قبضت على التصريح العسكري ، وانطلقت نحو " فايد" . ورقة صغيرة أشعرتني بسعادة غامرة. تشعلقت فوق جرار زراعي متهالك أنزلني على الطريق. وجدتها تضع الطست النحاسي أمامها . جالسة تحت شجرة كافور عالية جدا. أغصانها تكاد تلامس السماء بزرقتها البعيدة.
إن كل شيء مختلف هنا . ابتسمت ، ووضعت في ابتساماتها مسرات كثيرة . عشت أسبوعا كاملا أحلم بها. الشمس هنا وادعة ، وليست هي التي تلفح الوجوه بحرارتها اللاهبة .
اقتربت منها وبيادتي تدق الطريق الأسفلتي دقات منتظمة . لم أقصد إخافتها لكنها جفلت ، وتفلت في عبها بمرح طفولي . أخفت بطرف كمها ابتسامتها.
ـ كم حبة تريد؟
ـ ما يسد رمقي.
ـ الخمسة بشلن.
ـ السبعة.
ـ يفتح الله.
قالتها ، وبانت غمازة صغيرة في خدها الأيمن. غمازة لا تكاد ترى لكنها خطفت قلبي . أستندت على جذع الشجرة ، ورفت عصافير صغيرة فوقنا تردد نداءها المبهم الحزين.
ـ اتفضل .
ـ لا .. أريد هذه؟
ـ لا تتعبني .. إله لا يسيئك.
ـ هات. ما اسمك؟
ـ ليس شغلك ؟
ـ وحياة النبي. وهذه؟
مدت يدها فقشرتها بالسكين بدربة ومهارة. قدمتها لي . تعمدت أن تلامس أصابعي أصابعها. نظرت نحوي بحيرة: شغل الأفندية الخائب.
ضحكت ، وهي تفلت يدها ، وتوميء لي أن أشير لحبة التين الشوكي التي أبتغيها.
كانت طوابير التدريب قد أخذتني أخذا ، ومحت من ذاكرتي كل شيء خاص بالبنات. دققت في ملامحها فوجدتها ذات ملاحة لا تخفيها جلستها الفقيرة عند حافة الترعة.
ـ مد يدك ؟
ـ تسلمي. ما اسمك؟
ـ لن أقول لك.
ـ أسرار حربية ؟
ـ يمكن.
ـ طيب . كم حبة باقية ؟
ـ أحسبها . أخذت نصيبك.
مددت يدي بالنقود. وكان طعم الثمارفي فمي لذيذا. كنت أريد أن أبقى معها قليلا. صحيح أن التصريح بثمان ساعات ، وأمامي فسحة من الوقت . هنا المكان ظليل والخضرة تملأ نفسي بالسرور. هممت بالانصراف . سمعت صوتا : هس .
التفت نحوها فضحكت بخجل ، قالت وهي تضع وجهها في الطست :خذ .. واحدة فوق البيعة.
نظرت لليد الممتدة كانت تحمل أسورة من الباغة بلون زهري بديع. سرت في روحي نغمة موال ريفي بهيج. سألتني وأنا أقضم الثمرة : ما اسمك؟
ابتسمت وأنا انظر لسحابة غبار تلفني وإياها بعد مرور سيارة جيش ثقيلة : قولي أنت أولا ؟
ـ فردوس.
شعرت أنه اسم يليق بها فعلا . ثمة جنة تملأ عينيها الخضراوين. امتلأ قلبي ببهجة وارفة . صاحت بي وأنا انصرف : لا تنس أن تخبرني به المرة القادمة !
دمياط
17/12/2008
_____________