لا نجد (كلمة أدب) فيما بين أيدينا من الكلام المأثور عن الجاهليين؛ ولكن ورودها فيما أُثِر عن الرسول (صلوات الله عليه) وعن الصحابة يرجح أنها كانت مستعملة قبل الإسلام في المعاني التي دلت عليها في عهد الرسالة أو في معاني قريبة منها ولدينا روايات من صدر الإسلام منها:
1 - أن علياً رضي الله عنه قال للرسول: يا رسول الله:
نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره فقال: (أدبني ربي فأحسن تأديبي، ورُبيت في بني سعد) والتأديب هنا معناه التعليم
2 - ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال:
(إن هذا القرآن مأدبة الله في الأرض فتعلموا من مأدبته)، والمأدبة هنا موضع الأدب أي الكتاب الجامع ما يؤدب به الله الناس من أوامر ونواه ومواعظ وحكم
3 - وروي عن عبد الله بن عباس أنه قال في تفسير الآية:
(يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً): فقِّهوهم وأدبوهم. وقال مُقاتل أحد التابعين في تفسير الآية نفسها: أن يؤدب المرء نفسه وأهله فيأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر) والأدب في هاتين الروايتين يراد به التهذيب الذي يقرب من الخير ويبعد عن الشر وفي العصر الأموي نجد الكلمة مستعملة في المعاني المتقدمة أو ما يقرب منها:
جاء في شعر مُزاَحم العُقيلي وصفُ الجمل المذلَّلُ بالأديب قال:
فهن يَصرفنَ النوى بين عالج ... ونجران تصريف الأديب المذلل
وجاء في خطبة زياد البتراء:
(فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدَبون لكم. أما والله لأؤدِّبنكم غير هذا الأدب أو لتستقيمُنَّ)
وقال بعض الفزارين من شعراء الحماسة:
أكْنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقّبْه والسوأة اللق كذاك أُدِّبت حتى صار من خلقي ... أني وجدت ملاك الشيمة الأدبا
واتخذ الخلفاء والكبراء في العصر الأموي فما بعده معلمين يؤدبون أولادهم فكانوا يسموْن (المؤدِّبين) وكانوا يؤدبون برواية الكلام البليغ الداعي إلى المكارم، الحافز إلى العظائم. وقد روى عن عبد الملك بن مروان أنه قال لمؤدِّب ولده: وعلمهم الشعر يمجدوا وينجدوا
وفي عيون الأخبار أن عمر بن عبد العزيز قال لمؤدبه: كيف كانت طاعتي إياك وأنت تؤدبني؟ قال: أحسن طاعة؛ قال: فأطعني الآن كما كنت أطيعك
وكان المؤدبون، حين يروون القصائد والخطب والأمثال، يذكرون طرفاً من أخبار أصحابها ونُبذاً من الواقعات التي قيلت فيها فاستعمل الأدب في الشعر والنثر وما يتصل به من أخبار ونوادر، وفشا هذا العرف على مر العصور، وسُمِّي من يروي الأدب وأخباره ويعلمه أديباً
وامتاز الأديب من الشاعر والكاتب. فإذا غلب على الرجل درس الأدب وتعليمه فهو أديب، وإذا غلب عليه إنشاء الشعر فهو شاعر، وإذا غلب عليه إنشاء النثر فهو كاتب. وربما جمع الرجل هذه الألقاب الثلاثة أو اثنين منها
وأطلقت كلمة (الأدب) منذ تلك العصور على المعنيين: المعنى الخلقي والمعنى الكلامي؛ أعني حسن الخلق والمعاملة والكلام البليغ وما يتصل به من أخبار. وقد ذكر هذين المعنيين ابن قتيبة في مقدمة كتابه (أدب الكاتب) إذ قال: (نحن نستحب لمن قبل عنا أو ائتم بكتبنا أن يؤدّب نفسه قبل أن يؤدّب لسانه ويهذب أخلاقه قبل أن يهذب ألفاظه)، وقيل لهذين المعنيين من بعد (أدب النفس وأدب الدرس)
فأما أدب النفس فقد توسعوا فيه حتى شمل كل طريقة مستحسنة في علم أو عمل، وألّفت كتب باسم أدب القاضي وأدب المفتي، وأدب القراءة، وأدب المحدث، وأدب البحث، وأدب المتعلم، وأدب المريد، وأدب النديم، وأدب الدنيا والدين ونحو ذلك
وأما أدب الدرس فقد وسعوه كذلك حتى شمل علوماً عُدّة سميت علوم الأدب أو علم الأدب، وأحياناً يسمونها الأدب اختصاراً
علم الأدب
لم يكن بد لدراسي الشعر والنثر من معرفة قوانين العربية التي تعصم ألسنتهم من الخطأ؛ فكان كل متأدب يتعلم النحو وكل مؤدب يعلّمه إلى ما يعلّم من الأدب. فغدا النحو من وسائل الأدب، واختلط به. وكذلك علوم العربية الأخرى كلما وضع علم جعل من وسائل الأدب ووصل به. فاتصل بالأدب الصرف والنحو والعروض وفنون البلاغة وعلوم أخرى، وسميت كلها علوم الأدب أو علم الأدب أو الأدب
وأراد الباحثون في الأدب بهذا المعنى أن يحدوه حدَّاً واضحاً بين ما يدخل فيه وما يخرج عنه فعرفوه تعريفات متقاربة؛ منها:
1 - علم يُحترز به عن الخطأ في كلام العرب لفظاً وخطّاً
2 - علم يتعرف منه التفاهم عما في الضمائر بأدلة الألفاظ والكتابة
3 - حفظ أشعار العرب وأخبارهم والأخذ من كل علم بطرف وحصروا العلوم التي تدخل في هذه التعريفات فجعلوا علوم الأدب ثمانية، ثم زادوها إلى أثني عشر، عدّها ابن الأنباري في طبقات الأدباء ثمانية: اللغة، والنحو، والتصريف، والعروض والقوافي، وصنعة الشعر، وأخبار العرب، وأنسابهم. ثم قال:
(وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما وهما علم الجدل في النحو وعلم أصول النحو الخ)
وقسمها الشريف الجرجاني تقسيماً منطقيّاً إلى اثني عشر:
قال في مقدمة شرح المفتاح: (إن علم العربية المسمى بعلم الأدب علم يحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظاً أو كتابة.
وينقسم - على ما صرحوا به - اثني عشر قسماً؛ منها أصول هي العمدة في ذلك الاحتراز ومنها فروع)
ثم بين أن الأصول هي: اللغة والصرف والاشتقاق والنحو والمعاني والبيان (والبديع تابع لها) والعروض والقافية
وأن الفروع هي: الخط، وقرض الشعر، وإنشاء النثر، والمحاضرات (ومنه التاريخ)
وقال ابن خلدون في فصل علم الأدب من المقدمة:
وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن لما هو تابع للشعر إذ الغناء إنما هو تلحينه. وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصاً على تحصيل أساليب الشعر وفنونه وقد أُثِرَ تعميم (الآداب) وإطلاقها على معارف أخرى في قول الحسن ابن سهل:
(الآداب عشرة: فثلاثة شهرجانية، وثلاثة أنوشروانية، وثلاثة عربية، وواحدة أربت عليهن. فأما الشهرجانية فضرب العود ولعب الشطرنج ولعب الصوالج. وأما الأنوشروانية فالطب والهندسة والفروسية. وأما العربية فالشعر والنسب وأيام الناس. وأما الواحدة التي أربت عليهن فمقطعات الحديث والسمر وما يتلقاه الناس بينهم في المجالس)
وجاء في إحدى سائل الجاحظ: (إنا وجدنا الفلاسفة المتقدمين في الحكمة ذكروا أن أصول الآداب التي يتفرع منها العلم لذوي الألباب أربعة: فمنها النجوم وأبراجها وحسابها، ومنها الهندسة وما اتصل بها من المساحة والوزن والتقدير، ومنها الكيمياء والطب وما يتشعب من ذلك، ومنها اللحون ومعرفة أجزائها ومخارجها وأوزانها)
وجاء في رسالة إخوان الصفاء:
(اعلم يا أخي أن العلوم التي يتعاطاها البشر ثلاثة أجناس منها الرياضة ومنها الشرعية الوضعية ومنها الفلسفة الحقيقية.
فالرياضة هي علم الآداب التي وضع أكثرها بطلب المعاش وصلاح أمر الحياة الدنيا، وهي تسعة أنواع: أولها علم الكتابة والقراءة؛ ومنها علم اللغة والنحو، ومنها علم الحساب والمعاملات ومنها علم الشعر والعروض؛ ومنها علم الزجر والفأل وما يشاكله؛ ومنها علم السحر والعزائم والكيمياء والحيل وما يشاكلها؛ ومنها علم الحرف والصنائع؛ ومنها علم البيع والشراء والتجارات والحرث والنسل؛ ومنها علم السير والأخبار) ففي كلام ابن سهل والجاحظ وإخوان الصفاء علوم سميت آداباً وليست من علوم الأدب المصطلح عليها.
ويشعر بهذا التعميم قول الجرجاني في كتاب التعريفات:
(الأدب عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ) وقد يسر هذا التعميم حاجة الأديب إلى سعة المعارف والأخذ من كل فن بطرف (كما قالوا) وكذلك أدّى إلى هذا التعميم تولي الكتاب من الأدباء الوزارة ودواوين الدولة وحاجتهم إلى معرفة كل ما تصرفه الدول من السياسات وما يتصل بأعمالها من المعارف.
ومن شواهد هذا أن كتاب (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) ضمن خلاصة المعارف التي كانت في عصره.
ومؤلفو الأدب في عصرنا يقسمون الأدب قسمين: الأدب بالمعنى الخاص وهو الشعر والنثر، والأدب بالمعنى العام وهو كل ما أدركته أمة من المعارف. فيقال مثلاً أدب العرب لما أثر عنهم من نظم ونثر. ويقال أدب العرب أو آداب العرب لكل ما أثر عن الأمة العربية من آداب وعلوم.
وإنما دعا مؤلفينا إلى هذا أنهم قابلوا بكلمة أدب الكلمة الإفرنجية وهي تدل على كل ما تسجله لغة في عصورها كلها أو بعضها وتخص أحياناً بما يسمى عندهم أي الكتابة الجميلة وهي الكلام البليغ من الشعر والنثر. فلما ترجم كُتَّابنا في معناها الخاص بكلمة أدب، وهي ترجمة صحيحة، ترجموها في معناها العام بكلمة أدب، وهي ترجمة تحمل الكلمة العربية أكثر مما شاع استعمالها فيه على مر العصور.
ولو استعملت كلمة (معارف) في هذا المعنى العام لكان أقرب إلى الوضع اللغوي وأبعد عن اللَّبس.
وكان من الترجمة عن اللغات الأوربية أيضاً أن سمينا (كلية الآداب) ترجمة للتسمية ويقابلها بالإنكليزية فأطلقنا الآداب على اللغات وآدابها والفلسفة والجغرافية والتاريخ وجعلنا كلمة (آداب) مقابلة لكلمة علوم التي ترجمتا بها كلمة
عبد الوهاب عزام
مجلة الرسالة - العدد 291
بتاريخ: 30 - 01 - 1939
1 - أن علياً رضي الله عنه قال للرسول: يا رسول الله:
نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره فقال: (أدبني ربي فأحسن تأديبي، ورُبيت في بني سعد) والتأديب هنا معناه التعليم
2 - ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال:
(إن هذا القرآن مأدبة الله في الأرض فتعلموا من مأدبته)، والمأدبة هنا موضع الأدب أي الكتاب الجامع ما يؤدب به الله الناس من أوامر ونواه ومواعظ وحكم
3 - وروي عن عبد الله بن عباس أنه قال في تفسير الآية:
(يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً): فقِّهوهم وأدبوهم. وقال مُقاتل أحد التابعين في تفسير الآية نفسها: أن يؤدب المرء نفسه وأهله فيأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر) والأدب في هاتين الروايتين يراد به التهذيب الذي يقرب من الخير ويبعد عن الشر وفي العصر الأموي نجد الكلمة مستعملة في المعاني المتقدمة أو ما يقرب منها:
جاء في شعر مُزاَحم العُقيلي وصفُ الجمل المذلَّلُ بالأديب قال:
فهن يَصرفنَ النوى بين عالج ... ونجران تصريف الأديب المذلل
وجاء في خطبة زياد البتراء:
(فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدَبون لكم. أما والله لأؤدِّبنكم غير هذا الأدب أو لتستقيمُنَّ)
وقال بعض الفزارين من شعراء الحماسة:
أكْنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقّبْه والسوأة اللق كذاك أُدِّبت حتى صار من خلقي ... أني وجدت ملاك الشيمة الأدبا
واتخذ الخلفاء والكبراء في العصر الأموي فما بعده معلمين يؤدبون أولادهم فكانوا يسموْن (المؤدِّبين) وكانوا يؤدبون برواية الكلام البليغ الداعي إلى المكارم، الحافز إلى العظائم. وقد روى عن عبد الملك بن مروان أنه قال لمؤدِّب ولده: وعلمهم الشعر يمجدوا وينجدوا
وفي عيون الأخبار أن عمر بن عبد العزيز قال لمؤدبه: كيف كانت طاعتي إياك وأنت تؤدبني؟ قال: أحسن طاعة؛ قال: فأطعني الآن كما كنت أطيعك
وكان المؤدبون، حين يروون القصائد والخطب والأمثال، يذكرون طرفاً من أخبار أصحابها ونُبذاً من الواقعات التي قيلت فيها فاستعمل الأدب في الشعر والنثر وما يتصل به من أخبار ونوادر، وفشا هذا العرف على مر العصور، وسُمِّي من يروي الأدب وأخباره ويعلمه أديباً
وامتاز الأديب من الشاعر والكاتب. فإذا غلب على الرجل درس الأدب وتعليمه فهو أديب، وإذا غلب عليه إنشاء الشعر فهو شاعر، وإذا غلب عليه إنشاء النثر فهو كاتب. وربما جمع الرجل هذه الألقاب الثلاثة أو اثنين منها
وأطلقت كلمة (الأدب) منذ تلك العصور على المعنيين: المعنى الخلقي والمعنى الكلامي؛ أعني حسن الخلق والمعاملة والكلام البليغ وما يتصل به من أخبار. وقد ذكر هذين المعنيين ابن قتيبة في مقدمة كتابه (أدب الكاتب) إذ قال: (نحن نستحب لمن قبل عنا أو ائتم بكتبنا أن يؤدّب نفسه قبل أن يؤدّب لسانه ويهذب أخلاقه قبل أن يهذب ألفاظه)، وقيل لهذين المعنيين من بعد (أدب النفس وأدب الدرس)
فأما أدب النفس فقد توسعوا فيه حتى شمل كل طريقة مستحسنة في علم أو عمل، وألّفت كتب باسم أدب القاضي وأدب المفتي، وأدب القراءة، وأدب المحدث، وأدب البحث، وأدب المتعلم، وأدب المريد، وأدب النديم، وأدب الدنيا والدين ونحو ذلك
وأما أدب الدرس فقد وسعوه كذلك حتى شمل علوماً عُدّة سميت علوم الأدب أو علم الأدب، وأحياناً يسمونها الأدب اختصاراً
علم الأدب
لم يكن بد لدراسي الشعر والنثر من معرفة قوانين العربية التي تعصم ألسنتهم من الخطأ؛ فكان كل متأدب يتعلم النحو وكل مؤدب يعلّمه إلى ما يعلّم من الأدب. فغدا النحو من وسائل الأدب، واختلط به. وكذلك علوم العربية الأخرى كلما وضع علم جعل من وسائل الأدب ووصل به. فاتصل بالأدب الصرف والنحو والعروض وفنون البلاغة وعلوم أخرى، وسميت كلها علوم الأدب أو علم الأدب أو الأدب
وأراد الباحثون في الأدب بهذا المعنى أن يحدوه حدَّاً واضحاً بين ما يدخل فيه وما يخرج عنه فعرفوه تعريفات متقاربة؛ منها:
1 - علم يُحترز به عن الخطأ في كلام العرب لفظاً وخطّاً
2 - علم يتعرف منه التفاهم عما في الضمائر بأدلة الألفاظ والكتابة
3 - حفظ أشعار العرب وأخبارهم والأخذ من كل علم بطرف وحصروا العلوم التي تدخل في هذه التعريفات فجعلوا علوم الأدب ثمانية، ثم زادوها إلى أثني عشر، عدّها ابن الأنباري في طبقات الأدباء ثمانية: اللغة، والنحو، والتصريف، والعروض والقوافي، وصنعة الشعر، وأخبار العرب، وأنسابهم. ثم قال:
(وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما وهما علم الجدل في النحو وعلم أصول النحو الخ)
وقسمها الشريف الجرجاني تقسيماً منطقيّاً إلى اثني عشر:
قال في مقدمة شرح المفتاح: (إن علم العربية المسمى بعلم الأدب علم يحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظاً أو كتابة.
وينقسم - على ما صرحوا به - اثني عشر قسماً؛ منها أصول هي العمدة في ذلك الاحتراز ومنها فروع)
ثم بين أن الأصول هي: اللغة والصرف والاشتقاق والنحو والمعاني والبيان (والبديع تابع لها) والعروض والقافية
وأن الفروع هي: الخط، وقرض الشعر، وإنشاء النثر، والمحاضرات (ومنه التاريخ)
وقال ابن خلدون في فصل علم الأدب من المقدمة:
وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن لما هو تابع للشعر إذ الغناء إنما هو تلحينه. وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصاً على تحصيل أساليب الشعر وفنونه وقد أُثِرَ تعميم (الآداب) وإطلاقها على معارف أخرى في قول الحسن ابن سهل:
(الآداب عشرة: فثلاثة شهرجانية، وثلاثة أنوشروانية، وثلاثة عربية، وواحدة أربت عليهن. فأما الشهرجانية فضرب العود ولعب الشطرنج ولعب الصوالج. وأما الأنوشروانية فالطب والهندسة والفروسية. وأما العربية فالشعر والنسب وأيام الناس. وأما الواحدة التي أربت عليهن فمقطعات الحديث والسمر وما يتلقاه الناس بينهم في المجالس)
وجاء في إحدى سائل الجاحظ: (إنا وجدنا الفلاسفة المتقدمين في الحكمة ذكروا أن أصول الآداب التي يتفرع منها العلم لذوي الألباب أربعة: فمنها النجوم وأبراجها وحسابها، ومنها الهندسة وما اتصل بها من المساحة والوزن والتقدير، ومنها الكيمياء والطب وما يتشعب من ذلك، ومنها اللحون ومعرفة أجزائها ومخارجها وأوزانها)
وجاء في رسالة إخوان الصفاء:
(اعلم يا أخي أن العلوم التي يتعاطاها البشر ثلاثة أجناس منها الرياضة ومنها الشرعية الوضعية ومنها الفلسفة الحقيقية.
فالرياضة هي علم الآداب التي وضع أكثرها بطلب المعاش وصلاح أمر الحياة الدنيا، وهي تسعة أنواع: أولها علم الكتابة والقراءة؛ ومنها علم اللغة والنحو، ومنها علم الحساب والمعاملات ومنها علم الشعر والعروض؛ ومنها علم الزجر والفأل وما يشاكله؛ ومنها علم السحر والعزائم والكيمياء والحيل وما يشاكلها؛ ومنها علم الحرف والصنائع؛ ومنها علم البيع والشراء والتجارات والحرث والنسل؛ ومنها علم السير والأخبار) ففي كلام ابن سهل والجاحظ وإخوان الصفاء علوم سميت آداباً وليست من علوم الأدب المصطلح عليها.
ويشعر بهذا التعميم قول الجرجاني في كتاب التعريفات:
(الأدب عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ) وقد يسر هذا التعميم حاجة الأديب إلى سعة المعارف والأخذ من كل فن بطرف (كما قالوا) وكذلك أدّى إلى هذا التعميم تولي الكتاب من الأدباء الوزارة ودواوين الدولة وحاجتهم إلى معرفة كل ما تصرفه الدول من السياسات وما يتصل بأعمالها من المعارف.
ومن شواهد هذا أن كتاب (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) ضمن خلاصة المعارف التي كانت في عصره.
ومؤلفو الأدب في عصرنا يقسمون الأدب قسمين: الأدب بالمعنى الخاص وهو الشعر والنثر، والأدب بالمعنى العام وهو كل ما أدركته أمة من المعارف. فيقال مثلاً أدب العرب لما أثر عنهم من نظم ونثر. ويقال أدب العرب أو آداب العرب لكل ما أثر عن الأمة العربية من آداب وعلوم.
وإنما دعا مؤلفينا إلى هذا أنهم قابلوا بكلمة أدب الكلمة الإفرنجية وهي تدل على كل ما تسجله لغة في عصورها كلها أو بعضها وتخص أحياناً بما يسمى عندهم أي الكتابة الجميلة وهي الكلام البليغ من الشعر والنثر. فلما ترجم كُتَّابنا في معناها الخاص بكلمة أدب، وهي ترجمة صحيحة، ترجموها في معناها العام بكلمة أدب، وهي ترجمة تحمل الكلمة العربية أكثر مما شاع استعمالها فيه على مر العصور.
ولو استعملت كلمة (معارف) في هذا المعنى العام لكان أقرب إلى الوضع اللغوي وأبعد عن اللَّبس.
وكان من الترجمة عن اللغات الأوربية أيضاً أن سمينا (كلية الآداب) ترجمة للتسمية ويقابلها بالإنكليزية فأطلقنا الآداب على اللغات وآدابها والفلسفة والجغرافية والتاريخ وجعلنا كلمة (آداب) مقابلة لكلمة علوم التي ترجمتا بها كلمة
عبد الوهاب عزام
مجلة الرسالة - العدد 291
بتاريخ: 30 - 01 - 1939