الثقب الذي مررت منه كان أضيق من أن يلحظه أحد . كنت عاريا تمام العري ، كما ولدتني أمي منذ خمسة عقود ، ولما كنت ـ وقتها ـ أصغر من أن أعي كيف قطعوا حبل السرة فقد خمنت أن القابلة فعلت كل ذلك بدربة ، وربطت مكان القطع بإحكام ، وخيطت قطعا في البشرة بدقة شديدة ، ولقفتني لأمي وهي في سريرها بين اليقظة والنوم .
رأيت أن الأسود هو الذي يمكنه أن يداري سوءتي ، فعشقت الأسود . فضلت تلك الدرجة التي يكون فيها بلون القار الذي يطلون به الشوارع فتسير السيارات برفق وتنزلق عجلاتها بتؤدة ، أما أنا فكنت أشهق كلما رأيت نفسي في مرآة مكشوف الأعضاء ، وكان من حسن حظي أنني اندفعت من الثقب في الليل ، حيث يخفت النور ، ولا تكون هناك إضاءة إلا بمصابيح أو بضوء نجوم بعيدة أو بالقمر .
منذ اندفاعي من الثقب شعرت بمزيج غريب من الخوف والراحة ، وفكرت أن أذهب لحديقة " اللوزي بك " قرب النيل ؛ ففيها أشجار كثيفة يمكن الاختباء بين أغصانها المتشابكة ، وتذكرت أن القرود تختفي في الغابات بين الأفرع ولا يكشفها أحد ، حيث
تدلي ذيولها وتصنع منها خطاطيف للتأرجح والتعلق واللهو . كنت في ورطة حقيقية فلو أن الفجر أتى وأنا في هذه الحالة لكانت فضيحة كبرى ترتج لها البلدة شهورا عدة ، فما بالك لو أن هدى رأتني في عريي هذا؟ أتراها تغفر لي فعلتي الشائنة؟
لملمت أفكاري واندفعت في سعيي نحو الحديقة ، وفي طريقي لشجرة التين البنغالي وجدت النصب التذكاري بأقواسه الثلاث ، وسمعت موسيقى عسكرية تصدح ، وصفوف فرقة " المزيكا " تسير بانتظام ، وكان أفراد الفرقة في ثياب بيضاء وعلى صدورهم النياشين المزركشة ، ولأن البياض يكشف السواد ، ويذله ، ويمسح بكرامته الأرض ، فقد داريت نفسي أكثر وأكثر وحاولت الولوج للأخضر في الأوراق العريضة للشجرة ، لكن اللون منعني ، وحيائي من أن أسرق شيئا ليس مرصودا لي أربكني . كان علي أن ألقي نظرة على الصفوف المنتظمة التي اقتربت من النصب التذكاري فرأيت البزات العسكرية ،وصفين من الأزرار النحاسية اللامعة تصل من الصدر حتى أسفل البطن ، بالقرب من السرة . صعبت علي أمي أن تعاني في ولادتي ، وقلت في نفسي لو أنني كبرت ، وتعلمت ، وتخرجت ، وتوظفت ، وخصص لي مكتب عليه منفضة سجائر وهاتف بقرص دوار فسأعوض تعبها ، وقد أشتري لها مطبخا فيه من كل صنف زوجين اثنين ، وسأكثر من الملاعق والشوك والسكاكين ، والأطباق الزجاجية الشفافة التي لها اللون الأزرق . لكن الموسيقى تصاعدت أكثر وهزت الأسود الذي يخفيني ، ففكرت بسرعة أن أحاول الهبوط والالتصاق بالأرض، بالحشائش ، بأفرع نبات الجهنمية ، للحظات ثم أطلق ساقي ّ للريح ، واتجه لمكان يخلو من الناس في هذه الساعة .
كانت إذن خطة محكمة مني أن أنتزع وريقات الشجرة وأستر عريي ، وفوجئت بالأوراق تغطي كل ما حرصت على إخفائه ، فانزاح بعض غمي ، ورأيت أن خروجي من الثقب في هذا الوقت ظالم ، لي ولأمي ، وللحضارة العريقة التي أنتمي إليها . وجدتني منحنيا أطرق بإزميل على كتلة صخر من الجرانيت . عليّ أن أنحت تمثالا لرمسيس الثاني ، لم أكن بالطبع وحدي ، فقد كنت واحدا من عشرات ينحتون بهمة ، والعرق ينزل على عيوننا المحدقة فتلسع الملوحة البؤبؤ . لكنني لم أكن قادرا على الاستغاثة ، فالآلهة ستغضب مني لو توقفت . أليس هو ابن الإله؟
لاحظت أن الخرقة لم تكن تستر سوى نصفي الأسفل ، وهذا ما يهمني ، نظرت لرئيس الكهنة وهو يضع لنا الماء وبعض الحنطة المطبوخة في أجفان صغيرة من الرخام الرقيق . كان سواد اللحظة يكشفه نور الإله الذي يبارك أعمالنا ، ورمسيس يضحك وهو يتشكل بين أيدينا والأزاميل تطرق: طق . طق .طق . كنا في حضن الجبل ، والنيل نفسه يمر بلا صوت ، لكنني رأيت عم عزيز المجدي يلوح لي أن أستأذن الكاهن لدقائق كي يريني شيئا. استأذنت وبي خجل احتل وجهي ، فأعطاني الكاهن خمس دقائق لا أكثر ، ثم منحني بركته .
أخذني عم عزيز إلى داخل المدرسة . كشف عن صدره وأراني ندبة عميقة بطول الكف ، سألته : " من جرحك ؟ " . قال لي بنفس ابتسامته المشرقة : " جرحني رجل من رجال القبائل في حرب اليمن!" ، كبش من سلة خوصية جنب السور نباتا أخضر وقال لي : " ألا تمضغ بعض القات؟ " أبعدت يده : " لم أجربه " . هز رأسه متفهما ، وقرأ الفاتحة على روح جمال عبدالناصر ، وعبدالله السلال. قلت له : " لم يمت السلال ؟ " فرد علي في غضب : " بل مات " . أخذني من يدي ، وفتح باب المدرسة ، فاندفع الأطفال في فرح وارتفع لغطهم . قلت له مأزوما : " هل يرفتني السيد مدير المنطقة التعليمية لأنني أتيت بهذا المئزر نصف عار ؟ " أمسك بيدي ، ولكزني في منتصف صدري : " اذهب أنت ، واترك لي هذا الموضوع " . بمجرد أن فكرت في الانصراف مرت أسراب من النوارس ربما تقصد البحر فقد كانت وجهتها نحو الشمال ، وفوجئنا برجل معمم ، له لحية كثة بيضاء . سأل عن أحوال المدرسة ، وحين دققت النظر في صورته اكتشفت أنه الشيخ محمد عبده . قال الرجل أن الأولاد على نواصي الشوارع يشترون " البانجو " ، ويدخنونه في لا مبالاة ، وأنه قد أتى ليخبر ناظرالمدرسة بالموضوع ليخلي مسئوليته ويرضي ضميره .قبل أن ينهي كلامه نظر إليّ وتمعن في ملبسي الغريب : " الأستاذ من هنا؟ " رد عمي عزيز : " كان هنا وتم فصله لسيره مع محمد عبدالسلام الزيات رجل المعارضة الذي شتم القطط السمان ! " قهقه الشيخ وظننته يسخر مني : " عملها البارودي ، ونفوه إلى سرنديب " . قرب ما بين حاجبيه : " تعال سلم عليّ !لست بغريب عن ناحيتكم " أطلقت لساقي الريح وأنا أهتف :" بل غريب .. غريب يا مولانا " .
كان الأسود يأخذ أشكالا متضاربة ، والثقب الذي أتيت منه لا أجد له أثرا ، وفيما أنا أفكر بالعودة إلى الجبل قبل انقضاء وقت الكاهن دفعني صاحبي علوش للنزول إلى النهر ، والاستمتاع بالاستحمام في مياهه الدافئة ، وقد وافقته ، وخلعت مئزري ، وسبقته لحضن النيل ، وكان النصب التذكاري يلوح من بعيد والموسيقى ما زالت تصدح بأغنية " والله زمان ياسلاحي " ، ضحكت لأنني كتبت هذه الأنشودة بقلم " الكوبيا " في كراسة الموسيقى . طفلا كنت ، وعندما احتاجت أمي لورقة بيضاء لتجفف عليها أعواد السلق بوضعها في الشمس انتزعتها ، ولما أتيت من محل الأحذية الذي كنت أعمل فيه بكيت لأن البلل جعل الحروف ممسوحة ، لا يمكن أن تقرأ بحال . ربتت أمي على كتفي ونزلت السوق واشترت كراسة موسيقى أخرى بنفس خطوط النغمات والفواصل : دو . ري . مي . فا . صول . لا . سي .
فوجئنا بمجموعة عسكر يأمروننا بالصعود إلى شاطيء النهر لأنهم سيضعون أصابع ديناميت في مجرى الماء لقتل السمك والحصول على وجبة شهية بتلك الطريقة الدموية . صعدت فلم أجد المئزر ، ووجد علوش ملابسه ونظارته ، فعرفت أن الله يمتحنني ويختبر صلابتي ، وقررت ألا أذهب للكاهن مهما كلفني الأمر . عدت لنفس الشجرة وطفقت أخصف من أوراقها لأستر عريي ، وسريت في الليل نحو مكان سكني ، وقد غاب عن بالي تفاصيل ماحدث لي بمروري من الثقب .
وجدتني وجها لوجه أمام تمثال علي باشا مشرفة . قلت في نفسي : " ما المانع أن أختفي وراء قاعدة التمثال؟ " . كانت فكرة نيرة فعلا ، فالمكان مقطوع ولا يوجد به صراخ ابن يومين. كنت مرهقا فتمددت وراء القاعدة ، ولمحته كما هو يستند بيده على رصة كتب من كتبه العلمية وقد طلاها المثال بالرمادي الداكن . غفوت ربما لدقائق وفتحت عينيّ فإذا به أمامي . همست :" آسف جدا .. لم أقصد" . مد يده ومنعني من الكلام ، وقال في صوت رصين : " لماذا تركت عملك هناك؟ الكاهن منزعج جدا" . قلت أدافع عن نفسي : " لقد أرهقني العمل في الصخر " سألني وهو ممتعض الوجه: " هل تتخلى عن آبائك وأجدادك ؟ " قلت وأنا أزن كلامي وأرتبه : " يا صاحب المعالي الباشا أنا مجرد نحات فقير وما يقدم لنا من طعام وشراب لا يسد الرمق " . هز رأسه وقد تبددت قسوته بعض الشيء : " لكن قليل من الحنطة يكفي " . سألته وأنا في غاية الأسى : " لماذا مت قبل أن تصنع لنا قنبلة ذرية ؟ إسرائيل عندها 200 قنبلة في ديمونة " . غاضت الابتسامة من وجهه ، وهرش رأسه : " كنت أعلم أنهم سيفعلون . لكنني مت قبل أن أصنعها " . هاجمته بلا مواربة : " ربما منعك حبك للموسيقى . دو ري مي !" . هز رأسه وهو يقسم : " والله أبدا " . لمحت دمعة تنحدر من عينين مجهدتين . سألته : " هل سنموت كالسائمة؟ " . عادت لوجهه البشاشة :" يا بني لا تخف " . أمسكت يده وقبلتها : " هل هناك أمل أن نصعد ونتخلى عن الوحل؟ " . حرك شفتيه بتثاقل محملا اكتنازهما يقينا غريبا : " بالطبع . هناك أمل ، ولذلك أطلب منك أن تذهب لرمسيس " . دمدمت : " لماذا ؟ " . ابتسم بمرارة : " ستعلم بعد أن ينضج عقلك لماذا أطلب منك ذلك" . صعد على سلم خشبي رفيع إلى حيث كان يقف شامخا متعاليا ، وكان صانع التمثال السيد عبده سليم الذي رأيته مرة في قصر ثقافة كفر الشيخ يسنده ، ويمسك بيده خوفا من وقوعه ، وتحطمه ، فلم أعرف بالضبط : هل كلمني على هيئة بشر أم حجر؟
وجدت عم عزيز المجدي يهرول باتجاهي ، ويسألني : عمامة الشيخ ضاعت . كان يتوضأ فخرج ولم يجدها . أين تراني أجدها ؟ " . استغربت وسألته : " هل فتشتم عنها جيدا ؟ " هز رأسه : " في كل مكان ، ولم نعثر لها على أثر " . انتبه إلى أوراق الشجر التي تغطيني : " لا ينفع أن تأتي معي على هذه الهيئة . عندي ثياب أخرى في حجرة البوابة " . وافقته ، وسمحت له بالعودة لإحضارها .
كان هما وانزاح عن كاهلي ، فقد سترت نفسي بقميصه الضيق من عند الأكتاف ، وبنطلونه ذي القطع من فوق الركبة ، وامتعضت أنني ارتديت ملابسه على اللحم. سألته : " وأين يجلس الشيخ محمد عبده؟ " . رد على الفور : " في مكتب الناظر . " خمنت أنهم سيخبئون العمامة بالقرب من المنحل . في مكان مهجور لا تطأه قدم . صدق تخميني وعدت بالعمامة بعد أن قرصتني نحلة في جبهتي . دفعت بها للشيخ الذي وضعها على رأسه وارتشف من فنجان القهوة رشفته الأخيرة وهو يشكرني ، وقبل أن أرد تحيته هرول خارجا من الحجرة أو لعله عاد إلى الإطار الذي كان يواجهنا تماما وفيها صورته . كان الإطار يتحرك حركة بسيطة ، والعينان تحدجانني . سألني الناظر : " هل أعادوك للتعليم ؟ " مرت لحظة صمت سعل فيها الشيخ دون أن يتخلى عن إطاره : " أضاع عرابي نفسه بالارتكان للرعاع " وددت أن أمسك بتلابيبه : " لكنك كنت معه . وتخليت عنه " . أتاني صوت الناظر مترقرقا بتهكم خفي " ألن تتخلى عن لعبة السياسة ؟ " لم يكن هناك متسع من الوقت كي أرد على سؤاله، فقد دق جرس انتهاء اليوم الدراسي ، عرفت ذلك من الصياح والعفار واندفاع المدرسين لدفتر الحضور والانصراف .
خرجت بسرعة من المبنى فوجدت السواد نفسه . تيقنت أنني لست في حالتي الطبيعية ، فالغيوم تتمطى في الأفق ، ورائحة عرق عم عزيز المجدي تضايقني ، ولفت نظري أن علي باشا مشرفة فوق قاعدته الصخرية ولكنه ولى وجهه شطر الناحية الأخرى معطيا لي ظهره . فهل هو غضبان مني لأنني تركت عملي في الجبل ؟ لماذا يشملنا هذا الأسود البغيض ؟ وما سبب زيارة الشيخ محمد عبده لمدرستي؟ هل يمكن أن يكون السبب هو البانجو فعلا؟ وهل يمكن أن تصنع مصر قنبلة ذرية ؟ وهل الأجدى أن توفر أرغفة الخبر لفقرائها أولا ؟ هل عودتي للجبل ومعاودة نحت تمثال رمسيس الثاني ستقربنا من هذا الهدف ؟
شاكستني الأسئلة ، وأتعبت عقلي ، وفيما الشكوك تتنازعني وجدت هدى تقترب مني ، وتهمس لي في رقة متناهية : " نسيت كتبك. ونظارتك؟"
لما وضعت النظارة على وجهي توردت الدنيا ، فتحت أول كتاب أعطتني إياه ، وجدت زهرة اللوتس مندسة بين الصفحات . سمعت صوت أمي يصلني من بعيد ، وهي تصيح بي : " عد إلى بيتك " . بحثت في كل مكان عن الثقب الذي مررت منه . بحثت بكل جدية فلم أعثر عليه . وجدتني أتخبط في الظلمة ، والأسود يحيط بي ويوقعني في شباكه الشائكة .
دمياط 15/10/2006