.٩"يهودي مسافر” و”مسلم هربان” و”الكذاب” و”ديك الجيران” و”باشا وعساكره” هذه الأسماء ليست عناوين روايات شيقة، بل أسماء طبخات شامية، فالشرق لا تنقضي عبراته كما لا تنتهي طرائفه وعجائبه، وكما كان التجهم سمة الحياة في ظل الاستبداد الطويل، كان التهكم والغمز واللمز طابعاً طبع الناس وصبغ نواحي حياتهم، فيمكنك ببعض الاهتمام أن ترى انعكاس تلك الأمزجة وتقلباتها على الأزياء والمأكل والمشرب.
وفي بداية التسعينات قدمت صديقتنا الباحثة الأميركية كريستا سلامندرا إلى دمشق، للبحث في ثقافة الشرق الأوسط وسكّانه، وإنجاز أطروحة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا، ولكنها سرعان ما تحوّلت إلى مفتاح جديد للشغل، في زمن ازدهار التفكيك وما بعد الحداثة، بعد أن رأت الغرائب في الحياة الدمشقية، فقررت أن يكون موضوع دراستها “الطبخ الشامي”، ومن خلاله تمكنت من التسلّل إلى عقول الناس وقراءة ذاكرتهم التي بدأت ذات يوم مجهول ولم تنته عند آفاق الدراما والأداء المجتمعي المعقد، فأوصل البحث سلامندرا إلى اتخاذ موقف حاد وقطعي ضد الجرائم الوحشية التي ضربت بعنف روح الإنسان الذي أبدع تلك المأكولات وهي سردٌ طويل لحكايات لا نهاية لها من قلب الشرق.
ولكن ما يصلح في الشرق لا يصلح إلا في الشرق، فقد اشتكى لي صديق قبل أيام من أنه قرر افتتاح مطعم كبير في ألمانيا، وأنه يريد تكريم بلاده الأم التي جاء من إحدى مدنها قبل قرابة نصف قرن، ووضع عبارة “مأكولات سورية” إلى جانب اسم المطعم، ولكنه لا يعثر على الإثارة الكافية لاجتذاب الزبائن، فأخبرته عن تلك المأكولات الدمشقية الغريبة، فأخذ يترجم الأسماء إلى الألمانية على الفور، ويتخيّلها على قائمة الطعام الموضوعة بين يدي رواد مطعمه، بينما كان حاجباه يرتفعان أكثر وأكثر مع كل رنين للحروف باللغة الجديدة ودلالاتها في الثقافة الألمانية، ليصبح اليهودي المسافر أكلة الباذنجان والبرغل والصنوبر وزيت الزيتون، رمزاً خطيراً يذكر بالهولوكوست والنازية وهتلر، أما المسلم الهربان فقد يفهم منه أنه تكريس لإنسان داعش الذي يفجّر الأماكن ويفرّ هارباً، والباشا سيأمر عساكره بقتل الأبرياء كما فعل طغاة الشرق خلال السنوات الأربع الماضية، وديك الجيران فكرة مزعجة لأن القانون هنا يمنع الإزعاج .
وقد تأخذ تلك التسمية ذهن الزبائن إلى البوليس فينفرون من المطعم لأنه يشجع على الإزعاج، وسألني عن “الكذاب” فقلت إنه “اليالنجي” وهو ملفوف ورق العنب الذي يوحي بأنه محشو بالأرز واللحم، ولكنه ليس كذلك، فقال إن الشعب الألماني لا يحترم الكذب، فكيف تريد منه أن يدفع ثمن أكلة شعبية اسمها “الكذاب” عن سابق إصرار.
أما أغرب الترجمات فكانت ترجمة “حرّاق إصبعه” التي قال إن الألمان لن يصدقوها، فمن ذا الذي سيُقبل بشهية على تناول وجبة فيها كل تلك المازوخية والتلذّذ بإيذاء النفس؟ فقلت إنهم يفعلون هذا في الشرق كما تعلم، فيحرقون أصابعهم وغيرها معها، وخلصنا إلى أن الأفضل له أن يصرف النظر عن الموضوع لأنه أصبح قضية استشراقية، ولم يعد قائمة طعام.
مرآة الشعوب تلك تستحق التوقف، وتحمل رسائلها السرية كما العلنية، وما أكثر مرايا الشرق.
إبراهيم الجبين
وفي بداية التسعينات قدمت صديقتنا الباحثة الأميركية كريستا سلامندرا إلى دمشق، للبحث في ثقافة الشرق الأوسط وسكّانه، وإنجاز أطروحة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا، ولكنها سرعان ما تحوّلت إلى مفتاح جديد للشغل، في زمن ازدهار التفكيك وما بعد الحداثة، بعد أن رأت الغرائب في الحياة الدمشقية، فقررت أن يكون موضوع دراستها “الطبخ الشامي”، ومن خلاله تمكنت من التسلّل إلى عقول الناس وقراءة ذاكرتهم التي بدأت ذات يوم مجهول ولم تنته عند آفاق الدراما والأداء المجتمعي المعقد، فأوصل البحث سلامندرا إلى اتخاذ موقف حاد وقطعي ضد الجرائم الوحشية التي ضربت بعنف روح الإنسان الذي أبدع تلك المأكولات وهي سردٌ طويل لحكايات لا نهاية لها من قلب الشرق.
ولكن ما يصلح في الشرق لا يصلح إلا في الشرق، فقد اشتكى لي صديق قبل أيام من أنه قرر افتتاح مطعم كبير في ألمانيا، وأنه يريد تكريم بلاده الأم التي جاء من إحدى مدنها قبل قرابة نصف قرن، ووضع عبارة “مأكولات سورية” إلى جانب اسم المطعم، ولكنه لا يعثر على الإثارة الكافية لاجتذاب الزبائن، فأخبرته عن تلك المأكولات الدمشقية الغريبة، فأخذ يترجم الأسماء إلى الألمانية على الفور، ويتخيّلها على قائمة الطعام الموضوعة بين يدي رواد مطعمه، بينما كان حاجباه يرتفعان أكثر وأكثر مع كل رنين للحروف باللغة الجديدة ودلالاتها في الثقافة الألمانية، ليصبح اليهودي المسافر أكلة الباذنجان والبرغل والصنوبر وزيت الزيتون، رمزاً خطيراً يذكر بالهولوكوست والنازية وهتلر، أما المسلم الهربان فقد يفهم منه أنه تكريس لإنسان داعش الذي يفجّر الأماكن ويفرّ هارباً، والباشا سيأمر عساكره بقتل الأبرياء كما فعل طغاة الشرق خلال السنوات الأربع الماضية، وديك الجيران فكرة مزعجة لأن القانون هنا يمنع الإزعاج .
وقد تأخذ تلك التسمية ذهن الزبائن إلى البوليس فينفرون من المطعم لأنه يشجع على الإزعاج، وسألني عن “الكذاب” فقلت إنه “اليالنجي” وهو ملفوف ورق العنب الذي يوحي بأنه محشو بالأرز واللحم، ولكنه ليس كذلك، فقال إن الشعب الألماني لا يحترم الكذب، فكيف تريد منه أن يدفع ثمن أكلة شعبية اسمها “الكذاب” عن سابق إصرار.
أما أغرب الترجمات فكانت ترجمة “حرّاق إصبعه” التي قال إن الألمان لن يصدقوها، فمن ذا الذي سيُقبل بشهية على تناول وجبة فيها كل تلك المازوخية والتلذّذ بإيذاء النفس؟ فقلت إنهم يفعلون هذا في الشرق كما تعلم، فيحرقون أصابعهم وغيرها معها، وخلصنا إلى أن الأفضل له أن يصرف النظر عن الموضوع لأنه أصبح قضية استشراقية، ولم يعد قائمة طعام.
مرآة الشعوب تلك تستحق التوقف، وتحمل رسائلها السرية كما العلنية، وما أكثر مرايا الشرق.
إبراهيم الجبين