د. أحمد الحطاب - مآلُ مُرتكزات السياسة التَّعليمية مباشرةً بعد الاستقلال

مباشرةً بعد استقلال البلاد سنة 1956، كانت السياسة التَّعليمية ترتكز على أربعة مبادئ هي : التوحيد، التعميم، المَغرَبة والتعريب.

التوحيد unification يعني توفير نموذج تعليم واحد يتساوى أمامه المواطنون بغض النظر عن وضعهم الاجتماعي والاقتصادي، أي التعليم العمومي المجاني. تعليم مُنصف يضمن الجودةَ وتكافؤ الفرص للجميع، لا فرق فيه بين الغني والفقير. هل تحقق التوحيد؟ من قال ويقول نعم، فإنه بكل بساطة يعيش في كوكبٍ آخر. لماذا؟

لأن الواقع ضَربَ ويضرِب عرضَ الحائط هذا المبدأ! ودون الدخول في التفاصيل، عندما أصبح التَّعليم بِضاعةً تُباع وتُشترى أو بِضاعة قابلة للاستثمار، أصبح المغاربة أمام نوعين من التَّعليم : تعليم للفقراء وهو التعليم العمومي المجاني وتعليم للأغنياء والميسورين وهو التًعليم الخصوصي. وحتى هذا الأخير فيه درجات : تعليم خصوصي للطبقة الراقية من مدارس عليا وجامعات أجنبية حطَّت الرحالَ بالبلاد، تعليم خصوصي للطبقة المتوسِّطة المُضحِّية بالغالي والنفيس من أجل مستقبل فلدات أكبادها وتعليم خصوصي منتشر في الأحياء الشعبية يُنهك إلى حد كبير القدرة الشرائية لمَن يُرسلون إليه بناتِهم و أبناءَهم، فارِّينَ من التعليم العمومي الذي تدنَّت سُمعتُه إلى أقصى حدٍّ. ولا داعي للقول أن تساكنَ هذه الأنواع من التعليم زمانا ومكانا وَأدَ وقتلَ ودَفَن إلى ما لا نهاية مبدأ تكافؤ الفرص. ناهيك عن أن التَّعليم الخصوصي متروكٌ لحاله يتصرَّف فيه المستثمرون (جلُّهم تجَّار الشكارة) كما يشاؤون.

التَّعميم généralisation يعني أن تكونَ المدارسُ في متناول فَلدات أكباد progénitures المواطنين على الأقل مند سِنِّ التَّمدرُس إلى غاية سن 15 سنة للاستفادة من التعليم الأساسي الإجباري. عن أي تعميم نتحدث والعديد من الأطفال يقطعون يوميا مسافةَ الكيلومترات للالتحاق بالأقسام برداً، شتاءً و حرّاً. عن أي تعميم نتحدث والسلطة الوصيَّة على التعليم لا تُحرِّك ساكنا عندما لا تُحترم إجباريةُ التَّعليم الأساسي. وعن أي تعميم نتحدث عندما لا تتوفَّر العديدُ من المدارس على أدنى شروط الدراسة. والتَّعميم لا يجب أن يُختَرلَ في نسبة التَّمدرُس (في غالب الأحيان، تقترب من 100%) وأرقام جافة لا تعني أيَّ شيء إذا لم يتم تحليلُها تحليلا عقلانيا. ما يهمُّ في تَعميم ناجع، هو ما هي نسبة المتمدرسين الذين ينتقلون من المرحلة الابتدائية إلى مرحلة الثانوي الإعدادي، ومن الإعدادي إلى التأهيلي، ومن التأهيلي إلى العالي. وما يهمُّ كذلك، هو ما هي نسبة الطلبة الذين يُنهون دراستَهم العليا بالحصول على شواهد. فإذا قارنا هذه النسبة مع الأفواج الضخمة التي تلتحق سنويا بالتعليم الابتدائي، فسنجد أن المنظومة التربويةَ تعاني من هدرٍ كبيرٍ ومُخيفٍ. ما يجب استنتاجُه هنا، هو أن مبدأ التَّعميم لم يُؤتِ أكلَه رغم الجهود المبذولة من طرف السلطة الوصيَّة على القطاع.

المَغْرَبَة marocanisation تعني حُلولَ مُدرِّسين مغاربة مكانَ المدرِّسين الفرنسيين الذين كانوا يعملون بالمدارس المغربية أثناء الحِماية وإلى غاية الثمانينيات. المغربة ضرورية وإجبارية تفرضها المواطنة وحب الوطن. لكن أن تتِمَّ بدون بُعد تظرٍ ورؤية واضحة، فإنها تصبح وبالاً على المنظومة التربوية تُعرقل سيرَها نحو الجودة والنجاعة. عن أية مغربة نتحدث وأفواجُ من المُدرِّسين بأكملها لم تخضع لأي تكوين لا أساسي ولا تربوي. وإن خضعت للتَّكوين، فغالبا ما يكون هذا الأخير قصيرَ المدَّة لا يُغني ولا يُسمن من جوع. والطامة الكبرى أن هذه الأفواج بقيت عشرات السنين تُمارس مهنةَ التَّعليم بدون تكوين يُذكرُ وبدون تداريب دورية. فمن يؤدِّي ضريبةَ هذا الإهمال أو دعونا نقول التَّسرُّع في اتٍّخاذ القرارات؟

إنهم بكل بساطة المتعلِّمون، ومن خلالهم، المجتمع، ومن خلاله، البلاد برمَّتها. أليس هذا تهوُّرٌ واستخفافٌ بالمسئولية وعدم مراعاة مصلحة البلاد؟ لا أزال أتذكر الأفواجَ الهائلة من المصريين والجزائريين والرومانيين الذين استقطبتهم وزارة التربية الوطنية من أجل التدريس بالمدارس الثانوية المغربية. لماذا؟ بكل بساطة، هذا الاستقطاب ناتج عن التَّسرُّع في اتِّخاذ القرارات. إن المَغربةَ، كمبدأ وطني مشروع، شابَها قدرٌ كبيرٌ من الارتجال وعِوَض أن تساهمَ في نجاعة المنظومة التربوية، فإنها كسَّرتها إلى حدٍّ كبير. وحتى لما فطِنت السلطة الوصية وأدركت أهميةَ التَّكوين وأنشأت العديدَ من مراكز التكوين، فإنها لم تتخلَّص من الارتجال. والدَّليل على ذلك، أن هذه المراكز أصبحت تكوِّن، وخصوصا في الثمانينيات، أعدادا هائلةً من المدرِّسين تفوق بكثير الحاجات الحقيقية للمنظومة التربوية. فأٌغرِقَتْ المؤسَّسات التعليمية بالمدرِّسن الفائضين.

التعريب arabisation يعني بكل بساطة استعمال اللغة العربية كلغة للتدريس في جميع مراحل التعليم. وأول مُحاولة للبدء في التَّعريب كان قد قام بها المرحوم محمد الفاسي سنة 1960 لما كان وزيرا للتربية الوطنية. كانت هذه المحاولةُ تهدف إلى تعريب المرحلة الابتدائية لكنها فشلت فشلا ذريعا. التعريب شيءٌ مرغوبٌ فيه ولا جدالَ في تبنِّيه. لكن، إذا انطلق حصريا من مُرتكزات غير علمية وغير مضبوطة كالوطنية patriotisme والعروبة arabisme والقومية العربية nationalisme arabe...، فمآله الفشل وبالأخص، فشل المنظومة التربوية. و هنا، يُطرح السؤال الذي لا مفر ّمنه : هل المنظومة التربوية، بالأمس واليوم، مهيَّأة لتصبح مُعرَّبة برمَّتها؟ كل إنسان عاقل، بعيد النظر ويحب الخير لبلاده، سيقول : لا! لماذا؟

لأن استعمالَ اللغة العربية في التدريس يعني أن هذه اللغة نفسَها مهيَّأة ومُؤهَّلة لتقوم بهذا الغرض. والحقيقة أن هذا التهييئ لم يكن مُتوفِّرا لا بالأمس ولا اليوم. والتهييئ يبدأ أولا وقبل كل شيء ومنطقيا بتوفير المصطلحات وخصوصا منها العلمية، التي هي أساس لغة التدريس. كما يتطلَّبًُ التهييئ توفيرَ المراجع الخاصة بالمتعلِّم والمدرِّس إضافةً إلى تكوين المدرِّسين. كل هذه الأمور تعاملت معها السلطة الوصية بتهوُّرٍ و تسرُّعٍ في اتخاذ القرار. بل الحقيقة أن هذه السلطة تصرَّفت تحت ضغط المشاعر بعيدا عن الرُّؤية العلمية المتبصِّرة. وهذا يعني أن الديماغوجية تغلَّبت على العقل دون اعتبار ما لهذه الديماغوجية من انعكاسات سلبية على المنظومة التربوية وعلى مَن يتردَّدون عليها وعلى مَن يدرِّسون بها. وهنا، يُطرحُ سؤال آخر : لماذا لم تُقْدم إلى يومنا هذا السلطةُ الوصيَّةُ على تعريب التعليم العالي العلمي؟

الجواب أبسط من السذاجة! لأن البحث العلمي ببلادنا فاته الرَّكبُ ومنذ عشرات السنين من حيث توفير المصطلحات العلمية المُعرَّبة. فاته الرَّكبُ أولا لأن المصطلحات العلمية تُنتَجُ في البلدان الغربية، وغالبا باللغة الإنجليزية. ثانيا، لا توجد ببلادنا مؤسسة علمية تواكب إنتاجَ المصطلحات العلمية بهذه البلدان وتقوم بترجمتها من اللغة الأصلية إلى اللغة العربية. ثالثا، دعونا من الديماغوجية لنقول بكل صراحة أن اللغةَ العربية، حسب الوضع الذي هي عليه اليوم، ليست مؤهَّلةً، على الإطلاق، لتكون لغةَ تدريس العلوم بجميع أصنافها. وهنا، لا بدَّ من الإشارة أن الدستورَ المغربي ينص على إنشاء أكاديمية اللغة العربية التي من مهامها تطوير اللغة العربية لجعلها أداة تواكب التَّطوُّر العلمي والتكنولوجي وتُستعمل كوسيط لإجراء الأبحاث العلمية وإنتاج المعرفة. غير أن هذه الأكاديمية لم تَرَ النورَ رغم الحديث عنها مند بداية الألفية الثالثة.

لا أريد أن أطيلَ لأن الموضوعَ متعدِّدةٌ أبعاده ومتداخلة. لكن، قبل أن أختمَ، أريد فقط أن أثيرَ انتباهَ القراء إلى الكيفية التي يتعامل بها المسئولون مع القضايا الحساسة التي يرتبط بها مصير البلاد والعِباد. تعاملٌ فيه نسبة عالية من الارتجال وجرعة مُضاعفة من الديماغوجية. كل المبادئ الأربعة السالفة الذكر لم تكن إلا شعارات فارغة لذرِّ الرماد على العيون.

ولا مبدأٌ واحدٌ تمَّ إكمالُ تنزيله على أرض الواقع. فعوض أن يوجَّدَ التَّعليم، تم تفكيكُه démembrement. وعوض أن يُعمَّمَ التعليمُ، تمَّ تركيزُه في المُدن على حساب العالم القروي وخصوصا العالم القروي المعزول جغرافيا. وعوض أن يُمَغرَبَ التَّعليم بالتَّدريج وحسب رؤية مضبوطة ومدروسة، غلبت العشوائية على الجِدِّية. وعوض أن يُعرَّبَ التعليم، هو الآخر حسب خطة عقلانية، غلبت مشاعر العروبة والقومية العربية على العقل والتَّأنِّي وبُعد النظر.

فلا غرابةَ أن تفشلَ كل الإصلاحات التي خضعت لها المنظومة التَّربوية منذ استقلال البلاد. لماذا؟ لأنه، كلما فشل إصلاح في تقويم اعوجاجات المنظومة التَّربوية، كلما تراكمت مشاكِلُها. وكلما طالت مدَّةُ هذا التَّراكم، كلما استعصى إصلاحُ عيوب المنظومة التَّربوية. وهذا هو ما لم يرِدِ السياسيون والحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام، إدراكَه إلى يومنا هذا. لك الله يا وطني!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى