه دورٌ آلي (ميكانيكي) يتمثل حصريا في تبليغ وتراكم المعرفة المنعزلة عن الواقع الاجتماعي. ومما لا شكَّ فيه أن هذا الدور الآلي، هو الآخر، يدفع المدرسةَ إلى التقوقع والانعزال، أي إلى التمأسس المُفرِط institutionnalisation excessive الذي يذهب إلى حد القطع الحاسم مع كل ما يجري أو يمارس في الحياة اليومية.
لإلقاءِ الضوء، من جهة، على انعزال المدرسة حيث المعرفة تكتسي طابعا تجريديا، ومن جهة أخرى، على انعكاسات هذا الانعزال على تكوين المتعلمين، يكفي أن نلاحظ الفرقَ الشاسعَ بين ما يتلقونه من معرفة داخل المدرسة وما يصادفونه من وضعيات في حياتهم اليومية.
أمام هذه الوضعيات، غالبا ما يجدون أنفسَهم عاجزين عن رد الفعل وإن حصل هذا الرد، فالتَّردُّد tâtonnement هو الذي يقوده في أغلب الحالات. ولا داعي للقول أن الأمثلة التي تُبرهِن على عقم المعارف المبلَّغة للمتعلِّمين عديدة ومتنوعة. هذه بعض النماذج منها :
1.في مجال الجيولوجيا، يتلقى المتعلم سيلا من المعارف عن مميزات وخاصيات الصخور، التي لا يجد لها أي مبرر عندما يصادف نفس الصخور في الطبيعة.
2.في مجال البيولوجيا، يَدرُس المتعلم تركيبَ وشِراحة anatomie وإيكولوجيا écologie ذلك النبات أو ذلك الحيوان، لكنه بعد خروجه من المدرسة، غالبا ما نراه يخرب الأول و يعتدي على الثاني.
3.في مجال التاريخ، تزخر ذاكرة المتعلم بالتواريخ المتعلِّقة بالأحداث والحروب والغزوات، الخ.، لكنه لا يعرف شيئا عن تاريخ المعرفة وعن النظريات والاكتشافات العلمية، الخ.
4.في مجال الفيزياء، يتلقَّى المتعلمُ الكثيرَ من المعلومات عن الظواهر الطبيعية كالحرارة والضغط والجاذبية والقوة والطاقة، الخ.، لكنه يعجز عن الجمع بين هذه الظواهر ليفسر مثلا تكوينَ السحاب أو الريح أو المطر، الخ.
5.في مجال الكيمياء، يتمُّ تبليغُ الكثير من المعارف للمتعلم عن المادة، عن حالاتها الثلاثة، عن الأملاح sels والأحماض acides والقواعد bases والعناصر الكيميائية éléments chimiques وعن كيفية تفاعلاتها وخاصياتها، الخ.، لكنه لا يعرف أي شيء عن الصابون الذي يغسل به جسدَه وعن المعجون الذي ينظِّف به أسنانَه أو العِِطر الذي يطيب به وجهَه ويديه.
لا يمكن للتَّعليم والتَّربية والتَّكوين أن يكونوا أدواتٍ للتحرُّر émancipation أمام مدرسة متحجرة sclérosée، منعزلة عن محيطها الاقتصادي، الاجتماعي والثقافي، أي مدرسة منغلقة على نفسِها ومُمَأسسة بإفراط. إن التَّحرُّرَ يتطلب مدرسةً متفتِّحةً على الحياة، أي تتفاعل مع محيطها على كل المستويات.
والتفتُّح على الحياة هو أن يُعتَبرَ المحيطُ كمختبر دائم تستمد منه المدرسة أسباب وجودها. إنه كذلك إنشاء جسر بين هذه المدرسة والحياة العملية لتمكين المتعلمين من الاندماج التدريجي في هذه الأخيرة.
وبعبارة أخرى، إن الوظيفة الاجتماعية المسندة للتَّعليم والتَّربية والتكوين يجب أن تذهب عادة إلى أبعدَ من مجرَّد التثقيف والتعليم، أي أن تُمكِّن المدرسةَ من أن تُربِّي وتكوِّن الشخصيةَ وتساعد المتعلمَ على استقلالية التَّعلُّم، الخ. وبإيجاز، أن تعلِّمَ المتعلمَ كيف يتعلَّم (التعلم الذاتي autoapprentissage) وتُعدُّه لاندماج فعال في المجتمع.
التَّعليم والتربية والتكوين والأنشطة المترتِّبة عنهم والأشخاص الذين يسهرون على تفعيلهم، يجب أن يُعتبَروا مكوِّنات متفاعلة لعالم اجتماعي مصغَّر الذي هو الممارسة التربوية التي، هي بدورها، جزء من نظام اجتماعي أوسع يتألف من القسم والمؤسسة والجماعة والمحيط الاقتصادي، البيئي، الخ.
وفي الختام وانطلاقا من التَّحليلِ السابق، من المؤكَّدِ أن المنظومةَ التَّربويةَ يراها المجتمع كأحد محرِّكات التنمية بجميع مظاهرها، وبالأخص، هي الضامن للنُّهوض بالتنمية البشرية. وإضافةً لهذا وذاك، المنظومة التَّربوية هي عامل من العوامل التي تقف وراء التَّحوُّلات التي تحدث في المجتمع. وكلما تحوَّل أو تطوَّرَ المجتمع من حسنٍ إلى أحسنَ، كلما ألحَّ على المنظومة التَّربوية أن تُسايرَ هذا التَّحوُّل أو التَّطوُّر. كما سبق الذكرُ، المجتمع صورة لمنظومته التَّربوية والمنظومة التَّربوية صورة لمجتمعها.
وهذا جانب نوعي (فكري) لا يمكن إغفالُه أو تجاهُلُه في كل تحليل أو إعادة نظر تخضع لهما المنظومة المذكورة. ورغم أن هذا الأمرَ، أي الجانب النوعي (الفكري/النظري) لا يُدرَك في أول وهلة، يبقى هو العامل الأول الذي يُحدِث تأثيرا على توجُّه الممارسة التربوية، في حالة القيام بإصلاحِها. فمن المفروض أن تتمحور التحاليلُ حول هذا الجانب النوعي من أجل إيجاد عناصرَ تفسيرٍ للهوة التي تفصل بين بعض المنظومات التربوية والواقع الاجتماعي الذي تعمل فيه. وتوضيحاً لهذا الأمر، فعندما يُراد إصلاح منظومة تربوية ما، فهذا معناه أن الأسسَ النظرية التي ترتكز عليها هذه المنظومة أصبحت متجاوزة وتستدعي إعادةَ النظر فيها.
فعلا، إن أية منظومة تربوية هي إنتاجٌ نابعٌ من المجتمع، ولكن بالمقابل، فإنها تُساهم في بناء هذا المجتمع. وبعبارة أوضح، يجدر القول بأن أية منظومة تربوية، هي في الحقيقة، صورةٌ للمجتمع الذي يحتويها وأن المجتمع هو صورة لمنظومته التربوية. وحتى يبقى هذا التَّماثلُ قائم الذات بين هاتين الوحدتين (المنظومة التَّربوية والمجتمع)، من الضروري أن يكون بينهما تفاعل دائم ومستمر يجعل من كل وحدة إنتاجاً ومُنتِجةً للأخرى.
تحت تأثير بعض العوامل، وعلى الخصوص، منها تلك التي تترتَّب عن العولمة mondialisation وعن التقدم السريع للعلم والتكنولوجيا، يعرف العديدُ من المجتمعات النامية تغييراتٍ وتقلباتٍ في أنمأط فكرها وعيشها. وما يؤسف له هو أن المنظومات التربوية لهذه المجتمعات تتكيَّف ببطء شديد، أو قد لا تتكيف كليا مع هذه التغييرات التي تطال الواقع الاجتماعي، وبالتالي، تستمر هذه المظومات التربوية في العمل على فكر وأسسٍ نظريةٍ ومبادئَ وقيمٍ أكل الدهر عليها وشرب. مثل هذه المنظومات تعيش على هامش المجتمع، أو بالأحرى، تعيش في انعزالٍ تامٍّ عن هذا المجتمع. إضافةً إلى أنها تمتصُّ الأموالَ بدون فائدة.
فعوض أن تُساهمَ في التنمية البشرية، الاقتصادية والاجتماعية لهذه المجتمعات، فإن هذه المنظومات تصبح العائق الرئيسي لهذه التنمية. وهذا يعني أنها تدور في حلقة مفرغة cercle vicieux بمعنى أنها تنغلق على نفسها، وبالتالي، تصبح فريسةً للجمودية immobilisme والخمول léthargie. وبما أن هذه المنظومات لم تستوعب التغييرات التي تحصل في المجتمع وفي العالم، فإنها تتحوَّل إلى آلاتٍ ضخمة لتفريخ حاملي الشهادات ملتجأة من أجل ذلك لطُرقٍ وأساليب وتعليم تتماثل معها وأنهكها التقادم والإهمال.
ومن جهة أخرى، عندما نتحدث عن الواقع الاجتماعي، فإن الأمر لا يتعلق بوحدة مستقلة عن الفكر وتفرض نفسَها على العقل البشري. الواقع الاجتماعي هو مجرد إفرازٍ بناه الإنسان فكريا ثم عمليا. إنه ناتج عن تفاعل نفسي-اجتماعي-لغوي réactivité psycho-socio-linguistique بين أفراد مجموعة ما (مجتمع محدد). كل ما يتم فعلُه في إطار هذا التفاعل يتم بناءُه من طرف العقل البشري بكيفية فردية، وفي أغلب الأحيان، جماعية. وبعبارة أوضح، الواقع الاجتماعي هو بمثابة نظامٍ تفاعلي يشمل أشياءَ تتطابق معها معارف حصل في شأنها توافق من طرف أفراد المجتمع. وهذه المعارف، التي تم بناءُ جميع أجزائها من طرف العقل البشري، تمكِّن من التواصل communication داخل هذا المجتمع، وبالتالي، تسمح وتسهِّل اشتغالَه وعملَه.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن هذا الاشتغال هو، في الحقيقة، محكوم بنوعين من المعارف. من جهة، هناك المعارف الشائعة connaissances de sens commun، ومن جهة أخرى، هناك المعارف المعدة بدقة أي الناتجة عن البحث المنظم والمنسق connaissances scientifiques. إن هذا النوع الأخير من المعارف، عندما يتحوَّل إلى تطبيقات ملموسة، هو الذي يحدث تأثيرا على اشتغال المجتمع على المستويات الاقتصادي والتكنولوجي والسياسي والعلمي والثقافي، الخ.
غير أنه في عصرنا الحاضر، فإن هذا النوع من المعارف لم يعد محصورا، كما كان الأمرُ في الماضي، على بعض الأشخاص المنعزلين. بل بالعكس، إنه موضوعَ إنتاجٍ منتظمٍ واجتماعي بكل ما للكلمة من معنى من طرف مؤسسات اجتماعية عالية التنظيم (جامعات، مراكز بحث). وهذه المعارف، بمجرد انتقالها بطريقة أو أخرى إلى المنشآت والمستوطنات البشرية (جماعات، أوساط سياسية، مقاولات، إدارات، قطاعات الإنتاج، قطاعات الخدمات، الخ.)، هي التي تُحدِث تغييرا في المنظر الاجتماعي. غير أن التأثير الذي تمارسه المعارف على هذا المنظر ليس أحادي الاتجاه لأن المؤسسات التي تُنتجه تستمد وجودها من المجتمع. وبعبارة أخرى، إن إنتاج المعارف الدقيقة ظاهرة اجتماعية تستجيب لحاجيات المجتمع من أجل تحسين اشتغاله، أي ليتمكَّنَ من الانتقال من طور تنموي إلى آخر يتميز بجديد أو قيمة مضافة أو تطوير أو تحسُّن، الخ.
وهكذا، فعندما نتحدث عن تغييرات الواقع الاجتماعي، فالأمر يتعلق بظاهرة بُنِيت كل أجزائها من طرف المجتمع. فالتغييرات المذكورة ناتجة إذن عن حركيةٍ أو دينامية اجتماعية dynamique sociale تنتهي بإدخال تجديدات وتقلُّبات وإعادات في النظر في مختلف قطاعات الحياة اليومية وفي أنماط عيش وفكر الناس. وخلاصة القول، فإن حركيةَ المجتمع تُفرز معطيات جديدة، الشيء الذي يكون سببا في ظهور حاجيات في التكوين للإحاطة بهذه الوضعية.
المشكل كل المشكل هو أن المجتمع يعمل ويسير ويتحرك حسب نموذج نشيط ومتسارع، بينما بعض المنظومات التربوية تشتغل حسب نموذج تطبعه الجمودية (سكوني، مقاوم أو رافض للتغيير). إذا كان المجتمع يجدِّد معارفَه التي بواسطتها يخلق تغييرات في الحياة اليومية، فتلك المنظومات التربوية تجد صعوبات كبيرة في التكيف مع هذا الوضع. وهذا معناه أن المنظومات التربوية الجامدة تتقوقع حول مضامين تعليمية تعود لعدة سنوات مضت وذلك في تباعد تام مع التغييرات الاجتماعية والاقتصادية.
من هذا المنطلق، تجدر الإشارة إلى أن التَّعليم والتربية والتكوين وظائفٌ تحظى بالاهتمام المركزي للمنظومات التربوية بما في ذلك المنظومة التربوية المغربية. علما أنه، من المفترض، أن تُعتبرَ هذه الوظائف كسياق اجتماعي، أي كنظام تمت إقامته من طرف، من أجل و داخل المجتمع. و بعبارة أخرى، فإن هذه الوظائف، من المفترض، أن يكون لها، فضلا عن دورها في التثقيف، دور اجتماعي يكون بمثابة جسر يربط بين المدرسة والمجتمع.
غير أن العديدَ من المؤشرات يبيِّن أن هذا الجسر يسير نحو التلاشي إن لم نقل نحو الاندثار ليحلَّ محلَّه دورٌ آلي (ميكانيكي) يتمثل حصريا في تبليغ وتراكم المعرفة المنعزلة عن الواقع الاجتماعي. ومما لا شكَّ فيه أن هذا الدور الآلي، هو الآخر، يدفع المدرسةَ إلى التقوقع والانعزال، أي إلى التمأسس المُفرِط institutionnalisation excessive الذي يذهب إلى حد القطع الحاسم مع كل ما يجري أو يمارس في الحياة اليومية.
لإلقاءِ الضوء، من جهة، على انعزال المدرسة حيث المعرفة تكتسي طابعا تجريديا، ومن جهة أخرى، على انعكاسات هذا الانعزال على تكوين المتعلمين، يكفي أن نلاحظ الفرقَ الشاسعَ بين ما يتلقونه من معرفة داخل المدرسة وما يصادفونه من وضعيات في حياتهم اليومية.
أمام هذه الوضعيات، غالبا ما يجدون أنفسَهم عاجزين عن رد الفعل وإن حصل هذا الرد، فالتَّردُّد tâtonnement هو الذي يقوده في أغلب الحالات. ولا داعي للقول أن الأمثلة التي تُبرهِن على عقم المعارف المبلَّغة للمتعلِّمين عديدة ومتنوعة. هذه بعض النماذج منها :
1.في مجال الجيولوجيا، يتلقى المتعلم سيلا من المعارف عن مميزات وخاصيات الصخور، التي لا يجد لها أي مبرر عندما يصادف نفس الصخور في الطبيعة.
2.في مجال البيولوجيا، يَدرُس المتعلم تركيبَ وشِراحة anatomie وإيكولوجيا écologie ذلك النبات أو ذلك الحيوان، لكنه بعد خروجه من المدرسة، غالبا ما نراه يخرب الأول و يعتدي على الثاني.
3.في مجال التاريخ، تزخر ذاكرة المتعلم بالتواريخ المتعلِّقة بالأحداث والحروب والغزوات، الخ.، لكنه لا يعرف شيئا عن تاريخ المعرفة وعن النظريات والاكتشافات العلمية، الخ.
4.في مجال الفيزياء، يتلقَّى المتعلمُ الكثيرَ من المعلومات عن الظواهر الطبيعية كالحرارة والضغط والجاذبية والقوة والطاقة، الخ.، لكنه يعجز عن الجمع بين هذه الظواهر ليفسر مثلا تكوينَ السحاب أو الريح أو المطر، الخ.
5.في مجال الكيمياء، يتمُّ تبليغُ الكثير من المعارف للمتعلم عن المادة، عن حالاتها الثلاثة، عن الأملاح sels والأحماض acides والقواعد bases والعناصر الكيميائية éléments chimiques وعن كيفية تفاعلاتها وخاصياتها، الخ.، لكنه لا يعرف أي شيء عن الصابون الذي يغسل به جسدَه وعن المعجون الذي ينظِّف به أسنانَه أو العِِطر الذي يطيب به وجهَه ويديه.
لا يمكن للتَّعليم والتَّربية والتَّكوين أن يكونوا أدواتٍ للتحرُّر émancipation أمام مدرسة متحجرة sclérosée، منعزلة عن محيطها الاقتصادي، الاجتماعي والثقافي، أي مدرسة منغلقة على نفسِها ومُمَأسسة بإفراط. إن التَّحرُّرَ يتطلب مدرسةً متفتِّحةً على الحياة، أي تتفاعل مع محيطها على كل المستويات.
والتفتُّح على الحياة هو أن يُعتَبرَ المحيطُ كمختبر دائم تستمد منه المدرسة أسباب وجودها. إنه كذلك إنشاء جسر بين هذه المدرسة والحياة العملية لتمكين المتعلمين من الاندماج التدريجي في هذه الأخيرة.
وبعبارة أخرى، إن الوظيفة الاجتماعية المسندة للتَّعليم والتَّربية والتكوين يجب أن تذهب عادة إلى أبعدَ من مجرَّد التثقيف والتعليم، أي أن تُمكِّن المدرسةَ من أن تُربِّي وتكوِّن الشخصيةَ وتساعد المتعلمَ على استقلالية التَّعلُّم، الخ. وبإيجاز، أن تعلِّمَ المتعلمَ كيف يتعلَّم (التعلم الذاتي autoapprentissage) وتُعدُّه لاندماج فعال في المجتمع.
التَّعليم والتربية والتكوين والأنشطة المترتِّبة عنهم والأشخاص الذين يسهرون على تفعيلهم، يجب أن يُعتبَروا مكوِّنات متفاعلة لعالم اجتماعي مصغَّر الذي هو الممارسة التربوية التي، هي بدورها، جزء من نظام اجتماعي أوسع يتألف من القسم والمؤسسة والجماعة والمحيط الاقتصادي، البيئي، الخ.
وفي الختام وانطلاقا من التَّحليلِ السابق، من المؤكَّدِ أن المنظومةَ التَّربويةَ يراها المجتمع كأحد محرِّكات التنمية بجميع مظاهرها، وبالأخص، هي الضامن للنُّهوض بالتنمية البشرية. وإضافةً لهذا وذاك، المنظومة التَّربوية هي عامل من العوامل التي تقف وراء التَّحوُّلات التي تحدث في المجتمع. وكلما تحوَّل أو تطوَّرَ المجتمع من حسنٍ إلى أحسنَ، كلما ألحَّ على المنظومة التَّربوية أن تُسايرَ هذا التَّحوُّل أو التَّطوُّر. كما سبق الذكرُ، المجتمع صورة لمنظومته التَّربوية والمنظومة التَّربوية صورة لمجتمعها.