د. أحمد الحطاب - المنظومة التَّربوية والمردودية

تتمثَّل مردوديةُ rendement/rentabilité أية منظومة système (مالية، صناعية، تجارية، فلاحية، خدماتية، اجتماعية، تعليمية، ثقافية…) في تناسب proportionnalité مُدخلاتها inputs، أي ما تستهلكه من أموال وطاقات بشرية وعمل و وقت…، مع ما تفرزه من نتائج أو مُخرجات outputs عند نهاية فترة من الزمن. وعندما تكون المدخلات متناسبة proportionnelles مع المخرجات، نقول "إن المنظومة لها مردودية مُرضية rendement satisfaisant. ولقياس مردودية المنظومة التَّربوية، تلجأ الوزارة الوصية إلى البرنامج الدولي لتتبُّع مكتسبات التلاميذ Programme International de Suivi des Acquis des élèves PISA كل ثلاثة سنوات، بالنسبة لتلاميذ مرحلة التعليم الإجبارية التي تشمل التعليم الابتدائي والثانوي الإعدادي.

المردودية الجيدة للمنظومة التربوية رهينة بترابط دواليبها (مكوناتها) علما أن العنصر البشري يلعب دورا حاسما في جودة و نجاعة هذا الترابط. وهذا يعني أن العنصرَ البشري، السابق الذكر، من المفترض أن تُحرِّكَه، أثناء القيام بمهامه، قِيم التنافس والتسابق وحب الصالح العام بعيدا عن كل اعتبارات سياسية-سياسيوية وعن كل صراعات و شِجارات انحيازية.

المنظومة التربوية المغربية مِلك لجمبع المواطنات والمواطنين. إنها الضامن لتربية وتكوين الأجيال الحاضرة والآتية وكذلك لتحرُّرهم الشخصي. لا أحدَ له الحق في عرقلة مهمتها السامية من خلال مُصادرتها لأغراض إيديولوجية، فئوية أو عقائدية. إنها قيمة القيم يرتبط بها مستقبلُ وتقدمُ الوطن وتنميتُه الاقتصادية والاجتماعية. والدليل على ذلك، الأهمية الكبيرة التي توليها الدولة المغربية للتربية والتكوين باعتبارهما الأولويةَ الثانيةَ بعد الوحدة الترابية للبلاد.

مؤمنة بنُبل هذه القضية، ضخَّت ولا تزال تُضِّخ الدولة المغربية أموالا طائلة في المنظومة التربوية. ومع ذلك وعلى امتداد عقود، بدا واضحا أن التمويل وحده غير كاف لضمان سيرورة جيدة لهذه المنظومة. هناك اعتبارات ذات طابع كيفي (نوعي) لها وقع، وإلى أبعد حد، على نجاح هذه السيرورة. وإذا عانت المنظومة من عجزٍ في الحكامة أو من اختلالٍ في العلاقات التي تربط مكوناتِها أو أيضا من غيابٍ في شفافية السياسات التَّعليمية/التَّربوية، فإنها لن تفرز النتائج التي ينتظرها الجميع (سلطات، شعب، مجتمع، أُسَرٌ، متعلمون…).

وبكل أسف، هذا هو ما حدث ويحدث بالمغرب منذ عدة عقود علما أن حجمَ الأموال التي تمتصها المنظومةُ ضخمٌ وقد يبلغ، من سنة إلى أخرى، ربع ميزانية الدولة. إن هذا المجهود المالي الهائل يُعتبر كاستثمار من المفروض أن يُترجمَ إلى رسملةٍ capitalisation على مستوى تكوين كفاءات قادرة على الاندماج في النسيج الاقتصادي والاجتماعي وذلك بخلق قيمات مضافة وثرواتٍ تصبُّ في تنمية البلاد.

وما يُلاحَظ رغم الانخراط المالي الهائل للدولة، هو التباعدُ الصارخُ بين المُدخلات inputs التي تغذي المنظومة والمخرجات outputs المُفرَزة التي هي دون الانتظارات وبكثير. و لا داعي للقول أن هذه المخرجات تُتَرجم على أرض الواقع بإنتاج جحافل من حاملي الشهادات غير مؤهلين لدخول سوق الشغل، الشيء الذي يجعل منهم عبئا ثقيلا على المجتمع والأسر، علما أنهم، كذلك، يُشكِّلون هدرا كبيرا في الرأسمال البشري. وما يزيد في الطين بلَّةً هو أن المنظومة التَّربوية تُفرز هدرا آخر يتمثَّل في مغادرة أعدادٍ هائلة من المستفيدين من خدماتِها (أطفال، مراهقون، شباب) قبل نهاية دراستهم ودون الحصول على أية شهادةٍ.

إن أسباب هذا الهوة، التي أقل ما يُقال عنها أنها غريبة، بين المجهودات المبذولة في عالية amont المنظومة والنتائج المحصَّل عليها في سافلتها aval، كثيرةٌ، معقَّدة ومتداخلة لها علاقة وطيدة بعجز déficit في الحَكامة gouvernance الذي قد يكتسي (أي العجز) طابعا سياسيا، اجتماعيا، اقتصاديا، مفاهيميا، مؤسسيا، ديداكتيكيا، الخ.

السياسة وأحزابُها، في هذا البلد السعيد، أفسدت كل شيء. ورائحة هذا الفساد تُشمُّ من بعيد. وأينما حلَّت وارتحلت تنقل معها هذا الفساد. ولو كانت هذه السياسة وأحزابُها مواطِنةً وتعمل من أجل صالح الوطن، لانتهينا من إصلاح المنظومة التَّربوية منذ زمان وتفرَّغنا، فقط، لتحسين جودتها ومردودِيتها سنة بعد سنة. إلى حد الآن، لم تفلح السياسةُ في إصلاح المنظومة التَّربوية إصلاحا ينعكس إيجابا على مردودية هذه المنظومة.

على المستوى الاجتماعي، العجز في الحكامة تسبَّب في تراجع سمعة المدرسة العمومية لدى شريحة عريضة من الشعب المغربي. كما تسبَّبَ هذا العجزُ في تراجع قيمة المدرِّس داخلَ الجتمع. والأدهى والأمَرُّ هو أن هذا التَّراجُعَ خلَقَ نوعين من الأنظمة التَّعلمية : نظام تعليمي عمومي مجاني ونظام تعليمي خصوصي يُؤدَّى عنه. وقد أدى هذا التَّقسيم إلى اعتبار الأول من نصيب الفقراء أو لمَن يفتقرون إلى الموارد المالية للاستفادة من خدمات التَّعليم الخصوصي. أما الثاني، فهو من نصيب الأغنياء أو الناس القادرين على تحمُّل نفقات التَّعليم الخصوصي، علما أن جزأً من هؤلاء الأغنياء أو الميسورين فقدوا الثقةَ في النظامين. فراحوا يُرسلون بناتِهم أبنائهم إلى مدارس البعثات الأجنبية أو إرسالهم إلى الخارج. إلى حد الآن، سمعة المدرسة العمومية وسمعة المدرس تزداد سوءً.

على المستوى الاقتصادي، تسبَّب العجز في الحكامة في انعزال المدرسة عن محيطها، بصفة عامة، وعن محيطها الاقتصادي، بصفة خاصة. فعوض أن تُكوِّنَ أجيالاً حاملين لفكرٍ نقدي ومُنتِجين للثروة ولقيمات مضافة، فإنها تُنتِج أفرادا غرباء عن هذا المحيط وغير قادرين على الاندماج فيه. وعوض أن تُنتجَ رؤوسا جيِّدةَ التَّركيب têtes bien faites، فإنها تحشو هذه هذه الرؤوس بمعارفِها الجافة التي لا تصلح إلا للامتحانات. اقتصاد البلاد لا يسير ولا يُسيَّر بمثل هذه المعارف الجافة. اقتصاد البلاد في حاجة إلى عقول نيِّرة ومستنيرة قادرة على على الابتكار والإبداع والتَّكيُّف مع تقلُّبات هذا الاقتصاد. فعوض أن تكونَ المدرسةُ رافعةً levier للتنمية، من خلال خِرِّجيها، فإنها أصبحت هوَّةً مالية gouffre financier تلتهم الأموالَ بدون فائدة. إلى حد الآن، لا تزال الهوة، الفاصلة بين اقتصاد البلاد والمنظومة التربوية، كبيرةً.

على المستوى المفاهيمي، حدِّث ولا حرج! وفي هذا الصدد، كم هي عديدة المفاهيم التي تستعمل صبحَ مساء دون الإلمام الدقيق بمضمونِها. وعلى رأس هذه المفاهيم، يأتي "التَّعليم" enseignement و"التَّربية" éducation و"التَّعلُّم" apprentissage. هذه المفاهيم الثلاثة هي ركن الزاوية في أية منظومة تربوية. بل هي أساس وجود المدرسة وجوهر العملية التَّعليمية التَّعلُّمية، أي ما يجري داخلَ الأقسام. التَّعليم ينطلق من المدرس في اتِّجاه المتعلِّم، ويمكن اختزالُه في نقل المعرفة من المدرس إلى المتعلِّم. والتَّربية هي كل عمل يقوم به المدرس، من خلال عملية نقل المعرفة، لبناء شخصية المتعلِّم. أما التَّعلُّم، فهو كل جُهد يقوم به المتعلِّمُ لاكتساب المعرفة والكفاءات والمهارات والسلوكات… صحيح أنه لا يمكن التَّمييز بين هذه المفاهيم الثلاثة أثناء قيام المدرس بمهمَّته داخلَ القسم، لكن، من الضروري ومن واجب هذا الأخير أن يكونَ على علمٍ بمعنى ومضمون كل مفهومٍ على حدة. ويزداد الأمر تعقيدا عندما يتمُّ الخلطُ بين التَّربية éducation والبيداغوجيا pédagogie، أو بين البيداغوجيا والديداكتيك didactique.

التَّربية، كما سبق الذِّكرُ، تُساهم في بناء شخصية المتعلِّمين، بينما البيداغوجيا هي مجموع التدخلات interventions والسياقات processus والطرائق méthodes التي يقوم بها المدرس داخل القسم ليجعل التعليمَ يلعب، ليس فقط، دورَه التثقيفي، لكن كذلك وبالأخص، دورَه التربوي. أما الديداكتيك، فهي فرع من فروع علوم التربية. وبمعنى آخر، يمكن أن نعرِّفَها كعلم تدريس التخصصات (المواد) أو منهجية تدريس هذه التَّخصُّصات. ولكل تخصُّص ديداكتيك خاص به، فنقول مثلا ديداكتيك العلوم، ديداكتيك الرياضيات، ديداكتيك اللغات… بالطبع، إن هذا الخلطَ ينعكس، بطريقة أو أخرى، على مردودية المنظومة التَّربوية.

وخلاصة القول، إن المردودية المُرضية للمنظومة التَّربوية رهينةٌ بمستوى جودة الحكامة التي تُدارُ بها مختلف مكوِّنات هذه المنظومة. فعندما يحدث عجزٌ في هذه الحكامة، سواءً على المستوى التنظيمي أو التنفيذي أو الإداري أو التَّعليمي (تكوين المدرسين متجاوز أو غير مكتمل)، فإن مردوديةَ المنظومة التَّربوية تتأثَّر سلبا بهذا العجز. والنتيجة يُبيِّنها لنا برنامج PISA المشار إليه أعلاه، كل ثلاثة سنوات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى