فاتن فاروق عبدالمنعم - القدس.. ملتقى الأنبياء (٣) أرض الميعاد:

(٣)
أرض الميعاد:


يروي إشعياء الثاني (نبي يهودي مجهول كما تقول كارين) أن يهوه مسح على رأس قمبيز بالزيت المقدس فأصبح مسيح اليهود المنتظر الذي سيقوم بإقامة المعبد على جبل صهيون مرة أخرى ليكون مقرا ليهوه، منه سيحكم العالم بأسره، وإليه يعود اليهود من المنفى (بابل) ويصبح العائدون من المنفى هم «رواد النظام العالمي الجديد»

(هل لاحظتم المعنى الذي يرمي إليه النظام العالمي الجديد الآني، كلها مفردات تلمودية تعني أنهم فقط الرواد والحكام، ولا عزاء لمن يرددون ما يملى عليهم دون تبصرة)

وعندما يعودون من المنفى ويقيمون المعبد ليهوه ستخضع كل الأمم لإسرائيل جبرا وقسرا، بالفعل انتصر قمبيز على الفرس ودخل بابل واستعاد ما سرق من أورشاليم كي يقيم المعبد مرة أخرى ولكن الذين ولدوا في المنفى ونشأوا في الأبهة البابلية أصبح من الصعب عليهم العودة إلى أورشاليم الخربة فآثروا عدم العودة إلا قلة منهم خاصة لأن معهم تابوت العهد ومن الممكن أن يقيموا المعبد في المنفى ويهوه سيكون مقره معهم حيثما وجدوا.

تقول كارين أن مؤلفو الكتاب المقدس يرون أن القبائل الإثنى عشر الذين سبوا ببابل فقط هم شعب إسرائيل وما عادهم دخلاء عليهم فلما عاد قلة منهم لبناء المعبد في أورشاليم انضم إليهم اتباع يهوذا ولكن سرعان ما فتر عزمهم على الإقامة في إورشاليم خاصة أن البناء الثاني للمعبد خالي من تابوت العهد بل لم يعد له أثر فاعتبروا ذلك تمرد من يهوه وعدم موافقته على الإقامة في هذا المعبد.

الهوية الجديدة:
سعى الكهنة العائدين من الأسر على التأكيد على هوية اليهود الجديدة فأمروهم باستبعاد زوجاتهم وأبنائهم الذين تزوجوهم من غير اليهود وحثوهم على تسمية أبنائهم بأسماء توراتية غير الأجنبية التي استشرت فيهم، وقاموا بتدريس القوانين أو الشريعة التوراتية كي لا يحيدوا عنها واستغربوا ما ستحدث عليها، لأن ما سمعوه غريبا على أسماعهم فلم يكن يعرفون هذا من قبل.

بالطبع هذه هي تعاليم التلمود التي كتبها الحاخامات بعد الأسر البابلي لدرجة أن كارين تقول:

“ومنذ تلك اللحظة وتاريخ أورشاليم يتميز باستعباد الشعوب الأخرى استعبادا لا هوادة فيه ولا رحمة، مع ما في ذلك من تناقض صارخ مع عدد من أهم تقاليد بني إسرائيل، وكان الكثير يعارضون ذلك الاتجاه الجديد كما هو متوقع، إذ لم يكونوا يرغبون في قطع جميع العلاقات مع شعب سامرينا والبلدان المجاورة، وكانوا يخشون أن تصبح أورشاليم ضيقة الأفق منغلقة على نفسها وأن تتعرض المدينة للمعاناة الاقتصادية بسبب ذلك، ولكن الآخرين استجابوا للتشريع الجديد.”

اليهود في عهد الإغريق:
في البداية رفضوا الهيلينية (الفكر اليوناني) العلمانية ورفضوا اللحاق بصالة الألعاب الرياضية، رفضا قاطعا للعب عراة ولكنهم فيما بعد انخرطوا في المجتمع بثقافته الجديدة العلمانية التي ترفض فكر القدامى السلفي الذي يعيق انطلاقهم وتعلموا في مدارسهم وتحدثوا لغاتهم وأصبح لهم ملعبا قريبا من المعبد ويظهرون في المباريات المقامة عراة، ودرسوا هوميروس والموسيقى والفلسفة اليونانية، فلا معنى لليهود إلى أن يفصلوا أنفسهم ذلك الفصل المتعسف عن بقية الشعوب، ولكن الفريسيون كانوا مخلصين للمعبد وكانوا يحثون أنفسهم على العزلة وعدم الأكل مع الأمميين (غير اليهود) وعدم تسمية أبنائهم بأسماء اليونانيين أو قبول هدايا الأمميين وذلك حرصا على طهارة المعبد حيث أن الأمميين غير أطهار.

ورغبوا في أن يصبحوا مواطنو البشرية كلها لا أفراد شعب الله المختار مقيدين بقوانين قديمة تعيق حركتهم في الحياة، كانوا يدينون بالوثنية عدا بعض سكان أورشاليم ويهوذا والسامرة كانوا يدينون باليهودية، ومع احتلال الإغريق، منهم من اتخذ من الهلينية (الفكر اليوناني) منطلق لحياته الجديدة ليتخلص من تعنت شريعتهم، ولكن على الجانب الآخر رفض آخرين هذا الذوبان وارتأوا فيه خطورة على هويتهم فالتفوا حول معبد يهوه والتعاليم التوراتية.

قام يهودي يدعى يوسف بتولي جابي الضرائب في سوريا أبان حكم البطالمة الثاني وهو ينتمي إلى عشيرة طوبيا التي ترفض القيود التوراتية، وأصبح أول يهودي يقيم نظام مصرفي وبرزت مهاراته الخاصة في السمسرة والمقاولات مما أحدث انتعاش اقتصادي لدي عشيرته الفقيرة.

محاولة استرداد أورشاليم من الملك هيرود:
ظلت فلسطين تسمى كل مقاطعة فيها باسمها حتى احتلها الرومان فسموها فليسطيا أو بالستينا باللاتينية، بعد أن أقام الملك هيرود المذابح لليهود ليفرض عليهم الهلينية انقسموا كما ذكرت آنفا ولكن ظهرت طائفة القمران التي اعتبرت وجوب المقاومة من أجل استرداد المدينة وعودتهم إلى الأساطير القديمة حول هذه المدينة وإن تقاطعت مع التعاليم التوراتية في نزوح قومي للحفاظ على هويتهم فاتخذوا من أيام الاحتفال بأعيادهم ارتفاع لتلك النعرة القومية وشجعهم على ذلك مرض هيرود وهو ما اعتبروه فرصة سانحة لتحرير المدينة، كان هيرود في أوج مجده قد وضع تمثال ذهبي للعقاب على باب المعبد في تحدي صارخ لمشاعرهم الدينية، فقاموا بالصعود فوق السور وحطموا التمثال بالفؤوس ولكن هيرود الذي كان في الرمق الأخير أمر بإعدامهم، ولم تتوقف حالات التمرد التي قوبلت من الحاكم الروماني دائما بالمذابح لدرجة أن مذابح اليهود كانت على أيدي جنود يهود مجندين في جيش الرومان، مما يدل على أنه ليس كل اليهود معارضين لحكم الرومان.

ظهور المسيح عيسى عليه السلام:
دائما وأبدا المتسلطون على العباد والذين يحظون بامتيازات دون غيرهم من خلال نشر الخرافات كي يبقوا متحكمون في التابعين لهم هم من يناهض دعوة الأنبياء، لذا من الطبيعي أن يكون أي نبي هو عدو لهم، فلما ظهر المسيح وأخذ يدعو الناس لصحيح الدين وأصبح له أتباع، أدرك كهنة المعبد أنه سينقض مملكتهم مملكة الفساد فقرروا التخلص منه ولكن الله قد رفعه من الأرض ولم يصلب بينما الصلب كان لآخر الذي شبهه به لليهود لتبدأ حقبة جديدة للمدينة.

بالطبع كارين تعرضت لهذه الحادثة طبقا لمعتقدها من الصلب والدفن ثم القيام ولكن الملاحظة التي أدهشتني أنهم يعتقدون بوجود “أخ” للمسيح!

مما يحمد لكارين الراهبة المستشرقة احترامها لأبجديات البحث العلمي فلا تندفع بعاطفتها الدينية دون ترو حيث قالت إن اليهود الذين رفضوا الاعتراف بالمسيح إله رفضوا لأنهم رأوه عندما كان طفلا ولا يمكن أن يصدقوا أنه إله.

لما فشل اليهود في إقامة المعبد مقر إقامة يهوه في الأرض وبعد ضياع تابوت العهد خرجت طائفة المتصوفة منهم يقولون إن أورشاليم الأرضية تهدمت ولكن أورشاليم السماوية قائمة ومن الممكن أن يتعبدوا ويطلبوا من يهوه أن يعيد إليهم أورشاليم الأرضية عندئذ سيتمكنوا من نسيان أيام الفراق والشتات الذين تعرضوا له.

ولكن ما حدث هو عكس ما يأملون تماما إذ أن الامبراطور الروماني أعاد بناء أورشاليم المهدمة وسمح ببناء المعبد ولكن مع وجود آلهة الرومان الوثنية مثل جويبتر وبذلك فإنهم يسعون لبناء شكل يناسب الامبراطورية الرومانية، فلم يكن الرومان يكنون أي حب لليهود وكانوا يرون دينهم دينا بدائيا، وبناء أورشاليم الجديدة يعني وحدة الثقافة الرومانية والتي على اليهود أن يذوبوا فيها كي يلتحقوا بالعالم الحديث عالم التقدم والحداثة وينسوا العداء المتبادل بينهما فأصدر الامبراطور هارديان مجموعة من المراسيم التي تهدف إلى حمل اليهود على تركهم عاداتهم التي تخصهم والتناغم مع العالم اليوناني الروماني فقضى بتحريم الختان لأنه عادة همجية ومراسم تعيين الربانيين وتعليم التوراة واعتبر اليهود مثل هذا الميثاق أنه إعلان حرب، فقاموا بحرب عصابات أثخنوا في الرومان ولكن الرومان قادوا حربا ضروسا ضدهم حتى طردوهم من المدينة بشكل نهائي وحولوها إلى مدينة يونانية حديثة (باعتبار الهلينية هي أصل الحضارة) فنشروا تماثيل آلهة الكابيتول الثلاثة جوبيتر ومانيرفا وجونو مما شكل أكبر تحدي لمشاعر اليهود الدينية، وبذلك أصبحت أورشاليم التي تحولت إلى إيليا إلى مدينة أممية تماما.

ألا تلاحظون أن أسماء الكواكب التي تدور حول الشمس هي أسماء آلهة الرومان؟ هل هو تعبير عن انتمائهم لأصولهم أم تمجيد للشيطان الذي يدير المشهد؟

وللحديث بقية إن شاء الله

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى