عبدالغني سلامة - التعلّق بالأوهام والرهانات الخاسرة

سأحاول مناقشة بعض المقولات الرائجة، والتي تأسس عليها وعي جمعي لأجيال متتالية، أوصلنا إلى هذه الحالة الكارثية.. وهي المادة المتداولة في أغلب النقاشات الدائرة أثناء الحرب، ومن المرجح أن تتكرر في كل حرب، وأن تستمر لسنوات طويلة.
أولى هذه المقولات «لا يفتي قاعد لمجاهد»، ومن يروجون لهذه المقولة لا يتقبلون أي كلمة نقد بحق المقاومة، بل ويصنفون من ينقدها بأنه مع الطابور الخامس، ويعتبرون أنّ التضامن مع غزّة لا يكون مقبولاً إلّا إذا تضمن موافقة كاملة على كلّ ما تفعله المقاومة.. وأرى أنها دعوة لتكميم الأفواه وإسكات أي وجهة نظر مختلفة، انطلاقاً من فكرة تقديس المقاومة، ووضعها في مرتبة أعلى من النقد، وهذه الفكرة لا تأتي إلا من عقلية استبدادية.. صحيح أن النقد إذا كان بغرض تصفية حسابات حزبية والنيل من خصوم سياسيين يصبح انتهازية جبانة، وإذا كان سيؤدي إلى تثبيط الهمم والتخويف وبث روح الإحباط يصبح ضرباً من الخيانة، أو على الأقل شق الصف.. ولكن النقد من حيث المبدأ من حق الجميع ومن واجبهم، سواء كانوا مجاهدين أم قاعدين، فالكل تحت وطأة الاحتلال، والكل يدفع ثمناً بشكل أو بآخر، والكل خائف وقلق على مصير القضية ومستقبل الشعب، نظراً لخطورة المرحلة، ولأن أي خطأ قد يأتي من أي جهة، بما في ذلك قوى المقاومة، سيؤدي إلى نتائج كارثية.. والنقد حق وواجب لأن السكوت، وعدم السماح بالنقد، سيحرمان المقاومة من فرص تصويب أخطائها، وسيؤدي إلى مراكمتها وارتكاب المزيد منها، وكلما تأخر النقد فقد أهميته وجدواه.
الثانية: مقولة «الجيش الذي لا يُقهر»، التي قالها موشيه ديان منتشياً بنصره السهل على ثلاثة جيوش عربية في هزيمة حزيران 1967. وهي مجرد أسطورة تلقفتها الزعامات العربية وروّجتها لتبرير هزيمتها، ولتبرير قمعها لشعوبها، ولتبرير تقاعسها عن بذل أي جهود في معركة التحرير، وقد بثت روح الإحباط لدى الشعوب العربية، ثم صارت كليشيه مبتذلة يرددها كل من وجّه ضربة ولو طفيفة ورمزية ضد إسرائيل، لتسجيل ذلك وكأنه انتصار عظيم، يسجله في خانة المكاسب الفئوية الضيقة. وهذه المقولة من المفترض أنها سقطت في معركة الكرامة 1968، حين عجز الجيش الإسرائيلي عن سحق وهزيمة الفدائيين، ثم انسحب يجر أذيال الخيبة، ومن المفترض أن يتأكد سقوط المقولة بعد حرب أكتوبر 1973 حين حقق الجيش المصري انتصاراً مهماً وألحق خسائر فادحة بإسرائيل، ثم تكرر سقوط المقولة في كل المعارك التي خاضتها الثورة الفلسطينية وكان آخرها صمود بيروت 1982، ثم خروج إسرائيل من لبنان 1985، وخروجها المذل من جنوبه صيف 2000. ومع ذلك ما زال الكثيرون يرددونها مستفيدين من رسائلها الضمنية.
الجيش الإسرائيلي قوي، بل ومتخم بكل أسباب القوة، ولديه ترسانة عسكرية متطورة وتفوق كل جيوش المنطقة، ومع ذلك هو جيش يُقهر، وقابل للهزيمة، كلياً أو نسبياً، وهي مسألة ليست هينة بالمطلق، ولكنها ممكنة.. وما حدث صبيحة السابع من أكتوبر 2023 آخر وأوضح دليل على ذلك.
والثالثة، مقولة تنتمي إلى الحقبة اليسارية الرومانسية: «إسرائيل نمر من ورق»، وهي وإن كانت عكس المقولة السابقة، إلا أنها لا تقل خطراً عنها، وتؤدي نفس الوظيفة.. فإذا كان تضخيم قوة العدو سيعني الخوف منه، وعدم محاولة مواجهته، وتبرير الرضوخ له، فإن الاستهانة بقوة العدو ستعني خوض حربٍ خاسرة، وتكبد هزيمة منكرة، وما يعنيه ذلك من فقد آلاف الأرواح، والتسبب بتدمير مقدرات الشعب، ومنح العدو نصراً جديداً.. ناهيك عن أنها قراءة مغلوطة وسوء في تقدير الموقف، ولا تستند إلى بيانات صحيحة. وهذه كانت من أهم أسباب المغامرات التي جرّت علينا المزيد من النكبات.
وقبل ذلك، أي في السنوات التي سبقت النكبة، كان يجري توصيف المنظمات الصهيونية المسلحة بأنها مجرد عصابات، وكما سبق توصيف طلائع المهاجرين اليهود بأنهم مجرد شذاذ آفاق.. ثم تبين أنهم قادمون برؤية إستراتيجية وبمخطط متكامل وبقدرات علمية ومهنية وعسكرية متطورة، وأن هذه العصابات عبارة عن جيش محترف تمكن من هزيمة الجيوش العربية السبعة التي أتت للحرب مستخفة بهم، ودون تجهيز حقيقي، فكانت النكبة والهزيمة.
أما مقولة «الحق ينتصر في النهاية»، فهي تصلح في أفلام الميلودراما، وليس في الواقع.. كل الإمبراطوريات على مر التاريخ التي انتصرت وسادت وهيمنت لأجيال متعاقبة كانت شريرة وظالمة واستبدادية، وعندما سقطت وانهزمت حصل ذلك بفعل تفككها الداخلي، ونتيجة أسباب موضوعية عديدة لا مجال لذكرها الآن، والقوى التي انتصرت عليها وأتت مكانها - حتى لو كانت في بدايتها تبدو طيبة وخيّرة، أو ادعت ذلك - سرعان ما ظهرت شرورها ومظالمها، وصارت أسوأ من سابقتها.
الإيمان بأنك على حق، لا يمنحك نصراً، والاكتفاء بالدعاء حيلة لمواساة النفس القلقة والمفجوعة، وهو ليس من أدوات النصر، المسلمون خاضوا حروباً كثيرة، انتصروا في بعضها وهُزموا في بعضها، انتصروا حينما امتلكوا أدوات وشروط الانتصار، وهزموا حين فقدوها أو استهانوا بها، حدث ذلك حتى بوجود النبي بشخصة الكريم على رأس جيشه، وبوجود قادة أكفاء، مثل: خالد بن الوليد وصلاح الدين والغافقي وغيرهم.. الانتصار له شروط مادية وقوانين موضوعية ولا علاقة له بالأماني والمعتقدات والأدعية.
الشعوب أيضاً تُهزم، وتُمحى من الذاكرة، وتصبح مجرد إرث تاريخي، بل وتنقرض حرفياً، بصرف النظر عن حسن نواياها وشجاعة رجالها ونسائها الولادات.. تُشطب من التاريخ حين لا تفهم مساراته وتحولاته فيتقدم عليها ويطويها خلفه.. والأمثلة كثيرة جداً.
بالتأكيد هذه ليست دعوة الإحباط والتخويف، بل دعوة للتعلم من دروس التاريخ، واستحضار الأدوات الحقيقية للنصر، وعدم الركون للأماني والأوهام.. أي دعوة لتغليب لغة العقل والمنطق والحكمة على لغة العواطف والتفكير الرغائبي.. دعوة لعدم الانخداع بالشعارات الكبيرة.



عبدالغني سلامة
2023-12-20

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى