د زياد العوف - العربُ والعربيةُ قبلَ الإسلام

يطيب لي بمناسبة الاحتفاء باليوم العالميّ للّغة العربية أنْ أُهديَكم بعض المختارات الدّالة من البحث العلميّ الذي كنتُ قد نشرتُه منذ عقدين من الزمن في بعض المجلّات العلميّة الأكاديمية المحكّمة ، وذلك تعميماً للفائدة، فيما أرجو.
جاء هذا البحث تحت عنوان( العرب والعربية، مقاربة لغوية-اجتماعية)
حيث تناولتُ فيه المحاور التالية:
١-العلاقة بين اللغة والمجتمع.
٢-العرب والعربية قبل الإسلام.
٣-العرب والعربية بعد الإسلام.
٤-العرب والعربية: واقع وآفاق.
هذا، وقد وجدتُ من المناسب أنْ أقتصر في هذا الفضاء الأزرق على عناصر مختارة من المحورين الثاني والثالث، دون سواهما، على أنْ يتمّ النشر من خلال منشورين منفصلين، لكنّهما متكاملَين، مع التّخفّف من الإشارات المرجعية التي لا يحتملها هذا المجال الضيّق.
جاء في المحور الأول:
يُقصَدُ بالعربية هنا اللغة الفُصحى التي لا نزال نستخدمها في الكتابة والتأليف والإبداع الأدبيّ، وهي إحدى اللغات الساميّة التي يعود أقدمُ ما وصلنا منها إلى حوالي ألفي عام. غير أنّ اعتماد المنهج المقارن في دراسة اللغات الساميّة قد مكّن العلماء والباحثين من الوقوف على ظواهر لغوية عربية تسبق الشعر الجاهليّ بأكثر من ألفَي عام.
ويرى الدكتور( عمر فرّوخ ) أنّ اللغة العربية هي أقدم اللغات السامية التي مازالت تتمتّع بخصائصها من ألفاظ وتراكيب وصرف ونحو وأدب وخيال، مع الاستطاعة في التعبير عن مدارك العلم المختلفة..................
بالعودة إلى تناول العلاقة بين العرب والعربية قبل الإسلام فإنّنا نرى أنّه ليس من المبالغة في شيء القولُ بأنَّ عرب الجاهلية قد كانوا من أكثر الأقوام تعلّقاً بلغتهم وافتتاناً بها، وافتناناً بمناحي القول وضروب التعبير بها.
ولعلّه من المفيد أنْ نشير هنا إلى أنَّ مصطلَح (الجاهليّة) الذي أطلقه القرآن الكريم على العصر الذي سبق ظهور الإسلام، إنّما يدلُّ على الجهل، بما هو نقيضٌ للحِلم، وليس على الجهل، الذي هو نقيضٌ للعلم والمعرفة. ويرجع ذلك إلى الوثنية وإلى ما كان يصاحبها من مظالمَ ورذائلَ وتعدّيات سادت حياة العرب قبل الإسلام.....................................
لقد كان للّغة حضور طاغٍ في حياة عرب الجاهلية، ليس بوصفها وسيلة تعبير وتواصل اجتماعيّ فحسب؛ إذ إنّ هذا شأنُ جميع الأمم والشعوب مع لغاتها، لكنّه هذا الحضور الذي يوشك أن يهيمن على جماع حياتهم الحسية والشعورية، العقلية والعاطفية، الدينية والدنوية، الفردية والجماعية على حدٍّ سواء.
نلمسُ ذلك في طقوس الفرح والاحتفال التي تواكب نبوغ الشاعر في القبيلة؛ ذلك أنّه لسانها المعبّرُ عن مآثرها ومفاخرها، المدافعُ عن حُرُماتها والمتصدّي لأخصامها.
يقول ابن رشيق القيروانيّ في كتابه( العُمدة) مبيّناً ذلك:
" كانت القبيلة من العرب إذا نبغَ فيها شاعرٌ أتتْ القبائل فهنّأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبْنَ بالمزاهر، يتباشر الرجال والوِلدان.....وكانوا لا يُهنَّؤون إلّا بغلام يولَد أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج"
فكأنّ نبوغ الشاعر في القبيلة -والحال كذلك- حدثٌ وجوديٌّ، كما هو الشأن مع ولادة الغلام ونتاج الخيل؛ إذ هما رمز للبقاء والقوّة.
لقد طبع الفخر والمديح والهجاء قسماً كبيراً من شِعر الشاعر الجاهليّ، أي من نشاطه اللغويّ-الاجتماعيّ؛ حيث كانت القبيلة-أي المجتمع- دائمة الحضور في فنون القول، لا نستثني من ذلك أحداً من الشعراء، حتّى الشعراء الصعاليك، الذين خرجوا على القبيلة وتمرّدوا على أعرافها وعاداتها وتقاليدها، تحقيقاً لمبدأ العدل والمساواة، كما يرَون.
فهذا الشاعر الفارس( عروة بن الورد) الملقَّب بعروة الصعاليك لقيامه على شؤونهم يردُّ على أحد سادات قومه الذي عيّره بشحوبه وهزاله، معلّلاً ذلك بقيامه بشأن الفقراء والمعوزين من أمثاله.
يقول في ذلك:
-إنّي امرؤ عافي إنائيَ شِركةٌ
وأنت امرؤ عافي إنائك واحدُ
-أتهزأ منّي أنْ سَمِنْتَ، وأنْ ترى
بوجهي شحوبَ الحقّ، والحقُّ جاهدُ
-أقسّمُ جسمي في جسومٍ كثيرةٍ
وأحسو قراحَ الماء، والماءُ باردُ
أي أنّ مَرَدَّ ما مسّه من نَصَب وشحوب وهُزال إنّما يرجع إلى اقتسامه لطعامه مع الآخرين، فكأنّه يقطع لهم من جسمه، وذلك على النقيض من ذلك( السيّد ) الذي سَمِنَ من كثرة ما يأكل مُغفلاً في الآن ذاته نصيب قومه وحقوقهم .
وهكذا مثّلَ شعرُ الصعاليك ظاهرة لغوية اجتماعية في آنٍ واحد.
ويقابل الابتهاجُ بظهور الشاعر الخوفَ ممّا قد تتعرّض له القبيلة أو بعض أفرادها من شعراء القبائل الأخرى المناوئة لهم؛ إنّه الخوف ممّا قد يجلبه الهجاء- أي اللغة -من شرٍّ وشؤم. وهنا نلامس ذلك الارتباط القائم في شعور أو لا شعور عرب الجاهلية بين( فنّ القول ) و( فنّ السِّحر ) فكلاهما، في ظنّهم ، ذو تأثير مخيف يجدر بهم أنْ يتّقوه؛ فما يتلفّظ به الشاعر أو يتمتمُ به الساحر يتّفقان أثراً، وإنْ اختلفا مظهراً.
يقول الجاحظ في ذلك: " وقالوا في التحذير من ميسم الشعر ومن شدّة وقْع اللسان ومن بقاء أثره على الممدوح والمهجوّ. قال امرؤ القيس:
-ولو عن نثا غيره جاءني
وجرْح اللسانِ كجرح اليدِ
وقال طَرَفةُ بن العَبد:
-رأيتُ القوافيَ يتَّلِجْنَ موالِجاً
تَضايَقُ عنها أنْ تولَّجها الإبَر
ولم يتوقّف الأمرُ عند هذا الحدّ، بل لقد كان من المألوف أنْ يُنظَرَ إلى الإبداع الشعري بوصفه ظاهرة خارقة يقوم الجِنّ والشياطين فيها بإلهام الشاعر فنون القريض.
يقول الشاعر المخضرَمُ ( الحُصين بن الحِمام المرّيّ ) مفاخراً بقدراته الشعرية التي أتاحت له الانتشار في الآفاق مثيرة التساؤلات عن شخص قائلها:
-وقافيةٍ غير إنسيّةٍ
قرضْتُ من الشِّعر أمثالها
-شرودٌ تلمعُ في الخافقين
إذا أُنشِدتْ قيلَ: مَن قالها؟
هذا، ولم يقتصر الأمر على الشعر وحده، بل إنّ احتفاء عرب الجاهلية بفنون القول قد امتدَّ ليطال فنون النَّثر من خطبٍ وحِكمٍ وأمثال؛ إذ كان الشاعر والخطيب كفرَسَي رِهان يتبادلان مواقع الحظوة والشرف لدى القبيلة؛ ذلك أنّها كانت في حاجة إليهما معاً، إلّا أنّ كثرة عدد الشعراء وانغماس كثير منهم في التّكسّب والارتزاق وإسراعهم إلى أعراض الناس أعلى من مكانة الخطيب لدى القبائل.
يقول الجاحظ في ذلك:
" وكان الشاعر أرفعَ قدْراً من الخطيب وهم إليه أحوجُ لردّه مآثرهم عليهم، وتذكيرهم بأيّامهم، فلمّا كثُر الشعراء صار الخطيبُ أعظمَ قدراً من الشاعر"
جُملة القول في ذلك: إنّ حضور العربية في مجتمع عرب الجاهلية حضورٌ كُلّيّ، يبدأ من تفاصيل حياتهم اليومية الصغرى، ثمّ لا يني يمتدُ ليطال جوهر حياتهم ذاتها في بعدها الوجوديّ ذاتِه.

دكتور زياد العوف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى