د. أحمد الحطاب - ماذا عن جودة أداءِ المدرسة والتعليم والمدرِّس

يُعتَبَر دخول طفلٍ، لأول مرة، إلى المدرسة حدَثٌ يرسم، بالنسبة له، منعطفا في حياته الشخصية. منعطفٌ يتميَّز ليس فقط بولوجِه إلى عالم المعرفة والثقافة والتربية والتهذيب والعلم...، ولكن كذلك لولوجه إلى مجال الاعتبار considération (من طرف والديه ومحيطه والمجتمع) وإلى ميدان التَّفتُّح épanouissement والتَّحرُّر émancipation.

إن التعليمَ هو الذي، من خلال خدماته، يجعل هذا الوافدَ الجديدَ يستفيد من هذه المزايا.

إذا وضعنا الذهابَ إلى المدرسة وما توفِّره هذه الأخيرة من تعليم في إطار هذه المزايا، فإن التَّردُّدَ على مؤسسة التعليم يُعدُّ متعةٌ un plaisir ليس فقط بالنسبة للوافدين الجُدد ولكن كذلك بالنسبة لأولياء أمورهم.
غير أن هذه المُتعة لا يجب أن تقترنَ فقط وحصريا بتخطِّي عتبة المدرسة من طرف الطفل. بل إن هذا الأخيرَ يجب أن تواكبَه هذه المتعةُ ويستمتعَ بها طيلة فترة تمدرسِه. فعلى المدرسة أن توفِّرَ الشروطَ والظروفَ الملائمة لاستمرارها ودوامها.

فما هي الأمورُ التي على المدرسة أن تقومَ بها لتكونَ مكانا يحسُّ فيه الطفلُ والمراهقُ، باستمرارٍ بمتعة التَّعلُّم le plaisir d'apprendre؟

الجواب على هذا السؤال بسيط : أن توفِّرَ هذه المدرسةُ تعليماً ذا جودة في مدرسة ذي جودة ومن طرف مدرسين ذوي جودة. الجودةُ la qualité، كلمة نجدها في اللغة المتداولة، في النقاشات، في الشعارات، في الاستراتيجيات والسياسات التَّعليمية… علما أنها تُعتبرُ عاملا حاسما في المسار التَّعليمي للمتعلِّم وفي تكوينه تربويا، علميا، معرفيا...

بالفعل، إن جودةَ العرض التَّعليمي، البيداغوجي والتَّربوي للمدرسة هو الذي يمكِّن من رسمِ المستقبل الاجتماعي والمهني للمتعلِّم أو، بعبارةٍ أخرى، من اندماجه التَّدريجي والبنَّاء في المجتمع. وحتى يكونَ هذا الاندماجُ متوَّجاً بالنجاح، من الضروري أن تكونَ متعةُ وجوده بالمدرسة هي منشِّطُه ومحفِّزه للتَّعلُّم باستمرار. عكسَ ذلك، فإن المتعلِّمَ يخضعُ للتَّعليم subit l'enseignement عوض أن يُحبَّه.

فما هي إذن متعةُ التَّعلُّم؟

إنها بكل بساطة، الوضعُ الذي، من خلاله، المتعلِّمُ يُحسُّ ويُظهِر إراديا وعن طيب خاطرٍ (بدون إكراهٍ) رغبتَه، وبالأخص، طموحَه في التَّعلُّم. وحينما نتحدَّث عن متعة التَّعلُّم، فكأننا نقول : "يريد أن يتعلَّمَ" il veut apprendre. وما معنى "يريد أن يتعلَّمَ"؟ بكل بساطةٍ، معناها "البحث عن الفهم" chercher à comprendre. وهذا أمرٌ مختلفٌ جذريا عن الأوضاع التي هي مقترنةٌ بابتلاع المعارف ingurgiter le savoir وملء وحشو الأدمغة remplissage des cerveaux. ولا داعيَ للقول أن تحريفَ عملية "يريد أن يتعلَّم" من اتجاهها البنَّاء، هي بمثابة كبحِ وضعية "البحث عن الفهم". إنه كذلك (التحريف) وضعُ المتعلِّم في حالة خضوعٍ وإحباطٍ وخيبة أمل. إن التَّعليمَ والمدرسةَ والمدرِّسَ موجودون للاستجابة لرغبات المتعلِّم وخصوصا ميولُه إلى "البحث عن الفهم". إن "البحث عن الفهم" يجب أن يكونَ هو الخيط الناظم والمحرِّك الأسأسيان لجودة الممارسة التَّعليمية.

فما هي الجودة؟

إنها بكل بساطةٍ إعدادُ تعليمٍ وبِناءُ مدارسَ وتكوينُ مدرِّسين قاسمهم المشترك هو الاستجابة لطموحات المتعلِّم المتمثلة أساسا في "يريد أن يتعلَّم" و "البحث عن الفهم".

فما هو تعليم ذو جودة؟

إنه تعليم (دون الدخول في التفاصيل) يكون :

-مُعَداًّ من أجل المتعلِّم وليس العكس.
-منصفا وعادلا يكون فيه تكافؤ الفرص حقيقةً ملموسةً وليس حُلما.
-فيه المتعلِّمُ شخصا مستعدا نفسيا وبيداغوجيا ليتعلَّمَ و يفهمَ.
-فيه نمو قدرة المعرفة développement cognitif للمتعلِّم وتفتُّحُه الفكري اهتمامين مركزين من ضمن انشغالات هذا التَّعليم.
-هدفُه ليس فقط التثقيف وإغناء المعارف بما فيه فائدة ولكن كذلك تعليم يُربِّي وفي نفس الوقت، يكوِّن شخصيةَ المتعلِّم.
-هدفُه بناء رأسٍ جيِّدةَ التركيب une tête bien faite و ليس رأس مملوءة بدون فائدة.
-هدفُه تجنُّب تراكم المعارف الجافة، المُشَيَّئة chosifiées (مُحوَّلة إلى أشياء)، لا رائحةَ ولا لونَ ولا طعمَ لها.
-هدفُه تنمية الفكر النقدي لدى المتعلِّم وتعويدُه على أخذ مسافة بالنسبة للمعرفة (المعرفة = تفسيرٌ وتأويلٌ وليس حقيقة نهائية).
-موجَّها نحو استقلالية التَّعلُّم autoapprentissage والقدرة على التَّكيُّف capacité d'adaptation.
-متبنِّيا لتقويم بنَّاء و مكوِّنٍ…

فما هي مدرسةٌ ذات جودةٍ؟

إنها مدرسةٌ (دون الدخول في التفاصيل) تكون :

-متجذِّرةً في المجتمع بمعنى أنها نتاجٌ لهذا المجتمع، و في نفس الوقت، مُنتِجةٌ له.
-فيها المواطنة وحب الصالح العام والأخلاق وأخلاقيات المهنة قيماً أساسية.
-مكانا يسود فيه الاحترام بين جميع مُكوِّنات المجتمع المدرسي.
-مالكةً لمشروع بيداغوجي projet pédagogique اجتماعيا وتربويا (قليلة هي المدارس العمومية و الخاصة التي تتوفَّر على هذا المشروع).
-تميِّز بين فعل "علَّمَ" و فعل "ربى".
-مُنفتِحةً على الحياة لأنها، في نهاية المطاف، تُهيّئ المتعلِّمَ ليندمجَ مستقبلا في الحياة الاجتماعية والنَّشِطة.
-بمثابة رافعة للتنمية.
- أداةً لتكوين مواطنين مسئولين و مُنتِجين.
-مٌوليةً اهتماما بالغا للرأسمال البشري وتعتبره كاستثمار هدفُه تجديد قدرات المجتمع بمختلف أصنافها.
-متوفِّرةً على بنيةٍ تحتيةٍ جيِّدةٍ وعلى بيئةٍ جذابةٍ ليس فقط من الناحية البيداغوجية و لكن كذلك البيئية والثقافية (الأنشطة الاجتماعية، الثقافية والرياضية تشكِّل بالنسبة للمتعلِّم فرصةً ونوعاً من التعبير الجسدي، الحركي والتواصلي).
-منفتحةً على التغييرات التي تحدث في المجتمع اقتصاديا، ثقافيا، علميا، تكنولوجياً… (في اتجاه إعادة النظر في توجُّهها بالأخذ بعين الاعتبار هذه التغييرات لدمجها في مشروعها البيدأغوجي، الاجتماعي التَّربوي..
فما هو مدرِّسٌ ذو جودةٍ؟
المدرِّسُ الذي يتَّسم أداءُه بالجودة يكون أولا وقبل كل شيء حاملاً للتغيير.

كعضوٍ في المجتمع الذي ينتظر الكثيرَ من المدرسة، المدرِّسُ هو :

-أولا و قبل كل شيء، مواطنٌ تتخلَّلُه نبرةٌ من حب الوطن والصالح العام.
-رافعةٌ للتنمية (لأن النشاطَ والعمل البشريين هما اللذان يكونان وراء التنمية - فليبدأ هذا الأمر من المدرسة)
-ناقلٌ للثقافة والقِيم.
-قدوةٌ يُحتدى بها.

كعضو في المنظومة التَّربوية، على المدرس أن يعرفَ :

-أن مهنتَه هي، بكل تأكيد، نتيجةٌ لتكوينٍ ولكن كذلك للموهبة.
-ما هي المنظومة التربوية وخصوصا ما هو تنظيمُها وما هي النصوص التي تنظِّمها.
-ما هي السياسة التعليمية والتربوية لبلده.
-ما هي الوظائف الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية للتعليم والتربية.
-كيف تشتغل المؤسسة التعليمية.
-أنه جزءٌ مهمٌٌّ في تطبيق السياسة التعليمية إداريا و تربويا.
-أن له دورا أساسيا في قيادة المتعلِّم إلى النجاح وإلى اندماجه مستقبلا في الحياة الاجتماعية والمهنية.
-أن مهنتَه لها ارتباط وثيق بأخلاقيات المهنة والمسئولية.
-التداخل القائم بين المدرسة والأسرة وبين المدرسة والمجتمع.
-ما توفِّره علوم التربية من أجل تحسين وتطوير مهنته…

داخلَ القسم، المدرس هو :

-المتخصصُ في تدريس مادة أو عدة مواد.
-مُثقِّفٌ ومُربِّي بمعنى أنه يساهم في بناء شخصية المتتلِّم.
-مُلِمٌّ بالبيداغوجيا pédagogie وبالديداكتيك didactique.
-يعرف كيف يمزج بين البيداغوجيا وعلم نفس الطفل والمراهق psychopédagogue.
-يُتقِن فن التواصل communicateur ومتمكِّنٌ من لغة التَّد يس والتواصل.
-العنصر المنشِّط activateur، المبتكِر innovateur، الممتحِن examinateur، المقوِّم évaluateur، المؤمن بمبدأ تكافؤ الفرص.
-الواعي بالفوارق الاجتماعية والثقافية الموجودة بين المتعلِّمين ويملك القدرة لتكييف ممارسته التعليمية التربوية مع هذه الفوارق.
-الذي تكون دائما من بين أهداف ممارستِه داخل القسم التَّحرُّرُ والتَّفتُّح الفكريان émancipation et épanouissement intellectuels، التَّعوُّد على الفكر النقدي esprit critique، استقلالية التَّعلُّم autoapprentissage، أخذ المبادرة prise d'initiative، اتخاذ القرارات prise de décisions، التدرُّبُ على حل المشكلات résolution des problèmes …
خارج القسم، المدرِّسُ مدعوٌ :
-لأخذ مسافة بالنسبة لمهنته، لتعليمه، لممارستِه داخلَ القسم… و بعبارة أخرى، أن يُخضِعَ مهامَّه لتقويم ذاتي auto évaluation ليتمكَّنَ من تحسين أدائه باستمرار.
-لتحسين صورتِه علميا، تربويا، اجتماعيا وأخلاقيا.
-للإطلاع على ما استجدَّ من أبحاث ومن معارف في مجال تخصُّصِه.
-للتَّعوُّد على استعمال تكنولوجيات الإعلام والتَّواصل، وبالأخص، تلك التي قد تساعده على الرفع من جودة ونجاعة الممارسة التَّعليمية التربوية…

عندما نتحدث عن الجودة فيما يخصُّ الممارسة التَّعليمية، من المؤكَّد أن صانعَ هذه الجودة، إلى حدٍّ كبيرٍ، هو المدرس. غير أن هذا الأخير لا يمكن أن يصنعَ هذه الجودة من فراغ. جودة الممارسة التَّعليمية مرتبطةٌ ارتباطا وثيقا بتكوين المدرِّسين تكوينا عالي المستوى ومتعدِّد التخصُّصات. لا يكفي، على الإطلاق، أن يكونَ المدرِّسُ متمكِّنا من مادَّة تخصُّصِه. ما يهم هو كيفية التعامل مع المعارف لتصبحَ دعامةً وأداةً لبناء الإنسان المغربي المتحرِّر فكريا واجتماعيا والقادر على إنتاج القبمات المضافة التي تساهم في تقدُّم البلاد وازدهارها والرفع من شأنها بين الأمم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى