ملخص
استهدف هذا البحث بيان أهم قواعد وأحكام الأطعمة في الفقه الإسلامي، منطلقاً من المنظور القرآني لهذا الموضوع وفقاً لما ورد في سورة المائدة، وبمنهج فقهي مقارن في المذاهب الأربعة، وقد تضمن تخريج علل هذه الأحكام لتكون أساساً للبحث والاجتهاد فيما يستجد من الأطعمة مستقبلاً، كما ألقى الضوء أيضاً على تطبيقات معاصرة لأحكام الأطعمة الواردة في هذه الآيات الكريمة من سورة المائدة؛ كالمستجدات الفقهية المتعلقة بطريقة قتل الحيوانات مأكولة اللحم، وحكم اللحوم المستوردة من البلاد الأجنبية، والمستجدات المتعلقة بالأطعمة المعلبة وأطعمة (الكوشر)، والمستجدات المتعلقة بالأطعمة التي تقدمها المطاعم المعاصرة، كما ألقى الضوء على تطبيقات معاصرة للصيد.
تمهيد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإنَّ هذا البحث يتحدث عن الأطعمة المحللة والمحرمة، وأهم المستجدات الفقهية المتعلقة بها؛ كدراسة تطبيقية في آيات الأحكام الواردة في سورة المائدة، وهذه السورة هي آخر ما نزل من القرآن الكريم، فليس فيها منسوخ فأحكامها واجبة الاتباع.
وقد انصب هذا البحث على دراسة المنظور القرآني والفقهي لأحكام الأطعمة من خلال ما ورد في سورة المائدة، مع ذكر أسباب نزول هذه الآيات الكريمة.
ومن الملاحظ قلة الأبحاث العلمية التطبيقية المنشـورة في هذا الصدد، فرغم الجهود البحثية المبذولة في هذا الموضوع، إلاَّ أنه لا زالت الحاجة قائمة للقيام ببحث علمي مختص يناقش أحكام الأطعمة المحللة والمحرمة، وقواعدها الكلية في الفقه الإسلامي، بمنهج مقارن، منطلقاً من المصدر الأساسي في كتاب الله، ويأخذ بعين الاعتبار ما يتعلق بها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يبحث في علل هذه الأحكام، ويستقرئ مقاصد تشريعها، ثم يدرس أهم التطبيقات المعاصرة لها، خاصة في ضوء مستجدات العولمة؛ حيث انتشرت ثقافة عالمية شبه موحَّدة تنطلق من الفكر والواقع الغربي، والتي أثرت على موضوع الأطعمة، واستحدثت فيه بعض المسائل الفقهية ذات الصبغة الجديدة، والتي تحتاج إلى بحث وتأصيل في ضوء ما ورد في أحكام الشرع المتعلقة بهذا المجال، بالإضافة إلى القواعد العامة ومقاصد التشريع.
وفي ضوء ما سبق، جاء هذا البحث ليشكل أطروحة فقهية تنطلق من المنظور القرآني، وتركز بحثها في إطار المذاهب الأربعة والمذهب الظاهري، لسعة نطاق الموضوع وكثرة فروعه، وصعوبة الرجوع إلى جميع المذاهب الأخرى، وتركز على تخريج وتنقيح علل الأحكام المتعلقة بهذا الموضوع، حتى تكون قاعدة للبحث في المستجدات الفقهية التي تطرأ في هذا المجال، وقد بيّنت هذه الدراسة مقاصد التشريع الحنيف، وحِكمه الجلية في إباحة وحظر ما ورد في هذه السورة الكريمة، وعلاوةً على ذلك فقد تناول هذا البحث دراسة أحكام ما استجد من تطبيقات مهمة للأطعمة المحللة والمحرمة في الواقع المعاصر، على الصعيد الإسلامي والدولي.
مشكلة الدراسة:
تقوم هذه الدراسة على محاولة الإجابة عن الأسئلة التالية:
1- ما الأحكام والقواعد الكلية لإباحة الأطعمة وحظرها وفقاً لما ورد في سورة المائدة؟
2- ما علة حرمة الأطعمة الواردة في هذه الآيات الكريمة؟ وكيف يمكن توظيفها في الاجتهاد في المستجدات الفقهية المتعلقة بالأطعمة في الوقت الحاضر؟
3- ما مقاصد التشريع الحنيف من تحريم كل صنف من هذه الأطعمة وإباحته؟ وما أثر ذلك على الإنسان؟
4- ما علة وجوب التذكية؟ وما أهمية ذلك في التطبيق المعاصر؟
5- ما حكم الصور المستجدة لقتل الحيوانات المباحة في البلاد غير الإسلامية؟
6- هل يجب السؤال عن مصدر ونوع اللحوم والأطعمة وعن طريقة طبخها في حالة وجود أطعمة محللة وأخرى محرمة في نفس المطعم؟ وهل الأصل تصديق من سأل من موظفي المطاعم أم لا؟ وهل يختلف هذا الحكم بين كون المسؤول مسلماً أو غير مسلم، وبين أن يكون السؤال في ديار الإسلام أو في غيرها؟
7- ما حكم تناول الأطعمة المعلبة؟ وما حكم المواد الحافظة المستعملة فيها؟
8- ما حكم طعام (الكوشر) الذي شاع في الغرب؟
9- ما حكم الصور المعاصرة للصيد؛ كالصيد بالبنادق النارية، وبنادق ضغط الهواء؟
خطة البحث:
وقد احتوى البحث بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة على أربعة مباحث وهي:
المبحث الأول: الأحكام الشرعية المتعلقة بالأطعمة والصيد في الآيتين الأولى والثانية من سورة المائدة.
المبحث الثاني: أحكام الأطعمة الواردة في الآية الثالثة من سورة المائدة.
المبحث الثالث: أحكام الأطعمة الواردة في الآيتين الرابعة والخامسة من سورة المائدة.
المبحث الرابع: تطبيقات معاصرة لأحكام الأطعمة الواردة في هذه الآيات الكريمة من سورة المائدة.
وختاماً، فإننا نسأل الله أن يقينا عثرة اللسان والقلم، وأن يلهمنا السداد والرشاد في القول والعمل، إنه نعم المولى ونعم المجيب.
المبحث الأول
الأحكام الشرعية المتعلقة بالأطعمة في الآيتين الأولى والثانية من سورة المائدة
ينقسم هذا المبحث إلى مطلبين، يتناول الأول منهما سبب النزول للآية الثانية من سورة المائدة، وكرس المطلب الثاني لبحث الأحكام الفقهية المتعلقة بالأطعمة في هاتين الآيتين؛ وذلك كما يلي:
المطلب الأول: سبب نزول الآية الثانية من سورة المائدة:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[1-2:المائدة].
ذكر ابن عباس أن هذه الآية نزلت في الخطيم واسمه شريح بن ضبيع الكندي، إذ أتى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمامة إلى المدينة فخلف خيله خارج المدينة ودخل وحده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إلامَ تدعو الناس؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال: (حسن إلاَّ إنَّ لي أمراء لا نقطع أمراً من دونهم، ولعلَّي أسلم وآتي بهم). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان الشيطان. ثم خرج من عنده، فلما خرج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعقبي غادر، وما الرجل مسلم، فمر بسرْح[1] المدينة فاستاقه فطلبوه فعجزوا عنه. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام القضية سمع تلبية حجاج اليمامة، فقال لأصحابه: هذا الخطيم وأصحابه. وكان قد قلد هدياً من سَرح المدينة وأهدى إلى الكعبة، فلما توجهوا في طلبه أنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ) يريد ما أشعر لله وإن كانوا على غير دين الإسلام، وقال زيد بن أسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية حين صدهم المشركون عن البيت وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصد هؤلاء كما صددنا أصحابهم". فأنزل الله تعالى: (لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ)[2: المائدة] أي لا تعتدوا على هؤلاء العمار إن صدكم أصحابهم[2].
المطلب الثاني: الأحكام الفقهية للأطعمة الواردة في الآيتين الأولى والثانية من سورة المائدة:
أولاً: إباحة بهيمة الأنعام:
لقد منّ الله عز وجل علينا إذ جعلنا مسلمين، وبعث لنا رسولاً أميناً، وأنزل علينا كتاباً عظيماً، وشرع لنا شرائع كثيرة، فأحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث ليخرجنا من الظلمات إلى النور بإذنه تعالى إنه هو الكريم الحليم، وهذه الآيات التي نحن بصدد بحث أحكامها هي الآيات الأولى من سورة المائدة والتي أنزلت وقت انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وهي سورة مدنية بالإجماع[3]، تناولت الكثير من الأحكام الشرعية العملية التي نظمت كثيراً من أفعال المكلفين في مختلف الموضوعات الفقهية، فقد تناولت أحكام العقود والذبائح، والصيد، ونكاح الكتابيات، والردة، وأحكام الطهارة، والبغي، والإفساد في الأرض، وأحكام الخمر، والميسر، وقتل الصيد[4].
وفي هذه الآية الكريمة أباح الله عز وجل لنا بهيمة الأنعام، والبهيمة اسم لكل ذي أربع، سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعقلها، ومنه باب مبهم أي مغلق، وليل بهيم، وبهمة للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له[5].
والأنعام اسم للإبل والبقر والغنم، وقد سميت بذلك لما في مشيها من اللين، وقيل بهيمة الأنعام هي وحشية كالظباء وبقر الوحش والحمر الوحشية[6].
وقد ورد خلاف في تحديد المقصود من بهيمة الأنعام؛ فقال السدي والربيع والضحاك: إنه يشمل كل الأنعام، وقال ابن عباس والحسن: إنه يختص بالإبل والبقر والغنم، وقال قوم: إنه يتعلق بالظباء، والبقر والحمر الوحشية، وقيل غير ذلك، وقد اختار ابن العربي القول بأنها الإبل والبقر والغنم[7]، وذهب الطبري الشافعي إلى أنها تتناول الجميع، واستدل على ذلك باستثناء الصيد منها بقوله تعالى: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ)[1: المائدة][8]، وهو القول المختار لصحة دليله، والله تعالى أعلم.
وذبائح الأنعام من البقر والإبل والغنم حلال بالإجماع[9]، فيصح الانتفاع بلحومها وجلودها وعظامها وأصوافها وأوبارها وأشعارها[10].
ويستثنى من هذه الإباحة ما حرم الله عز وجل علينا؛ وذلك بقوله سبحانه وتعالى: (إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ )، فقد حرم الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك[11]، فقال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ)[3: المائدة]، ونهيه عليه الصلاة والسلام: "عن كل ذي ناب من السباع"[12]. ففي الحديث تحريم لصنف لم يذكر في القرآن وهو الحيوان المفترس، والسنة قد تأتي بأحكام لم يأتِ بها القرآن الكريم، ويجب الأخذ بها؛ وذلك لما ذكر في التمهيد: (أنه عليه السلام قال: "إلاَّ أنّي أوتيت الكتاب ومثله معه"، الا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلاَّ أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه"[13].
ثانياً: الأصل في المطعومات الإباحة أم الحظر؟
لقد ورد النص الشرعي في هذه الآية بإباحة بهيمة الأنعام، والذي يستلزم بالضرورة تساؤلاً علمياً مهماً وهو: هل الأصل في المطعومات الإباحة أم الحظر؟
اهتم الإسلام بالجسد الإنساني اهتماماً عظيماً، وتمثل هذا الاهتمام بالأحكام التي شرعها الله عز وجل من واجبات ومحرمات ومندوبات ومكروهات ومباحات؛ لأنَّ من مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ الإنسان، نفسياً وبدنياً.
اهتم الإسلام بالجسد الإنساني اهتماماً عظيماً، وتمثل هذا الاهتمام بالأحكام التي شرعها الله عز وجل من واجبات ومحرمات ومندوبات ومكروهات ومباحات؛ لأنَّ من مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ الإنسان، نفسياً وبدنياً.ومن التشريعات التي أوجدها الله عز وجل للإنسان الأكل الحلال دون إسراف، لذا قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً)[168: البقرة]، وقال سبحانه: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) [145: الأنعام]، وقال سبحانه: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)[157: الأعراف]، وقد نص الله عز وجل على أنواع من المطعومات بالإباحة، وعلى أخرى بالحرمة، أما ما لم يرد دليل عليه مما سكت عنه في الشرع فالأصل فيه الإباحة، لذا لا يجوز الحكم بحرمة أي نوع من الأطعمة ما لم يقم الدليل على ذلك[14]، وتبقى الإباحة الأصلية مستصحبة - مستمرة - إلى أن يأتي دليل بالحرمة[15]. وقد لا نجد في القرآن أو السنة أو الإجماع، نصاً يبيح لنا التوصل إلى يقين تام بحرمة حيوان معين، أو إباحته، فكان هذا مبعث اختلاف العلماء في المرجع الذي يستندون إليه بهذا الخصوص، هل هو الذوق العربي أم لا؟ وكان ذلك على رأيين هما:
القول الأول: إن استطاب هذا الحيوان أهل يسار وأهل طباع سليمة من أكثر العرب حل أكله، قاله الشافعية[16]، والحنابلة[17]، وقالوا إن الأصل الإباحة، واستدلوا بما يلي:
1) قوله تعالى: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) [145: الأنعام]، وقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)[4: المائدة].
وجه الدلالة من الآيتين: إنَّ الله عز وجل أحل لنا الطيبات بشكل عام، فكل طيب مباح وكل خبيث محرم، والذي يحدد لنا طيب الطعام أو حرمته -إن لم ينص عليه- هو الذوق العربي لأنَّ القرآن نزل عليهم([18]).
2) قوله عليه الصلاة والسلام: "وما سكت الله عنه عفو"[19].
وجه الدلالة: وضح الحديث الشريف أن الذي لم يحرمه الله ولم يتحدث فيه فهو من المباحات، لذا فالمطعومات التي لم ينص عليها مباحة، إلا إذا ورد دليل يحرم ذلك.
3) اشتراط أن يستطيب هذا الطعام أكثر العرب؛ لأنَّ العرب أولى الأمم، إذ هم المخاطبون أولاً؛ ولأن الدين عربي[20].
4) الأصل في الأكل الحل؛ لأنَّ الأعيان مخلوقة لمنافع العباد[21].
القول الثاني: الحل والتحريم في المطعومات لا يتعلق بالذوق العربي من ناحية الاستطابة أو الاستخباث؛ لأنَّ العرب كانوا يستطيبون أشياء حرمها الله عز وجل كالخمر والميتة والمنخنقة، قاله الحنفية([22])، والمالكية([23])، والحنابلة في قول([24]).
الرأي المختار: إذا ثبت أن هذا الطعام لا ضرر فيه على صحة الإنسان ونفسه، فهو مباح لنا، ولا بأس في ذلك شرعاً، ولا يشترط استطابة العرب له، ولا يصح القول بأنَّ نزول القرآن الكريم على العرب يجعلهم مسؤولين عن تحديد الطيب والخبيث من الطعام؛ لأنَّ فيهم المسلم وغيره، وفيهم الصالح والمتهم بدينه أيضاً، فمناط إباحة الطعام نفعه وفائدته، وخلوه ممَّا يلحق الضرر بجسم الإنسان، والمرجع في ذلك الطب لا العرف، فإذا ثبت من ناحية علمية وطبية عدم وجود ضرر من أكله فلا بأس به، وإلاَّ فلا يصح ذلك، والله أعلم.
والخلاصة: أن كل ما كان طيباً من الحيوانات ولم يرد نص على تحريم أكله، فإنه يباح أكله شرعاً، وكل ما كان عكس ذلك من الخبائث فإنه لا يجوز أكله، وهذا الضابط نصت عليه الآية الرابعة من هذه السورة كما سيأتي بيانه لاحقاً.
المطلب الثالث: الأحكام الفقهية للصيد الواردة في الآيتين الأولى والثانية من سورة المائدة:
الصيد لغة: صاد الرجل الطير وغيره يصيده صيداً[25] أي أمسكه. والصيد هو الحيوان الممتنع الحلال، غير المملوك[26]. وقيل هو ما كان ممتنعاً حلالاً لا مالك له[27]، وقيل هو ما يصاد ويباح لغير المحرم في غير الحرم[28].
والصيد مشروع لقوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ)[96: المائدة]، وقوله تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا)[96:المائدة]، وقوله تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ)[2: المائدة].
ولقوله عليه الصلاة والسلام: لعدي بن حاتم: "إن أرسلت كلبك وسميت فكُل، قلت: فإن أكل منه؟ قال: فلا تأكل فإنَّه لم يمسك عليك إنَّما أمسك على نفسه"، قلت: أرسلت كلبي فأجد معه كلباً آخر، قال: "لا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر"[29].
وقوله عليه السلام: "ما صدت بقوسك، فذكرت اسم الله عليه فكُل، وما صدت بكلبك المعلم، فذكرت اسم الله عليه فكُل وما صدت بكلبك غير المعلم، فأدركت ذكاته فكُل"[30]، ويحرم الصيد إن كان للهو أو لظلم الإنسان والحيوان.
وقد نهى تبارك وتعالى عن إحلال الصيد في حالة الإحرام، فقال عز من قائل: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ)[1: المائدة].
وحمله بعض العلماء على معنى ألا يتلى عليكم من أكل الصيد، والتأويل يؤدي إلى إسقاط حكم الاستثناء، الثاني وهو قوله تعالى: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ)[1: المائدة]، ويجعله بمنزلة إلا ما يتلى عليكم وهو تحريم الصيد على المحرم؛ وذلك تعسف في التأويل[31].
وقد رجح ابن العربي رأياً له في هذا المقام وهو أنَّ تقدير الكلام هنا: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلين صيدها وأنتم حرم[32].
الرأي المختار: هو ما ذهب إليه القرطبي من أن ما كان صيداً فهو حلال في الإحلال دون الإحرام، وما لم يكن صيداً فهو حلال في الحالتين[33]، فالآية تضمنت حكم الإباحة في الصيد لغير المحرم، وهو واضح من إشارة نصها[34]، وهو متناسب مع سياق الآية نصاً وإشارة. والآية الكريمة وإن كانت مجملة في حق أحكام وآلية الصيد المجزئ شرعاً، إلا أن السنة الشريفة تكفلت بتفصيل تلك الأحكام.
والخلاصة في حكم الصيد ما يلي:
1. إنَّ رمي الصيد يجب أن يكون بحاد مما يجرح فيخرق، وفي غير المحدد خلاف، لا داعي لذكره هنا.
2. إن أصاب الصائد الحيوان بما يقتل ضرباً دون أن يجرحه، فلا يجوز أكله.
3. إن أكل الكلب أو الحيوان المعلم للصيد من الحيوان فلا يضر شرعاً، أما إذا أكل معه حيوان آخر فلا يجوز أكل ذلك الصيد في هذه الحالة.
4. إنَّ علة إباحة الصيد هي إهراق دم الحيوان بجرحه، وعلة حرمته هي قتله مع حبس الدم في جسمه.
وبناء على ذلك؛ فإنَّه لا يجوز شرعاً أكل ما صيد من الحيوانات بفخ يشنق فيه الحيوان فيختنق ويحبس الدم في عروقه، كما يفعل بعض الناس في عصرنا هذا، فهذا ممَّا حرمه شرعنا لما فيه من ضرر، كما سيأتي تفصيله في المبحث الآتي.
المبحث الثاني
أحكام الأطعمة الواردة في الآية الثالثة من سورة المائدة
المطلب الأول: سبب نزول هذه الآيات:
قال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِِّثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[3: المائدة].
وسبب نزول هذه الآية كما ورد في الروايات عن حيان[35] قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة فأنزل الله [حكم] الميتة فأكفأت القدر"[36].
وقد ذكر الواحدي في سبب نزول قولـه تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)[3: المائدة] أنه جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال: أي آية هي، قال اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية يوم عرفة في يوم الجمعة، رواه البخاري[37] عن الحسن بن صباح، ورواه مسلم[38] عن عبد الله بن حميد كلاهما عن جعفر بن عون"[39].
المطلب الثاني: الأطعمة المحرمة الواردة في هذه الآية الكريمة:
احتوت الآية الثالثة من سورة المائدة أحكاماً شرعية كثيرة تتعلق بعدة موضوعات، أهمها تحريم بعض الأطعمة وإباحة المحظورات من الأطعمة في حالة الضرورة. وقد ذكرت هذه الآية الكريمة بنصها جملة من الأمور المحرمة، والذي يستوجب وقفة تدبر وتأمل في تخريج علة تحريمها، لتكون أساساً يرتكز عليه في بحث أحكام الأطعمة المستجدة في وقتنا الحالي، وقد كرس هذا المطلب لتفصيل ذلك، فيما يلي:
أولاً: الميتة:
هي الحيوان الذي يموت حتف أنفه([40])، وقيل هو ما قتل على هيئة غير مشروعة إما في الفاعل أو المفعول به([41]). وقيل الميتة هي: "كل حيوان كان موته حتف أنفه من علة به غير جناية أحد عليه أو كان موته من ضرب ضارب إياه أو انخناق منه أو انتطاح أو فرس"([42])، وقيل هي: "اسم لما مات من الحيوان من غير ذكاة"([43]).
لا خلاف بأن الميتة محرمة على المسلمين[44]، وقد حرمتها سورة المائدة كما مر، وسورة البقرة في قوله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ)[173: البقرة]، فالحيوان المباح أكله المقدور عليه - أي على تذكيته- إذا لم يذبح ذبحاً شرعياً فإنَّه يحرم بالإجماع[45]، ويعتبر ميتة.
وتحريمها موافق للعقل كل الموافقة، إذ إنّ الحيوان إذا ما مات حتف أنفه بقي دمه في عروقه وتعفن وفسد، فيحصل من أكله في هذه الحالة مضار عظيمة([46]).
ويستثنى من هذا التحريم ميتة السمك والجراد؛ وذلك لحديث الرسول عليه السلام: "أحلت لنا ميتتان ودمان، فالميتتان السمك والجراد، والدمان الكبد والطحال"[47]، وقوله عليه الصلاة والسلام: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"[48].
فالسمك والجراد يباح ميته بالإجماع[49]، أما السمك الطافي فقد اختلف الفقهاء في حكمه كما يلي:
القول الأول: يباح أكل السمك الطافي عند المالكية[50]، والشافعية[51]، والحنابلة[52]، واستدلوا
بما يلي:
1. أنّه عليه السلام: "أكل من العنبر، وهو الحوت الذي طفا"[53].
2. أنَّ ميتة البحر موصوفة بالحل لحديث: "الحل ميته"[54].
القول الثاني: ويكره - تحريماً- أكل الطافي عند الحنفية[55]، وقد فرقوا بين ما انحسر عنه الماء وما لم ينحسر عنه، فما انحسر عنه الماء فيباح"[56].
واستدل هؤلاء بقوله عليه السلام: "إذا طفا فلا تأكله، وإذا جزر عنه فكُله"[57].
ووجه الدلالة: أنَّ الحديث نص على عدم أكل ما طفا من السمك.
الرأي المختار: تكره ميتة البحر إذا ما طفت؛ وذلك لكون أدلة إباحتها أقوى سنداً، ولكنَّ القول بكراهتها أقرب لاحتمال فسادها وضررها، والله أعلم.
أما بالنسبة للجراد فقد اختلف الفقهاء أيضاً على قولين هما:
الرأي الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية([58])، والشافعية([59])، والحنابلة([60])، والظاهرية([61]) إلى القول بإباحة ميتة دون تذكية؛ وذلك للحديث السابق: "أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد"([62]).
وقال ابن أبي أوفى: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أو ستاً، وكنَّا نأكل الجراد"[63].
الرأي الثاني: هو ما ذهب إليه الإمام مالك من القول بحرمة الجراد الميت، وأنَّه لا بد من تذكيته حتى يحل أكله[64]؛ لأنَّه صيد البر، ولذا يجب على المحرم بقتله جزاء يليق به، فلا يحل إلاَّ بالقتل كما في سائر أنواع صيد البر، وقالوا: "حديث ابن عمر: (أحلت لنا ميتتان...)، حديث ضعيف"، ولا خلاف بين العلماء بأنَّ القرآن الكريم لا يُخصَّص بحديث ضعيف[65].
الرأي المختار: إباحة ميتة الجراد دون ذكاة للأحاديث الواردة العامة، والتي لم تذكر قيد الذكاة لحلها، ولضعف الأدلة القائلة بوجوبها، أما ما ذكره المالكية من ضعف حديث ابن عمر: "أحلت لنا ميتتان..."، فيرد عليه بأنَّ هذا الحديث ليس بضعيف، فقد صححه وحسنه غير واحد من المتقدمين والمتأخرين من علماء الحديث الشريف[66]، فهو إذن معتبر في الحكم، والله أعلم.
ثانياً: الدم:
والمقصود بالدم الوارد في هذه الآية الكريمة هو الدم المسفوح، لقوله تعالى: (أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا)[145: الأنعام]، قال ذلك: ابن عباس، وسعيد بن جبير[67].
وقد اتفق الفقهاء[68] على حرمة الدم ونجاسته، وأنَّه لا يؤكل ولا ينتفع به؛ لأنَّه يحمل فضلات الجسم، بما فيها من أمور ضارة (كالجراثيم، والمايكروبات، وغيرهما مما يسبب الأمراض)، ومن ثمّ إذا شربه الإنسان فقد يناله الضرر، وينتقل إليه المرض الذي يحمله الدم.
أما الدم الباقي في اللحم وعظامه فهو طاهر[69]؛ لحديث السيدة عائشة عندما كانت تسأل عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، فكانت تقول: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا)[145: الأنعام] ثم تقول: "كنَّا نطبخ البُرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره"[70]، كما أنَّ في التحفظ منه مشقة، والدين الحنيف رفع المشقة والحرج عن المكلفين، قال القرطبي: "ومن أصول الشرع أنَّه كلما حرجت الأمة في أداء العبادة، وثقل عليها سقطت العبادة عنها"[71].
ويجدر بالذكر أنَّ الظاهرية خالفوا جمهور الفقهاء، فقالوا بأنَّ الدم كله حرام، فقد حرم في أول الإسلام في مكة الدم المسفوح وحده، ثم حرم بالمدينة الدم عموماً، فمن لم يحرم إلاَّ المسفوح وحده، فقد أحل ما حرم الله، واستدلوا بأنَّ الآية التي حرمت الدم جملة هي آية المائدة، وقد ورد أنَّها آخر سورة نزلت، لذا ما وجدنا فيها من حرام فيجب علينا أن نحرِّمه[72].
الرأي المختار: هو حرمة تناول الدم المسفوح لورود النص في هذا، سواء كان دم حيوان مأكول اللحم أم محرم الأكل أو دم إنسان، ويستثنى من حرمة الدم المسفوح الباقي في العروق ولمشقة تجنبه.
ولا بد من الإشارة إلى أنه يجوز أن يعطى الدم للمريض عن طريق العروق والأوردة، إذا دعت لذلك دواعي الطب الحديث، كالعمليات الجراحية وغيرها، لما في ذلك من إنقاذ لحياة الإنسان، والقول بهذا يحقق مقصداً ضرورياً من مقاصد الشريعة الغراء وهو حفظ النفس، كما أنَّ حقن الدم في العروق يختلف طبياً عن تناوله عن طريق الفم والجهاز الهضمي، والله أعلم.
ثالثاً: الخنزير:
لحم الخنزير محرم بالإجماع([73])، وقد خص اللحم بالذكر ليدل على تحريم عينه سواءً ذكي أم لم يذك، وليعم الشحم والغضاريف وغيرها([74]).
أما إذا استعمل الخنزير للضرورة أو لحاجة جاز، ولكن في وقتنا الحالي، اندفعت الضرورة باختراع الآلات والأدوات، فلا داعي لاستعمال ما يؤخذ من الخنزير([75]).
ويحرم شحم الخنزير أيضاً كما يحرم لحمه، والآيات الكريمة وإن نصت على لحم الخنزير إلا أن المراد الخنزير وجميع أجزائه، وقد خص الله اللحم؛ لأنَّه أهم ما ننتفع به من الحيوان المذبوح، وسائر أجزائه كالتبع له، ولا يرخص في الأكل من لحمه أو شحمه إلاَّ في حالة الاضطرار الحقيقي إذا لم يجد الإنسان ما يسد به رمقه، فيتناول بقدر الحاجة فقط[76]، لقوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[173: البقرة].
رابعاً: ما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبُع:
1) ما أهل لغير الله به:
ويقصد به ما رفع الصوت به لغير الله تعالى عند ذبحه، والمراد بالإهلال ما يذبح له من الطواغيت كاللات والعزى[77].
لا خلاف بين العلماء[78] في حرمة أكل ما ذبح وذكر عليه اسم غير اسم الله؛ لأنَّه مما أهل به لغير الله[79]. وذلك لما فيه من شرك[80]، وأنَّ في هذا العمل ذلاً وخضوعاً لغير الله[81]. لذا فإنََّ من ذبح للجنّ، أو ذبح لصنم، أو صليب لا تحل ذبيحته للمسلم[82]، كما أنَّ ذبيحة المجوسي والوثني والزنادقة والدروز[83] لا تحل أيضاً، لقوله عليه السلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير آكلي ذبائحهم وناكحي نسائهم"[84][85].
وقد اختلف الفقهاء في حكم ذبيحة من ترك التسمية عمداً، على قولين هما:
القول الأول: حرمة ذبيحة من ترك التسمية عمداً، قاله جمهور الفقهاء وهم الحنفية([86])، والمالكيـة([87])، والحنابلة([88])، واستدل الجمهور بحرمة ذبيحته بما يلي:
1- قوله تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ)[121: الأنعام].
ووجه الدلالة: أن النهي للتحريم[89]، أي لا تأكلوا الميتة التي لم تقصد ذكاتها[90].
2- حديث عدي بن حاتم الطائي فإنه قال قال عليه السلام: "فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على كلب غيرك"([91]).
ووجه الدلالة: حرم أكل ما لم يسم عليه من الكلاب أي عللت الحرمة بترك التسمية[92].
3- الإجماع على حرمة أكل ما تركت تسميته عمداً. قال فيه أبو يوسف: إن متروك التسمية عامداً لا يسع فيه الاجتهاد"[93]. وقال ابن مودود: "فالقول بإباحة متروك التسمية عامداً مخالف للإجماع"[94].
القول الثاني: تباح ذبيحة من ترك التسمية متعمداً، قاله الشافعي[95]، واستدل على ذلك بما يلي:
1- قال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ... إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ)[3: المائدة].
وجه الدلالة: أباح الله عز وجل لنا أن نأكل المذبوح المذكى المباح، ولم يذكر في الآية التسمية[96].
2- قال تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ)[5: المائدة]. وجه الدلالة: إن الله تعالى أباح ذبائح أهل الكتاب وهم لا يسمون غالباً فدل على أنها غير واجبة([97]).
3- قوله عليه السلام: "ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر"[98].
ووجه الدلالة: أنَّ الحديث نص في عدم اشتراط التسمية في الذبح.
4- وما روي عن عائشة رضي الله عنها: "أنَّ قوماً قالوا: يا رسول الله إنَّ قومنا حديثو عهد بالجاهلية يأتونا بلحام لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا أنأكل منها؟ فقال: "سموا الله عليه وكلوا"[99].
ووجه الدلالة: أنَّ الحديث فيه نص بعدم التسمية، فلو كانت التسمية واجبة لما أجاز الأكل
مع الشك[100]، وعلى ذلك فإنَّه يباح لنا أن نأكل ما لم يسمَّ عليه.
الرأي المختار: هو رأي جمهور الفقهاء؛ لأنَّ الله عز وجل نص على عدم أكل ذبيحة من لم يذكر اسم الله على ذبيحته، وإن كنَّا لا نقول بما صرح به الحنفية من انعقاد الإجماع على ذلك، لوجود خلاف بيٍِّن بين الفقهاء في دلالة النص، والحكم الذي يدل عليه. والمقصود هنا حرمة ذبيحة المتعمد لترك التسمية دون الناسي لها؛ لأنَّ فعل من ترك التسمية عامداً يدل على ضعف في دينه. أما من نسي التسمية فتؤكل ذبيحته، بلا تثريب؛ لأنَّ من طبائع الإنسان النسيان، وما الإنسان بمعصوم عن الغفلة والسهو، وقد منَّ الله على هذه الأمة بأن رفع الحرج عنها في شرعه الحنيف[101]، وأيضاً لحديث: "تجاوز الله عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه"[102].
2) المنخنقة: وهي التي تخنق بحبل وشبهه[103]، وهي التي تموت في خناقها[104]، ولا خلاف بين الفقهاء على حرمة أكلها، بأي جهة وطريقة اختنقت بها[105]، لقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ... وَالْمُنْخَنِقَةُ)[3: المائدة]. والمنخنقة محرمة إذا لم تلحق وهي فيها حياة وتذبح قبل أن تموت نتيجة للخنق، ففي قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ)[3: المائدة]، وقوله تعالى: (مَا ذَكَّيْتُمْ) عائد إلى ما تقدم: من المنخنقة، والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع عند عامة العلماء، فمن ذبح الحيوان قبل أن يموت، فإنَّه يباح له أكله[106].
3) الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع:
الموقوذة: هي التي تضرب بخشبة وشبهها حتى تشرف على الهلاك([107])، والوقذ يعني الضرب، والموقوذة هي التي تضرب حتى الموت([108]). ويدخل في الموقوذة كل ما قتل منها على غير وجه الذكاة الشرعية قاله الجصاص([109]). وعموم قوله: (والموقوذة) عام في المقدور على ذكاته وفي غيره ممَّا لا يقدر على ذكاته)، واستدل على عموم الموقوذة في المقدور على تذكيته وغيره، بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه قال: (يا أيها الناس هاجروا ولا تهاجروا، وإياكم والأرنب يحذفها أحدكم بالعصا أو الحجر يأكلها، ولكن ليُذَكِّ لكم الأسل الرماح والنبل)([110])، فلا يجوز في الصيد قتل الحيوان بما لا يجرحه ويسيل دمه، كالحصاة أو عرض الرمح - أي عصاته -؛ لأنَّه مات وقذاً أي ضرباً، وحبس دمه فيه، وقد جاء في الحديث الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا رميت بالمِعْرَاض وذكرت اسم الله فأصاب فخرق فكُل، وإن أصاب بعرضه فلا تأكل) ([111]).
المتردية: هي التي تسقط من جبل أو مرتفع أو في بئر فتموت[112]. وقيل المتردية هي الواقعة في الردى أي الهلاك([113]). والأول أقوى لدلالة اللفظ عليه.
النطيحة: هي الشاة تنطحها الشاة فتموتان، أو الشاة تنطحها البقر والغنم[114]، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما. وعرفها ابن عطية بقوله: (كل ما مات ضغطاً فهو نطيح)[115].
وما أكل السبع: أي ما عدا عليه السبع وهو الحيوان المفترس وافترسه فمات[116]، ولقد "نهى عليه الصلاة والسلام عن أكل كل ذي ناب من السباع"[117]، ويقصد بالسباع ما كان له ناب يعدو به على الحيوانات ويتقوى به عليها[118].
لقد اختلف العلماء فيما إذا أشرف الحيوان على الموت ثم ذكي قبل موته؛ وذلك على قولين هما:
القول الأول: يجوز أكل الحيوان الذي غلب على الظن موته وذكي قبل موته، وهو قول الحنفية[119]، ورواية عند المالكية[120]، والشافعية[121]، ورواية عند الحنابلة[122]، والظاهرية[123]، واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى: (إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ)[3: المائدة].
وجه الدلالة: استثناء متصل استثنى به سبحانه ما أدركت ذكاته ممَّا ذكر في الآية قبل هذا الاستثناء([124]).
2- ما روي عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب أنه وجد شاة تموت فذبحها فتحركت فسأل زيد بن ثابت، فقال: إن الميتة تتحرك، فسأل أبا هريرة، فقال: كلها إذا طرفت عينها أو تحركت قائمة من قوائمها([125]).
3- ما رواه بسنده عن النعمان بن علي قال: "رأى سعيد بن جبير في دارنا نعامة تركض برجلها فقال: ما هذه؟ قلنا: وقيذ[126] وقعت في بئر، فقال: ذكوها، فإنَّ الوقيذ ما مات في وقذه"[127].
القول الثاني: انَّه لا بد أن يكون في الحيوان حياة مستقرة، أي لو تُرك الحيوان لعاش يوماً أو بعض يوم، وهذا عند الشافعية[128]، وعند الحنابلة هي حركة مستقرة[129]، فإن كان كذلك حل أكله، وإلاَّ فلا، قاله أبو يوسف من الحنفية([130])، ورواية عن الإمام مالك([131])، والشافعية[132]، ورواية عن الحنابلة[133].
ودليلهم أنَّ الاستثناء منقطع، والمعنى لكن ما ذكيتم من غيرها، فلا يحرم عليكم.
وسبب الخلاف هو الاستثناء في قوله تعالى: (إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ) هل هو متصل أم منقطع؟ فمن ذهب إلى أنه استثناء متصل، قال بأنه أخرج الجنس بعض ما تناوله اللفظ، فما قبل الاستثناء حرام، أما ما بعده فهو حلال، أما من رأى أنه منقطع فرأى بأن الاستثناء هنا لا تأثير له في الجملة السابقة، وعلى هذا فتقدير الكلام: ما ذكيتموه من غير الحيوانات المتقدمة فهو حلال تتمتعون به كما تشاؤون، ويؤيد القول بأن الاستثناء متصل إجماع العلماء على أن الذكاة تحلل ما يغلب على الظن أنه يعيش[134].
واحتج من قال بانقطاع الاستثناء بأنَّ التحريم إنَّما يتعلق بالحيوانات بعد موتها، وهي لا تذكى بعد الموت فيكون الاستثناء منقطعاً، وقد رُدَّ على هذه الحجة بأنَّ الاستثناء متصل باعتبار ظاهر الحلال، فإنَّ ظاهر الأمر في هذه الحيوانات إنها تموت بسبب ما أصيبت به، فتكون حراماً بحسب الظاهر، إلاَّ ما أدرك حياً قبل موته وذكي فإنَّه يكون حلالاً، فالتحريم لا يتعلق بها حقيقةً إلاَّ بعد موتها بدون ذكاة، فإذا ما ذكيت وهي لا تزال على قيد الحياة، كانت مساوية لغيرها من بقية الحيوانات المذكاة، فلا وجه للقول بعدم حلها[135].
الرأي المختار: هو القول الأول؛ لأنَّ الآية نص في الاستثناء، فهو متصل وغير منقطع، ومن ثمَّ فإن الذكاة إذا ما لحقت الحيوان المصاب بأحد الأمور الواردة في الآية الكريمة فإنَّه يحل بها إذا ما غلب على الظن وجود حياة فيه وذلك بوجود قرين؛ كطرفة عين، أو حركة ذيل، وما شاكل ذلك.
خامساً: تخريج[136] وتنقيح[137] مناط حرمة هذه الأطعمة والمقصد التشريعي من تحريمها.
لما كانت دراسة وتقرير مناط حرمة الأطعمة الواردة في الآية الكريمة أساساً لتطبيقها في الاجتهاد في المستجدات الفقهية المتعلقة بهذا الموضوع الهام، وهو ما يعرف بعملية تحقيق المناط، كُرس هذا الفرع للوقوف على ذلك.
من الملاحظ أنَّه قد وردت عدة أوصاف للحيوان الذي يحرم أكله منها في الآية الكريمة: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ...)[3: المائدة]، منها: الخنـق، والوقذ - والذي يقتضي الضـرب، والضغط-، والتـردي، والسقوط، والافتراس، والنطح، والأكل من السبع، وكل هذه الأوصاف منضبطة ومناسبة لحكم التحريم فهي علل لتحريم كل حيوان يتصف بها، ويجمع بينها وصف عام يصلح أن يكون مناطاً عاماً لحرمة الحيوانات المتصفة به، وهو حبس الدم في الحيوان مباح الأكل بالوفاة دون أن يذكى قبل موته.
وينفرد ما ذبح على النصب بعلة خاصة به وهي الشرك بالله في الذبح، وهي ظاهرة من فصله عن بقية الأوصاف الواردة وتأخيره عن الاستثناء المتعلق بإباحة ما ذكي بعد تحقق أحد هذه الأوصاف في الحيوان. قال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)[3: المائدة].
الخلاصة: هنالك عدة مناطات لحرمة الأطعمة واللحوم وردت في هذه الآية، يدور معها حكم التحريم وجوداً وعدماً، نقررها فيما يلي حتى تكون أساساً لدراسة حكم الأطعمة واللحوم في الوقت الحاضر:
1. حبس الدم في الحيـوان المأكول وعند إنهار دمه؛ وذلك بصرف النظر عن طريقة موته.
2. الشرك بالله عند الذبح قصداً أو قولاً أو فعلاً.
3. قتل الحيوان افتراساً من حيوان آخر.
ولكن هناك أمور غير معلولة في الآية الكريمة، لوجود خفاء في علاقتها بالحكم -الحرمة-، وإن كانت الحكمة من تحريمها واضحة، وهي ما فيها من ضرر، ومنها ما يلي:
1. حرمة لحم الخنزير وجميع توابع هذا الحيوان.
2. حرمة الدم.
سادساً: المقصد التشريعي من تحريم هذه الأطعمة.
من الثابت بالاستقراء أن الله عز وجل عندما يضع تشريعاتٍ ما فإنه يقصد من هذه التشريعات المحافظة على مصالح عباده، قال الشاطبي: "إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً"[138]. وقال أيضاً رحمه الله: "تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق"([139]). فقد منّ الله علينا عز وجل وعلا بأن شرع لنا ما يحفظ مصالحنا الضرورية والحاجية والتحسينية، وآية تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير إلى آخر الآية تهدف إلى المحافظة على المقاصد الضرورية الخمسة عموماً؛ وهي الدين، والنفس والعقل والنسل والمال.
وقال ابن تيمية رحمه الله: "فكل ما نفع فهو طيب، وكل ما ضر فهو خبيث، والمناسبة الواضحة لكل ذي لب أن النفع يناسب التحليل، والضرر يناسب التحريم والدوران، فإن التحريم يدور مع المضار وجوداً في الميتة والدم ولحم الخنزير وذوات الأنياب والمخالب والخمر وغيرها مما يضر بأنفس الناس وعدماً في الأنعام والألباب وغيرها"[140].
كذلك يقول: "الطعام يخالط البدن ويمازجه وينبت منه فيصير مادة وعنصراً له، فإذا كان خبيثاً صار البدن خبيثاً فيستوجب النار، والجنة طيبة لا يدخلها إلاَّ طيب"[141].
فالحكمـة من تحريم هذه المطعومات تعـزى لما فيها من ضـرر لجسم الإنسان، لذا حرمت تحقيقـاً للصحة السليمة والعافية للمرء في حياته، وهذا كله يحقق مقصد التشريع الحنيف في حفظ النفس، وهو من الضروريات الخمس.
وفي تحريم الميتة حكمة عظيمة، لما يترتب على أكلها من أضرار، إذ يسبب أكلها مرض الجمرة الخبيثة الظاهرة، وهي قرحة جلدية مزمنة على الوجه أو اليدين، والجمرة الخبيثة الرئوية، والجمرة الخبيثة المعوية، وكذلك قد يسبب تناولها تسمماً غذائياً، وعسراً في الهضم، كما أن من أضرارها الإصابة بالتهاب الكبد الوبائي، وظهور أكياس مائية في الدماغ، والكبد، والرئتين، وغير ذلك[142].
وتظهر الحكمة من تحريم الدم في أنَّه يحمل سموم الجسم وفضلاته، ويؤدي ذلك إلى رفع البولينا في الدم لتنذر بحدوث فشل كلوي، كما أن شرب الدم يسبب إلى عسر في الهضم، ولا تتحمله المعدة، كما يحتوي على مواد تدعى (إنتيجينات)، والتي يتفاعل معها الجسم فيكوّن أجساماً مضادة، ممَّا قد يسبب حساسية تنتج من تفاعل (الإنتيجينات) مع هذه الأجسام، كما أنه قد ينقل التهاب الكبد الوبائي، وبشكل عام يعتبر الدم وسطاً صالحاً لنمو شتى أنواع الجراثيم الضارة بالإنسان[143].
أما الأسباب التي لأجلها حرم لحم الخنزير فعلاوة على ما ذكرنا آنفاً في حق الحيوانات المحرمة في هذه الآية الكريمة فإن هذا الحيوان حرم لأسباب خاصة به كشف عنها العلم الحديث. ومن الأمراض التي تسببها قذارة الخنزير التي كشفها العلم مرض الزحار الزقي وتسببه طفيلة تدعى (Balantdium coli) وتعيش في أمعاء الخنزير، كما يسبب داء ويل اليرقاني النزفي وهذا يسبب نزف في الكبد والكلية وهبوط القلب، كما يسبب حصبة الخنزير.
كما أنَّ أكل لحم الخنزير يسبب العديد من الأمراض؛ فأكل لحمه يسبب دخول الدودة الوحيدة الشريطية إلى المعدة، وهي تتحول في الأمعاء إلى طور الدودة وتكبر، وتعيش ملتصقة بجدار الأمعاء، وتسبب للإنسان الإمساك والألم والإحساس بالجوع، وكذلك دخول دودة الشعرية الحلزونية، والديدان المستديرة، والديدان الخطافية والبلهارسيا، ويسبب التهاب الدماغ وعضلة القلب والسل الرئوي وجراثيم كثيرة، كما أنه يسبب السمنة وعسر الهضم([144]).
وغني عن البيان أنَّ من يأكل من لحم الخنزير يتأثر بصفات هذا الحيوان وأخلاقه في الأغلب، فالخنزير معدوم الغيرة على عرضه، ومن الظنون أن تنتقل هذه الصفة إلى آكليه([145]). كما قيل أن لحم الخنزير يورث الأخلاق الخبيثة، فهو أعظم حيوان في أكل كل شيء، ولا يترك شيئا من الخبائث[146]. وقد أجمع العلماء على تحريم لحمه ودمه وسائر أجزائه[147].
المطلب الثالث: أحكام التذكية المأمور بها في هذه الآية الكريمة:
أولاً: الخلاف فيما يجب قطعه في التذكية:
اتفق العلماء على أن أكمل الذبح - التذكية- هو ما يقطع فيه الودجان والحلقوم والمريء جميعاً[148]، ولكنهم اختلفوا فيما يجب قطعه عند الذبح على أقوال مختلفة؛ وذلك كما يلي:
القول الأول: يجب قطع أكثر الأوداج لتأكل، ثلاثة أو أربعة من الأوداج، وهذا ما ذهب إليه أبو حنيفة - رحمه الله-[149]، وقال محمد وأبو يوسف - من الحنفية-[150] لا تأكل الذبيحة حتى يقطع الحلقوم والمريء وأحد العرقين. واستدلوا بما يلي:
1- قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تأكل الشريطة؛ فإنَّها ذبيحة الشيطان"[151]، وهي التي تذبح بقطع الجلد دون أن تفرى أوداجها، وتترك حتى تموت، فهذا الحديث يدل على أن عليه قطع الأوداج، والأوداج اسم يقع على الحلقوم والمريء.
2- قوله صلى الله عليه وسلم: "كل ما أنهر الدم وأفرى الأوداج، ما خلا السن والظفر"[152].
وجه الدلالة: أن هذا الحديث يشير إلى اشتراط فري الأوداج في الذكاة[153].
3- أنَّ الأكثر في القطع يقوم مقام الكل[154].
القول الثاني: لا تصح الذكاة إلاَّ بقطع الودجين، وهذا قول الإمام مالك[155]، واستدل هؤلاء بما يلي:
1- قال عليه السلام: "كل ما أفرى الأوداج ما لم يكن قرض ناب أو حز ظفر"[156].
وجه الدلالة: ينص الحديث على وجوب قطع الودجين لقوله عليه السلام: ما أفرى الأوداج.
2- إن الموت بقطع الأوداج يطيب اللحم به، ويفترق فيه الحلال وهو اللحم، من الحرام وهو الدم[157].
القول الثالث: يصح قطع الحلقوم والمريء ولا يحتاج إلى الودجين، قاله الشافعي[158]؛ لأنهما مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معهما حياة، وهو الغرض من الموت.
القول الرابع: يجب قطع الحلقوم والمريء والعرقين اللذين بينهما، وهو رأي الحنابلة في رواية عنهم - أنه يجزئ قطع الحلقوم والمريء[159].
القول الخامس: يجزئ قطع بعض هذه الآراب المذكورة فأسرع إليها الموت كما يسرع من قطع جميعها، فأكلها حلال، فإن لم يسرع الموت فليُعِد القطع ولا يضره ذلك شيئاً[160]، قاله الظاهرية.
واستدل ابن حزم على قوله - بعدم التحديد - بأنه تبارك وتعالى قال: (إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ)، والذكاة الشق، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذبح والنحر فيما تمكن منه فوجب أن لا يتعدى حده عليه الصلاة والسلام، وقد أمر عليه الصلاة والسلام بالإراحة، فصح أن كل ذبح وكل شق قال به أحد من العلماء فهو ذكاة، وإذ هو ذكاة فإن المذكي به خارج من التحريم إلى التحليل، ولو أن تحديد بعض الآراب أو جميعها بالقطع ضروري لنا لحدده لنا ربنا سبحانه وتعالى وأعلمنا به، فحاشا لله من أن يُضيّع إعلامنا بما افترضه علينا[161].
الرأي المختار: أنه يجب تذكية الحيوان - المباح أكله شرعاً- بإنهار دمه، والأفضل في ذلك قطع الودجين، لورود النص الشرعي في ذلك، ولا دليل على اشتراط قطع أكثر من ذلك كالحلقوم والمريء أو أحدهما. بل إنّه لا علاقة لهما بمقصود التذكية لكون الأول مجرى التنفس، والآخر مجرى الطعام، وهما ليسا مجرى للدم الذي يراد تذكية الحيوان منه، والله أعلم.
ثانياً: حكم موضع الذبح الواجب في الذكاة:
ناقش العلماء حكم الذبح من خلف الرقبة (من القفا)، وموضع الذبح المشروع، وحكم من رفع يده قبل تمام الذكاة، ويأتي بيان هذه الأحكام فيما يلي:
وذكر القرطبي إجماع العلماء على أن الذبح إذا كان في الحلق تحت الغلصمة مهما كان الذبح تتم به الذكاة الشرعية. واختلفوا فيما ذبح فوقها وجازها إلى البدن هل يكون ذلك ذكاة شرعية أم لا؟ وذلك على قولين، وروي عن مالك أنها لا تؤكل[162].
وقد اختلف العلماء فيما إذا كان الذبح من القفا هل يجزئ ذلك ويعتبر شرعياً أم لا؟
القول الأول: عدم جواز الذبح من القفا، ولو استوفى القطع وأنهر الدم وقطع الحلقوم والودجين، وهو قول الإمام مالك -رحمه الله-([163]). واستدل المالكية لذلك بما يلي:
1- إنها كانت تذبح في الجاهلية للأصنام ويهل بها لها، فأمر الله أن ترد إليه ويتعبد بها إليه، وهذا يستلزم أن يكون لها نية مخلصة وحل مخصوص.
2- أنَّه ذبح عليه الصلاة والسلام في الحلق، ونحر في اللبة، وقد روي عن أبي هريرة إنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال: "إنَّما الذكاة في الحلق واللبة"[164]، فبيَّن بذلك محلها الشرعي.
3- قوله عليه السلام: "ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكُل"[165]، فإذا لم يفعل شيء من ذلك زال منها حظ التعبد[166].
القول الثاني: أنَّها تحل إذا ذبحت من القفا وتؤكل، قاله الشافعي([167])، وابن حزم([168])، واستدلوا بما يلي:
1- أنَّ المقصود -وهو إنهار الدم- قد حصل فيجزئ ذلك ويحل الأكل منها[169].
2- أنَّه سبحانه وتعالى لم يحدد لعباده شيئاً يقيدهم فيه في هذا المجال، ولم يكن ليخفي علينا -جل وعلا- أمراً من أمور ديننا، فلا وجه لأي تحديد بلا دليل[170].
القول الثالث: موضع الذكاة في الحيوانات المقدور عليها يكون في اللبة وما فوق ذلك إلى اللحيين، قاله أبو حنيفة([171]). وقد ذكر القرطبي الخلاف فيمن رفع يده قبل تمام الذكاة ثم رجع على الفور وأكملها على رأيين، الأول: أنه يجزئه، والثاني أنه لا يجزئه، ثم رجع الأول؛ وذلك لأنَّ الذابح قد جرحها أولاً ثم ذكاها، وهي في حياتها مستجمعة فيها([172]).
وقال ابن حزم في هذه المسألة بأن على الذابح أن يقطع البعض من هذه الآراب فإن أسرع الموت إليهما كما يسرع من قطع جميعها فأكلها حلال، فإن لم يسرع فليعد القطع ولا يضره ذلك شيئاً[173].
الرأي المختار: إنّ العلة في تحليل الحيوان المذبوح إنهار الدم، بصرف النظر عن جهة الذبح، فلم يثبت تحديد موضع الذكاة في الحلق واللبة حصراً، إن كان ذلك هو الأصل والسنة لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما ما روي عن أبي هريرة فحديث ضعيف. ولكن من السنة أن تكون الذكاة كما فعل عليه السلام -في الحلق واللبة-؛ وذلك بأن يكون الذبح في الرقبة وبقطع الودجين، وبشكل فوري -دون انقطاع أو تردد-، ومن المكروه في الذبح التباطؤ لما فيه من تعذيب للذبيحة، والله أعلم.
ثالثاً: تخريج وتنقيح مناط (علة) وجوب التذكية وحكمة مشروعيتها:
باستقراء الآيات الكريمة وما ورد فيها من أوصاف فإنَّنا نستنتج أنَّ علة وجوب التذكية هي إنهار الدم، والحكمة من ذلك إخراج الدم من جسم الحيوان، لما له من مضار ومفاسد للإنسان؛ وذلك بدليل تحريم الميتة والدم عموماً في الآية السابقة، وتحريم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة أيضاً، وكلها تشترك باحتباس الدم فيها وعدم إنهاره إلى الخارج، وبدليل الحديث الشريف السابق أيضاً والذي أوجب استعمال الأدوات التي تنهر الدم، ولم يقبل البادح أو الضعيف من أدوات الذبح؛ لأنها لا تهرق الدم بقوة، والله أعلم.
المطلب الرابع: حكم أكل المحرمات في حالة الضرورة:
وضحت الآية السابقة حرمة الأكل من هذه الأصناف، ولكن أباحت تناولها في حالة الضرورة، لقوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[3: المائدة]. والضرورة بمعنى ضرر، والضر ضد النفع، والضر الهزال وسوء الحال([174]). والضرورة الحاجة، تقول رجل ذو ضرورة أي حاجة، والضرورة اسم المصدر الاضطرار أي الاحتياج إلى الشيء([175]).
والضرورة اصطلاحاً هي: "إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين"([176]).
وعرفت أيضاً: "هي ما تضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمسة التي اتفقت الملل على حفظها وهي النفس والدين العقل والمال والنسب"[177].
فإذا اضطر إلى أكل الطعام المحرم فإنه يحل له ذلك؛ وذلك للمحافظة على مقصد عظيم وهو حفظ النفس، وهذا باتفاق العلماء[178].
وأما بالنسبة لمقدار الأكل التي يحق للإنسان أن يأكلها، فقد اختلف فيها على قولين هما:
القول الأول: له أن يأكل ما يسد رمقه ويأمن معه الموت وليس له أن يشبع، وهو رأي أبي حنيفة([179])، ورواية غير مشهورة عند المالكية([180])، والشافعية([181])، والحنابلة([182])، ويحرم بالإجماع([183]) أن يأكل فوق الشبع([184])، واستدل هؤلاء بما يلي:
1- قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)[173: البقرة].
2- قولـه عز من قائـل: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)[195: البقرة].
وجه الدلالة من الآيتين: استثناء حالة الاضطرار من حكم التحريم الذي دلت عليه آية تحريم الميتة، فإذا اندفعت الضرورة، لم يحل الأكل كحالة الابتداء([185]).
3- احتجوا بأنَّ سبب هذه الرخصة هو الضرورة، ومتى ما زالت ارتفعت هذه الرخصة لزوال سببها([186]).
القول الثاني: للمضطر أن يأكل حتى يشبع ويتزود، وهو قول المالكية([187])، ورواية عند الشافعية([188]).
واستدلوا بأنَّ الضرورة ترفع التحريم فيعود مباحاً، ومقدار الضرورة إنما هو حالة عدم القوت إلى حالة وجوده حتى يجد[189].
الرأي المختار: والله أعلم أن المضطر له أن يأكل ما يسد رمقه وينقذه من الموت والهلاك لا غير، وإن كان بحاجة لهذا الطعام له أن يحمله ويأكل منه فيما بعد؛ وذلك لأنَّ المحافظة على النفس مقصد شرعي ضروري.
المبحث الثال
الأحكام الشرعية المتعلقة بالمطعومات الواردة في الآيتين الرابعة والخامسة من سورة المائدة
المطلب الأول: سبب النزول:
قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[4: المائدة].
ذكر في الجلالين سبب نزول هذه الآية بقوله: (روي عن أبي رافع قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ فأخذ رداءه فخرج إليه وهو قائم بالباب، فقال قد أذنا لك قال: أجل ولكنا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب، فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو فأمر أبا رافع لا تدع كلباً بالمدينة إلاَّ قتله فأتاه ناس، فقالوا: يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها، فنزلت: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ) الآية، وقيل: إن عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، وإن كلاب آل ذريح تصيد البقر والحمير والظباء، وقد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا منها فنزلت: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ...) الآية)[190].
المطلب الثاني: الأحكام الشرعية المتعلقة بالمطعومات الواردة في الآية الرابعة من سورة المائدة:
بعد ما ذكر سبحانه وتعالى في الآية السابقة ما حرمه من الخبائث الضارة لمن يتناولها في بدنه أو في دينه أو في كليهما، استثنى ما استثناه في حالة الضرورة فقال بعدها تبارك وتعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)[4: المائدة]، وقد قيل في الطيبات إنها الذبائح الحلال الطيبة، وقيل إنها ما أحل من كل شيء أن يصيبوه وهو الحلال من الرزق[191].
ورأى الجصاص أن اسم الطيبات يطلق على الحلال وعلى المستلذة؛ وذلك لأنَّ ضد الطيب الخبيث وهو حرام، فالطيب إذاً حلال[192].
وقوله عز من قائل: (وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ)[4: المائدة]، أي أحل لكم ما صدتموه بالجوارح وهي الكلاب والفهود والصقور وأشباهها، وهو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة. وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بها الجوارح من الجرح وهو الكسب؛ ومثله قوله تعالى: (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ)[60: الأنعام]، أي ما كسبتم من خير وشر.
وقوله تعالى: (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ) [4: المائدة]، فقد أنَّث الضمير في قوله: (تُعَلِّمُونَهُنَّ) مراعاة للفظ "الجوارح"، فهو جمع جارحة، ولا خلاف بين العلماء في اشتراط أمرين في تعليم الجوارح، الأول: أن يأتمر الحيوان إذا أُمر، والثاني: أن ينزجر إذا زجر، فلا خلاف في هذين الشرطين في الكلاب ولا فيما هو في معناهما من سباع الوحوش[193].
قوله: (فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)[4: المائدة] أجمع العلماء على أنه إذا كان الجارح معلماً وأمسك على صاحبه، وكان قد ذكر اسم الله عليه عندما أرسله حلَّ له الصيد، وقد وردت الأحاديث المتعددة الروايات التي تدل على ذلك.
قوله: (وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ)[4: المائدة] أمر تبارك وتعالى المؤمنين بالتسمية، وقيل إنها عند إرسال الكلب على الصيد، وقيل المراد بالتسمية هنا التسمية عند الأكل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة: "يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك"[194]. وروي عن حذيفة قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليستحل الطعام إلاَّ يذكر اسم الله عليه". فإذا نسي التسمية أول الأكل فليسم آخره؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يأكل ولم يسم الله، إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه"[195].
ومن أهم الأحكام الشرعية المستفادة من هذه الآية الكريمة ما يلي:
أولاً: إباحة الطيبات:
وهي المعلومة في الشريعة والتي تستطيبهـا النفوس الكريمة، ولا تضر المسلم لا في بدنه ولا في دينه؛ وذلك بعكس الخبائث التي أرشدت الشريعة السمحة إلى تحريمها لما فيها من ضرر على المسلم في دينه أو بدنه أو في كليهما معاً([196]).
ثانياً: الجوارح التي يحل الاصطياد بها:
ذهب جمهور العلماء من الحنفية([197])، والمالكية([198])، والشافعية([199])، والحنابلة([200])، والظاهرية([201]) إلى إباحة أكل ما صاد كل جارح معلم على العموم، سواء كان كلباً أو من ذوي الأنياب من السباع كالأسد والفهد، أو المخالب من الطير كالبازي والصقر ونحوهما.
واستدلوا بعموم الآية: (وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ) [4: المائدة]، فهي تدل على شمول كل جارح في الحكم[202].
المطلب الثالث: الأحكام الشرعية المتعلقة بالمطعومات الواردة في الآية الخامسة من سورة المائدة:
أما الآية الخامسة من سورة المائدة والتي يقول فيها سبحانه: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[5: المائدة].
لا خلاف بين الفقهاء في أنََّ غير الحيوانات من الأطعمة العادية يحل أكلها حتى لو قدمها غير الكتابي؛ مثل البوذي والهندوسي وما أشبه، مثال ذلك؛ الخضروات، والفواكه، والخبز، والكعك، ما لم تحتوي على شيء منهي عنه شرعاً[203].
تأتي هذه الآية الكريمة لتبين حكم أطعمة أهل الكتاب من الذبائح، فالمقصود بـ: "الطعام" فيها: لحوم الذبائح تحديداً، دون غيرها اتفاقاً([204])، ولكن حدث خلاف بين العلماء في من هم أهل الكتاب هل هم اليهود والنصارى والمجوس؟ أم فقط هم اليهود والنصارى؟ وذلك على قولين هما:
القول الأول: أهل الكتاب هم اليهود والنصارى قاله الفقهاء الأربعة[205]، فطعام أهل الكتاب من اليهود والنصارى وذبائحهم حلال لقوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ)[5: المائدة]، ولأكله عليه السلام من الشاة التي أهدتها إليه اليهودية ولم يسأل عن ذبيحتها أهي ذبيحة مسلم أم يهودي؟
ودليل تحريم ذبائح المجوس حديث الرسول عليه السلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير أكلي ذبائحهم، وناكحي نسائهم"[206].
القول الثاني: أهل الكتاب هم اليهود والنصارى والمجوس قال بذلك ابن حزم[207]، فطعام هؤلاء حل لنا، واستدل بقوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ)[5: المائدة]، فالمجوس يدخلون في ذلك. الرأي المختار: المجوس ليس لهم كتاب سماوي لذا لا يدخلون في أهل الكتاب، فيقتصر أهل الكتاب على اليهود والنصارى، فطعامهم وذبائحهم حلال لنا بالإجماع حتى وإن لم يذكر عليها اسم الله ولم نعلم بذلك ولم نتيقن. أما غيرهم من غير المسلمين فلا تحل ذبائحهم.
واختلف من قال بحل ذبائح أهل الكتاب في حكمها إذا علم بأنه ذكر غير اسم الله عليها:
القول الأول: يحرم أكلها، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وزفر -من الحنفية-[208]، والحنابلة[209]، والظاهرية[210]، واستدلوا لذلك: بأنها مما أهل لغير الله به باشتراط أن يذكر عليها اسم الله.
القول الثاني: يكره أكلها، وهو قول الإمام مالك[211].
القول الثالث: يباح أكلها، وإن ذكر عليها غير اسم الله كاسم المسيح عند النصارى وعزير عند اليهود، وهذه تباح إن لم يعلمها المسلم، وهذا ما ذهب إليه الشافعية[212]، واستدلوا على ذلك بما يلي:
1- بأن اشتراط التسمية على غير وجه العبادة لا يعقل، وبما أنه لا تتصور من الكافر العبادة فوجود التسمية وعدمها منه سواء.
2- أنَّ النصارى يذبحون على اسم المسيح، وقد أحل الله تبارك وتعالى لنا ذبائحهم مطلقاً، فيدخل ذلك في الحكم.
3- وقد ذكر ابن كثير وغيره الإجماع على حِل أكل ذبائحهم إذا ذكر عليها غير اسم الله، ولم نعلم بذلك ولم نتيقن[213].
الرأي المختار: اليقين لا يزول بالشك، والأصل براءة ذمة الكتابي فطعامه عموماً جائز، والحكم في الشرع للحالة العامة، فإنَّ غلب على الظن التزام الكتابي بما مر من ضوابط في بلد معين جاز طعامه للمسلمين، وإن كانت الحالة الغالبة هي عدم الالتزام بكل هذه الضوابط أو بعضها، فإنَّه لا يجوز تناول طعام أهل هذا البلد إلاَّ بعد التحري الدقيق، وللوصول إلى معرفة الحالة العامة لا بد من إرسال لجان شرعية إلى أهم المسالخ في البلد المعين، بغية التثبت وتقصي الحقيقة.
الخلاصة: نستنتج مما سبق أنه يشترط في طعام أهل الكتاب في العصر الحديث ما يلي:
1. أن يكون الذابح كتابياً.
2. أن تتحقق شروط الذكاة الشرعية وأهمها إنهار الدم.
3. أن لا يكون في طعامه ما نص على تحريمه كالدم ولحم الخنزير أو شحمه أو الإهلال لغير الله عند الذبح.
وعليه فإن ذبائح الأقوام الملحدين الموجودين في العصر الحديث ممَّن يرفع لواء اللادينية كالشيوعية، والتي تنادي بفكرة لا إله والحياة مادة، فلحومهم محرمة لأنها ذبحت بأيدي غير أهل الكتاب، والله أعلم.
وكذلك لا تحل ذبائح أهل الطوائف التي تخالف الإسلام كالزنادقة، والدروز[214]، والبهائية وعباد الشيطان وغيرهم.
المبحث الرابع
تطبيقات معاصرة لأحكام الأطعمة الواردة في هذه الآيات الكريمة من سورة المائدة
المطلب الأول: المستجدات الفقهية المتعلقة بطريقة قتل الحيوانات مأكولة اللحم:
شاعت طرق جديدة لقتل الحيوانات المباح أكلها في العصر الحديث، وتختلف أحكام هذه الطرق بحسب مدى موافقتها لأحكام التذكية وعدمها، ويأتي توضيح ذلك فيما يأتي:
أولاً: الصعق الكهربائي:
وتتمثل هذه العملية بتعريض الحيوان إلى جرعة شديدة من التيار الكهربائي تودي بحياته، وهي على هذا الوصف أشبه بالمنخنقة التي خنقت فماتت وانحبس فيها دمها، فعلة التحريم متحققة في هذه الحالة بوضوح. فالصعق الكهربائي يؤدي إلى توقف الدورة الدموية وموت الحيوان دون أن ينزل دمه، وهو مجمع للفضلات والخبائث، فيبقى في لحم الشاة بما فيه من مضار، والطريقة الشرعية لتذكية الحيوان هي "ما أنهر الدم"[215] كما يقول عليه السلام، لذا يحرم أكل هذا النوع من الحيوانات؛ لأنَّ العلة في التحريم عدم إنهار الدم الذي يحمل الفضلات الموجودة في الجسم، وهذا لا يحدث في الصعق الكهربائي، فيكون كالمخنوق.
ولكن ينبغي التنويه على أنَّ من طرق تذكية البقر والحيوانات الكبيرة تعريضها لصعقة كهربائية منخفضة بحيث أنها لا تهلك منها مباشرة بل تفقد توازنها فيسهل ذبحها (وتسمى بطريقة التدويخ)[216]، وهذه الحالة دون شك تختلف عن سابقتها حيث أنَّ الصعقة فيها ليست السبب في موت الحيوان بل الذبح، فيجوز شرعاً القيام بهذه العملية، شريطة أن تكون حياة الحيوان لا تزال مستقرة حتى تتحقق العلة الشرعية للذكاة وهي إنهار الدم، وهذا قياس على الاستثناء الوارد في الآية الكريمة بشأن ما ذكي من الحيوانات التي شارفت على الهلاك وأدركت قبل وقوعه بالذكاة، قال تعالى: (إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ)[3: المائدة]. ولكن طرق التدويخ المختلفة غير مأمونة وقد تؤدي إلى سكتة قلبية تميت الحيوان قبل تذكيته، ولها تأثير على زيادة وتبكير بداية التعفن في لحم الحيوان بعد الذبح؛ ولذلك فإنَّها تكره لهذه الأسباب[217].
ثانياً: الطعن في القلب:
استجدت طريقة حديثة لتذكية الحيوانات، وهي قتلها بطعنها في القلب، ولا شك أن هذه الطريقة تخالف سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، التي ترشد إلى الذبح أو النحر من اللبة -للحيوانات الكبيرة كالإبل-، ولكن مراجعة النصوص الشرعية في كتاب الله تثبت أن الحكم هنا يدور على وجوب إنهار الدم وعدم حبسه في جسم الحيوان، وهي علة التذكية؛ الواجبة شرعاً لحل أكل لحم الحيوان المباح، أما ما ورد في السنة الشريفة فلا يدل بالضرورة على اشتراط قطع الأوداج كما اشترط معظم الفقهاء، بل يدل أيضاً على وجوب إنهار الدم، ودليل ذلك جواز الصيد دون تذكية، إذا ما خرق جسم الحيوان وأنهر دمه بذلك، كما أنَّ النحر أيضاً يدل على ذلك، لعدم قطع الأوداج فيه، فيكتفى فيه بطعن الحيوان في اللبة أسفل الرقبة، وهي مظنة إنهار الدم. ولكن تكره هذه الطريقة للتذكية لما فيها من مخالفة للسنة، وتزداد الكراهة إذا ما اتبعت في بلاد المسلمين، لما في ترك السنة من خطر على المسلم وسلوكه.
ثالثاً: قطع الرقبة كاملة بآلة أوتوماتيكية ونحوها:
تستعمل هذه الطريقة في بلدان عديدة لتذكية الحيوانات والطيور كالدجاج، وتخريجاً على ما مرَّ تقريره سابقاً من أنَّ علة التذكية هي إنهار الدم، وليس قطع الأوداج أو الحلقوم أو المريء، فإن هذه الطريقة تجوز شرعاً لتذكية الحيوانات، بشرط أن يكون سبب موت الحيوان هو إنهار الدم الناتج عن عملية قطع الرقبة، وليس الخنق في حال التأخر في القطع بحيث يقطع الحبل العصبي في العمود الشوكي فتتوقف الدورة الدموية قبل تمام الذبح، أما إذا كان القطع سريعاً وكاملاً، فإنَّ الدم سوف ينهر بقوة، سواءً كان القطع من مقدمة الرقبة، أو من مؤخرتها، وبذلك تحل الذبيحة، والسبب في كراهة هذا النوع هو ما سبق ذكره -في النوع السابق- من مخالفة للسنة الشريفة في طريقة التذكية([218]).
رابعاً: الخنق:
لا خلاف بين الفقهاء في حرمة خنق الحيوان مأكول اللحم؛ وذلك لورود النص على حرمتها، قال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ)[3: المائدة]. ومن ثـمَّ فإنَّ اللحوم التـي مصدرها القتل بالخنق والذي اعتادته وتقبلته بعض الثقافات غير الإسلامية في بعض البلـدان هي لحوم محرمة لا يجوز للمسلم أكلها، لا في ديار المسلمين، ولا في غيرها.
المطلب الثاني: حكم اللحوم المستوردة من البلاد الأجنبية:
رغم ما ورد في كتب الفقهاء المتقدمين من توسع في الحديث عن الذكاة الشرعية وشروط المذكي، والصيد في حالة إذا لم يكن الصيد مقدوراً عليه، وغيرها، إلاَّ أنهم لم يبحثوا حكم اللحوم المستوردة من خارج ديار الإسلام؛ لأنَّ هذا الأمر لم يكن معروفاً في زمانهم ونحن الآن في وقتنا يهمنا هذا الأمر؛ لأنَّ هنالك ما يحرم علينا من هذه المطعومات كالميتة، أو ما أهل به لغير الله عز وجل. لذا إن كانت لحوم الحيوانات التي تستورد من البلاد الأجنبية لحوماً محرمةً، فإنَّه لا يحل تناولها أبداً كالخنزير مثلاً؛ لأنَّ العلة في التحريم موجودة، فلا تباح إن قدمها لنا الغير[219].
ولقد ذهب المودودي وعبد الله بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى السعودي إلى أنَّ ذبائح غير المسلمين الموجودة في الغرب لا تحل؛ لأنهم لا يراعون الطريقة السليمة في الذبح([220]).
وذهب الشيخ محمد رشيد رضا إلى أن ذبائحهم - أي الغرب- مباحة؛ لأنَّ العلة في التذكية إزهاق لروح الحيوان دون تعذيبه، وتجوز بأية وسيلة تؤدي إلى ذلك، ولو بالقتل الكهربائي دون إنهار، كما أن الحكمة من إباحة طعام أهل الكتاب مجاملتهم ومحاسنتهم دون النظر إلى طريقة ذبحهم فالمسألة ليست تعبدية([221]).
ولا نسلم بالقول الأخير؛ وذلك لأنَّ الصعق الكهربائي ما هو إلاَّ وسيلة لخنق الحيوان، لما فيه من إيقاف للقلب ومنع لانتقال الأكسجين إلى جسمه، والمنخنقة يحرم أكله، كما مرَّ فيما سبق.
ولقد صدر عن لجنة الأزهر[222] فتوتان تتعلقان بالحيوانات المستوردة، وذهبت الفتوى الأولى إلى أن اللحوم المستوردة من بلاد أهل الكتاب حلال أكلها ما لم يعلم أنها محرمة كما لو علم أنهم ذكروا اسماً غير اسم الله، أو ذبحت بغير الذكاة الشرعية، أو أنها لحم خنزير وغير ذلك. أما الفتوى الثانية أن اللحوم المستوردة من بلاد أهل الكتاب حلال ما لم نتحقق من أنها من المحرم لذاته، كأن تكون لحم خنزير.
والذي نراه أن على الدول المسلمة المستوردة لهذه اللحوم أن تتأكد من مشروعية هذه اللحوم، ومن كون هذه الحيوانات مشروعة أصلاً، وكونها ذبحت على الطريقة الإسلامية؛ لأنَّ هنالك وسائل للذبح لا تقرها الشريعة الإسلامية، كطريقة الصعق الكهربائي، والخنق باستخدام غاز ثاني أكسيد الكربون (CO2)، وهذه يحرم أكل لحمها اتفاقاً[223]. كذلك قد يضرب الحيوان المأكول على رأسه فيموت بذلك، وهذا النوع لا يباح أكله؛ لأنَّه وقيذ يأخذ حكم والموقوذة الوارد تحريمها في الآية الثالثة من سورة المائدة.
لذا فالميتة محرمة إذ الميت يجمد دمه ويسود، ولهذا حرم الله الميتة، لاحتقان الرطوبات فيها([224]). أما بالنسبة إلى الكبد والطحال عند الفقهاء([225])، فيباح أكلهما لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال"([226]).
وعلاوة على ما سبق، فإننا نرى أنه من الأفضل استيراد الحيوانات حية وذبحها في ديار الإسلام، أو إرسال بعض المسلمين لمسالخ الدول المصدرة للحوم المجمدة لديارنا، للقيام بعملية الذبح في البلد المصدر قبل إرسالها لبلاد المسلمين؛ وذلك بعد التفاهم مع الجهات الأجنبية على أهمية ذلك بالنسبة للمسلمين. وعلى الدول الإسلامية أن تهتم بهذا الموضوع وذلك من خلال عمل لجان فرعية في وزارات التموين، أو الأوقاف تولي هذا الأمر حقه من الرعاية والاهتمام([227]).
المطلب الثالث: المستجدات الفقهية المتعلقة بالأطعمة المعلبة وأطعمة (الكوشر) (Kosher):
أولاً: حكم التعليب شرعاً:
تقوم عملية التعليب على حفظ المواد الغذائية وتعبئتها في علب خاصة، وتستعمل لعملية الحفظ مواد حافظة تختلف في أنواعها ومكوناتها، ومن أبرز ما تتكون منه المواد التي تستعمل لحفظ اللحوم؛ نترات الصوديوم، وبعض المحاليل الملحية، والتي تستخدم لملء العبوة بحيث تمنع وجود الهواء فيها، وهذا من شأنه حفظ الغذاء بصورة أفضل، لما في ذلك من منع لنشاط (الميكروبات)[228]. وهنالك طريقة أخرى لفظ اللحوم وهي طريق التدخين أو التبخير، وهي قيد الدراسة إذ يشتبه تأثيرها على صحة الإنسان[229].
ومن المعلوم أن الله أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، في قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)[4: المائدة]. وأنه يباح من الأطعمة ما لا يضر بصحة الإنسان ويحرم ما يضر بها، فإذا كانت المواد الحافظة من الأملاح النافعة للإنسان فإنه يجوز استعمالها، وتناولها مع الغذاء، أما إذا ثبت ضررها على الجسم وتسبيبها لبعض الأمراض، فيحرم هنا تناول المعلبات التي تحتوي عليها، وأما ما يشتبه بوجود ضرر فيه على صحة الإنسان، كاستعمال التدخين -مثلاً- فيكره أكله تجنباً للشبهة، وانطلاقأً من القاعدة الفقهية الضرر يزال[230].
ثانياً: الأنفحة المستخدمة في المأكولات (الأجبان) المعلبة:
وهي نوع من الخمائر التي تستخدم لتحويل الحليب إلى جبن، وهي جائزة إن كانت من حيوان طاهر في الحياة غير محرم، ولو كان الحيوان المأخوذ منه ميتاً؛ وذلك لعدم ورود نص بحرمتها، ولعدم اضرارها بالإنسان وصحته[231].
ثالثاً: حكم الخمائر والجلاتين المتخذة من الخنزير:
مما لا شك فيه أن الخنزير نجس العين، ولحمه وشحمه وما يستخرج منه كله محرم. فإذا ما احتوت الأطعمة المعاصرة على شيء من ذلك في مكوناتها، فإنه يحرم تناولها مطلقاً.
أما إذا كان العنصر المستخلص من الخنزير ممَّا تستحيل ماهيته بعملية كيمائية بحيث تنقلب حقيقته تماماً، تغير حكمه بذلك، وزالت حرمته ونجاسته، وإن لم تنقلب حقيقته بقي على حرمته ونجاسته؛ لأنَّ انقلاب الحقيقة مؤثر في زوال الطهارة والحرمة[232]، كذلك الحكم في الصابون ومعجون الأسنان المستعمل فيهما الخنزيـر وقد استحالت كيماوياً المواد المأخـوذة من الخنزير، فيباح الصابون والمعجون[233].
رابعاً: حكم الأخـذ بمقتضى وصف المحتويـات (The Ingredients) المكتوب على المعلبات:
من الأمور الملازمة للتعليب وصف المحتوى الغذائي للمعلب ويكون مكتوباً على غلافه، وتقوم دوائر رسمية متخصصة بتدقيق ومراقبة المواصفات حسب معايير صحية وغذائية. وهنا يبرز سؤالان هامان؛ هل الأصل التصديق أم التكذيب؟ وهل يختلف ذلك بين المنتج الذي مصدره العالم الإسلامي، والمنتج الذي مصدره غير إسلامي؟
الأصل براءة ذمة الإنسان عموماً[234]، ومن ثمَّ تصديقه فيما يقول إذا كان موثوقاً ومزكى، أما إذا كان ممَّن عرف بالتكذيب، أو غلب على الظن عدم صدقه، لمخالفته في العقيدة، أو لضعف في دينه، أو غير ذلك، فإنَّه لا يصدق إلاَّ بدليل واضح. فالأصل في محتويات الأطعمة المعلبة ومواصفاتها أن تكون مطابقة للواقع، ومعرضة للمراقبة والتدقيق، فالأصل إذاً تصديقها والأخذ بمقتضاها، خاصة ما كان من إنتاج الدول الإسلامية، أما بالنسبة للمعلبات ذات المصدر الأجنبي، فإنه يجب أن تكون خاضعة للرقابة من حيث محتوياتها ومدى موافقتها لأحكام الشريعة الإسلامية، وإن كان الأصل تصديق الوصف المدون عليها لما تتمتع به معظم الدول المصدرة للمعلبات والسلع الغذائية من مصداقية ودقة؛ لأنها تسعى دائماً لكسب الثقة والاحترام من قبل المستهلكين.
خامساً: حكم اللحوم المعلبة:
للحوم المعلبة عدة أنواع يختلف باختلافها الحكم الشرعي، منها ما يلي:
1- حكم اللحوم الحيوانية المعلبة:
توجد عدة أنواع من اللحوم الحيوانية المعلبة مثل (المرتديلا) (Mortadella)، و(الهوتدوجز) (Hotdogs)، ويرى بعض العلماء المعاصرين أن: "هذا النوع من اللحم يحتوي على لحم خنزير، أو شحمه لذا يحرم أكله وبيعه وشراؤه تحريماً قطعياً"([235]). والصحيح أنَّ اللحم المكون للمرتديلا يكون من أنواع مختلفة من اللحوم؛ كالبقر([236])، والدجاج، والحبش، وكذلك الأمر بالنسبة للهوتدوجز، فما دام اللحم المستخدم في صنعها لحماً مباحاً؛ فإنَّ أكل هذا النوع من الأطعمة المعاصرة يكون حلالاً شرعاً، وإن كانت المرتديلا مكونة من حيوانات محرمة كالخنزير، والكلب، أو كانت من الحيوانات المباحة ولكنها لم تذكَّ ذكاة شرعية؛ فخنقت، أو ضربت حتى الموت، أو صعقت، فإنها تحرم شرعاًُ، لما بينا فيما سبق. ولهذا يجب أن ينظر إلى الدولة المصدرة لهذا النوع من الأطعمة، فإن كانت دولة غربية لا تذكي الحيوان بل تصعقه أو تضربه حتى الموت، أو تسممه بغاز معين، فيحرم الأكل أصلاً، حتى لو كانت دولة كتابية، وإذا كانت الدولة المصدرة لهذه اللحوم دولة لا دينية؛ كالدول الشيوعية فإنه يحرم ما تصدره من اللحوم المصنعة؛ كالمرتديلا، والهوتدوجز، إلاَّ إذا كان فيها مسلمون يذكون الحيوانات لغايات التصدير للدول الإسلامية، ووجدت رقابة وثقة بمطابقة هذه اللحوم للشروط الشرعية.
ولا بد أن نذكر أن اللحوم المصنعة قد تؤدي إلى ضرر بالصحة، إذ وجد العلماء أن الذين يستهلكون اللحوم المصنعة مثل السجق[237]، و(السلامي)[238]، و(المرتديلا)، وغيرها لخمس مرات أو أكثر أسبوعياً يكونون أكثر الناس عرضة للإصابة بسكري النوع الثاني بنسبة 46%[239]. ولهذا فإنَّه يكره الإفراط في تناولها، ويباح القليل منها، والله أعلم.
2- حكم الأسماك والكائنات البحرية المعلبة (Sea Food Cans):
توجد العديد من المعلبات التي تحتوي على مكونات من لحوم الحيونات البحرية، ومن أشهرها ما يلي:
أ. الطون (Tuna): وهو من المعلبات الشهيرة التي تحتوي على لحم سمك.
ب. السردين (Sardine): وهو نوع من السمك الصغير يعلب كما هو، دون تغيير.
ج. الجنبري (Shrimps): وهو من الحيوانات البحرية غير الأسماك.
وهذه المعلبات مباحة شرعاً؛ لأنها من البحر ولا يخالطها أي شيء محظور، وهي داخلة تحت الإباحة الوارد في قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)[4: المائدة].
سادساً: حكم الحلويات المعلبة والمستوردة:
أ. الشوكولاتة (Chocolate): نوع من الحلويات كثيـرة الرواج في هذا العصر، وتتكـون بشكل رئيسي من كاكاو، وحليب، ودهن، وقد تحوي نكهة معينة أو بعض المكسرات[240].
ب. الكعكـات (Cakes): ومكوناتها الرئيسيـة هي الطحين، والبيض، والحليب، والدهن، والسكر، وقد تحتوي على بعض النكهات.
ج. البوظة (Ice cream): وتتكون من الحليب، والقشطة، والدهن.
وجميع هذه الأنواع من الحلويات مباحة على العموم؛ لأنَّ مكوناتها المذكورة مباحة، أما الدهن المستعمل فهو نباتي غالباً، الزبدة التي تستعمل فيها تكون من الحليب البقري. أما إذا احتوت هذه الحلويات دهناً حيوانياً وكان من الخنزير خصوصاً، فإنَّها تحرم شرعاً، وهذا الاحتمال وارد وممكن في بعض منتجات الدول غير الإسلامية، ولهذا فعلى المسلم أن يحذر من ذلك، ويتفحص ما يتناوله من هذه المنتجات.
سابعاً: حكم أطعمة (الكوشر) (Kosher):
شاع في الغرب استعمال مصطلح (الكوشر) للدلالة على الطعام المطابق للمواصفات المطلوبة في الشريعة اليهودية، ومن ميزات هذا الطعام عدم احتوائه على لحم الخنزير، ولا شحمه، ولا أي شيء من مشتقاته، كما أن اللحوم الموصوفة به؛ كلحوم البقر، والخاروف، والدجاج، مذبوحة ومذكاة حسب الطريقة اليهودية، وهي مطابقة للذكاة الشرعيَّة الإسلامية، وعلاوة على ذلك فإن الجلاتين الموصوف (بالكوشر)، والمستعمل في بعض الحلويات (كالجلو)، يتكون من مكونات نباتية، وليس فيه شيء من الخنزير، كما يمكن أن يكون في المنتجات الغربية.
وبناءً على ما تقدم، فإنَّ الأصل في حكم هذه الأطعمة هو الإباحة؛ وذلك لقوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ)[5: المائدة]، وبعدم وجود ما ينافي الشرع فيها من إخلال بشروط الذكاة، أو استعمال لحم الخنزير، أو شحمه، أو غير ذلك ممَّا حرم في شرعنا الحنيف.
ولكن هذه الإباحة ليست على إطلاقها، فقد أثبتت الدراسات الحديثة أنَّ طعام (الكوشر) يستعمل كأداة اقتصادية لمصلحة اليهود، يجنون من ورائها ملايين الدولارات، فهم يتقاضون على العلامة التجارية الموسومة ب (الكوشر) رسوماً باهظة؛ ولذلك فإنَّه يحرم للمسلم شراء هذه المنتجات دون حاجة حقيقية، لما فيها من استغلال وإعانة لمن يعادي المسلمين من هؤلاء الكتابيين([241]).
المطلب الرابع: المستجدات الفقهية المتعلقة بالأطعمة التي تقدمها المطاعم المعاصرة:
أولاً: حكم الأطعمة النباتية (Vegetarian Food):
من الأطعمة الحديثة التي شاعت - في الغرب خصوصاً- ما يسمى (بالطعام النباتي): (Vegetarian Food)، وتوصف به بعض المنتجات الغذائية فيكتب عليها عبارة: (صالح للنباتيين): (Suitable for vegetarians)، والتي تعني كون هذا الطعام لا يحتوي أي منتجات حيوانية، من لحم أو شحم، وهو مكون من الخضراوات لا غير، وقد أصبح هذا النوع من الطعام عالمياً، تقدمه معظم المطاعم على موائدها تلبية لطلب العديد من الناس الذين لا يأكلون إلاَّ النباتات، أو يتحفظون من أكل اللحوم لسبب ما.
وممَّا لا شك فيه أنَّ هذه الأطعمة غير مخالفة للشرع؛ لأنها من الطيبات التي تستسيغها الأنفس السليمة ولا ضرر فيها، قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)[4: المائدة]، ففي هذه الأطعمة مندوحة وسَعة للمسلمين في البلاد غير الإسلامية للاستعاضة عمَّا حرمه الشرع من الطعام، بتناول ما لا حرمة فيه ولا شبهة، خاصة في حالة تعذر وجود طعام حلال في تلك البلاد.
ثانياً: حكم الأطعمة التي تقدمها مطاعم (البيتزا) (Pizza Restaurant):
تكثر المطاعم المختصة بتقديم وجبة (البيتزا) في بلاد المسلمين وخارجها، كما تقدم هذه الوجبة في العديد من المطاعم ذات الطبيعة المتعددة -من حيث الوجبات المقدمة-. وتتكون هذه الوجبة من: الجبن، والخبز أو - العجين-، وبعض الخضروات، وصلصة البندورة، ويضاف إليها أحياناً المرتديلا، أو شيء من اللحوم - بمختلف أنواعها-([242]).
وعلى هذا فإنَّ لهذه الوجبة نوعين رئيسيين؛ نوعاً نباتياً محضاً، ونوعياً فيه لحم حيواني. أما الأول فمباح اتفاقاُ، لعدم وجود محظور فيه، أو ما فيه شبهة، وأما الثاني، فيشترط لجوازه تحقق الشروط الشرعية سابقة الذكر في اللحم المضاف إليه، فلا يحل ما أضيف إليه لحم أو مرتديلا خنزير، أو لحم حيوان غير مذكى مثلاً.
ثالثاً: حكم الأطعمة التي تقدمها المطاعم البحرية (Sea Food Restaurant):
مرَّ سابقاً أنَّ طعام البحر، وصيده، وميتته كلها حلال، لقوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ)[96: المائدة]. ولذلك فإنَّ الأصل في الطعام الذي تقدمه المطاعم البحرية في مختلف الدول هو الحل، إلاَّ إذا دخل في هذه المأكولات ما يحظره الشرع.
رابعاً: حكم الأطعمة التي تقدمها المطاعم العالمية (International Restaurants) في البلاد الإسلامية:
استجد في الآونة الأخيرة وجود مطاعم ذات علامات تجارية دولية موحدة، ولها فروع في معظم دول العالم، وتتبع جميعها نفس المصدر -وهو مصدر غربي غالباً- من حيث المواصفات والمقاييس المعتمدة في إعداد وجبات الطعام، وفي ضمان جودته، مثل مطاعم: (McDonalds)، (Hardees)، (Burgerking)، (Applebees)، (Chilli House)، وغيرها، والتي أصبحت شائعة في البلاد العربية أيضاً، وهي من مظاهر العولمة البارزة، وتقدم هذه المطاعم وجبات سريعة مختلفة، مثل ما يسمى بـ: (الهامبرغر) (Hamburger)([243])، وغيرها، وهنا يثار سؤال مهم حول مدى مشروعية ما تقدمه هذه المطاعم من أطعمة مختلفة. وهل يجب السؤال عن مصدر ونوع اللحوم والأطعمة التي تقدمها هذه المطاعم في بلاد المسلمين؟ وعن طريقة طبخها في حالة وجود أطعمة محللة وأخرى محرمة في نفس المطعم؟
يدور حكم الإباحة مع توفر الشروط الشرعية المقررة لحل الأطعمة في شرعنا الحنيف أو عدمها. وهذا الأمر يعود إلى طبيعة البلد أو الشركة المزودة باللحوم لفروع هذه المطاعم، وإلى نوع اللحوم التي تقدم فيها ومدى مطابقتها للشرع. ومن الملاحظ أنَّ فروع هذه المطاعم الموجودة في الدول الإسلامية تلتزم غالباً بالأحكام الشرعية في الأطعمة، فهي لا تقدم لحوم الخنزير ومشتقاته، ولا الخمور غالباً، كما أنَّها تأخذ لحومها من مصادر محلية غالباً، أو من مراكز تلتزم بالذبح على الطريقة الشرعية في إحدى الدول الإسلامية المجاورة. وبما أنَّ المسلم لا يستطيع تحديد مصدرها ابتداءً حيث أنَّه من المحتمل عقلاً أن يكون مصدر اللحوم المقدمة في هذه المطاعم لا يلتزم بالشروط الشرعية، فعلى هذا فإنَّه يجب على المسلم أن يسأل عن طبيعة هذه الأطعمة ومصدرها للمرة الأولى على الأقل، فقد شرع الله لنا سؤال أهل الاختصاص حتى ولو كانو من غير المسلمين كما -ذكر المفسرون([244]) فيما يقتضيه قوله تعالى: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" [سورة النحل: 43]. فإن تبيَِّن من السؤال أنَّها موافقة للشرع في ذلك جاز له الأكل منها، وإن كانت مخالفة بأن كانت تخل بشرط شرعي، فلا تحل له. وإن كانت مستوردة من الخارج فينطبق عليها ما مرَّ آنفاً من أحكام اللحوم المستوردة، والأفضل التورع منها والامتناع عن تناولها في هذه الحالة، إلاَّ إذا تأكد أو غلب على الظن انطباق الشروط الشرعية فيها -والمتعلقة بطعام أهل الكتاب، وغيرها-.
وإذا ما ثبت لنا لزوم السؤال عن طبيعة الطعام الذي تقدمه هذه المطاعم فإنَّه يتبادر للذهن بعض الأسئلة، وهي: هل الأصل تصديق من يُسأل من موظفي المطاعم أم لا؟ وهل يختلف هذا الحكم بين كون المسؤول مسلماً أو غير مسلم، وبين أن يكون السؤال في ديار الإسلام أو في غيرها؟
والجواب على ذلك هو أنَّ الأصل هو تصديق الموظف المسؤول؛ لأنَّ الأصل براءة ذمة الإنسان عموماً[245] -كما مرَّ-؛ وذلك سواءً كان مسلماً أو غير مسلم، وسواءً كان ذلك في بلاد الإسلام أو خارجها، إلاَّ أنه على المسلم أن يجتهد بقلبه وحسه في مدى صدق من يسأل، فإن غلب على ظنه صدق الشخص المسؤول، فيجوز له الأكل من ذلك الطعام، وإلاَّ فإنه لا يجوز له تناوله، فإن ظهر كذبه لاحقاً، فالإثم عليه لا على السائل.
خامساً: حكم الأطعمة التي تقدمها المطاعم في الدول غير الإسلامية:
يمكن تقسيم حالات التعامل مع هذه المطاعم إلى قسمين بحسب الحالات والملابسات؛ وذلك كالآتي:
1- أن تكون الحالة العامة للطعام - اللحوم خصوصاً- معلومة في البلد غير الإسلامي:
فلو كانت الحالة العامة في البلد غير الإسلامي الالتزام بقواعد الشرع وأحكامه في الأطعمة من كون الذابح من أهل الكتاب، وكون الذبيحة ممَّا يحل أكله وذكي وفقاً لما قرره الشرع من انهار الدم، أو كانت بلداً كتابية في غالبية سكانها، وعموم نظامها، فإنَّ الطعام هذا يأخذ حكم طعام أهل الكتاب وهو الإباحة، فيجوز للمسلم استصحاب هذا الأصل[246]، واعتبار ما تقدمه المطاعم المختلفة من لحوم غير الخنزير مباحة له، على أنَّها من طعام أهل الكتاب، فالحكم يدور مع الحالة العامة في البلد؛ وذلك أخذاً بعموم قوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ)[5: المائدة]، وعموم قوله عز من قائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ)[87-88: المائدة]، ولأنَّ الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يأتي دليل يغير أو يبدل[247]، ولا يجب على المسلم في هذه الحال السؤال عن هذه الأطعمة بالتفصيل، إلاَّ ما يؤكد له عدم وجود لحم خنزير فيها.
أما إذا كان الأصل عكس ذلك - بأن كانت الحالة العامة تقوم على مخالفة الشروط الشرعية-، فإنَّه لا يحل للمسلم أكل شيء من هذه الأطعمة حتى يتأكد من تحقق الشروط الشرعية فيها، وعلى هذا فإنَّه يجب على المسلم في الدول غير الإسلامية التي يغلب على الظن عدم التزامها بمقتضى القواعد الشرعية في الأطعمة السؤال والتحري عن مصدر اللحوم، وطريقة ذبحها، وتحقق بقية الشروط الشرعية فيها، أخذاً بالقاعدة الفقهية "اليقين لا يزول بالشك"[248]. فإن بانَ له، أو غلب على ظنه حرمتها - وهو الغالب في معظم المطاعم في الدول غير الإسلامية-، فإنَّ له أن يستعيض عنها بالوجبات والأطعمة النباتية الصِرفة، والأطعمة البحرية، شريطة إلاَّ تكون مطبوخة بآنية أو بزيت استخدم في طهي أطعمة محرمة شرعاً.
الخلاصة: يعتمد الحكم الشرعي لما تقدمه المطاعم الحديثة في العصر الحديث على عدة أمور، بحسب ما ورد في النصوص الشرعية المختلفة الواردة في الأطعمة المحللة والمحرمة، فيجوز اتفاقاً الطعام النباتي والبحري، ويشترط لحل الطعام الذي فيه لحم حيواني ما يلي:
أ. أن لا يكون لحم خنزير ولا يدخله شيء من مكوناته؛ كشحمه.
ب. أن يكون لحم حيوان أو سمك ممَّا يباح أكله.
ج. أن يكون مذكى بإنهار دمه، وأن يكون الذي ذكاه مسلماً، أو كتابياً.
د. أن لا يذكر غير اسم الله عليه.
ه. أن لا يطبخ الطعام بزيت اختلط فيه لحم الخنزير، أو شحمه، أو طعام غير حلال مطلقاً؛ وذلك لأنَّ شحم ودم هذا الحيوان يذوب في الزيت، وتنتقل أجزاء منه إلى الطعام الحلال فيجتمع الحلال والحرام، ومن المقرر فقهياً أنََّه: (إذا اجتمع الحلال والحرام غلب جانب الحرام)[249].
و. أن لا يكون الطعام طبخ بآنية يطبخ فيها الخنزير، أو ما حرم في شرعنا دون تنظيف وتعقيم كافٍ.
ولكن يستثنى من الحكم السابق من اضطر لتناول طعام غير حلال أو لم يثبت حله له لشبهة ما؛ وذلك في حالة الضرورة، أو الحاجة الماسة؛ لأنَّ "الضرورات تبيح المحظورات"، قال السيوطي ممثلاً لهذه القاعدة الفقهية: "والطعام في دار الحرب يؤخذ على سبيل الحاجة؛ لأنَّه أبيح للضرورة، فإذا وصل عمران الإسلام امتنع، ومَن معه بقية ردها"([250])؛ وذلك لما مرَّ آنفاً من مقتضى قوله جل وعلا: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِِّثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[3: المائدة]، وقوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[173: البقرة].
2- حكم الأطعمة في حالة الجهالة بالحالة العامة أو في حالة كونها مجهولة المصدر أو مجهولة المكونات:
تقدم أنَّ الحالة العامة للأطعمة في البلد هي المرجع لحكم أكلها للمسلم، ولكن تتعذر معرفة هذه الحالة الغالبة في بعض الأحوال، وفي هذه الحال فإنَّ على المسلم أن يجتهد ويتحرى في ذلك بحسب علمه وحسه، فيتجنب ما لم يطمئن إليه قلبه فهو من قبيل الإثم، لقوله صلى الله عليه وسلم: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس"[251]، فإن ترجح له أنَّ الأغلب الحل لكونه طعام أهل كتاب في الغالب، جاز له أكله مع الكراهة، وإلاَّ فإنَّه يحرم عليه الأكل منه، والأفضل التورع منه خروجاً من الشبهة.
المطلب الخامس: تطبيقات معاصرة للصيد:
أولاً: الصيد بالبنادق النارية:
شاع في العصر الحديث استعمال بنادق نارية لصيد الحيوانات البرية، تعتمد على إطلاق قذائف وطلقات من الرصاص ذات أحجام وأشكال مختلفة حسب نوع الحيوان المنوي صيده، وتخريجاً على ما ورد في الحديث الشريف من أحكام الصيد، فإنَّ هذا النوع من الصيد جائز شرعاً، إذا أصابت الطلقة الحيوان إصابة تخرق جسمه، وتنهر دمه، وهذا هو الاحتمال الغالب في حالة استعمال هذه البنادق لما تتصف به من قوة قذف. فقد روي عن رسول الله عليه الصلاة وسلام: (إذا رميت بالمِعْرَاض وذكرت اسم الله فأصاب فخرق فكُل، وإن أصاب بعرضه فلا تأكل)([252])، وهذا نص في بيان اشتراط إنهار دم الصيد بالجرح لحل أكله.
ثانياً: الصيد ببنادق ضغط الهواء:
وممَّا استجد أيضاً استعمال بنادق تقذف رصاصاً مدفوعاً بضغط الهواء؛ وذلك لصيد بعض أنواع الطيور من مسافة قريبة، ويفضل بعض هواة الصيد هذا النوع من البنادق للصيد لما فيها من سلامة وسهولة استعمال ومواءمة لطبيعة العديد من الطيور. ويعتمد الحكم الشرعي لهذا النوع من الصيد على طبيعة إصابة الحيوان أو الطير؛ فإن جرحته الرصاصة واخترقت جسمه بحيث نزف دمه من الإصابة، فإنَّه يجوز أكله، أما إذا لم يكن الجرح مؤثراً فمات من قوة الضربة فهذا موقوذ لا يحل أكله، إلاَّ إذا أدرك بحياة مستقرة كرمشة عين، أو حركة جناح، أو ذيل، فذُكي الذكاة الشرعية بشروطها، فإنَّه يجوز أكله عندئذ.
ويلاحظ في هذه البنادق ضعف قذيفتها، فيحرم استعمالها لاصطياد الحيوانات الكبيرة، أو ذات الجلد المتين، لما في ذلك من مُثلَة وتعذيب، ولما فيه من شبهة من حيث كونه لا يخرق الحيوان فيجعله يموت وقذاً، فلا يجوز أكله شرعا عندئذ، ويكون قتله صبراً بدون فائدة، وهذا محرم يقيناً. فقد روي عن ابن عمر أنه كان يقول بالمقتولة بالبندقة: (تلك الموقوذة)، ذكره الجصاص، واحتج أيضاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخَذْف، أو كان يكره الخَذف، وقال: (إنَّه لا يصاد به صيد ولا يُُنكأُ به عدو، ولكنها قد تكسِرُ السن، وتفقأ العين)[253]، وبحديث عدي بن حاتم، أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أرمي بالمِعْرَاض فأصيب أفآكل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا رميت بالمِعْرَاض وذكرت اسم الله فأصاب فخرق فكُل، وإن أصاب بعرضه فلا تأكل)[254]. وفي رواية أخرى عن عدي بن حاتم أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض، فقال: (ما أصاب بحدِّه فخَرق فَكُل، وما أصاب بعرضه فقَتَل فإنه وقيذٌ فلا تأكل)؛ وعقب الجصاص[255] على هذه الأدلة بقوله: (فجعل ما أصاب بعرضه من غير جراحة موقوذة وإن لم يكن مقدوراً على ذكاته، وفي ذلك دليل على أن شرط ذكاة الصيد الجراحة وإسالة الدم وإن لم يكن مقدوراً على ذبحه واستيفاء شروط الذكاة فيه)، هذا والله أعلم.
الخاتمـة
أظهرت الدراسة السابقة مدى عظمة وسماحة الشريعة الإسلامية الحنيفة، وما تختص به من شمول ودقة وواقعية، من خلال ما شرعته من أحكام للأطعمة، اتسمت بالمحافظة على حياة الإنسان وصحته، والتخفيف عنه، والرأفة به، وهي أيضاً توثق صلته ببارئه في كل الأمور حتى فيما يتعلق بطعامه، فجعلت من هذا الموضوع أمراً تعبدياً، لا بد من مراعاة رضا الخالق جلت قدرته فيه، وقد توصلت هذه الدراسة إلى جملة من النتائج في هذا البحث، يأتي ذكر أهمها فيما يلي:
1. حل بهيمة الأنعام وهي الأزواج الثمانية -من الإبل والبقر والضأن والمعز- إلاَّ ما استثناه تبارك وتعالى منها. أما مناط إباحة الطعام غير المسكوت عن حكمه في الشرع؛ فكونه طيباً لا يضر جسم الإنسان، والمرجع في ذلك الطب لا العرف، فإذا ثبت من ناحية علمية وطبية عدم وجود ضرر من أكله فلا بأس به، وإلا فلا يصح ذلك.
2. حرمة لحم الخنزير وشحمه وشعره وكل توابعه، بالإضافة إلى حرمة ما استثناه تعالى مما حلله من بهيمة الأنعام؛ من الميتة والدم وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب، إلاَّ ما أدرك من ذلك بالذكاة وفيه رمق حياة وتحريم الاستقسام بالأزلام.
3. هنالك عدة مناطات لحرمة الأطعمة واللحوم وردت في هذه الآية، يدور معها حكم التحريم وجوداً وعدماً، يجب أخذها بعين الاعتبار عند الاجتهاد في أحكام المستجدات الفقهية في مجال الأطعمة واللحوم المعاصرة:
أ. حبس الدم في الحيوان المأكول وعدم إنهار دمه؛ وذلك بصرف النظر عن طريقة موته.
ب. الشرك بالله عند الذبح؛ قولاً أو قصداً أو فعلاً.
ج. قتل الحيوان افتراساً من حيوان آخر.
4. وردت أمور غير معلولة في الآية الكريمة الثالثة من سورة المائدة يجب اجتنابها وهي حرمة لحم الخنزير وجميع توابع هذا الحيوان، وحرمة الدم.
5. كل ما حرم في هذه السورة المباركة إنما حظر لمقصد شرعي جليل وهو حفظ النفس، فحكمة التشريع تتجلى بصورة بهية فريدة في هذه الآيات التي أباحت لنا ما ينفع من الطيبات، وحرمت علينا ما يضر من الخبائث.
6. علة وجوب التذكية هي إنهار الدم بقطع الودجين، والحكمة من ذلك إخراج الدم من جسم الحيوان؛ وذلك لما له من مضار ومفاسد للإنسان
7. إباحة ما حرم من الأطعمة والأشربة في حالة الاضطرار وخشية الموت بشرط عدم ابتغاء أكلها وعدم الرغبة فيه أصلاً، وبشرط عدم الأكل منها بما يزيد عن سد الحاجة الضرورية، وتتجلى مقاصد التشريع الحنيف في هذه الإباحة بأعظم حال فهي ترسخ حفظ الضروريات، وبخاصة حفظ النفس البشرية.
8. حل الطيبات وحرمة الخبائث، وحل الصيد بالكلاب وسباع البهائم والطير إذا علمت وأرسلت من صاحبها المسلم وذكر اسم الله عليها عند إرسالها.
9. حل ذبائح أهل الكتاب - اليهود والنصارى- دون المجوس، إذا لم يعلم أنهم ذكروا غير اسم الله عليها أو قتلوها بغير الطريقة الشرعية عندنا -بأن يكونوا خنقوها أو وقذوها أو غير ذلك مما حرم في شرعنا-، وينطبق هذا على اللحوم المستوردة من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين في عصرنا هذا.
10.يجوز استخدام الأنفحة في الأطعمة لعدم مخالفتها لنص شرعي وعدم ضرها.
11.يحرم استعمال الخمائر والجلاتين المستخرجة من الخنزير.
12.يجوز تعليب الأطعمة شرعاً، واستعمال المواد الحافظة غير المضرة بالصحة، ولكن يجب الانتباه لوصف مكونات الأطعمة المعلبة المختلفة خاصة المستوردة منها، والتأكد من عدم وجود ما يخالف الشرع فيها.
13.يعتمد الحكم الشرعي لما تقدمه المطاعم الحديثة على مدى تحقق الشروط الشرعية في الطعام الذي تقدمه، فيجوز أكل الطعام النباتي والبحري، ويشترط لحل الطعام الذي فيه لحم حيواني توفر الشروط الشرعية فيه.
14.ما يسمى بالطعام النباتي والذي شاع وجوده في المطاعم والمعلبات الغربية جائز شرعاً؛ لأنَّه من الطيبات، ولعدم احتوائه على ما يخالف الشرع.
15.لا يجب على المسلم السؤال عن مصدر وطبيعة تذكية الحيوان إذا كانت الحالة العامة في البلد الذي يقدم فيه تقتضي حل الطعام لكونه بلداً يلتزم بأحكام الإسلام أو بأحكام طعام أهل الكتاب المباح شرعاً، أما إذا كانت الحالة العامة العكس فلا يجوز أكله إلاَّ بعد السؤال عنه والوقوف على طبيعته. وإذا جهل الإنسان الحالة العامة فعليه أن يجتهد، والأولى أن يتورع عن اللحوم بالذات، وله أن يستعيض عنها بما اتفق على حله كالأطعمة النباتية، والبحرية.
16.يحل للمسلم أكل طعام (الكوشر) لأنَّه من طعام أهل الكتاب، ولكن يكره له ذلك سداً لذريعة الاستغلال، حيث أنه يستخدم أداة اقتصادية استغلالية في التجارة المعاصرة خاصة في الغرب.
17.يدور حكم الصيد بالبنادق المعاصرة مع إصابة الصيد بجرح مدمي وعدمه، فما أصيب بجرح فمات به حل، وما أصيب بطلقة غير جارحة فمات وقذاً حرم أكله.
التوصيات:
في نهاية هذا البحث، والذي نسأل الله عز وجل أن يجعله في ميزان أعمالنا، نوصي بما يأتي:
1. الاهتمام باللحوم المستوردة من خارج بلاد المسلمين، وتشكيل لجان خاصة للتأكد من مطابقتها للشروط الشرعية السابقة كلها.
2. استيراد الحيوانات مأكولة اللحم حية وذبحها في بلاد المسلمين خروجاً من إشكالات كثيرة، أو إرسال جزارين مسلمين ليذبحوها قبل تصديرها إلى بلاد المسلمين.
3. التأكد من مصدر اللحوم المعلبة، والمرتديلا، وتشديد الرقابة عليها من الناحية الشرعية والطبية، وتفعيل دور دوائر المواصفات والمقاييس في تحديد جودة المعلبات، ومدى وجود ضرر من بعض المواد الحافظة، بالإضافة إلى ضرورة تفعيل الرقابة الشرعية من قبل دور الإفتاء الشرعية في البلاد الإسلامية، ووزارات الشؤون الإسلامية، ووجوب تدخلها في التدقيق على الأطعمة المحللة والمحرمة التي تدخل بكثرة إلى بلاد المسلمين والتأكد من انطباق الشروط الشرعية عليها ليجوز أكله، وذلك في ضوء الصور المستجدة العديدة.
4. نشر الوعي بين المسلمين بما يتعلق بأحكام الأطعمة المحللة والمحرمة في ضوء المستجدات المعاصرة، خاصة المقيمين في البلاد غير الإسلامية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
(*) منشور في "المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية"، المجلد (5)، العدد (3/أ)، شوال 1430هـ/ تشرين أول 2009م.
الهوامش:
الدكتور عدنان العساف / الجامعة الأردنية
الدكتورة جميلة الرفاعي / الجامعة الأردنية
استهدف هذا البحث بيان أهم قواعد وأحكام الأطعمة في الفقه الإسلامي، منطلقاً من المنظور القرآني لهذا الموضوع وفقاً لما ورد في سورة المائدة، وبمنهج فقهي مقارن في المذاهب الأربعة، وقد تضمن تخريج علل هذه الأحكام لتكون أساساً للبحث والاجتهاد فيما يستجد من الأطعمة مستقبلاً، كما ألقى الضوء أيضاً على تطبيقات معاصرة لأحكام الأطعمة الواردة في هذه الآيات الكريمة من سورة المائدة؛ كالمستجدات الفقهية المتعلقة بطريقة قتل الحيوانات مأكولة اللحم، وحكم اللحوم المستوردة من البلاد الأجنبية، والمستجدات المتعلقة بالأطعمة المعلبة وأطعمة (الكوشر)، والمستجدات المتعلقة بالأطعمة التي تقدمها المطاعم المعاصرة، كما ألقى الضوء على تطبيقات معاصرة للصيد.
تمهيد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإنَّ هذا البحث يتحدث عن الأطعمة المحللة والمحرمة، وأهم المستجدات الفقهية المتعلقة بها؛ كدراسة تطبيقية في آيات الأحكام الواردة في سورة المائدة، وهذه السورة هي آخر ما نزل من القرآن الكريم، فليس فيها منسوخ فأحكامها واجبة الاتباع.
وقد انصب هذا البحث على دراسة المنظور القرآني والفقهي لأحكام الأطعمة من خلال ما ورد في سورة المائدة، مع ذكر أسباب نزول هذه الآيات الكريمة.
ومن الملاحظ قلة الأبحاث العلمية التطبيقية المنشـورة في هذا الصدد، فرغم الجهود البحثية المبذولة في هذا الموضوع، إلاَّ أنه لا زالت الحاجة قائمة للقيام ببحث علمي مختص يناقش أحكام الأطعمة المحللة والمحرمة، وقواعدها الكلية في الفقه الإسلامي، بمنهج مقارن، منطلقاً من المصدر الأساسي في كتاب الله، ويأخذ بعين الاعتبار ما يتعلق بها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يبحث في علل هذه الأحكام، ويستقرئ مقاصد تشريعها، ثم يدرس أهم التطبيقات المعاصرة لها، خاصة في ضوء مستجدات العولمة؛ حيث انتشرت ثقافة عالمية شبه موحَّدة تنطلق من الفكر والواقع الغربي، والتي أثرت على موضوع الأطعمة، واستحدثت فيه بعض المسائل الفقهية ذات الصبغة الجديدة، والتي تحتاج إلى بحث وتأصيل في ضوء ما ورد في أحكام الشرع المتعلقة بهذا المجال، بالإضافة إلى القواعد العامة ومقاصد التشريع.
وفي ضوء ما سبق، جاء هذا البحث ليشكل أطروحة فقهية تنطلق من المنظور القرآني، وتركز بحثها في إطار المذاهب الأربعة والمذهب الظاهري، لسعة نطاق الموضوع وكثرة فروعه، وصعوبة الرجوع إلى جميع المذاهب الأخرى، وتركز على تخريج وتنقيح علل الأحكام المتعلقة بهذا الموضوع، حتى تكون قاعدة للبحث في المستجدات الفقهية التي تطرأ في هذا المجال، وقد بيّنت هذه الدراسة مقاصد التشريع الحنيف، وحِكمه الجلية في إباحة وحظر ما ورد في هذه السورة الكريمة، وعلاوةً على ذلك فقد تناول هذا البحث دراسة أحكام ما استجد من تطبيقات مهمة للأطعمة المحللة والمحرمة في الواقع المعاصر، على الصعيد الإسلامي والدولي.
مشكلة الدراسة:
تقوم هذه الدراسة على محاولة الإجابة عن الأسئلة التالية:
1- ما الأحكام والقواعد الكلية لإباحة الأطعمة وحظرها وفقاً لما ورد في سورة المائدة؟
2- ما علة حرمة الأطعمة الواردة في هذه الآيات الكريمة؟ وكيف يمكن توظيفها في الاجتهاد في المستجدات الفقهية المتعلقة بالأطعمة في الوقت الحاضر؟
3- ما مقاصد التشريع الحنيف من تحريم كل صنف من هذه الأطعمة وإباحته؟ وما أثر ذلك على الإنسان؟
4- ما علة وجوب التذكية؟ وما أهمية ذلك في التطبيق المعاصر؟
5- ما حكم الصور المستجدة لقتل الحيوانات المباحة في البلاد غير الإسلامية؟
6- هل يجب السؤال عن مصدر ونوع اللحوم والأطعمة وعن طريقة طبخها في حالة وجود أطعمة محللة وأخرى محرمة في نفس المطعم؟ وهل الأصل تصديق من سأل من موظفي المطاعم أم لا؟ وهل يختلف هذا الحكم بين كون المسؤول مسلماً أو غير مسلم، وبين أن يكون السؤال في ديار الإسلام أو في غيرها؟
7- ما حكم تناول الأطعمة المعلبة؟ وما حكم المواد الحافظة المستعملة فيها؟
8- ما حكم طعام (الكوشر) الذي شاع في الغرب؟
9- ما حكم الصور المعاصرة للصيد؛ كالصيد بالبنادق النارية، وبنادق ضغط الهواء؟
خطة البحث:
وقد احتوى البحث بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة على أربعة مباحث وهي:
المبحث الأول: الأحكام الشرعية المتعلقة بالأطعمة والصيد في الآيتين الأولى والثانية من سورة المائدة.
المبحث الثاني: أحكام الأطعمة الواردة في الآية الثالثة من سورة المائدة.
المبحث الثالث: أحكام الأطعمة الواردة في الآيتين الرابعة والخامسة من سورة المائدة.
المبحث الرابع: تطبيقات معاصرة لأحكام الأطعمة الواردة في هذه الآيات الكريمة من سورة المائدة.
وختاماً، فإننا نسأل الله أن يقينا عثرة اللسان والقلم، وأن يلهمنا السداد والرشاد في القول والعمل، إنه نعم المولى ونعم المجيب.
المبحث الأول
الأحكام الشرعية المتعلقة بالأطعمة في الآيتين الأولى والثانية من سورة المائدة
ينقسم هذا المبحث إلى مطلبين، يتناول الأول منهما سبب النزول للآية الثانية من سورة المائدة، وكرس المطلب الثاني لبحث الأحكام الفقهية المتعلقة بالأطعمة في هاتين الآيتين؛ وذلك كما يلي:
المطلب الأول: سبب نزول الآية الثانية من سورة المائدة:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[1-2:المائدة].
ذكر ابن عباس أن هذه الآية نزلت في الخطيم واسمه شريح بن ضبيع الكندي، إذ أتى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمامة إلى المدينة فخلف خيله خارج المدينة ودخل وحده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إلامَ تدعو الناس؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال: (حسن إلاَّ إنَّ لي أمراء لا نقطع أمراً من دونهم، ولعلَّي أسلم وآتي بهم). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان الشيطان. ثم خرج من عنده، فلما خرج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعقبي غادر، وما الرجل مسلم، فمر بسرْح[1] المدينة فاستاقه فطلبوه فعجزوا عنه. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام القضية سمع تلبية حجاج اليمامة، فقال لأصحابه: هذا الخطيم وأصحابه. وكان قد قلد هدياً من سَرح المدينة وأهدى إلى الكعبة، فلما توجهوا في طلبه أنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ) يريد ما أشعر لله وإن كانوا على غير دين الإسلام، وقال زيد بن أسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية حين صدهم المشركون عن البيت وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصد هؤلاء كما صددنا أصحابهم". فأنزل الله تعالى: (لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ)[2: المائدة] أي لا تعتدوا على هؤلاء العمار إن صدكم أصحابهم[2].
المطلب الثاني: الأحكام الفقهية للأطعمة الواردة في الآيتين الأولى والثانية من سورة المائدة:
أولاً: إباحة بهيمة الأنعام:
لقد منّ الله عز وجل علينا إذ جعلنا مسلمين، وبعث لنا رسولاً أميناً، وأنزل علينا كتاباً عظيماً، وشرع لنا شرائع كثيرة، فأحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث ليخرجنا من الظلمات إلى النور بإذنه تعالى إنه هو الكريم الحليم، وهذه الآيات التي نحن بصدد بحث أحكامها هي الآيات الأولى من سورة المائدة والتي أنزلت وقت انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وهي سورة مدنية بالإجماع[3]، تناولت الكثير من الأحكام الشرعية العملية التي نظمت كثيراً من أفعال المكلفين في مختلف الموضوعات الفقهية، فقد تناولت أحكام العقود والذبائح، والصيد، ونكاح الكتابيات، والردة، وأحكام الطهارة، والبغي، والإفساد في الأرض، وأحكام الخمر، والميسر، وقتل الصيد[4].
وفي هذه الآية الكريمة أباح الله عز وجل لنا بهيمة الأنعام، والبهيمة اسم لكل ذي أربع، سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعقلها، ومنه باب مبهم أي مغلق، وليل بهيم، وبهمة للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له[5].
والأنعام اسم للإبل والبقر والغنم، وقد سميت بذلك لما في مشيها من اللين، وقيل بهيمة الأنعام هي وحشية كالظباء وبقر الوحش والحمر الوحشية[6].
وقد ورد خلاف في تحديد المقصود من بهيمة الأنعام؛ فقال السدي والربيع والضحاك: إنه يشمل كل الأنعام، وقال ابن عباس والحسن: إنه يختص بالإبل والبقر والغنم، وقال قوم: إنه يتعلق بالظباء، والبقر والحمر الوحشية، وقيل غير ذلك، وقد اختار ابن العربي القول بأنها الإبل والبقر والغنم[7]، وذهب الطبري الشافعي إلى أنها تتناول الجميع، واستدل على ذلك باستثناء الصيد منها بقوله تعالى: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ)[1: المائدة][8]، وهو القول المختار لصحة دليله، والله تعالى أعلم.
وذبائح الأنعام من البقر والإبل والغنم حلال بالإجماع[9]، فيصح الانتفاع بلحومها وجلودها وعظامها وأصوافها وأوبارها وأشعارها[10].
ويستثنى من هذه الإباحة ما حرم الله عز وجل علينا؛ وذلك بقوله سبحانه وتعالى: (إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ )، فقد حرم الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك[11]، فقال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ)[3: المائدة]، ونهيه عليه الصلاة والسلام: "عن كل ذي ناب من السباع"[12]. ففي الحديث تحريم لصنف لم يذكر في القرآن وهو الحيوان المفترس، والسنة قد تأتي بأحكام لم يأتِ بها القرآن الكريم، ويجب الأخذ بها؛ وذلك لما ذكر في التمهيد: (أنه عليه السلام قال: "إلاَّ أنّي أوتيت الكتاب ومثله معه"، الا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلاَّ أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه"[13].
ثانياً: الأصل في المطعومات الإباحة أم الحظر؟
لقد ورد النص الشرعي في هذه الآية بإباحة بهيمة الأنعام، والذي يستلزم بالضرورة تساؤلاً علمياً مهماً وهو: هل الأصل في المطعومات الإباحة أم الحظر؟
اهتم الإسلام بالجسد الإنساني اهتماماً عظيماً، وتمثل هذا الاهتمام بالأحكام التي شرعها الله عز وجل من واجبات ومحرمات ومندوبات ومكروهات ومباحات؛ لأنَّ من مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ الإنسان، نفسياً وبدنياً.
اهتم الإسلام بالجسد الإنساني اهتماماً عظيماً، وتمثل هذا الاهتمام بالأحكام التي شرعها الله عز وجل من واجبات ومحرمات ومندوبات ومكروهات ومباحات؛ لأنَّ من مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ الإنسان، نفسياً وبدنياً.ومن التشريعات التي أوجدها الله عز وجل للإنسان الأكل الحلال دون إسراف، لذا قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً)[168: البقرة]، وقال سبحانه: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) [145: الأنعام]، وقال سبحانه: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)[157: الأعراف]، وقد نص الله عز وجل على أنواع من المطعومات بالإباحة، وعلى أخرى بالحرمة، أما ما لم يرد دليل عليه مما سكت عنه في الشرع فالأصل فيه الإباحة، لذا لا يجوز الحكم بحرمة أي نوع من الأطعمة ما لم يقم الدليل على ذلك[14]، وتبقى الإباحة الأصلية مستصحبة - مستمرة - إلى أن يأتي دليل بالحرمة[15]. وقد لا نجد في القرآن أو السنة أو الإجماع، نصاً يبيح لنا التوصل إلى يقين تام بحرمة حيوان معين، أو إباحته، فكان هذا مبعث اختلاف العلماء في المرجع الذي يستندون إليه بهذا الخصوص، هل هو الذوق العربي أم لا؟ وكان ذلك على رأيين هما:
القول الأول: إن استطاب هذا الحيوان أهل يسار وأهل طباع سليمة من أكثر العرب حل أكله، قاله الشافعية[16]، والحنابلة[17]، وقالوا إن الأصل الإباحة، واستدلوا بما يلي:
1) قوله تعالى: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) [145: الأنعام]، وقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)[4: المائدة].
وجه الدلالة من الآيتين: إنَّ الله عز وجل أحل لنا الطيبات بشكل عام، فكل طيب مباح وكل خبيث محرم، والذي يحدد لنا طيب الطعام أو حرمته -إن لم ينص عليه- هو الذوق العربي لأنَّ القرآن نزل عليهم([18]).
2) قوله عليه الصلاة والسلام: "وما سكت الله عنه عفو"[19].
وجه الدلالة: وضح الحديث الشريف أن الذي لم يحرمه الله ولم يتحدث فيه فهو من المباحات، لذا فالمطعومات التي لم ينص عليها مباحة، إلا إذا ورد دليل يحرم ذلك.
3) اشتراط أن يستطيب هذا الطعام أكثر العرب؛ لأنَّ العرب أولى الأمم، إذ هم المخاطبون أولاً؛ ولأن الدين عربي[20].
4) الأصل في الأكل الحل؛ لأنَّ الأعيان مخلوقة لمنافع العباد[21].
القول الثاني: الحل والتحريم في المطعومات لا يتعلق بالذوق العربي من ناحية الاستطابة أو الاستخباث؛ لأنَّ العرب كانوا يستطيبون أشياء حرمها الله عز وجل كالخمر والميتة والمنخنقة، قاله الحنفية([22])، والمالكية([23])، والحنابلة في قول([24]).
الرأي المختار: إذا ثبت أن هذا الطعام لا ضرر فيه على صحة الإنسان ونفسه، فهو مباح لنا، ولا بأس في ذلك شرعاً، ولا يشترط استطابة العرب له، ولا يصح القول بأنَّ نزول القرآن الكريم على العرب يجعلهم مسؤولين عن تحديد الطيب والخبيث من الطعام؛ لأنَّ فيهم المسلم وغيره، وفيهم الصالح والمتهم بدينه أيضاً، فمناط إباحة الطعام نفعه وفائدته، وخلوه ممَّا يلحق الضرر بجسم الإنسان، والمرجع في ذلك الطب لا العرف، فإذا ثبت من ناحية علمية وطبية عدم وجود ضرر من أكله فلا بأس به، وإلاَّ فلا يصح ذلك، والله أعلم.
والخلاصة: أن كل ما كان طيباً من الحيوانات ولم يرد نص على تحريم أكله، فإنه يباح أكله شرعاً، وكل ما كان عكس ذلك من الخبائث فإنه لا يجوز أكله، وهذا الضابط نصت عليه الآية الرابعة من هذه السورة كما سيأتي بيانه لاحقاً.
المطلب الثالث: الأحكام الفقهية للصيد الواردة في الآيتين الأولى والثانية من سورة المائدة:
الصيد لغة: صاد الرجل الطير وغيره يصيده صيداً[25] أي أمسكه. والصيد هو الحيوان الممتنع الحلال، غير المملوك[26]. وقيل هو ما كان ممتنعاً حلالاً لا مالك له[27]، وقيل هو ما يصاد ويباح لغير المحرم في غير الحرم[28].
والصيد مشروع لقوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ)[96: المائدة]، وقوله تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا)[96:المائدة]، وقوله تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ)[2: المائدة].
ولقوله عليه الصلاة والسلام: لعدي بن حاتم: "إن أرسلت كلبك وسميت فكُل، قلت: فإن أكل منه؟ قال: فلا تأكل فإنَّه لم يمسك عليك إنَّما أمسك على نفسه"، قلت: أرسلت كلبي فأجد معه كلباً آخر، قال: "لا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر"[29].
وقوله عليه السلام: "ما صدت بقوسك، فذكرت اسم الله عليه فكُل، وما صدت بكلبك المعلم، فذكرت اسم الله عليه فكُل وما صدت بكلبك غير المعلم، فأدركت ذكاته فكُل"[30]، ويحرم الصيد إن كان للهو أو لظلم الإنسان والحيوان.
وقد نهى تبارك وتعالى عن إحلال الصيد في حالة الإحرام، فقال عز من قائل: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ)[1: المائدة].
وحمله بعض العلماء على معنى ألا يتلى عليكم من أكل الصيد، والتأويل يؤدي إلى إسقاط حكم الاستثناء، الثاني وهو قوله تعالى: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ)[1: المائدة]، ويجعله بمنزلة إلا ما يتلى عليكم وهو تحريم الصيد على المحرم؛ وذلك تعسف في التأويل[31].
وقد رجح ابن العربي رأياً له في هذا المقام وهو أنَّ تقدير الكلام هنا: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلين صيدها وأنتم حرم[32].
الرأي المختار: هو ما ذهب إليه القرطبي من أن ما كان صيداً فهو حلال في الإحلال دون الإحرام، وما لم يكن صيداً فهو حلال في الحالتين[33]، فالآية تضمنت حكم الإباحة في الصيد لغير المحرم، وهو واضح من إشارة نصها[34]، وهو متناسب مع سياق الآية نصاً وإشارة. والآية الكريمة وإن كانت مجملة في حق أحكام وآلية الصيد المجزئ شرعاً، إلا أن السنة الشريفة تكفلت بتفصيل تلك الأحكام.
والخلاصة في حكم الصيد ما يلي:
1. إنَّ رمي الصيد يجب أن يكون بحاد مما يجرح فيخرق، وفي غير المحدد خلاف، لا داعي لذكره هنا.
2. إن أصاب الصائد الحيوان بما يقتل ضرباً دون أن يجرحه، فلا يجوز أكله.
3. إن أكل الكلب أو الحيوان المعلم للصيد من الحيوان فلا يضر شرعاً، أما إذا أكل معه حيوان آخر فلا يجوز أكل ذلك الصيد في هذه الحالة.
4. إنَّ علة إباحة الصيد هي إهراق دم الحيوان بجرحه، وعلة حرمته هي قتله مع حبس الدم في جسمه.
وبناء على ذلك؛ فإنَّه لا يجوز شرعاً أكل ما صيد من الحيوانات بفخ يشنق فيه الحيوان فيختنق ويحبس الدم في عروقه، كما يفعل بعض الناس في عصرنا هذا، فهذا ممَّا حرمه شرعنا لما فيه من ضرر، كما سيأتي تفصيله في المبحث الآتي.
المبحث الثاني
أحكام الأطعمة الواردة في الآية الثالثة من سورة المائدة
المطلب الأول: سبب نزول هذه الآيات:
قال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِِّثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[3: المائدة].
وسبب نزول هذه الآية كما ورد في الروايات عن حيان[35] قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة فأنزل الله [حكم] الميتة فأكفأت القدر"[36].
وقد ذكر الواحدي في سبب نزول قولـه تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)[3: المائدة] أنه جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال: أي آية هي، قال اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية يوم عرفة في يوم الجمعة، رواه البخاري[37] عن الحسن بن صباح، ورواه مسلم[38] عن عبد الله بن حميد كلاهما عن جعفر بن عون"[39].
المطلب الثاني: الأطعمة المحرمة الواردة في هذه الآية الكريمة:
احتوت الآية الثالثة من سورة المائدة أحكاماً شرعية كثيرة تتعلق بعدة موضوعات، أهمها تحريم بعض الأطعمة وإباحة المحظورات من الأطعمة في حالة الضرورة. وقد ذكرت هذه الآية الكريمة بنصها جملة من الأمور المحرمة، والذي يستوجب وقفة تدبر وتأمل في تخريج علة تحريمها، لتكون أساساً يرتكز عليه في بحث أحكام الأطعمة المستجدة في وقتنا الحالي، وقد كرس هذا المطلب لتفصيل ذلك، فيما يلي:
أولاً: الميتة:
هي الحيوان الذي يموت حتف أنفه([40])، وقيل هو ما قتل على هيئة غير مشروعة إما في الفاعل أو المفعول به([41]). وقيل الميتة هي: "كل حيوان كان موته حتف أنفه من علة به غير جناية أحد عليه أو كان موته من ضرب ضارب إياه أو انخناق منه أو انتطاح أو فرس"([42])، وقيل هي: "اسم لما مات من الحيوان من غير ذكاة"([43]).
لا خلاف بأن الميتة محرمة على المسلمين[44]، وقد حرمتها سورة المائدة كما مر، وسورة البقرة في قوله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ)[173: البقرة]، فالحيوان المباح أكله المقدور عليه - أي على تذكيته- إذا لم يذبح ذبحاً شرعياً فإنَّه يحرم بالإجماع[45]، ويعتبر ميتة.
وتحريمها موافق للعقل كل الموافقة، إذ إنّ الحيوان إذا ما مات حتف أنفه بقي دمه في عروقه وتعفن وفسد، فيحصل من أكله في هذه الحالة مضار عظيمة([46]).
ويستثنى من هذا التحريم ميتة السمك والجراد؛ وذلك لحديث الرسول عليه السلام: "أحلت لنا ميتتان ودمان، فالميتتان السمك والجراد، والدمان الكبد والطحال"[47]، وقوله عليه الصلاة والسلام: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"[48].
فالسمك والجراد يباح ميته بالإجماع[49]، أما السمك الطافي فقد اختلف الفقهاء في حكمه كما يلي:
القول الأول: يباح أكل السمك الطافي عند المالكية[50]، والشافعية[51]، والحنابلة[52]، واستدلوا
بما يلي:
1. أنّه عليه السلام: "أكل من العنبر، وهو الحوت الذي طفا"[53].
2. أنَّ ميتة البحر موصوفة بالحل لحديث: "الحل ميته"[54].
القول الثاني: ويكره - تحريماً- أكل الطافي عند الحنفية[55]، وقد فرقوا بين ما انحسر عنه الماء وما لم ينحسر عنه، فما انحسر عنه الماء فيباح"[56].
واستدل هؤلاء بقوله عليه السلام: "إذا طفا فلا تأكله، وإذا جزر عنه فكُله"[57].
ووجه الدلالة: أنَّ الحديث نص على عدم أكل ما طفا من السمك.
الرأي المختار: تكره ميتة البحر إذا ما طفت؛ وذلك لكون أدلة إباحتها أقوى سنداً، ولكنَّ القول بكراهتها أقرب لاحتمال فسادها وضررها، والله أعلم.
أما بالنسبة للجراد فقد اختلف الفقهاء أيضاً على قولين هما:
الرأي الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية([58])، والشافعية([59])، والحنابلة([60])، والظاهرية([61]) إلى القول بإباحة ميتة دون تذكية؛ وذلك للحديث السابق: "أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد"([62]).
وقال ابن أبي أوفى: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أو ستاً، وكنَّا نأكل الجراد"[63].
الرأي الثاني: هو ما ذهب إليه الإمام مالك من القول بحرمة الجراد الميت، وأنَّه لا بد من تذكيته حتى يحل أكله[64]؛ لأنَّه صيد البر، ولذا يجب على المحرم بقتله جزاء يليق به، فلا يحل إلاَّ بالقتل كما في سائر أنواع صيد البر، وقالوا: "حديث ابن عمر: (أحلت لنا ميتتان...)، حديث ضعيف"، ولا خلاف بين العلماء بأنَّ القرآن الكريم لا يُخصَّص بحديث ضعيف[65].
الرأي المختار: إباحة ميتة الجراد دون ذكاة للأحاديث الواردة العامة، والتي لم تذكر قيد الذكاة لحلها، ولضعف الأدلة القائلة بوجوبها، أما ما ذكره المالكية من ضعف حديث ابن عمر: "أحلت لنا ميتتان..."، فيرد عليه بأنَّ هذا الحديث ليس بضعيف، فقد صححه وحسنه غير واحد من المتقدمين والمتأخرين من علماء الحديث الشريف[66]، فهو إذن معتبر في الحكم، والله أعلم.
ثانياً: الدم:
والمقصود بالدم الوارد في هذه الآية الكريمة هو الدم المسفوح، لقوله تعالى: (أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا)[145: الأنعام]، قال ذلك: ابن عباس، وسعيد بن جبير[67].
وقد اتفق الفقهاء[68] على حرمة الدم ونجاسته، وأنَّه لا يؤكل ولا ينتفع به؛ لأنَّه يحمل فضلات الجسم، بما فيها من أمور ضارة (كالجراثيم، والمايكروبات، وغيرهما مما يسبب الأمراض)، ومن ثمّ إذا شربه الإنسان فقد يناله الضرر، وينتقل إليه المرض الذي يحمله الدم.
أما الدم الباقي في اللحم وعظامه فهو طاهر[69]؛ لحديث السيدة عائشة عندما كانت تسأل عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، فكانت تقول: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا)[145: الأنعام] ثم تقول: "كنَّا نطبخ البُرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره"[70]، كما أنَّ في التحفظ منه مشقة، والدين الحنيف رفع المشقة والحرج عن المكلفين، قال القرطبي: "ومن أصول الشرع أنَّه كلما حرجت الأمة في أداء العبادة، وثقل عليها سقطت العبادة عنها"[71].
ويجدر بالذكر أنَّ الظاهرية خالفوا جمهور الفقهاء، فقالوا بأنَّ الدم كله حرام، فقد حرم في أول الإسلام في مكة الدم المسفوح وحده، ثم حرم بالمدينة الدم عموماً، فمن لم يحرم إلاَّ المسفوح وحده، فقد أحل ما حرم الله، واستدلوا بأنَّ الآية التي حرمت الدم جملة هي آية المائدة، وقد ورد أنَّها آخر سورة نزلت، لذا ما وجدنا فيها من حرام فيجب علينا أن نحرِّمه[72].
الرأي المختار: هو حرمة تناول الدم المسفوح لورود النص في هذا، سواء كان دم حيوان مأكول اللحم أم محرم الأكل أو دم إنسان، ويستثنى من حرمة الدم المسفوح الباقي في العروق ولمشقة تجنبه.
ولا بد من الإشارة إلى أنه يجوز أن يعطى الدم للمريض عن طريق العروق والأوردة، إذا دعت لذلك دواعي الطب الحديث، كالعمليات الجراحية وغيرها، لما في ذلك من إنقاذ لحياة الإنسان، والقول بهذا يحقق مقصداً ضرورياً من مقاصد الشريعة الغراء وهو حفظ النفس، كما أنَّ حقن الدم في العروق يختلف طبياً عن تناوله عن طريق الفم والجهاز الهضمي، والله أعلم.
ثالثاً: الخنزير:
لحم الخنزير محرم بالإجماع([73])، وقد خص اللحم بالذكر ليدل على تحريم عينه سواءً ذكي أم لم يذك، وليعم الشحم والغضاريف وغيرها([74]).
أما إذا استعمل الخنزير للضرورة أو لحاجة جاز، ولكن في وقتنا الحالي، اندفعت الضرورة باختراع الآلات والأدوات، فلا داعي لاستعمال ما يؤخذ من الخنزير([75]).
ويحرم شحم الخنزير أيضاً كما يحرم لحمه، والآيات الكريمة وإن نصت على لحم الخنزير إلا أن المراد الخنزير وجميع أجزائه، وقد خص الله اللحم؛ لأنَّه أهم ما ننتفع به من الحيوان المذبوح، وسائر أجزائه كالتبع له، ولا يرخص في الأكل من لحمه أو شحمه إلاَّ في حالة الاضطرار الحقيقي إذا لم يجد الإنسان ما يسد به رمقه، فيتناول بقدر الحاجة فقط[76]، لقوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[173: البقرة].
رابعاً: ما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبُع:
1) ما أهل لغير الله به:
ويقصد به ما رفع الصوت به لغير الله تعالى عند ذبحه، والمراد بالإهلال ما يذبح له من الطواغيت كاللات والعزى[77].
لا خلاف بين العلماء[78] في حرمة أكل ما ذبح وذكر عليه اسم غير اسم الله؛ لأنَّه مما أهل به لغير الله[79]. وذلك لما فيه من شرك[80]، وأنَّ في هذا العمل ذلاً وخضوعاً لغير الله[81]. لذا فإنََّ من ذبح للجنّ، أو ذبح لصنم، أو صليب لا تحل ذبيحته للمسلم[82]، كما أنَّ ذبيحة المجوسي والوثني والزنادقة والدروز[83] لا تحل أيضاً، لقوله عليه السلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير آكلي ذبائحهم وناكحي نسائهم"[84][85].
وقد اختلف الفقهاء في حكم ذبيحة من ترك التسمية عمداً، على قولين هما:
القول الأول: حرمة ذبيحة من ترك التسمية عمداً، قاله جمهور الفقهاء وهم الحنفية([86])، والمالكيـة([87])، والحنابلة([88])، واستدل الجمهور بحرمة ذبيحته بما يلي:
1- قوله تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ)[121: الأنعام].
ووجه الدلالة: أن النهي للتحريم[89]، أي لا تأكلوا الميتة التي لم تقصد ذكاتها[90].
2- حديث عدي بن حاتم الطائي فإنه قال قال عليه السلام: "فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على كلب غيرك"([91]).
ووجه الدلالة: حرم أكل ما لم يسم عليه من الكلاب أي عللت الحرمة بترك التسمية[92].
3- الإجماع على حرمة أكل ما تركت تسميته عمداً. قال فيه أبو يوسف: إن متروك التسمية عامداً لا يسع فيه الاجتهاد"[93]. وقال ابن مودود: "فالقول بإباحة متروك التسمية عامداً مخالف للإجماع"[94].
القول الثاني: تباح ذبيحة من ترك التسمية متعمداً، قاله الشافعي[95]، واستدل على ذلك بما يلي:
1- قال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ... إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ)[3: المائدة].
وجه الدلالة: أباح الله عز وجل لنا أن نأكل المذبوح المذكى المباح، ولم يذكر في الآية التسمية[96].
2- قال تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ)[5: المائدة]. وجه الدلالة: إن الله تعالى أباح ذبائح أهل الكتاب وهم لا يسمون غالباً فدل على أنها غير واجبة([97]).
3- قوله عليه السلام: "ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر"[98].
ووجه الدلالة: أنَّ الحديث نص في عدم اشتراط التسمية في الذبح.
4- وما روي عن عائشة رضي الله عنها: "أنَّ قوماً قالوا: يا رسول الله إنَّ قومنا حديثو عهد بالجاهلية يأتونا بلحام لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا أنأكل منها؟ فقال: "سموا الله عليه وكلوا"[99].
ووجه الدلالة: أنَّ الحديث فيه نص بعدم التسمية، فلو كانت التسمية واجبة لما أجاز الأكل
مع الشك[100]، وعلى ذلك فإنَّه يباح لنا أن نأكل ما لم يسمَّ عليه.
الرأي المختار: هو رأي جمهور الفقهاء؛ لأنَّ الله عز وجل نص على عدم أكل ذبيحة من لم يذكر اسم الله على ذبيحته، وإن كنَّا لا نقول بما صرح به الحنفية من انعقاد الإجماع على ذلك، لوجود خلاف بيٍِّن بين الفقهاء في دلالة النص، والحكم الذي يدل عليه. والمقصود هنا حرمة ذبيحة المتعمد لترك التسمية دون الناسي لها؛ لأنَّ فعل من ترك التسمية عامداً يدل على ضعف في دينه. أما من نسي التسمية فتؤكل ذبيحته، بلا تثريب؛ لأنَّ من طبائع الإنسان النسيان، وما الإنسان بمعصوم عن الغفلة والسهو، وقد منَّ الله على هذه الأمة بأن رفع الحرج عنها في شرعه الحنيف[101]، وأيضاً لحديث: "تجاوز الله عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه"[102].
2) المنخنقة: وهي التي تخنق بحبل وشبهه[103]، وهي التي تموت في خناقها[104]، ولا خلاف بين الفقهاء على حرمة أكلها، بأي جهة وطريقة اختنقت بها[105]، لقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ... وَالْمُنْخَنِقَةُ)[3: المائدة]. والمنخنقة محرمة إذا لم تلحق وهي فيها حياة وتذبح قبل أن تموت نتيجة للخنق، ففي قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ)[3: المائدة]، وقوله تعالى: (مَا ذَكَّيْتُمْ) عائد إلى ما تقدم: من المنخنقة، والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع عند عامة العلماء، فمن ذبح الحيوان قبل أن يموت، فإنَّه يباح له أكله[106].
3) الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع:
الموقوذة: هي التي تضرب بخشبة وشبهها حتى تشرف على الهلاك([107])، والوقذ يعني الضرب، والموقوذة هي التي تضرب حتى الموت([108]). ويدخل في الموقوذة كل ما قتل منها على غير وجه الذكاة الشرعية قاله الجصاص([109]). وعموم قوله: (والموقوذة) عام في المقدور على ذكاته وفي غيره ممَّا لا يقدر على ذكاته)، واستدل على عموم الموقوذة في المقدور على تذكيته وغيره، بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه قال: (يا أيها الناس هاجروا ولا تهاجروا، وإياكم والأرنب يحذفها أحدكم بالعصا أو الحجر يأكلها، ولكن ليُذَكِّ لكم الأسل الرماح والنبل)([110])، فلا يجوز في الصيد قتل الحيوان بما لا يجرحه ويسيل دمه، كالحصاة أو عرض الرمح - أي عصاته -؛ لأنَّه مات وقذاً أي ضرباً، وحبس دمه فيه، وقد جاء في الحديث الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا رميت بالمِعْرَاض وذكرت اسم الله فأصاب فخرق فكُل، وإن أصاب بعرضه فلا تأكل) ([111]).
المتردية: هي التي تسقط من جبل أو مرتفع أو في بئر فتموت[112]. وقيل المتردية هي الواقعة في الردى أي الهلاك([113]). والأول أقوى لدلالة اللفظ عليه.
النطيحة: هي الشاة تنطحها الشاة فتموتان، أو الشاة تنطحها البقر والغنم[114]، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما. وعرفها ابن عطية بقوله: (كل ما مات ضغطاً فهو نطيح)[115].
وما أكل السبع: أي ما عدا عليه السبع وهو الحيوان المفترس وافترسه فمات[116]، ولقد "نهى عليه الصلاة والسلام عن أكل كل ذي ناب من السباع"[117]، ويقصد بالسباع ما كان له ناب يعدو به على الحيوانات ويتقوى به عليها[118].
لقد اختلف العلماء فيما إذا أشرف الحيوان على الموت ثم ذكي قبل موته؛ وذلك على قولين هما:
القول الأول: يجوز أكل الحيوان الذي غلب على الظن موته وذكي قبل موته، وهو قول الحنفية[119]، ورواية عند المالكية[120]، والشافعية[121]، ورواية عند الحنابلة[122]، والظاهرية[123]، واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى: (إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ)[3: المائدة].
وجه الدلالة: استثناء متصل استثنى به سبحانه ما أدركت ذكاته ممَّا ذكر في الآية قبل هذا الاستثناء([124]).
2- ما روي عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب أنه وجد شاة تموت فذبحها فتحركت فسأل زيد بن ثابت، فقال: إن الميتة تتحرك، فسأل أبا هريرة، فقال: كلها إذا طرفت عينها أو تحركت قائمة من قوائمها([125]).
3- ما رواه بسنده عن النعمان بن علي قال: "رأى سعيد بن جبير في دارنا نعامة تركض برجلها فقال: ما هذه؟ قلنا: وقيذ[126] وقعت في بئر، فقال: ذكوها، فإنَّ الوقيذ ما مات في وقذه"[127].
القول الثاني: انَّه لا بد أن يكون في الحيوان حياة مستقرة، أي لو تُرك الحيوان لعاش يوماً أو بعض يوم، وهذا عند الشافعية[128]، وعند الحنابلة هي حركة مستقرة[129]، فإن كان كذلك حل أكله، وإلاَّ فلا، قاله أبو يوسف من الحنفية([130])، ورواية عن الإمام مالك([131])، والشافعية[132]، ورواية عن الحنابلة[133].
ودليلهم أنَّ الاستثناء منقطع، والمعنى لكن ما ذكيتم من غيرها، فلا يحرم عليكم.
وسبب الخلاف هو الاستثناء في قوله تعالى: (إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ) هل هو متصل أم منقطع؟ فمن ذهب إلى أنه استثناء متصل، قال بأنه أخرج الجنس بعض ما تناوله اللفظ، فما قبل الاستثناء حرام، أما ما بعده فهو حلال، أما من رأى أنه منقطع فرأى بأن الاستثناء هنا لا تأثير له في الجملة السابقة، وعلى هذا فتقدير الكلام: ما ذكيتموه من غير الحيوانات المتقدمة فهو حلال تتمتعون به كما تشاؤون، ويؤيد القول بأن الاستثناء متصل إجماع العلماء على أن الذكاة تحلل ما يغلب على الظن أنه يعيش[134].
واحتج من قال بانقطاع الاستثناء بأنَّ التحريم إنَّما يتعلق بالحيوانات بعد موتها، وهي لا تذكى بعد الموت فيكون الاستثناء منقطعاً، وقد رُدَّ على هذه الحجة بأنَّ الاستثناء متصل باعتبار ظاهر الحلال، فإنَّ ظاهر الأمر في هذه الحيوانات إنها تموت بسبب ما أصيبت به، فتكون حراماً بحسب الظاهر، إلاَّ ما أدرك حياً قبل موته وذكي فإنَّه يكون حلالاً، فالتحريم لا يتعلق بها حقيقةً إلاَّ بعد موتها بدون ذكاة، فإذا ما ذكيت وهي لا تزال على قيد الحياة، كانت مساوية لغيرها من بقية الحيوانات المذكاة، فلا وجه للقول بعدم حلها[135].
الرأي المختار: هو القول الأول؛ لأنَّ الآية نص في الاستثناء، فهو متصل وغير منقطع، ومن ثمَّ فإن الذكاة إذا ما لحقت الحيوان المصاب بأحد الأمور الواردة في الآية الكريمة فإنَّه يحل بها إذا ما غلب على الظن وجود حياة فيه وذلك بوجود قرين؛ كطرفة عين، أو حركة ذيل، وما شاكل ذلك.
خامساً: تخريج[136] وتنقيح[137] مناط حرمة هذه الأطعمة والمقصد التشريعي من تحريمها.
لما كانت دراسة وتقرير مناط حرمة الأطعمة الواردة في الآية الكريمة أساساً لتطبيقها في الاجتهاد في المستجدات الفقهية المتعلقة بهذا الموضوع الهام، وهو ما يعرف بعملية تحقيق المناط، كُرس هذا الفرع للوقوف على ذلك.
من الملاحظ أنَّه قد وردت عدة أوصاف للحيوان الذي يحرم أكله منها في الآية الكريمة: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ...)[3: المائدة]، منها: الخنـق، والوقذ - والذي يقتضي الضـرب، والضغط-، والتـردي، والسقوط، والافتراس، والنطح، والأكل من السبع، وكل هذه الأوصاف منضبطة ومناسبة لحكم التحريم فهي علل لتحريم كل حيوان يتصف بها، ويجمع بينها وصف عام يصلح أن يكون مناطاً عاماً لحرمة الحيوانات المتصفة به، وهو حبس الدم في الحيوان مباح الأكل بالوفاة دون أن يذكى قبل موته.
وينفرد ما ذبح على النصب بعلة خاصة به وهي الشرك بالله في الذبح، وهي ظاهرة من فصله عن بقية الأوصاف الواردة وتأخيره عن الاستثناء المتعلق بإباحة ما ذكي بعد تحقق أحد هذه الأوصاف في الحيوان. قال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)[3: المائدة].
الخلاصة: هنالك عدة مناطات لحرمة الأطعمة واللحوم وردت في هذه الآية، يدور معها حكم التحريم وجوداً وعدماً، نقررها فيما يلي حتى تكون أساساً لدراسة حكم الأطعمة واللحوم في الوقت الحاضر:
1. حبس الدم في الحيـوان المأكول وعند إنهار دمه؛ وذلك بصرف النظر عن طريقة موته.
2. الشرك بالله عند الذبح قصداً أو قولاً أو فعلاً.
3. قتل الحيوان افتراساً من حيوان آخر.
ولكن هناك أمور غير معلولة في الآية الكريمة، لوجود خفاء في علاقتها بالحكم -الحرمة-، وإن كانت الحكمة من تحريمها واضحة، وهي ما فيها من ضرر، ومنها ما يلي:
1. حرمة لحم الخنزير وجميع توابع هذا الحيوان.
2. حرمة الدم.
سادساً: المقصد التشريعي من تحريم هذه الأطعمة.
من الثابت بالاستقراء أن الله عز وجل عندما يضع تشريعاتٍ ما فإنه يقصد من هذه التشريعات المحافظة على مصالح عباده، قال الشاطبي: "إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً"[138]. وقال أيضاً رحمه الله: "تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق"([139]). فقد منّ الله علينا عز وجل وعلا بأن شرع لنا ما يحفظ مصالحنا الضرورية والحاجية والتحسينية، وآية تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير إلى آخر الآية تهدف إلى المحافظة على المقاصد الضرورية الخمسة عموماً؛ وهي الدين، والنفس والعقل والنسل والمال.
وقال ابن تيمية رحمه الله: "فكل ما نفع فهو طيب، وكل ما ضر فهو خبيث، والمناسبة الواضحة لكل ذي لب أن النفع يناسب التحليل، والضرر يناسب التحريم والدوران، فإن التحريم يدور مع المضار وجوداً في الميتة والدم ولحم الخنزير وذوات الأنياب والمخالب والخمر وغيرها مما يضر بأنفس الناس وعدماً في الأنعام والألباب وغيرها"[140].
كذلك يقول: "الطعام يخالط البدن ويمازجه وينبت منه فيصير مادة وعنصراً له، فإذا كان خبيثاً صار البدن خبيثاً فيستوجب النار، والجنة طيبة لا يدخلها إلاَّ طيب"[141].
فالحكمـة من تحريم هذه المطعومات تعـزى لما فيها من ضـرر لجسم الإنسان، لذا حرمت تحقيقـاً للصحة السليمة والعافية للمرء في حياته، وهذا كله يحقق مقصد التشريع الحنيف في حفظ النفس، وهو من الضروريات الخمس.
وفي تحريم الميتة حكمة عظيمة، لما يترتب على أكلها من أضرار، إذ يسبب أكلها مرض الجمرة الخبيثة الظاهرة، وهي قرحة جلدية مزمنة على الوجه أو اليدين، والجمرة الخبيثة الرئوية، والجمرة الخبيثة المعوية، وكذلك قد يسبب تناولها تسمماً غذائياً، وعسراً في الهضم، كما أن من أضرارها الإصابة بالتهاب الكبد الوبائي، وظهور أكياس مائية في الدماغ، والكبد، والرئتين، وغير ذلك[142].
وتظهر الحكمة من تحريم الدم في أنَّه يحمل سموم الجسم وفضلاته، ويؤدي ذلك إلى رفع البولينا في الدم لتنذر بحدوث فشل كلوي، كما أن شرب الدم يسبب إلى عسر في الهضم، ولا تتحمله المعدة، كما يحتوي على مواد تدعى (إنتيجينات)، والتي يتفاعل معها الجسم فيكوّن أجساماً مضادة، ممَّا قد يسبب حساسية تنتج من تفاعل (الإنتيجينات) مع هذه الأجسام، كما أنه قد ينقل التهاب الكبد الوبائي، وبشكل عام يعتبر الدم وسطاً صالحاً لنمو شتى أنواع الجراثيم الضارة بالإنسان[143].
أما الأسباب التي لأجلها حرم لحم الخنزير فعلاوة على ما ذكرنا آنفاً في حق الحيوانات المحرمة في هذه الآية الكريمة فإن هذا الحيوان حرم لأسباب خاصة به كشف عنها العلم الحديث. ومن الأمراض التي تسببها قذارة الخنزير التي كشفها العلم مرض الزحار الزقي وتسببه طفيلة تدعى (Balantdium coli) وتعيش في أمعاء الخنزير، كما يسبب داء ويل اليرقاني النزفي وهذا يسبب نزف في الكبد والكلية وهبوط القلب، كما يسبب حصبة الخنزير.
كما أنَّ أكل لحم الخنزير يسبب العديد من الأمراض؛ فأكل لحمه يسبب دخول الدودة الوحيدة الشريطية إلى المعدة، وهي تتحول في الأمعاء إلى طور الدودة وتكبر، وتعيش ملتصقة بجدار الأمعاء، وتسبب للإنسان الإمساك والألم والإحساس بالجوع، وكذلك دخول دودة الشعرية الحلزونية، والديدان المستديرة، والديدان الخطافية والبلهارسيا، ويسبب التهاب الدماغ وعضلة القلب والسل الرئوي وجراثيم كثيرة، كما أنه يسبب السمنة وعسر الهضم([144]).
وغني عن البيان أنَّ من يأكل من لحم الخنزير يتأثر بصفات هذا الحيوان وأخلاقه في الأغلب، فالخنزير معدوم الغيرة على عرضه، ومن الظنون أن تنتقل هذه الصفة إلى آكليه([145]). كما قيل أن لحم الخنزير يورث الأخلاق الخبيثة، فهو أعظم حيوان في أكل كل شيء، ولا يترك شيئا من الخبائث[146]. وقد أجمع العلماء على تحريم لحمه ودمه وسائر أجزائه[147].
المطلب الثالث: أحكام التذكية المأمور بها في هذه الآية الكريمة:
أولاً: الخلاف فيما يجب قطعه في التذكية:
اتفق العلماء على أن أكمل الذبح - التذكية- هو ما يقطع فيه الودجان والحلقوم والمريء جميعاً[148]، ولكنهم اختلفوا فيما يجب قطعه عند الذبح على أقوال مختلفة؛ وذلك كما يلي:
القول الأول: يجب قطع أكثر الأوداج لتأكل، ثلاثة أو أربعة من الأوداج، وهذا ما ذهب إليه أبو حنيفة - رحمه الله-[149]، وقال محمد وأبو يوسف - من الحنفية-[150] لا تأكل الذبيحة حتى يقطع الحلقوم والمريء وأحد العرقين. واستدلوا بما يلي:
1- قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تأكل الشريطة؛ فإنَّها ذبيحة الشيطان"[151]، وهي التي تذبح بقطع الجلد دون أن تفرى أوداجها، وتترك حتى تموت، فهذا الحديث يدل على أن عليه قطع الأوداج، والأوداج اسم يقع على الحلقوم والمريء.
2- قوله صلى الله عليه وسلم: "كل ما أنهر الدم وأفرى الأوداج، ما خلا السن والظفر"[152].
وجه الدلالة: أن هذا الحديث يشير إلى اشتراط فري الأوداج في الذكاة[153].
3- أنَّ الأكثر في القطع يقوم مقام الكل[154].
القول الثاني: لا تصح الذكاة إلاَّ بقطع الودجين، وهذا قول الإمام مالك[155]، واستدل هؤلاء بما يلي:
1- قال عليه السلام: "كل ما أفرى الأوداج ما لم يكن قرض ناب أو حز ظفر"[156].
وجه الدلالة: ينص الحديث على وجوب قطع الودجين لقوله عليه السلام: ما أفرى الأوداج.
2- إن الموت بقطع الأوداج يطيب اللحم به، ويفترق فيه الحلال وهو اللحم، من الحرام وهو الدم[157].
القول الثالث: يصح قطع الحلقوم والمريء ولا يحتاج إلى الودجين، قاله الشافعي[158]؛ لأنهما مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معهما حياة، وهو الغرض من الموت.
القول الرابع: يجب قطع الحلقوم والمريء والعرقين اللذين بينهما، وهو رأي الحنابلة في رواية عنهم - أنه يجزئ قطع الحلقوم والمريء[159].
القول الخامس: يجزئ قطع بعض هذه الآراب المذكورة فأسرع إليها الموت كما يسرع من قطع جميعها، فأكلها حلال، فإن لم يسرع الموت فليُعِد القطع ولا يضره ذلك شيئاً[160]، قاله الظاهرية.
واستدل ابن حزم على قوله - بعدم التحديد - بأنه تبارك وتعالى قال: (إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ)، والذكاة الشق، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذبح والنحر فيما تمكن منه فوجب أن لا يتعدى حده عليه الصلاة والسلام، وقد أمر عليه الصلاة والسلام بالإراحة، فصح أن كل ذبح وكل شق قال به أحد من العلماء فهو ذكاة، وإذ هو ذكاة فإن المذكي به خارج من التحريم إلى التحليل، ولو أن تحديد بعض الآراب أو جميعها بالقطع ضروري لنا لحدده لنا ربنا سبحانه وتعالى وأعلمنا به، فحاشا لله من أن يُضيّع إعلامنا بما افترضه علينا[161].
الرأي المختار: أنه يجب تذكية الحيوان - المباح أكله شرعاً- بإنهار دمه، والأفضل في ذلك قطع الودجين، لورود النص الشرعي في ذلك، ولا دليل على اشتراط قطع أكثر من ذلك كالحلقوم والمريء أو أحدهما. بل إنّه لا علاقة لهما بمقصود التذكية لكون الأول مجرى التنفس، والآخر مجرى الطعام، وهما ليسا مجرى للدم الذي يراد تذكية الحيوان منه، والله أعلم.
ثانياً: حكم موضع الذبح الواجب في الذكاة:
ناقش العلماء حكم الذبح من خلف الرقبة (من القفا)، وموضع الذبح المشروع، وحكم من رفع يده قبل تمام الذكاة، ويأتي بيان هذه الأحكام فيما يلي:
وذكر القرطبي إجماع العلماء على أن الذبح إذا كان في الحلق تحت الغلصمة مهما كان الذبح تتم به الذكاة الشرعية. واختلفوا فيما ذبح فوقها وجازها إلى البدن هل يكون ذلك ذكاة شرعية أم لا؟ وذلك على قولين، وروي عن مالك أنها لا تؤكل[162].
وقد اختلف العلماء فيما إذا كان الذبح من القفا هل يجزئ ذلك ويعتبر شرعياً أم لا؟
القول الأول: عدم جواز الذبح من القفا، ولو استوفى القطع وأنهر الدم وقطع الحلقوم والودجين، وهو قول الإمام مالك -رحمه الله-([163]). واستدل المالكية لذلك بما يلي:
1- إنها كانت تذبح في الجاهلية للأصنام ويهل بها لها، فأمر الله أن ترد إليه ويتعبد بها إليه، وهذا يستلزم أن يكون لها نية مخلصة وحل مخصوص.
2- أنَّه ذبح عليه الصلاة والسلام في الحلق، ونحر في اللبة، وقد روي عن أبي هريرة إنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال: "إنَّما الذكاة في الحلق واللبة"[164]، فبيَّن بذلك محلها الشرعي.
3- قوله عليه السلام: "ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكُل"[165]، فإذا لم يفعل شيء من ذلك زال منها حظ التعبد[166].
القول الثاني: أنَّها تحل إذا ذبحت من القفا وتؤكل، قاله الشافعي([167])، وابن حزم([168])، واستدلوا بما يلي:
1- أنَّ المقصود -وهو إنهار الدم- قد حصل فيجزئ ذلك ويحل الأكل منها[169].
2- أنَّه سبحانه وتعالى لم يحدد لعباده شيئاً يقيدهم فيه في هذا المجال، ولم يكن ليخفي علينا -جل وعلا- أمراً من أمور ديننا، فلا وجه لأي تحديد بلا دليل[170].
القول الثالث: موضع الذكاة في الحيوانات المقدور عليها يكون في اللبة وما فوق ذلك إلى اللحيين، قاله أبو حنيفة([171]). وقد ذكر القرطبي الخلاف فيمن رفع يده قبل تمام الذكاة ثم رجع على الفور وأكملها على رأيين، الأول: أنه يجزئه، والثاني أنه لا يجزئه، ثم رجع الأول؛ وذلك لأنَّ الذابح قد جرحها أولاً ثم ذكاها، وهي في حياتها مستجمعة فيها([172]).
وقال ابن حزم في هذه المسألة بأن على الذابح أن يقطع البعض من هذه الآراب فإن أسرع الموت إليهما كما يسرع من قطع جميعها فأكلها حلال، فإن لم يسرع فليعد القطع ولا يضره ذلك شيئاً[173].
الرأي المختار: إنّ العلة في تحليل الحيوان المذبوح إنهار الدم، بصرف النظر عن جهة الذبح، فلم يثبت تحديد موضع الذكاة في الحلق واللبة حصراً، إن كان ذلك هو الأصل والسنة لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما ما روي عن أبي هريرة فحديث ضعيف. ولكن من السنة أن تكون الذكاة كما فعل عليه السلام -في الحلق واللبة-؛ وذلك بأن يكون الذبح في الرقبة وبقطع الودجين، وبشكل فوري -دون انقطاع أو تردد-، ومن المكروه في الذبح التباطؤ لما فيه من تعذيب للذبيحة، والله أعلم.
ثالثاً: تخريج وتنقيح مناط (علة) وجوب التذكية وحكمة مشروعيتها:
باستقراء الآيات الكريمة وما ورد فيها من أوصاف فإنَّنا نستنتج أنَّ علة وجوب التذكية هي إنهار الدم، والحكمة من ذلك إخراج الدم من جسم الحيوان، لما له من مضار ومفاسد للإنسان؛ وذلك بدليل تحريم الميتة والدم عموماً في الآية السابقة، وتحريم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة أيضاً، وكلها تشترك باحتباس الدم فيها وعدم إنهاره إلى الخارج، وبدليل الحديث الشريف السابق أيضاً والذي أوجب استعمال الأدوات التي تنهر الدم، ولم يقبل البادح أو الضعيف من أدوات الذبح؛ لأنها لا تهرق الدم بقوة، والله أعلم.
المطلب الرابع: حكم أكل المحرمات في حالة الضرورة:
وضحت الآية السابقة حرمة الأكل من هذه الأصناف، ولكن أباحت تناولها في حالة الضرورة، لقوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[3: المائدة]. والضرورة بمعنى ضرر، والضر ضد النفع، والضر الهزال وسوء الحال([174]). والضرورة الحاجة، تقول رجل ذو ضرورة أي حاجة، والضرورة اسم المصدر الاضطرار أي الاحتياج إلى الشيء([175]).
والضرورة اصطلاحاً هي: "إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين"([176]).
وعرفت أيضاً: "هي ما تضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمسة التي اتفقت الملل على حفظها وهي النفس والدين العقل والمال والنسب"[177].
فإذا اضطر إلى أكل الطعام المحرم فإنه يحل له ذلك؛ وذلك للمحافظة على مقصد عظيم وهو حفظ النفس، وهذا باتفاق العلماء[178].
وأما بالنسبة لمقدار الأكل التي يحق للإنسان أن يأكلها، فقد اختلف فيها على قولين هما:
القول الأول: له أن يأكل ما يسد رمقه ويأمن معه الموت وليس له أن يشبع، وهو رأي أبي حنيفة([179])، ورواية غير مشهورة عند المالكية([180])، والشافعية([181])، والحنابلة([182])، ويحرم بالإجماع([183]) أن يأكل فوق الشبع([184])، واستدل هؤلاء بما يلي:
1- قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)[173: البقرة].
2- قولـه عز من قائـل: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)[195: البقرة].
وجه الدلالة من الآيتين: استثناء حالة الاضطرار من حكم التحريم الذي دلت عليه آية تحريم الميتة، فإذا اندفعت الضرورة، لم يحل الأكل كحالة الابتداء([185]).
3- احتجوا بأنَّ سبب هذه الرخصة هو الضرورة، ومتى ما زالت ارتفعت هذه الرخصة لزوال سببها([186]).
القول الثاني: للمضطر أن يأكل حتى يشبع ويتزود، وهو قول المالكية([187])، ورواية عند الشافعية([188]).
واستدلوا بأنَّ الضرورة ترفع التحريم فيعود مباحاً، ومقدار الضرورة إنما هو حالة عدم القوت إلى حالة وجوده حتى يجد[189].
الرأي المختار: والله أعلم أن المضطر له أن يأكل ما يسد رمقه وينقذه من الموت والهلاك لا غير، وإن كان بحاجة لهذا الطعام له أن يحمله ويأكل منه فيما بعد؛ وذلك لأنَّ المحافظة على النفس مقصد شرعي ضروري.
المبحث الثال
الأحكام الشرعية المتعلقة بالمطعومات الواردة في الآيتين الرابعة والخامسة من سورة المائدة
المطلب الأول: سبب النزول:
قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[4: المائدة].
ذكر في الجلالين سبب نزول هذه الآية بقوله: (روي عن أبي رافع قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ فأخذ رداءه فخرج إليه وهو قائم بالباب، فقال قد أذنا لك قال: أجل ولكنا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب، فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو فأمر أبا رافع لا تدع كلباً بالمدينة إلاَّ قتله فأتاه ناس، فقالوا: يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها، فنزلت: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ) الآية، وقيل: إن عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، وإن كلاب آل ذريح تصيد البقر والحمير والظباء، وقد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا منها فنزلت: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ...) الآية)[190].
المطلب الثاني: الأحكام الشرعية المتعلقة بالمطعومات الواردة في الآية الرابعة من سورة المائدة:
بعد ما ذكر سبحانه وتعالى في الآية السابقة ما حرمه من الخبائث الضارة لمن يتناولها في بدنه أو في دينه أو في كليهما، استثنى ما استثناه في حالة الضرورة فقال بعدها تبارك وتعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)[4: المائدة]، وقد قيل في الطيبات إنها الذبائح الحلال الطيبة، وقيل إنها ما أحل من كل شيء أن يصيبوه وهو الحلال من الرزق[191].
ورأى الجصاص أن اسم الطيبات يطلق على الحلال وعلى المستلذة؛ وذلك لأنَّ ضد الطيب الخبيث وهو حرام، فالطيب إذاً حلال[192].
وقوله عز من قائل: (وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ)[4: المائدة]، أي أحل لكم ما صدتموه بالجوارح وهي الكلاب والفهود والصقور وأشباهها، وهو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة. وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بها الجوارح من الجرح وهو الكسب؛ ومثله قوله تعالى: (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ)[60: الأنعام]، أي ما كسبتم من خير وشر.
وقوله تعالى: (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ) [4: المائدة]، فقد أنَّث الضمير في قوله: (تُعَلِّمُونَهُنَّ) مراعاة للفظ "الجوارح"، فهو جمع جارحة، ولا خلاف بين العلماء في اشتراط أمرين في تعليم الجوارح، الأول: أن يأتمر الحيوان إذا أُمر، والثاني: أن ينزجر إذا زجر، فلا خلاف في هذين الشرطين في الكلاب ولا فيما هو في معناهما من سباع الوحوش[193].
قوله: (فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)[4: المائدة] أجمع العلماء على أنه إذا كان الجارح معلماً وأمسك على صاحبه، وكان قد ذكر اسم الله عليه عندما أرسله حلَّ له الصيد، وقد وردت الأحاديث المتعددة الروايات التي تدل على ذلك.
قوله: (وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ)[4: المائدة] أمر تبارك وتعالى المؤمنين بالتسمية، وقيل إنها عند إرسال الكلب على الصيد، وقيل المراد بالتسمية هنا التسمية عند الأكل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة: "يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك"[194]. وروي عن حذيفة قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليستحل الطعام إلاَّ يذكر اسم الله عليه". فإذا نسي التسمية أول الأكل فليسم آخره؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يأكل ولم يسم الله، إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه"[195].
ومن أهم الأحكام الشرعية المستفادة من هذه الآية الكريمة ما يلي:
أولاً: إباحة الطيبات:
وهي المعلومة في الشريعة والتي تستطيبهـا النفوس الكريمة، ولا تضر المسلم لا في بدنه ولا في دينه؛ وذلك بعكس الخبائث التي أرشدت الشريعة السمحة إلى تحريمها لما فيها من ضرر على المسلم في دينه أو بدنه أو في كليهما معاً([196]).
ثانياً: الجوارح التي يحل الاصطياد بها:
ذهب جمهور العلماء من الحنفية([197])، والمالكية([198])، والشافعية([199])، والحنابلة([200])، والظاهرية([201]) إلى إباحة أكل ما صاد كل جارح معلم على العموم، سواء كان كلباً أو من ذوي الأنياب من السباع كالأسد والفهد، أو المخالب من الطير كالبازي والصقر ونحوهما.
واستدلوا بعموم الآية: (وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ) [4: المائدة]، فهي تدل على شمول كل جارح في الحكم[202].
المطلب الثالث: الأحكام الشرعية المتعلقة بالمطعومات الواردة في الآية الخامسة من سورة المائدة:
أما الآية الخامسة من سورة المائدة والتي يقول فيها سبحانه: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[5: المائدة].
لا خلاف بين الفقهاء في أنََّ غير الحيوانات من الأطعمة العادية يحل أكلها حتى لو قدمها غير الكتابي؛ مثل البوذي والهندوسي وما أشبه، مثال ذلك؛ الخضروات، والفواكه، والخبز، والكعك، ما لم تحتوي على شيء منهي عنه شرعاً[203].
تأتي هذه الآية الكريمة لتبين حكم أطعمة أهل الكتاب من الذبائح، فالمقصود بـ: "الطعام" فيها: لحوم الذبائح تحديداً، دون غيرها اتفاقاً([204])، ولكن حدث خلاف بين العلماء في من هم أهل الكتاب هل هم اليهود والنصارى والمجوس؟ أم فقط هم اليهود والنصارى؟ وذلك على قولين هما:
القول الأول: أهل الكتاب هم اليهود والنصارى قاله الفقهاء الأربعة[205]، فطعام أهل الكتاب من اليهود والنصارى وذبائحهم حلال لقوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ)[5: المائدة]، ولأكله عليه السلام من الشاة التي أهدتها إليه اليهودية ولم يسأل عن ذبيحتها أهي ذبيحة مسلم أم يهودي؟
ودليل تحريم ذبائح المجوس حديث الرسول عليه السلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير أكلي ذبائحهم، وناكحي نسائهم"[206].
القول الثاني: أهل الكتاب هم اليهود والنصارى والمجوس قال بذلك ابن حزم[207]، فطعام هؤلاء حل لنا، واستدل بقوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ)[5: المائدة]، فالمجوس يدخلون في ذلك. الرأي المختار: المجوس ليس لهم كتاب سماوي لذا لا يدخلون في أهل الكتاب، فيقتصر أهل الكتاب على اليهود والنصارى، فطعامهم وذبائحهم حلال لنا بالإجماع حتى وإن لم يذكر عليها اسم الله ولم نعلم بذلك ولم نتيقن. أما غيرهم من غير المسلمين فلا تحل ذبائحهم.
واختلف من قال بحل ذبائح أهل الكتاب في حكمها إذا علم بأنه ذكر غير اسم الله عليها:
القول الأول: يحرم أكلها، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وزفر -من الحنفية-[208]، والحنابلة[209]، والظاهرية[210]، واستدلوا لذلك: بأنها مما أهل لغير الله به باشتراط أن يذكر عليها اسم الله.
القول الثاني: يكره أكلها، وهو قول الإمام مالك[211].
القول الثالث: يباح أكلها، وإن ذكر عليها غير اسم الله كاسم المسيح عند النصارى وعزير عند اليهود، وهذه تباح إن لم يعلمها المسلم، وهذا ما ذهب إليه الشافعية[212]، واستدلوا على ذلك بما يلي:
1- بأن اشتراط التسمية على غير وجه العبادة لا يعقل، وبما أنه لا تتصور من الكافر العبادة فوجود التسمية وعدمها منه سواء.
2- أنَّ النصارى يذبحون على اسم المسيح، وقد أحل الله تبارك وتعالى لنا ذبائحهم مطلقاً، فيدخل ذلك في الحكم.
3- وقد ذكر ابن كثير وغيره الإجماع على حِل أكل ذبائحهم إذا ذكر عليها غير اسم الله، ولم نعلم بذلك ولم نتيقن[213].
الرأي المختار: اليقين لا يزول بالشك، والأصل براءة ذمة الكتابي فطعامه عموماً جائز، والحكم في الشرع للحالة العامة، فإنَّ غلب على الظن التزام الكتابي بما مر من ضوابط في بلد معين جاز طعامه للمسلمين، وإن كانت الحالة الغالبة هي عدم الالتزام بكل هذه الضوابط أو بعضها، فإنَّه لا يجوز تناول طعام أهل هذا البلد إلاَّ بعد التحري الدقيق، وللوصول إلى معرفة الحالة العامة لا بد من إرسال لجان شرعية إلى أهم المسالخ في البلد المعين، بغية التثبت وتقصي الحقيقة.
الخلاصة: نستنتج مما سبق أنه يشترط في طعام أهل الكتاب في العصر الحديث ما يلي:
1. أن يكون الذابح كتابياً.
2. أن تتحقق شروط الذكاة الشرعية وأهمها إنهار الدم.
3. أن لا يكون في طعامه ما نص على تحريمه كالدم ولحم الخنزير أو شحمه أو الإهلال لغير الله عند الذبح.
وعليه فإن ذبائح الأقوام الملحدين الموجودين في العصر الحديث ممَّن يرفع لواء اللادينية كالشيوعية، والتي تنادي بفكرة لا إله والحياة مادة، فلحومهم محرمة لأنها ذبحت بأيدي غير أهل الكتاب، والله أعلم.
وكذلك لا تحل ذبائح أهل الطوائف التي تخالف الإسلام كالزنادقة، والدروز[214]، والبهائية وعباد الشيطان وغيرهم.
المبحث الرابع
تطبيقات معاصرة لأحكام الأطعمة الواردة في هذه الآيات الكريمة من سورة المائدة
المطلب الأول: المستجدات الفقهية المتعلقة بطريقة قتل الحيوانات مأكولة اللحم:
شاعت طرق جديدة لقتل الحيوانات المباح أكلها في العصر الحديث، وتختلف أحكام هذه الطرق بحسب مدى موافقتها لأحكام التذكية وعدمها، ويأتي توضيح ذلك فيما يأتي:
أولاً: الصعق الكهربائي:
وتتمثل هذه العملية بتعريض الحيوان إلى جرعة شديدة من التيار الكهربائي تودي بحياته، وهي على هذا الوصف أشبه بالمنخنقة التي خنقت فماتت وانحبس فيها دمها، فعلة التحريم متحققة في هذه الحالة بوضوح. فالصعق الكهربائي يؤدي إلى توقف الدورة الدموية وموت الحيوان دون أن ينزل دمه، وهو مجمع للفضلات والخبائث، فيبقى في لحم الشاة بما فيه من مضار، والطريقة الشرعية لتذكية الحيوان هي "ما أنهر الدم"[215] كما يقول عليه السلام، لذا يحرم أكل هذا النوع من الحيوانات؛ لأنَّ العلة في التحريم عدم إنهار الدم الذي يحمل الفضلات الموجودة في الجسم، وهذا لا يحدث في الصعق الكهربائي، فيكون كالمخنوق.
ولكن ينبغي التنويه على أنَّ من طرق تذكية البقر والحيوانات الكبيرة تعريضها لصعقة كهربائية منخفضة بحيث أنها لا تهلك منها مباشرة بل تفقد توازنها فيسهل ذبحها (وتسمى بطريقة التدويخ)[216]، وهذه الحالة دون شك تختلف عن سابقتها حيث أنَّ الصعقة فيها ليست السبب في موت الحيوان بل الذبح، فيجوز شرعاً القيام بهذه العملية، شريطة أن تكون حياة الحيوان لا تزال مستقرة حتى تتحقق العلة الشرعية للذكاة وهي إنهار الدم، وهذا قياس على الاستثناء الوارد في الآية الكريمة بشأن ما ذكي من الحيوانات التي شارفت على الهلاك وأدركت قبل وقوعه بالذكاة، قال تعالى: (إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ)[3: المائدة]. ولكن طرق التدويخ المختلفة غير مأمونة وقد تؤدي إلى سكتة قلبية تميت الحيوان قبل تذكيته، ولها تأثير على زيادة وتبكير بداية التعفن في لحم الحيوان بعد الذبح؛ ولذلك فإنَّها تكره لهذه الأسباب[217].
ثانياً: الطعن في القلب:
استجدت طريقة حديثة لتذكية الحيوانات، وهي قتلها بطعنها في القلب، ولا شك أن هذه الطريقة تخالف سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، التي ترشد إلى الذبح أو النحر من اللبة -للحيوانات الكبيرة كالإبل-، ولكن مراجعة النصوص الشرعية في كتاب الله تثبت أن الحكم هنا يدور على وجوب إنهار الدم وعدم حبسه في جسم الحيوان، وهي علة التذكية؛ الواجبة شرعاً لحل أكل لحم الحيوان المباح، أما ما ورد في السنة الشريفة فلا يدل بالضرورة على اشتراط قطع الأوداج كما اشترط معظم الفقهاء، بل يدل أيضاً على وجوب إنهار الدم، ودليل ذلك جواز الصيد دون تذكية، إذا ما خرق جسم الحيوان وأنهر دمه بذلك، كما أنَّ النحر أيضاً يدل على ذلك، لعدم قطع الأوداج فيه، فيكتفى فيه بطعن الحيوان في اللبة أسفل الرقبة، وهي مظنة إنهار الدم. ولكن تكره هذه الطريقة للتذكية لما فيها من مخالفة للسنة، وتزداد الكراهة إذا ما اتبعت في بلاد المسلمين، لما في ترك السنة من خطر على المسلم وسلوكه.
ثالثاً: قطع الرقبة كاملة بآلة أوتوماتيكية ونحوها:
تستعمل هذه الطريقة في بلدان عديدة لتذكية الحيوانات والطيور كالدجاج، وتخريجاً على ما مرَّ تقريره سابقاً من أنَّ علة التذكية هي إنهار الدم، وليس قطع الأوداج أو الحلقوم أو المريء، فإن هذه الطريقة تجوز شرعاً لتذكية الحيوانات، بشرط أن يكون سبب موت الحيوان هو إنهار الدم الناتج عن عملية قطع الرقبة، وليس الخنق في حال التأخر في القطع بحيث يقطع الحبل العصبي في العمود الشوكي فتتوقف الدورة الدموية قبل تمام الذبح، أما إذا كان القطع سريعاً وكاملاً، فإنَّ الدم سوف ينهر بقوة، سواءً كان القطع من مقدمة الرقبة، أو من مؤخرتها، وبذلك تحل الذبيحة، والسبب في كراهة هذا النوع هو ما سبق ذكره -في النوع السابق- من مخالفة للسنة الشريفة في طريقة التذكية([218]).
رابعاً: الخنق:
لا خلاف بين الفقهاء في حرمة خنق الحيوان مأكول اللحم؛ وذلك لورود النص على حرمتها، قال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ)[3: المائدة]. ومن ثـمَّ فإنَّ اللحوم التـي مصدرها القتل بالخنق والذي اعتادته وتقبلته بعض الثقافات غير الإسلامية في بعض البلـدان هي لحوم محرمة لا يجوز للمسلم أكلها، لا في ديار المسلمين، ولا في غيرها.
المطلب الثاني: حكم اللحوم المستوردة من البلاد الأجنبية:
رغم ما ورد في كتب الفقهاء المتقدمين من توسع في الحديث عن الذكاة الشرعية وشروط المذكي، والصيد في حالة إذا لم يكن الصيد مقدوراً عليه، وغيرها، إلاَّ أنهم لم يبحثوا حكم اللحوم المستوردة من خارج ديار الإسلام؛ لأنَّ هذا الأمر لم يكن معروفاً في زمانهم ونحن الآن في وقتنا يهمنا هذا الأمر؛ لأنَّ هنالك ما يحرم علينا من هذه المطعومات كالميتة، أو ما أهل به لغير الله عز وجل. لذا إن كانت لحوم الحيوانات التي تستورد من البلاد الأجنبية لحوماً محرمةً، فإنَّه لا يحل تناولها أبداً كالخنزير مثلاً؛ لأنَّ العلة في التحريم موجودة، فلا تباح إن قدمها لنا الغير[219].
ولقد ذهب المودودي وعبد الله بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى السعودي إلى أنَّ ذبائح غير المسلمين الموجودة في الغرب لا تحل؛ لأنهم لا يراعون الطريقة السليمة في الذبح([220]).
وذهب الشيخ محمد رشيد رضا إلى أن ذبائحهم - أي الغرب- مباحة؛ لأنَّ العلة في التذكية إزهاق لروح الحيوان دون تعذيبه، وتجوز بأية وسيلة تؤدي إلى ذلك، ولو بالقتل الكهربائي دون إنهار، كما أن الحكمة من إباحة طعام أهل الكتاب مجاملتهم ومحاسنتهم دون النظر إلى طريقة ذبحهم فالمسألة ليست تعبدية([221]).
ولا نسلم بالقول الأخير؛ وذلك لأنَّ الصعق الكهربائي ما هو إلاَّ وسيلة لخنق الحيوان، لما فيه من إيقاف للقلب ومنع لانتقال الأكسجين إلى جسمه، والمنخنقة يحرم أكله، كما مرَّ فيما سبق.
ولقد صدر عن لجنة الأزهر[222] فتوتان تتعلقان بالحيوانات المستوردة، وذهبت الفتوى الأولى إلى أن اللحوم المستوردة من بلاد أهل الكتاب حلال أكلها ما لم يعلم أنها محرمة كما لو علم أنهم ذكروا اسماً غير اسم الله، أو ذبحت بغير الذكاة الشرعية، أو أنها لحم خنزير وغير ذلك. أما الفتوى الثانية أن اللحوم المستوردة من بلاد أهل الكتاب حلال ما لم نتحقق من أنها من المحرم لذاته، كأن تكون لحم خنزير.
والذي نراه أن على الدول المسلمة المستوردة لهذه اللحوم أن تتأكد من مشروعية هذه اللحوم، ومن كون هذه الحيوانات مشروعة أصلاً، وكونها ذبحت على الطريقة الإسلامية؛ لأنَّ هنالك وسائل للذبح لا تقرها الشريعة الإسلامية، كطريقة الصعق الكهربائي، والخنق باستخدام غاز ثاني أكسيد الكربون (CO2)، وهذه يحرم أكل لحمها اتفاقاً[223]. كذلك قد يضرب الحيوان المأكول على رأسه فيموت بذلك، وهذا النوع لا يباح أكله؛ لأنَّه وقيذ يأخذ حكم والموقوذة الوارد تحريمها في الآية الثالثة من سورة المائدة.
لذا فالميتة محرمة إذ الميت يجمد دمه ويسود، ولهذا حرم الله الميتة، لاحتقان الرطوبات فيها([224]). أما بالنسبة إلى الكبد والطحال عند الفقهاء([225])، فيباح أكلهما لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال"([226]).
وعلاوة على ما سبق، فإننا نرى أنه من الأفضل استيراد الحيوانات حية وذبحها في ديار الإسلام، أو إرسال بعض المسلمين لمسالخ الدول المصدرة للحوم المجمدة لديارنا، للقيام بعملية الذبح في البلد المصدر قبل إرسالها لبلاد المسلمين؛ وذلك بعد التفاهم مع الجهات الأجنبية على أهمية ذلك بالنسبة للمسلمين. وعلى الدول الإسلامية أن تهتم بهذا الموضوع وذلك من خلال عمل لجان فرعية في وزارات التموين، أو الأوقاف تولي هذا الأمر حقه من الرعاية والاهتمام([227]).
المطلب الثالث: المستجدات الفقهية المتعلقة بالأطعمة المعلبة وأطعمة (الكوشر) (Kosher):
أولاً: حكم التعليب شرعاً:
تقوم عملية التعليب على حفظ المواد الغذائية وتعبئتها في علب خاصة، وتستعمل لعملية الحفظ مواد حافظة تختلف في أنواعها ومكوناتها، ومن أبرز ما تتكون منه المواد التي تستعمل لحفظ اللحوم؛ نترات الصوديوم، وبعض المحاليل الملحية، والتي تستخدم لملء العبوة بحيث تمنع وجود الهواء فيها، وهذا من شأنه حفظ الغذاء بصورة أفضل، لما في ذلك من منع لنشاط (الميكروبات)[228]. وهنالك طريقة أخرى لفظ اللحوم وهي طريق التدخين أو التبخير، وهي قيد الدراسة إذ يشتبه تأثيرها على صحة الإنسان[229].
ومن المعلوم أن الله أحل لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، في قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)[4: المائدة]. وأنه يباح من الأطعمة ما لا يضر بصحة الإنسان ويحرم ما يضر بها، فإذا كانت المواد الحافظة من الأملاح النافعة للإنسان فإنه يجوز استعمالها، وتناولها مع الغذاء، أما إذا ثبت ضررها على الجسم وتسبيبها لبعض الأمراض، فيحرم هنا تناول المعلبات التي تحتوي عليها، وأما ما يشتبه بوجود ضرر فيه على صحة الإنسان، كاستعمال التدخين -مثلاً- فيكره أكله تجنباً للشبهة، وانطلاقأً من القاعدة الفقهية الضرر يزال[230].
ثانياً: الأنفحة المستخدمة في المأكولات (الأجبان) المعلبة:
وهي نوع من الخمائر التي تستخدم لتحويل الحليب إلى جبن، وهي جائزة إن كانت من حيوان طاهر في الحياة غير محرم، ولو كان الحيوان المأخوذ منه ميتاً؛ وذلك لعدم ورود نص بحرمتها، ولعدم اضرارها بالإنسان وصحته[231].
ثالثاً: حكم الخمائر والجلاتين المتخذة من الخنزير:
مما لا شك فيه أن الخنزير نجس العين، ولحمه وشحمه وما يستخرج منه كله محرم. فإذا ما احتوت الأطعمة المعاصرة على شيء من ذلك في مكوناتها، فإنه يحرم تناولها مطلقاً.
أما إذا كان العنصر المستخلص من الخنزير ممَّا تستحيل ماهيته بعملية كيمائية بحيث تنقلب حقيقته تماماً، تغير حكمه بذلك، وزالت حرمته ونجاسته، وإن لم تنقلب حقيقته بقي على حرمته ونجاسته؛ لأنَّ انقلاب الحقيقة مؤثر في زوال الطهارة والحرمة[232]، كذلك الحكم في الصابون ومعجون الأسنان المستعمل فيهما الخنزيـر وقد استحالت كيماوياً المواد المأخـوذة من الخنزير، فيباح الصابون والمعجون[233].
رابعاً: حكم الأخـذ بمقتضى وصف المحتويـات (The Ingredients) المكتوب على المعلبات:
من الأمور الملازمة للتعليب وصف المحتوى الغذائي للمعلب ويكون مكتوباً على غلافه، وتقوم دوائر رسمية متخصصة بتدقيق ومراقبة المواصفات حسب معايير صحية وغذائية. وهنا يبرز سؤالان هامان؛ هل الأصل التصديق أم التكذيب؟ وهل يختلف ذلك بين المنتج الذي مصدره العالم الإسلامي، والمنتج الذي مصدره غير إسلامي؟
الأصل براءة ذمة الإنسان عموماً[234]، ومن ثمَّ تصديقه فيما يقول إذا كان موثوقاً ومزكى، أما إذا كان ممَّن عرف بالتكذيب، أو غلب على الظن عدم صدقه، لمخالفته في العقيدة، أو لضعف في دينه، أو غير ذلك، فإنَّه لا يصدق إلاَّ بدليل واضح. فالأصل في محتويات الأطعمة المعلبة ومواصفاتها أن تكون مطابقة للواقع، ومعرضة للمراقبة والتدقيق، فالأصل إذاً تصديقها والأخذ بمقتضاها، خاصة ما كان من إنتاج الدول الإسلامية، أما بالنسبة للمعلبات ذات المصدر الأجنبي، فإنه يجب أن تكون خاضعة للرقابة من حيث محتوياتها ومدى موافقتها لأحكام الشريعة الإسلامية، وإن كان الأصل تصديق الوصف المدون عليها لما تتمتع به معظم الدول المصدرة للمعلبات والسلع الغذائية من مصداقية ودقة؛ لأنها تسعى دائماً لكسب الثقة والاحترام من قبل المستهلكين.
خامساً: حكم اللحوم المعلبة:
للحوم المعلبة عدة أنواع يختلف باختلافها الحكم الشرعي، منها ما يلي:
1- حكم اللحوم الحيوانية المعلبة:
توجد عدة أنواع من اللحوم الحيوانية المعلبة مثل (المرتديلا) (Mortadella)، و(الهوتدوجز) (Hotdogs)، ويرى بعض العلماء المعاصرين أن: "هذا النوع من اللحم يحتوي على لحم خنزير، أو شحمه لذا يحرم أكله وبيعه وشراؤه تحريماً قطعياً"([235]). والصحيح أنَّ اللحم المكون للمرتديلا يكون من أنواع مختلفة من اللحوم؛ كالبقر([236])، والدجاج، والحبش، وكذلك الأمر بالنسبة للهوتدوجز، فما دام اللحم المستخدم في صنعها لحماً مباحاً؛ فإنَّ أكل هذا النوع من الأطعمة المعاصرة يكون حلالاً شرعاً، وإن كانت المرتديلا مكونة من حيوانات محرمة كالخنزير، والكلب، أو كانت من الحيوانات المباحة ولكنها لم تذكَّ ذكاة شرعية؛ فخنقت، أو ضربت حتى الموت، أو صعقت، فإنها تحرم شرعاًُ، لما بينا فيما سبق. ولهذا يجب أن ينظر إلى الدولة المصدرة لهذا النوع من الأطعمة، فإن كانت دولة غربية لا تذكي الحيوان بل تصعقه أو تضربه حتى الموت، أو تسممه بغاز معين، فيحرم الأكل أصلاً، حتى لو كانت دولة كتابية، وإذا كانت الدولة المصدرة لهذه اللحوم دولة لا دينية؛ كالدول الشيوعية فإنه يحرم ما تصدره من اللحوم المصنعة؛ كالمرتديلا، والهوتدوجز، إلاَّ إذا كان فيها مسلمون يذكون الحيوانات لغايات التصدير للدول الإسلامية، ووجدت رقابة وثقة بمطابقة هذه اللحوم للشروط الشرعية.
ولا بد أن نذكر أن اللحوم المصنعة قد تؤدي إلى ضرر بالصحة، إذ وجد العلماء أن الذين يستهلكون اللحوم المصنعة مثل السجق[237]، و(السلامي)[238]، و(المرتديلا)، وغيرها لخمس مرات أو أكثر أسبوعياً يكونون أكثر الناس عرضة للإصابة بسكري النوع الثاني بنسبة 46%[239]. ولهذا فإنَّه يكره الإفراط في تناولها، ويباح القليل منها، والله أعلم.
2- حكم الأسماك والكائنات البحرية المعلبة (Sea Food Cans):
توجد العديد من المعلبات التي تحتوي على مكونات من لحوم الحيونات البحرية، ومن أشهرها ما يلي:
أ. الطون (Tuna): وهو من المعلبات الشهيرة التي تحتوي على لحم سمك.
ب. السردين (Sardine): وهو نوع من السمك الصغير يعلب كما هو، دون تغيير.
ج. الجنبري (Shrimps): وهو من الحيوانات البحرية غير الأسماك.
وهذه المعلبات مباحة شرعاً؛ لأنها من البحر ولا يخالطها أي شيء محظور، وهي داخلة تحت الإباحة الوارد في قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)[4: المائدة].
سادساً: حكم الحلويات المعلبة والمستوردة:
أ. الشوكولاتة (Chocolate): نوع من الحلويات كثيـرة الرواج في هذا العصر، وتتكـون بشكل رئيسي من كاكاو، وحليب، ودهن، وقد تحوي نكهة معينة أو بعض المكسرات[240].
ب. الكعكـات (Cakes): ومكوناتها الرئيسيـة هي الطحين، والبيض، والحليب، والدهن، والسكر، وقد تحتوي على بعض النكهات.
ج. البوظة (Ice cream): وتتكون من الحليب، والقشطة، والدهن.
وجميع هذه الأنواع من الحلويات مباحة على العموم؛ لأنَّ مكوناتها المذكورة مباحة، أما الدهن المستعمل فهو نباتي غالباً، الزبدة التي تستعمل فيها تكون من الحليب البقري. أما إذا احتوت هذه الحلويات دهناً حيوانياً وكان من الخنزير خصوصاً، فإنَّها تحرم شرعاً، وهذا الاحتمال وارد وممكن في بعض منتجات الدول غير الإسلامية، ولهذا فعلى المسلم أن يحذر من ذلك، ويتفحص ما يتناوله من هذه المنتجات.
سابعاً: حكم أطعمة (الكوشر) (Kosher):
شاع في الغرب استعمال مصطلح (الكوشر) للدلالة على الطعام المطابق للمواصفات المطلوبة في الشريعة اليهودية، ومن ميزات هذا الطعام عدم احتوائه على لحم الخنزير، ولا شحمه، ولا أي شيء من مشتقاته، كما أن اللحوم الموصوفة به؛ كلحوم البقر، والخاروف، والدجاج، مذبوحة ومذكاة حسب الطريقة اليهودية، وهي مطابقة للذكاة الشرعيَّة الإسلامية، وعلاوة على ذلك فإن الجلاتين الموصوف (بالكوشر)، والمستعمل في بعض الحلويات (كالجلو)، يتكون من مكونات نباتية، وليس فيه شيء من الخنزير، كما يمكن أن يكون في المنتجات الغربية.
وبناءً على ما تقدم، فإنَّ الأصل في حكم هذه الأطعمة هو الإباحة؛ وذلك لقوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ)[5: المائدة]، وبعدم وجود ما ينافي الشرع فيها من إخلال بشروط الذكاة، أو استعمال لحم الخنزير، أو شحمه، أو غير ذلك ممَّا حرم في شرعنا الحنيف.
ولكن هذه الإباحة ليست على إطلاقها، فقد أثبتت الدراسات الحديثة أنَّ طعام (الكوشر) يستعمل كأداة اقتصادية لمصلحة اليهود، يجنون من ورائها ملايين الدولارات، فهم يتقاضون على العلامة التجارية الموسومة ب (الكوشر) رسوماً باهظة؛ ولذلك فإنَّه يحرم للمسلم شراء هذه المنتجات دون حاجة حقيقية، لما فيها من استغلال وإعانة لمن يعادي المسلمين من هؤلاء الكتابيين([241]).
المطلب الرابع: المستجدات الفقهية المتعلقة بالأطعمة التي تقدمها المطاعم المعاصرة:
أولاً: حكم الأطعمة النباتية (Vegetarian Food):
من الأطعمة الحديثة التي شاعت - في الغرب خصوصاً- ما يسمى (بالطعام النباتي): (Vegetarian Food)، وتوصف به بعض المنتجات الغذائية فيكتب عليها عبارة: (صالح للنباتيين): (Suitable for vegetarians)، والتي تعني كون هذا الطعام لا يحتوي أي منتجات حيوانية، من لحم أو شحم، وهو مكون من الخضراوات لا غير، وقد أصبح هذا النوع من الطعام عالمياً، تقدمه معظم المطاعم على موائدها تلبية لطلب العديد من الناس الذين لا يأكلون إلاَّ النباتات، أو يتحفظون من أكل اللحوم لسبب ما.
وممَّا لا شك فيه أنَّ هذه الأطعمة غير مخالفة للشرع؛ لأنها من الطيبات التي تستسيغها الأنفس السليمة ولا ضرر فيها، قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)[4: المائدة]، ففي هذه الأطعمة مندوحة وسَعة للمسلمين في البلاد غير الإسلامية للاستعاضة عمَّا حرمه الشرع من الطعام، بتناول ما لا حرمة فيه ولا شبهة، خاصة في حالة تعذر وجود طعام حلال في تلك البلاد.
ثانياً: حكم الأطعمة التي تقدمها مطاعم (البيتزا) (Pizza Restaurant):
تكثر المطاعم المختصة بتقديم وجبة (البيتزا) في بلاد المسلمين وخارجها، كما تقدم هذه الوجبة في العديد من المطاعم ذات الطبيعة المتعددة -من حيث الوجبات المقدمة-. وتتكون هذه الوجبة من: الجبن، والخبز أو - العجين-، وبعض الخضروات، وصلصة البندورة، ويضاف إليها أحياناً المرتديلا، أو شيء من اللحوم - بمختلف أنواعها-([242]).
وعلى هذا فإنَّ لهذه الوجبة نوعين رئيسيين؛ نوعاً نباتياً محضاً، ونوعياً فيه لحم حيواني. أما الأول فمباح اتفاقاُ، لعدم وجود محظور فيه، أو ما فيه شبهة، وأما الثاني، فيشترط لجوازه تحقق الشروط الشرعية سابقة الذكر في اللحم المضاف إليه، فلا يحل ما أضيف إليه لحم أو مرتديلا خنزير، أو لحم حيوان غير مذكى مثلاً.
ثالثاً: حكم الأطعمة التي تقدمها المطاعم البحرية (Sea Food Restaurant):
مرَّ سابقاً أنَّ طعام البحر، وصيده، وميتته كلها حلال، لقوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ)[96: المائدة]. ولذلك فإنَّ الأصل في الطعام الذي تقدمه المطاعم البحرية في مختلف الدول هو الحل، إلاَّ إذا دخل في هذه المأكولات ما يحظره الشرع.
رابعاً: حكم الأطعمة التي تقدمها المطاعم العالمية (International Restaurants) في البلاد الإسلامية:
استجد في الآونة الأخيرة وجود مطاعم ذات علامات تجارية دولية موحدة، ولها فروع في معظم دول العالم، وتتبع جميعها نفس المصدر -وهو مصدر غربي غالباً- من حيث المواصفات والمقاييس المعتمدة في إعداد وجبات الطعام، وفي ضمان جودته، مثل مطاعم: (McDonalds)، (Hardees)، (Burgerking)، (Applebees)، (Chilli House)، وغيرها، والتي أصبحت شائعة في البلاد العربية أيضاً، وهي من مظاهر العولمة البارزة، وتقدم هذه المطاعم وجبات سريعة مختلفة، مثل ما يسمى بـ: (الهامبرغر) (Hamburger)([243])، وغيرها، وهنا يثار سؤال مهم حول مدى مشروعية ما تقدمه هذه المطاعم من أطعمة مختلفة. وهل يجب السؤال عن مصدر ونوع اللحوم والأطعمة التي تقدمها هذه المطاعم في بلاد المسلمين؟ وعن طريقة طبخها في حالة وجود أطعمة محللة وأخرى محرمة في نفس المطعم؟
يدور حكم الإباحة مع توفر الشروط الشرعية المقررة لحل الأطعمة في شرعنا الحنيف أو عدمها. وهذا الأمر يعود إلى طبيعة البلد أو الشركة المزودة باللحوم لفروع هذه المطاعم، وإلى نوع اللحوم التي تقدم فيها ومدى مطابقتها للشرع. ومن الملاحظ أنَّ فروع هذه المطاعم الموجودة في الدول الإسلامية تلتزم غالباً بالأحكام الشرعية في الأطعمة، فهي لا تقدم لحوم الخنزير ومشتقاته، ولا الخمور غالباً، كما أنَّها تأخذ لحومها من مصادر محلية غالباً، أو من مراكز تلتزم بالذبح على الطريقة الشرعية في إحدى الدول الإسلامية المجاورة. وبما أنَّ المسلم لا يستطيع تحديد مصدرها ابتداءً حيث أنَّه من المحتمل عقلاً أن يكون مصدر اللحوم المقدمة في هذه المطاعم لا يلتزم بالشروط الشرعية، فعلى هذا فإنَّه يجب على المسلم أن يسأل عن طبيعة هذه الأطعمة ومصدرها للمرة الأولى على الأقل، فقد شرع الله لنا سؤال أهل الاختصاص حتى ولو كانو من غير المسلمين كما -ذكر المفسرون([244]) فيما يقتضيه قوله تعالى: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" [سورة النحل: 43]. فإن تبيَِّن من السؤال أنَّها موافقة للشرع في ذلك جاز له الأكل منها، وإن كانت مخالفة بأن كانت تخل بشرط شرعي، فلا تحل له. وإن كانت مستوردة من الخارج فينطبق عليها ما مرَّ آنفاً من أحكام اللحوم المستوردة، والأفضل التورع منها والامتناع عن تناولها في هذه الحالة، إلاَّ إذا تأكد أو غلب على الظن انطباق الشروط الشرعية فيها -والمتعلقة بطعام أهل الكتاب، وغيرها-.
وإذا ما ثبت لنا لزوم السؤال عن طبيعة الطعام الذي تقدمه هذه المطاعم فإنَّه يتبادر للذهن بعض الأسئلة، وهي: هل الأصل تصديق من يُسأل من موظفي المطاعم أم لا؟ وهل يختلف هذا الحكم بين كون المسؤول مسلماً أو غير مسلم، وبين أن يكون السؤال في ديار الإسلام أو في غيرها؟
والجواب على ذلك هو أنَّ الأصل هو تصديق الموظف المسؤول؛ لأنَّ الأصل براءة ذمة الإنسان عموماً[245] -كما مرَّ-؛ وذلك سواءً كان مسلماً أو غير مسلم، وسواءً كان ذلك في بلاد الإسلام أو خارجها، إلاَّ أنه على المسلم أن يجتهد بقلبه وحسه في مدى صدق من يسأل، فإن غلب على ظنه صدق الشخص المسؤول، فيجوز له الأكل من ذلك الطعام، وإلاَّ فإنه لا يجوز له تناوله، فإن ظهر كذبه لاحقاً، فالإثم عليه لا على السائل.
خامساً: حكم الأطعمة التي تقدمها المطاعم في الدول غير الإسلامية:
يمكن تقسيم حالات التعامل مع هذه المطاعم إلى قسمين بحسب الحالات والملابسات؛ وذلك كالآتي:
1- أن تكون الحالة العامة للطعام - اللحوم خصوصاً- معلومة في البلد غير الإسلامي:
فلو كانت الحالة العامة في البلد غير الإسلامي الالتزام بقواعد الشرع وأحكامه في الأطعمة من كون الذابح من أهل الكتاب، وكون الذبيحة ممَّا يحل أكله وذكي وفقاً لما قرره الشرع من انهار الدم، أو كانت بلداً كتابية في غالبية سكانها، وعموم نظامها، فإنَّ الطعام هذا يأخذ حكم طعام أهل الكتاب وهو الإباحة، فيجوز للمسلم استصحاب هذا الأصل[246]، واعتبار ما تقدمه المطاعم المختلفة من لحوم غير الخنزير مباحة له، على أنَّها من طعام أهل الكتاب، فالحكم يدور مع الحالة العامة في البلد؛ وذلك أخذاً بعموم قوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ)[5: المائدة]، وعموم قوله عز من قائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ)[87-88: المائدة]، ولأنَّ الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يأتي دليل يغير أو يبدل[247]، ولا يجب على المسلم في هذه الحال السؤال عن هذه الأطعمة بالتفصيل، إلاَّ ما يؤكد له عدم وجود لحم خنزير فيها.
أما إذا كان الأصل عكس ذلك - بأن كانت الحالة العامة تقوم على مخالفة الشروط الشرعية-، فإنَّه لا يحل للمسلم أكل شيء من هذه الأطعمة حتى يتأكد من تحقق الشروط الشرعية فيها، وعلى هذا فإنَّه يجب على المسلم في الدول غير الإسلامية التي يغلب على الظن عدم التزامها بمقتضى القواعد الشرعية في الأطعمة السؤال والتحري عن مصدر اللحوم، وطريقة ذبحها، وتحقق بقية الشروط الشرعية فيها، أخذاً بالقاعدة الفقهية "اليقين لا يزول بالشك"[248]. فإن بانَ له، أو غلب على ظنه حرمتها - وهو الغالب في معظم المطاعم في الدول غير الإسلامية-، فإنَّ له أن يستعيض عنها بالوجبات والأطعمة النباتية الصِرفة، والأطعمة البحرية، شريطة إلاَّ تكون مطبوخة بآنية أو بزيت استخدم في طهي أطعمة محرمة شرعاً.
الخلاصة: يعتمد الحكم الشرعي لما تقدمه المطاعم الحديثة في العصر الحديث على عدة أمور، بحسب ما ورد في النصوص الشرعية المختلفة الواردة في الأطعمة المحللة والمحرمة، فيجوز اتفاقاً الطعام النباتي والبحري، ويشترط لحل الطعام الذي فيه لحم حيواني ما يلي:
أ. أن لا يكون لحم خنزير ولا يدخله شيء من مكوناته؛ كشحمه.
ب. أن يكون لحم حيوان أو سمك ممَّا يباح أكله.
ج. أن يكون مذكى بإنهار دمه، وأن يكون الذي ذكاه مسلماً، أو كتابياً.
د. أن لا يذكر غير اسم الله عليه.
ه. أن لا يطبخ الطعام بزيت اختلط فيه لحم الخنزير، أو شحمه، أو طعام غير حلال مطلقاً؛ وذلك لأنَّ شحم ودم هذا الحيوان يذوب في الزيت، وتنتقل أجزاء منه إلى الطعام الحلال فيجتمع الحلال والحرام، ومن المقرر فقهياً أنََّه: (إذا اجتمع الحلال والحرام غلب جانب الحرام)[249].
و. أن لا يكون الطعام طبخ بآنية يطبخ فيها الخنزير، أو ما حرم في شرعنا دون تنظيف وتعقيم كافٍ.
ولكن يستثنى من الحكم السابق من اضطر لتناول طعام غير حلال أو لم يثبت حله له لشبهة ما؛ وذلك في حالة الضرورة، أو الحاجة الماسة؛ لأنَّ "الضرورات تبيح المحظورات"، قال السيوطي ممثلاً لهذه القاعدة الفقهية: "والطعام في دار الحرب يؤخذ على سبيل الحاجة؛ لأنَّه أبيح للضرورة، فإذا وصل عمران الإسلام امتنع، ومَن معه بقية ردها"([250])؛ وذلك لما مرَّ آنفاً من مقتضى قوله جل وعلا: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِِّثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[3: المائدة]، وقوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[173: البقرة].
2- حكم الأطعمة في حالة الجهالة بالحالة العامة أو في حالة كونها مجهولة المصدر أو مجهولة المكونات:
تقدم أنَّ الحالة العامة للأطعمة في البلد هي المرجع لحكم أكلها للمسلم، ولكن تتعذر معرفة هذه الحالة الغالبة في بعض الأحوال، وفي هذه الحال فإنَّ على المسلم أن يجتهد ويتحرى في ذلك بحسب علمه وحسه، فيتجنب ما لم يطمئن إليه قلبه فهو من قبيل الإثم، لقوله صلى الله عليه وسلم: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس"[251]، فإن ترجح له أنَّ الأغلب الحل لكونه طعام أهل كتاب في الغالب، جاز له أكله مع الكراهة، وإلاَّ فإنَّه يحرم عليه الأكل منه، والأفضل التورع منه خروجاً من الشبهة.
المطلب الخامس: تطبيقات معاصرة للصيد:
أولاً: الصيد بالبنادق النارية:
شاع في العصر الحديث استعمال بنادق نارية لصيد الحيوانات البرية، تعتمد على إطلاق قذائف وطلقات من الرصاص ذات أحجام وأشكال مختلفة حسب نوع الحيوان المنوي صيده، وتخريجاً على ما ورد في الحديث الشريف من أحكام الصيد، فإنَّ هذا النوع من الصيد جائز شرعاً، إذا أصابت الطلقة الحيوان إصابة تخرق جسمه، وتنهر دمه، وهذا هو الاحتمال الغالب في حالة استعمال هذه البنادق لما تتصف به من قوة قذف. فقد روي عن رسول الله عليه الصلاة وسلام: (إذا رميت بالمِعْرَاض وذكرت اسم الله فأصاب فخرق فكُل، وإن أصاب بعرضه فلا تأكل)([252])، وهذا نص في بيان اشتراط إنهار دم الصيد بالجرح لحل أكله.
ثانياً: الصيد ببنادق ضغط الهواء:
وممَّا استجد أيضاً استعمال بنادق تقذف رصاصاً مدفوعاً بضغط الهواء؛ وذلك لصيد بعض أنواع الطيور من مسافة قريبة، ويفضل بعض هواة الصيد هذا النوع من البنادق للصيد لما فيها من سلامة وسهولة استعمال ومواءمة لطبيعة العديد من الطيور. ويعتمد الحكم الشرعي لهذا النوع من الصيد على طبيعة إصابة الحيوان أو الطير؛ فإن جرحته الرصاصة واخترقت جسمه بحيث نزف دمه من الإصابة، فإنَّه يجوز أكله، أما إذا لم يكن الجرح مؤثراً فمات من قوة الضربة فهذا موقوذ لا يحل أكله، إلاَّ إذا أدرك بحياة مستقرة كرمشة عين، أو حركة جناح، أو ذيل، فذُكي الذكاة الشرعية بشروطها، فإنَّه يجوز أكله عندئذ.
ويلاحظ في هذه البنادق ضعف قذيفتها، فيحرم استعمالها لاصطياد الحيوانات الكبيرة، أو ذات الجلد المتين، لما في ذلك من مُثلَة وتعذيب، ولما فيه من شبهة من حيث كونه لا يخرق الحيوان فيجعله يموت وقذاً، فلا يجوز أكله شرعا عندئذ، ويكون قتله صبراً بدون فائدة، وهذا محرم يقيناً. فقد روي عن ابن عمر أنه كان يقول بالمقتولة بالبندقة: (تلك الموقوذة)، ذكره الجصاص، واحتج أيضاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخَذْف، أو كان يكره الخَذف، وقال: (إنَّه لا يصاد به صيد ولا يُُنكأُ به عدو، ولكنها قد تكسِرُ السن، وتفقأ العين)[253]، وبحديث عدي بن حاتم، أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أرمي بالمِعْرَاض فأصيب أفآكل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا رميت بالمِعْرَاض وذكرت اسم الله فأصاب فخرق فكُل، وإن أصاب بعرضه فلا تأكل)[254]. وفي رواية أخرى عن عدي بن حاتم أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض، فقال: (ما أصاب بحدِّه فخَرق فَكُل، وما أصاب بعرضه فقَتَل فإنه وقيذٌ فلا تأكل)؛ وعقب الجصاص[255] على هذه الأدلة بقوله: (فجعل ما أصاب بعرضه من غير جراحة موقوذة وإن لم يكن مقدوراً على ذكاته، وفي ذلك دليل على أن شرط ذكاة الصيد الجراحة وإسالة الدم وإن لم يكن مقدوراً على ذبحه واستيفاء شروط الذكاة فيه)، هذا والله أعلم.
الخاتمـة
أظهرت الدراسة السابقة مدى عظمة وسماحة الشريعة الإسلامية الحنيفة، وما تختص به من شمول ودقة وواقعية، من خلال ما شرعته من أحكام للأطعمة، اتسمت بالمحافظة على حياة الإنسان وصحته، والتخفيف عنه، والرأفة به، وهي أيضاً توثق صلته ببارئه في كل الأمور حتى فيما يتعلق بطعامه، فجعلت من هذا الموضوع أمراً تعبدياً، لا بد من مراعاة رضا الخالق جلت قدرته فيه، وقد توصلت هذه الدراسة إلى جملة من النتائج في هذا البحث، يأتي ذكر أهمها فيما يلي:
1. حل بهيمة الأنعام وهي الأزواج الثمانية -من الإبل والبقر والضأن والمعز- إلاَّ ما استثناه تبارك وتعالى منها. أما مناط إباحة الطعام غير المسكوت عن حكمه في الشرع؛ فكونه طيباً لا يضر جسم الإنسان، والمرجع في ذلك الطب لا العرف، فإذا ثبت من ناحية علمية وطبية عدم وجود ضرر من أكله فلا بأس به، وإلا فلا يصح ذلك.
2. حرمة لحم الخنزير وشحمه وشعره وكل توابعه، بالإضافة إلى حرمة ما استثناه تعالى مما حلله من بهيمة الأنعام؛ من الميتة والدم وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب، إلاَّ ما أدرك من ذلك بالذكاة وفيه رمق حياة وتحريم الاستقسام بالأزلام.
3. هنالك عدة مناطات لحرمة الأطعمة واللحوم وردت في هذه الآية، يدور معها حكم التحريم وجوداً وعدماً، يجب أخذها بعين الاعتبار عند الاجتهاد في أحكام المستجدات الفقهية في مجال الأطعمة واللحوم المعاصرة:
أ. حبس الدم في الحيوان المأكول وعدم إنهار دمه؛ وذلك بصرف النظر عن طريقة موته.
ب. الشرك بالله عند الذبح؛ قولاً أو قصداً أو فعلاً.
ج. قتل الحيوان افتراساً من حيوان آخر.
4. وردت أمور غير معلولة في الآية الكريمة الثالثة من سورة المائدة يجب اجتنابها وهي حرمة لحم الخنزير وجميع توابع هذا الحيوان، وحرمة الدم.
5. كل ما حرم في هذه السورة المباركة إنما حظر لمقصد شرعي جليل وهو حفظ النفس، فحكمة التشريع تتجلى بصورة بهية فريدة في هذه الآيات التي أباحت لنا ما ينفع من الطيبات، وحرمت علينا ما يضر من الخبائث.
6. علة وجوب التذكية هي إنهار الدم بقطع الودجين، والحكمة من ذلك إخراج الدم من جسم الحيوان؛ وذلك لما له من مضار ومفاسد للإنسان
7. إباحة ما حرم من الأطعمة والأشربة في حالة الاضطرار وخشية الموت بشرط عدم ابتغاء أكلها وعدم الرغبة فيه أصلاً، وبشرط عدم الأكل منها بما يزيد عن سد الحاجة الضرورية، وتتجلى مقاصد التشريع الحنيف في هذه الإباحة بأعظم حال فهي ترسخ حفظ الضروريات، وبخاصة حفظ النفس البشرية.
8. حل الطيبات وحرمة الخبائث، وحل الصيد بالكلاب وسباع البهائم والطير إذا علمت وأرسلت من صاحبها المسلم وذكر اسم الله عليها عند إرسالها.
9. حل ذبائح أهل الكتاب - اليهود والنصارى- دون المجوس، إذا لم يعلم أنهم ذكروا غير اسم الله عليها أو قتلوها بغير الطريقة الشرعية عندنا -بأن يكونوا خنقوها أو وقذوها أو غير ذلك مما حرم في شرعنا-، وينطبق هذا على اللحوم المستوردة من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين في عصرنا هذا.
10.يجوز استخدام الأنفحة في الأطعمة لعدم مخالفتها لنص شرعي وعدم ضرها.
11.يحرم استعمال الخمائر والجلاتين المستخرجة من الخنزير.
12.يجوز تعليب الأطعمة شرعاً، واستعمال المواد الحافظة غير المضرة بالصحة، ولكن يجب الانتباه لوصف مكونات الأطعمة المعلبة المختلفة خاصة المستوردة منها، والتأكد من عدم وجود ما يخالف الشرع فيها.
13.يعتمد الحكم الشرعي لما تقدمه المطاعم الحديثة على مدى تحقق الشروط الشرعية في الطعام الذي تقدمه، فيجوز أكل الطعام النباتي والبحري، ويشترط لحل الطعام الذي فيه لحم حيواني توفر الشروط الشرعية فيه.
14.ما يسمى بالطعام النباتي والذي شاع وجوده في المطاعم والمعلبات الغربية جائز شرعاً؛ لأنَّه من الطيبات، ولعدم احتوائه على ما يخالف الشرع.
15.لا يجب على المسلم السؤال عن مصدر وطبيعة تذكية الحيوان إذا كانت الحالة العامة في البلد الذي يقدم فيه تقتضي حل الطعام لكونه بلداً يلتزم بأحكام الإسلام أو بأحكام طعام أهل الكتاب المباح شرعاً، أما إذا كانت الحالة العامة العكس فلا يجوز أكله إلاَّ بعد السؤال عنه والوقوف على طبيعته. وإذا جهل الإنسان الحالة العامة فعليه أن يجتهد، والأولى أن يتورع عن اللحوم بالذات، وله أن يستعيض عنها بما اتفق على حله كالأطعمة النباتية، والبحرية.
16.يحل للمسلم أكل طعام (الكوشر) لأنَّه من طعام أهل الكتاب، ولكن يكره له ذلك سداً لذريعة الاستغلال، حيث أنه يستخدم أداة اقتصادية استغلالية في التجارة المعاصرة خاصة في الغرب.
17.يدور حكم الصيد بالبنادق المعاصرة مع إصابة الصيد بجرح مدمي وعدمه، فما أصيب بجرح فمات به حل، وما أصيب بطلقة غير جارحة فمات وقذاً حرم أكله.
التوصيات:
في نهاية هذا البحث، والذي نسأل الله عز وجل أن يجعله في ميزان أعمالنا، نوصي بما يأتي:
1. الاهتمام باللحوم المستوردة من خارج بلاد المسلمين، وتشكيل لجان خاصة للتأكد من مطابقتها للشروط الشرعية السابقة كلها.
2. استيراد الحيوانات مأكولة اللحم حية وذبحها في بلاد المسلمين خروجاً من إشكالات كثيرة، أو إرسال جزارين مسلمين ليذبحوها قبل تصديرها إلى بلاد المسلمين.
3. التأكد من مصدر اللحوم المعلبة، والمرتديلا، وتشديد الرقابة عليها من الناحية الشرعية والطبية، وتفعيل دور دوائر المواصفات والمقاييس في تحديد جودة المعلبات، ومدى وجود ضرر من بعض المواد الحافظة، بالإضافة إلى ضرورة تفعيل الرقابة الشرعية من قبل دور الإفتاء الشرعية في البلاد الإسلامية، ووزارات الشؤون الإسلامية، ووجوب تدخلها في التدقيق على الأطعمة المحللة والمحرمة التي تدخل بكثرة إلى بلاد المسلمين والتأكد من انطباق الشروط الشرعية عليها ليجوز أكله، وذلك في ضوء الصور المستجدة العديدة.
4. نشر الوعي بين المسلمين بما يتعلق بأحكام الأطعمة المحللة والمحرمة في ضوء المستجدات المعاصرة، خاصة المقيمين في البلاد غير الإسلامية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
(*) منشور في "المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية"، المجلد (5)، العدد (3/أ)، شوال 1430هـ/ تشرين أول 2009م.
الهوامش:
الدكتور عدنان العساف / الجامعة الأردنية
الدكتورة جميلة الرفاعي / الجامعة الأردنية