من أهمِّ المؤشِّرات التي تدفع الدُّولَ والحكومات إلى التَّفكير في إصلاح المنظومات التَّربوية، يأتي في المقام الأول البرنامج الدولي لتتبُّعِ مكتسبات التلاميذ Programme international pour le suivi des acquis des élèves PISA.
إن هذا البرنامج يُعدُّ بمثابة أداةٍ لقياس منجزات المنظومات التربوية والمكتسبات الأساسية التي يجب أن يتوفَّر عليها التلاميذُ على المستوى المعرفي بعد انتهاء مسارهم الدراسي الإجباري.
فعندما تكون المنجزات والمكتسبات تحت ما هو منتظرٌ، فهذا مؤشِّر إنذارٍ وتنبيهٌ يحثُّ على أن المنظومات التَّربوية تعاني من اختلالات يجب الوقوف عليها لإيجاد حلولٍ لها. وبعبارة أخرى، يجب إعادةُ النظر في خدمات المدرسة، في مهمتها، في كيفية اشتغالِها وبالأخص، في علاقتها مع المجتمع.
بالفعل، إن استعمالَ رائزَ PISA لا يهدف فقط إلى قياس حجمِ المعارف التي اكتسبها المُتعلِّمون ولكن كذلك كيف يتعاملون مع هذه المعارف في حياتهم اليومية. وبعبارة أخرى، كيف يمكن للمعارف المدرسية (النَّظرية) أن تُصبحَ عناصر تُفسِّرُ الأوضاعَ التي يصادفُها المتعلِّمون في حياتهم اليومية. وهذه بعض أهداف برنامج PISAض:
-قياس إنجازات التلاميذ.
-دراسة مدى تحضير التلاميذ لحياة الكِبار
-الوقوف على العوامل الخارجية (الظروف الاجتماعية والاقتصادية) التي تؤثِّر على إنجازات التلاميذ...
غير أن نتائجَ برنامج PISA، رغم أهمِّيتِها في الوقوف على نجاعة ومردودية المنظومات التَّربوية، قد تكون غير كافية لإعادة بناء هذه المنظومات. وهنا، يجب أن لا ننسى أن المنظومةَ التَّربويةَ عبارة عن بِنيةٍ معقَّدة، وبالتالي، لا يمكن اختصارُها فيما يجري داخلَ الأقسام، أي حَصرُها في أنشطة التَّعليم والتَّعلُّم.
إن المنظومةَ التَّربوية عبارة عن نظامٍ سياسي-اجتماعي، هي الأخرى جزءٌ من نظام أوسع متمثِّل في الدولة. سياسي لأنه جزءٌ من السياسة العامة لهذه الدولة في مجال التَّنمية. اجتماعي لأنه أًنشِيءَ من طرف، في ومن أجل المجتمع. إنه إذن نظامٌ منبثقٌ من مجتمعٍ ينتظر من المدرسة أن تضمنَ استمرارِيتَه وتطوُّرَه.
ولهذا، فإن بناءَ أو إعادةَ النظر في منظومةٍ تربويةٍ ما، يجب أن ينطلقَ/تنطلقَ من ضرورة اعتبار هذه المنظومة ككُلٍّ متكاملٍ الأجزاء علما أن الهدفَ الأساسي هو تجديدُ هذه الأخيرة.
فما هي الشُّروطُ التي ستقود إلى هذا التَّجديد؟
فيما يلي، هذه بعض الشروط التي أعتبرُها شخصيا حاسِمة :
1.الشرط الأول: القطع نهائيا مع ممارسات وأساليب المنظومة السابقة لا من حيث أنشطة التَّعليم والتَّعلُّم ولا من حيث الحكامة.
وهذا يعني تبنِّي مدرسة جديدة لها مكانتُها في المجتمع علما أنه، بدون هذا التَّبنِّي، قد تعود الممارسات والأساليب القديمة للميدان، الشيء الذي قد يُعيقُ، كليا أو جزئيا، جدوى محاولات البناء والتَّجديد. وهنا، لا بدَّ من الإشارة إلى أن العديدَ من البلدان عرفت مثلَ هذا الوضعَ من جراء المواجهة بين المتمسِّكين بما هو تقليدي traditionalisme ومَن ينادون بالحداثة modernisme.
2.الشرط الثاني: ما هي المكانة التي يجب أن تحتلَّها المدرسة في المجتمع؟
أو بعبارة أخرى، ما هي المدرسة التي نريد؟ هل نريد مدرسةَ التَّحرُّرِ والتَّفتُّح الفكريين والاجتماعيين والثقافيين وتكافؤٍ فعلي للفُرص أم مدرسةً تُنتِج أشخاصاً منمَّطين مع انعدامٍ لتكافؤ هذه الفرص؟ مدرسة تتفاعل مع المجتمع وبالأخص، مع التَّغييرات التي تحدث فيه، أحيانا بسرعة فائقة؟ مدرسة منفتِحة على محيطها القريب والبعيد تنهل منه سرَّ وجودها؟ مدرسة يتساكن فيها، بنجاعةٍ، التعليم والتربية والتَّعلُّم والتَّكوين؟ مدرسة تساهم في التنشئة الاجتماعية وفي تعلُّم المواطنة وحب الوطن؟
3.الشرطُ الثالث: أي مجتمع نريد؟
إذا افترضنا أن المجتمعات المتطوِّرة والمتقدّمة تتوفَّر على منظومات تربوية جيِّدة الأداء، الدول الأسكندينافية كمثال، يمكن أن نقولَ أن هذه المجتمعات نِتاجٌ لهذه المنظومات. كما يمكن أن نقولَ أيضا أن المنظومةَ التربويةَ صورةٌ للمجتمع الذي يحتضنها.
ولهذا، ليس بإمكاننا أن نُقارنَ بلدا نسبةُ الأمية فيه مرتفعة ببلد آخر نسبة المتعلِّمين فيه تقارب 100%! وهذا يجرُّنا إلى القول بأن المنظومة التربوية لها تأثيرٌ على تطوُّر (حضارة، تقدُّم) المجتمع. فبناءُ أو تجديدُ منظومةٍ تربويةٍ يقتضي أن يندمجَ المجتمعُ في هذه المنظومة والعكس. لكن مجتمع متوازن، مُنصف، متسامح، متضامن، متماسِك، مُتعلِّم، مثقف، مُتربِّي، ينقل قيماً إسانيةً، يُنتِج الثروةَ والقيمات المضافة، الخ. وباختصار، لبناء أو تجديدِ منظومة تربوية ما، يجب، بكل بساطةٍ، التَّوفُّرُ على مشروع مجتمع بما للعبارة من معنى.
4.الشرط الرابع: أي مواطن نريد؟
هنا حجر الزاوية لأن المواطنين الذين تُنتِجُهم المدرسة هم مَن يبنون المجتمعَ. فعلى المدرسة أن يتجسَّدَ فيها المجتمعَ كما يريده الجميع. تجسيدٌ يشمل محاسنَها وقيَمَها وقدراتِها بتنشئتها للمُتعلِّمين الذين هم مواطنو المستقبل. فما هي إذن مواصفات profil التي يجب تبنِّيها أو، بعبارة أخرى، على أية مواصفات يجب أن تُركِّزَ المدرسةُ لبناء مجتمع كما تمَّ وصفُه أعلاه؟
في نظري، مواصفات المواطن الذي نريد يجب أن تتمحورً، على سبيل المثال، على الاعتبارات التالية :
-تكوين مُتعلِّمٍ يتعامل مع المعرفة التي يتلقَّاها ليس كحقائق مطلقة ولكن كتفسيرٍ للواقع réalité وللظواهر المحيطة به.
-اعتبارُ المتعلِّم كفاعِلٌ/رافعةٌ للتنمية مستقبلاً وكأمل لمجتمعٍ نشيط.
-تكوين شخص حرٍّ، مُحترِما نفسَه والغيرَ ويتحلَّى بروح المسئولية.
-شخص يتمتَّع بحقوقه ويؤدي واجباتِه (مواطنة، حب الوطن والصالح العام).
-شخص متعلِّم، مثقف، متربي، متحرِّر، مُتفتِّح ويتوفَّر على فكر نقدي.
-شخصْ حاملٌ لقيمٍ اجتماعيةٍ كالتسامح ويميل إلى العمل الجماعي والتضامن.
-شخص مُنتِجٌ للقيمات المضافة، للثروة، للتَّقدُّم…
5.الشرط الخامس: أي نوعٍ من الممارسة التعليمية/التربوية نريد؟
انطلاقاً من نوع المجتمع والمواطن اللذان نريد، نحن ملزمون بتبنِّي ممارسة تعليمية/تربوية :
-تجمع، بامتياز، بين التعليم والتربية والتَّعلُّم والتّكوين.
-تكون منصِفةً وتُقلِّص أو تقضي على تفاوتات التَّعلُّم، وبالتالي، تضمن نجاحَ الجميع.
-مُسخَّرة للمتعلِّمين وليس العكس.
-تكون فيها المعرفة متفتِّحةً ليس فقط على الحياة ولكن كذلك وسيلة لتطوُّرِ ونموِّ المَلَكات الفكرية للمتعلِّمين.
-تُحفِّزُ على الفضول وأخذ المبادرة وعلى الاكتشاف…
-يكون فيها المتعلِّمُ شخصا نشيطاً، جريء و لِِمَا لا قوة اقتراحية.
-تسود فيها ثقةٌ متبادلةٌ بين المُدرِّس والمُتعلِّم.
-فيها نفعٌ للمدرسة، للمدرسين، للمتعلِّمين، للمجتمع، للبلاد…
لكن الممارسة التعليمية/التربوية تكون أكثرَ نفعاً إذا بدأ تفتُّحُ المتعلّمين وتحرُّرُهم منذ الصِّغر وبالضبط، أثناء مرورهم من مرحلة التعليم الأولي الذي يسبق مرحلةَ التَّمدرس الإجباري. في هذه المرحلة، فضلاً عن النمو النفسي الحركي، فإن الطفلَ يبني، من خلال اللعب، عاداتٍ تسير في اتجاه تنشئته الاجتماعية المقبلة كتطلُّعِه للاستقلال وقَبول الآخر وقَبول الاقتسام والاندماج في مجموعات والتَّعوُّد على الإبداع واكتساب العناصر الأولى للغة (التواصل)...
ولهذا، فإن المنظومةَ التربوية ستكون مُربِحةً إذا ما جعلت من مرحلة التعليم الأولي جزأً لا يتجزَّأُ من التَّمدرس الإجباري. في هذه الحالة، فإن الطفلَ، عندما يصل إلى المرحلة الابتدائية، يكون قد خطا خطواتٍ نحو تنشئتِه الاجتماعية ويكون له الاستعدادُ ليخطوَ نحو آفاقٍ جديدة من المعرفة والتَّعلُّم والتربية وبالأخص، نحو تقوية شخصيتِه.
6.الشرط السادس: أية مواصفات مُدرِّسٍ نريد؟
المدرِّسُ هو حجر الزاوية في بناء أو تجديد المنظومة التّربوية. فعندما نقول : "أية مدرسة نريد؟" و"أي مجتمعٍ نريد؟" و"أي مواطن نريد؟" و"أية ممارسة تعليمية/تربوية نريد؟"، فهذه اعتباراتٌ يجب أن تتجسَّدَ في المدرِّس من خلال تدخُّلاتِه في القسم ومن خلال علاقاته بالمتعلِّمين.
المدرِّس هو الجزء الأساسي الذي يمكِّن المدرسةَ من أداء مهمَّتِها على أحسن وجهٍ. إنه هو الذي يضع اللبنات الأولى لمجتمعٍ منصِفٍ، عادلٍ، متسامحٍ… من خلال ممارستِه التعليمية/التربوية وما تحملُه وتنقله من قِيمٍ. إنه هو الذي يسهر على تهييء المتعلمين ليكونوا مواطني الغد. إنه هو الذي يجعل الممارسة التعليمية/التربوية جذابةً، مفيدةً وذات نفعٍ. وفي هذا الصدد، لم يعد المدرس مجردَّ وسيلة لنقل المعرفة لكن كذلك باني حقيقي للمتعلِّم، لشخصيته، لمستقبلِه واندماجِه في المجتمع. وتوفيراً لِمَا يتطلَّبُه بناءُ أو تجديدُ المنظومة التربوية، المدرس هو ذلك الشخص الذي :
-يحمل التَّغيير ويؤمن بأهمِّبته.
-يتصرَّف في مدرسةٍ مواطِنة كمواطنٍ تتخلَّلُه نبرةُ حب الوطن والصالح العام، أي يتصرَّف كمثالٍ يُحتدى أو كقُدوةٍ بالنسبة للمتعلِّمين.
-يكون واعياً بأن دورَه لا يمكن أن يًختَصرَ في نقل المعارف. إنه، أولا وقبل كل شيء، مربِّي وناقلٌ للثقافة والقِيم.
-يكون على اطلاعٍ بالوظيفة الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية للتعليم والتربية.
-يعتبر نفسَه كواحدة من الرافعات التي تساهم في التّنمية.
-له درايةٌ بخيوطِ مهنتِه من خلال تكوينٍ رفيع المستوى وبالأخصِّ، على درايةٍ بعلاقة هذه المهنة بالمجتمع، بالمنظومة التربوية، بمؤسسة انتمائه، بالأسرة، بالأخلاقيات، بالمسئولية…
-يتخلَّصُ من وضعِه المُعتاد الذي يجعل منه مالِكا للمعرفة، أي الشخص الذي يعرف وينطق بالحقيقة، الشيء الذي يساعِد على بَسطِ مناخ تسود فيه الثقة والحوارُ بينه وبين المتعلِّمين.
-يتقمَّصُ دورَ المنشِّط والمنسِّق والمًحفِّز والمسهِّل…
-يجعل من جودة خدماتِه داخِلَ القسم الخيطَ الناظمَ لممارستِه التعليمية التربوية.
-يأخذ مسافةً إزاء مهنتِه، تعليمِه وتدخُّلاتِه داخل القسم (تقييم ذاتي).
-يسعى دائما إلى تحسين تعليمِه وصورتِه بتَحيين ممارستِه معرفيا وتربويا.
-يتعوَّد على استعمال تكنولوجيات الإعلام والتواصل، وبالأخص، تلك التي تقوِّي جودةَ ونجاعةَ ممارسته التعليمية التربوية…
إن هذا البرنامج يُعدُّ بمثابة أداةٍ لقياس منجزات المنظومات التربوية والمكتسبات الأساسية التي يجب أن يتوفَّر عليها التلاميذُ على المستوى المعرفي بعد انتهاء مسارهم الدراسي الإجباري.
فعندما تكون المنجزات والمكتسبات تحت ما هو منتظرٌ، فهذا مؤشِّر إنذارٍ وتنبيهٌ يحثُّ على أن المنظومات التَّربوية تعاني من اختلالات يجب الوقوف عليها لإيجاد حلولٍ لها. وبعبارة أخرى، يجب إعادةُ النظر في خدمات المدرسة، في مهمتها، في كيفية اشتغالِها وبالأخص، في علاقتها مع المجتمع.
بالفعل، إن استعمالَ رائزَ PISA لا يهدف فقط إلى قياس حجمِ المعارف التي اكتسبها المُتعلِّمون ولكن كذلك كيف يتعاملون مع هذه المعارف في حياتهم اليومية. وبعبارة أخرى، كيف يمكن للمعارف المدرسية (النَّظرية) أن تُصبحَ عناصر تُفسِّرُ الأوضاعَ التي يصادفُها المتعلِّمون في حياتهم اليومية. وهذه بعض أهداف برنامج PISAض:
-قياس إنجازات التلاميذ.
-دراسة مدى تحضير التلاميذ لحياة الكِبار
-الوقوف على العوامل الخارجية (الظروف الاجتماعية والاقتصادية) التي تؤثِّر على إنجازات التلاميذ...
غير أن نتائجَ برنامج PISA، رغم أهمِّيتِها في الوقوف على نجاعة ومردودية المنظومات التَّربوية، قد تكون غير كافية لإعادة بناء هذه المنظومات. وهنا، يجب أن لا ننسى أن المنظومةَ التَّربويةَ عبارة عن بِنيةٍ معقَّدة، وبالتالي، لا يمكن اختصارُها فيما يجري داخلَ الأقسام، أي حَصرُها في أنشطة التَّعليم والتَّعلُّم.
إن المنظومةَ التَّربوية عبارة عن نظامٍ سياسي-اجتماعي، هي الأخرى جزءٌ من نظام أوسع متمثِّل في الدولة. سياسي لأنه جزءٌ من السياسة العامة لهذه الدولة في مجال التَّنمية. اجتماعي لأنه أًنشِيءَ من طرف، في ومن أجل المجتمع. إنه إذن نظامٌ منبثقٌ من مجتمعٍ ينتظر من المدرسة أن تضمنَ استمرارِيتَه وتطوُّرَه.
ولهذا، فإن بناءَ أو إعادةَ النظر في منظومةٍ تربويةٍ ما، يجب أن ينطلقَ/تنطلقَ من ضرورة اعتبار هذه المنظومة ككُلٍّ متكاملٍ الأجزاء علما أن الهدفَ الأساسي هو تجديدُ هذه الأخيرة.
فما هي الشُّروطُ التي ستقود إلى هذا التَّجديد؟
فيما يلي، هذه بعض الشروط التي أعتبرُها شخصيا حاسِمة :
1.الشرط الأول: القطع نهائيا مع ممارسات وأساليب المنظومة السابقة لا من حيث أنشطة التَّعليم والتَّعلُّم ولا من حيث الحكامة.
وهذا يعني تبنِّي مدرسة جديدة لها مكانتُها في المجتمع علما أنه، بدون هذا التَّبنِّي، قد تعود الممارسات والأساليب القديمة للميدان، الشيء الذي قد يُعيقُ، كليا أو جزئيا، جدوى محاولات البناء والتَّجديد. وهنا، لا بدَّ من الإشارة إلى أن العديدَ من البلدان عرفت مثلَ هذا الوضعَ من جراء المواجهة بين المتمسِّكين بما هو تقليدي traditionalisme ومَن ينادون بالحداثة modernisme.
2.الشرط الثاني: ما هي المكانة التي يجب أن تحتلَّها المدرسة في المجتمع؟
أو بعبارة أخرى، ما هي المدرسة التي نريد؟ هل نريد مدرسةَ التَّحرُّرِ والتَّفتُّح الفكريين والاجتماعيين والثقافيين وتكافؤٍ فعلي للفُرص أم مدرسةً تُنتِج أشخاصاً منمَّطين مع انعدامٍ لتكافؤ هذه الفرص؟ مدرسة تتفاعل مع المجتمع وبالأخص، مع التَّغييرات التي تحدث فيه، أحيانا بسرعة فائقة؟ مدرسة منفتِحة على محيطها القريب والبعيد تنهل منه سرَّ وجودها؟ مدرسة يتساكن فيها، بنجاعةٍ، التعليم والتربية والتَّعلُّم والتَّكوين؟ مدرسة تساهم في التنشئة الاجتماعية وفي تعلُّم المواطنة وحب الوطن؟
3.الشرطُ الثالث: أي مجتمع نريد؟
إذا افترضنا أن المجتمعات المتطوِّرة والمتقدّمة تتوفَّر على منظومات تربوية جيِّدة الأداء، الدول الأسكندينافية كمثال، يمكن أن نقولَ أن هذه المجتمعات نِتاجٌ لهذه المنظومات. كما يمكن أن نقولَ أيضا أن المنظومةَ التربويةَ صورةٌ للمجتمع الذي يحتضنها.
ولهذا، ليس بإمكاننا أن نُقارنَ بلدا نسبةُ الأمية فيه مرتفعة ببلد آخر نسبة المتعلِّمين فيه تقارب 100%! وهذا يجرُّنا إلى القول بأن المنظومة التربوية لها تأثيرٌ على تطوُّر (حضارة، تقدُّم) المجتمع. فبناءُ أو تجديدُ منظومةٍ تربويةٍ يقتضي أن يندمجَ المجتمعُ في هذه المنظومة والعكس. لكن مجتمع متوازن، مُنصف، متسامح، متضامن، متماسِك، مُتعلِّم، مثقف، مُتربِّي، ينقل قيماً إسانيةً، يُنتِج الثروةَ والقيمات المضافة، الخ. وباختصار، لبناء أو تجديدِ منظومة تربوية ما، يجب، بكل بساطةٍ، التَّوفُّرُ على مشروع مجتمع بما للعبارة من معنى.
4.الشرط الرابع: أي مواطن نريد؟
هنا حجر الزاوية لأن المواطنين الذين تُنتِجُهم المدرسة هم مَن يبنون المجتمعَ. فعلى المدرسة أن يتجسَّدَ فيها المجتمعَ كما يريده الجميع. تجسيدٌ يشمل محاسنَها وقيَمَها وقدراتِها بتنشئتها للمُتعلِّمين الذين هم مواطنو المستقبل. فما هي إذن مواصفات profil التي يجب تبنِّيها أو، بعبارة أخرى، على أية مواصفات يجب أن تُركِّزَ المدرسةُ لبناء مجتمع كما تمَّ وصفُه أعلاه؟
في نظري، مواصفات المواطن الذي نريد يجب أن تتمحورً، على سبيل المثال، على الاعتبارات التالية :
-تكوين مُتعلِّمٍ يتعامل مع المعرفة التي يتلقَّاها ليس كحقائق مطلقة ولكن كتفسيرٍ للواقع réalité وللظواهر المحيطة به.
-اعتبارُ المتعلِّم كفاعِلٌ/رافعةٌ للتنمية مستقبلاً وكأمل لمجتمعٍ نشيط.
-تكوين شخص حرٍّ، مُحترِما نفسَه والغيرَ ويتحلَّى بروح المسئولية.
-شخص يتمتَّع بحقوقه ويؤدي واجباتِه (مواطنة، حب الوطن والصالح العام).
-شخص متعلِّم، مثقف، متربي، متحرِّر، مُتفتِّح ويتوفَّر على فكر نقدي.
-شخصْ حاملٌ لقيمٍ اجتماعيةٍ كالتسامح ويميل إلى العمل الجماعي والتضامن.
-شخص مُنتِجٌ للقيمات المضافة، للثروة، للتَّقدُّم…
5.الشرط الخامس: أي نوعٍ من الممارسة التعليمية/التربوية نريد؟
انطلاقاً من نوع المجتمع والمواطن اللذان نريد، نحن ملزمون بتبنِّي ممارسة تعليمية/تربوية :
-تجمع، بامتياز، بين التعليم والتربية والتَّعلُّم والتّكوين.
-تكون منصِفةً وتُقلِّص أو تقضي على تفاوتات التَّعلُّم، وبالتالي، تضمن نجاحَ الجميع.
-مُسخَّرة للمتعلِّمين وليس العكس.
-تكون فيها المعرفة متفتِّحةً ليس فقط على الحياة ولكن كذلك وسيلة لتطوُّرِ ونموِّ المَلَكات الفكرية للمتعلِّمين.
-تُحفِّزُ على الفضول وأخذ المبادرة وعلى الاكتشاف…
-يكون فيها المتعلِّمُ شخصا نشيطاً، جريء و لِِمَا لا قوة اقتراحية.
-تسود فيها ثقةٌ متبادلةٌ بين المُدرِّس والمُتعلِّم.
-فيها نفعٌ للمدرسة، للمدرسين، للمتعلِّمين، للمجتمع، للبلاد…
لكن الممارسة التعليمية/التربوية تكون أكثرَ نفعاً إذا بدأ تفتُّحُ المتعلّمين وتحرُّرُهم منذ الصِّغر وبالضبط، أثناء مرورهم من مرحلة التعليم الأولي الذي يسبق مرحلةَ التَّمدرس الإجباري. في هذه المرحلة، فضلاً عن النمو النفسي الحركي، فإن الطفلَ يبني، من خلال اللعب، عاداتٍ تسير في اتجاه تنشئته الاجتماعية المقبلة كتطلُّعِه للاستقلال وقَبول الآخر وقَبول الاقتسام والاندماج في مجموعات والتَّعوُّد على الإبداع واكتساب العناصر الأولى للغة (التواصل)...
ولهذا، فإن المنظومةَ التربوية ستكون مُربِحةً إذا ما جعلت من مرحلة التعليم الأولي جزأً لا يتجزَّأُ من التَّمدرس الإجباري. في هذه الحالة، فإن الطفلَ، عندما يصل إلى المرحلة الابتدائية، يكون قد خطا خطواتٍ نحو تنشئتِه الاجتماعية ويكون له الاستعدادُ ليخطوَ نحو آفاقٍ جديدة من المعرفة والتَّعلُّم والتربية وبالأخص، نحو تقوية شخصيتِه.
6.الشرط السادس: أية مواصفات مُدرِّسٍ نريد؟
المدرِّسُ هو حجر الزاوية في بناء أو تجديد المنظومة التّربوية. فعندما نقول : "أية مدرسة نريد؟" و"أي مجتمعٍ نريد؟" و"أي مواطن نريد؟" و"أية ممارسة تعليمية/تربوية نريد؟"، فهذه اعتباراتٌ يجب أن تتجسَّدَ في المدرِّس من خلال تدخُّلاتِه في القسم ومن خلال علاقاته بالمتعلِّمين.
المدرِّس هو الجزء الأساسي الذي يمكِّن المدرسةَ من أداء مهمَّتِها على أحسن وجهٍ. إنه هو الذي يضع اللبنات الأولى لمجتمعٍ منصِفٍ، عادلٍ، متسامحٍ… من خلال ممارستِه التعليمية/التربوية وما تحملُه وتنقله من قِيمٍ. إنه هو الذي يسهر على تهييء المتعلمين ليكونوا مواطني الغد. إنه هو الذي يجعل الممارسة التعليمية/التربوية جذابةً، مفيدةً وذات نفعٍ. وفي هذا الصدد، لم يعد المدرس مجردَّ وسيلة لنقل المعرفة لكن كذلك باني حقيقي للمتعلِّم، لشخصيته، لمستقبلِه واندماجِه في المجتمع. وتوفيراً لِمَا يتطلَّبُه بناءُ أو تجديدُ المنظومة التربوية، المدرس هو ذلك الشخص الذي :
-يحمل التَّغيير ويؤمن بأهمِّبته.
-يتصرَّف في مدرسةٍ مواطِنة كمواطنٍ تتخلَّلُه نبرةُ حب الوطن والصالح العام، أي يتصرَّف كمثالٍ يُحتدى أو كقُدوةٍ بالنسبة للمتعلِّمين.
-يكون واعياً بأن دورَه لا يمكن أن يًختَصرَ في نقل المعارف. إنه، أولا وقبل كل شيء، مربِّي وناقلٌ للثقافة والقِيم.
-يكون على اطلاعٍ بالوظيفة الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية للتعليم والتربية.
-يعتبر نفسَه كواحدة من الرافعات التي تساهم في التّنمية.
-له درايةٌ بخيوطِ مهنتِه من خلال تكوينٍ رفيع المستوى وبالأخصِّ، على درايةٍ بعلاقة هذه المهنة بالمجتمع، بالمنظومة التربوية، بمؤسسة انتمائه، بالأسرة، بالأخلاقيات، بالمسئولية…
-يتخلَّصُ من وضعِه المُعتاد الذي يجعل منه مالِكا للمعرفة، أي الشخص الذي يعرف وينطق بالحقيقة، الشيء الذي يساعِد على بَسطِ مناخ تسود فيه الثقة والحوارُ بينه وبين المتعلِّمين.
-يتقمَّصُ دورَ المنشِّط والمنسِّق والمًحفِّز والمسهِّل…
-يجعل من جودة خدماتِه داخِلَ القسم الخيطَ الناظمَ لممارستِه التعليمية التربوية.
-يأخذ مسافةً إزاء مهنتِه، تعليمِه وتدخُّلاتِه داخل القسم (تقييم ذاتي).
-يسعى دائما إلى تحسين تعليمِه وصورتِه بتَحيين ممارستِه معرفيا وتربويا.
-يتعوَّد على استعمال تكنولوجيات الإعلام والتواصل، وبالأخص، تلك التي تقوِّي جودةَ ونجاعةَ ممارسته التعليمية التربوية…