استهلال:
قد يبدو من السهل تناول المتن الروائي "قبر ومدينة"،إذ تحمل معها مفتاحها في الصفحة ما قبل الأخيرة؛ عبارة عن قُصاصة من جريدة، تشير إلى أن النص كُتب "من داخل قسم كوفيد 19"، على إثر إصابة الكاتب بالوباء وحكاية تجربته مع المأساة... وكيف استطاعت الكتابة أن تساعده على تجاوز محنته...
إلى هنا، قد نضُم قراءتنا إلى مجموعة من القراءات، على نصوص مشابهة، تناولت هي كذلك المحنة مع الوباء وانتهت من سرد عِلَّتها.(1)
كما قد يبدو لي تناول المتن من حيت لغة سرده، على اعتبار أن النص كانت لغته عالية، وأنها "من الاجتهادات الكبرى التي تواجه الروائي" كما يقول عبدالرحمان منيف.
وفعلا،دأب الكاتب على تجويد لغته،وكشف عن استراتيجية فنية تكشف عن لا حيادية الراوي، وانخراطه في تعرية الواقع، ضمن رؤية تنتقل من موقع إلى آخر.
والمدخل الآخر للتناول، هو "المدينة"؛ التي تُشكل الجزء الثاني من عنوان الرواية، ثم أُسْهِبُ في ذكرها وتناولها، لكن ألم يكن الكاتب متفطنا لكل هذا؟ ألم تكن "كوفيد" مطية، يمتطيها لخوض غمار معان غائرة، جاء الوقت لتعرية بعض من غموضها؟ ألم يحِن الوقت لسرد "أعطاب المدينة"؟
مدخل أول: (الجائحة).
"ويزعم العارفون أن شوارعنا اجتاحها الوباء منذ أمد بعيد !..هذا ما تلفظ به عبدالقادر لمرافقه."(ص26)
الوباء ليس هو الوباء؛ هذا ما يظهر من العبارة السالفة، فقبل أن يكون الوباء فيروسا متفشيا بين فئة عريضة من الناس بل وفي العالم بأسره؛ كان قبله وباء رمزيا، يتوزع بين الجميع، ويحمل الفزع حيث انتشر؛ إنها إشارة إلى فساد ما، طال جميع جوانب حياة الإنسان،
يقول:" كان (قادة) يتوهَّم أن الحكم أصدرته عدالة الأرض، ولو كان الأمر كذلك فَلِم رأى أصحاب المخالب منبطحين على الأرض بجانبهما سائق تاكسي وبائع الخضار؟. ! " (ص27). فما يشير إليه الراوي(*) ليس جديدا، وإنما كان منتشرا في العصور الخوالي و "جاءت كورونا (الآن) لتذكرنا بتاريخ منسي، حاملة أسئلة كبرى عن علاقة الأوبئة بالتاريخ"(2)..." تاريخ الهشاشة"(2).. ولإعادة بناء رؤى أخرى على أرض جديدة، يطمح إليها الراوي، تخلو من جميع أسباب الانفصال التخاذل والتنابذ؛ لما دخل قادة المستشفى كان في انتظاره عند ولوج الغرفة "جمال"، وهو نموذج المثقف التنويري الذي يسعى إلى اجتراح معايير تساعد على حل القضايا الطارئة على المجتمع،" اكشف الآثام المتعبة والقديمة على الملأ يا صديقي.. ناقش الجميع، خذ بيدك وساعد نفسك وأصدقاءك، قدم ما استطعت لتخفف من دخائلهم.. إذا لم يتحقق ما لم تحلم به، فلا تيأس، بل انتظر فرصة أخرى تحمل في طياتها ما يهفو قلبك من أمل." (ص112)، وهو لقاء تعمَّده الرواي، ليخلق ذلك المعادل الموضوعي، الذي يجنبه مرارة السقوط في تجزيئية الرؤية لقضايا المجتمع.
داخل هذا النفس الدائري الصغير (المستشفى)، تتحرك الشخصيات؛ قد يُتْعِبها المرض، وقد تعاني منه، وقد يرْزأون بفَقْد يوميا، لكن،الذي يجمعهم، ويعيشون على إثره حياة جديدة، ممزوجة بالفرح أحيانا، وبالحزن أحايين كثيرة. هو "منحهم عناوين جديدة"(ص37).
كانوا يحبون بعضهم بعضا، ويدأبون على بعضهم البعض، ينسجون حياة جديدة رغم أخبار الموت اليومي،(قادة، جمال، الهواري، بولوفة،عبدالسلام، سعاد، زوليخة...)يتنازعهم الخوف، ولكن يستمرون..."ولأن حياته (عبدالسلام) طرأت عليها الطمأنينة والتفاؤل، بدأ يعرف أن الحب هو من منحه تلك القوة، لذلك أصبح مصرّا وصار ينتظرها على أحر من الجمر أثناء مواعيد الغٍذاء." (ص 34). على ماذا عرَّت "كورونا" ؟"أم هي دعوة إلى استعادة الترابط المجتمعي إلى موقع القيادة؟ كما يؤكد"مارسيل غوشيه".
من رحم المأساة، أحبَّت سعاد عبدالسلام، نسيت مصيرها حينما تخلى عنها زوجها، بمجرد إصابتها بالمرض؛ الزوج نموذج لفردانية معطوبة. وتكريس ذاتي لمنفعته ومتعته الشخصية الخاصة. والحال أنه "وحده عبدالقادر البهلول من يتذوق الحرية بلا قيود، وحده من يصرخ في أي وجه ويتحدث في كل شيء..يتحدث في شؤون العروش وشؤون الكهنة والمشعودين، يتحدث عن المارقين والمرجفين في المدينة دون رقيب أو حسيب..البهلول رجل استثنائي..رجل من ورق ولا يشبهه إلا بهلول مثله،"..(ص40)
والبهلول(4) من الماضي،ووفق طرائقه اللامألوفة،هو لسان حال الجميع، ينوب عن المستضعفين في الرواية، وينفي حدوث مثل هذه المتناقضات،" .. هكذا ضرب عبدالقادر على آثار أحلامه قصصا كان أصحابها يؤسسون قواعد وأصول وضعتها نفوس وارتضتها عقول منحرفة وأجازتها مقاييس مختلة فيها كثير من الشذوذ جعلت نظرته إلى ذلك المدعي مرذولا ومبغوضا.." (ص45)؛ هل يمكن أن أقول "البهلول" رمز أم في الحاجة إليه في وقتنا الراهن؟
إن "عبدالقادر البهلول" يبني من "الداخل"، بعدما عرّانا الوباء من "الخارج"، وكشف جروحنا النرجسية العميقة... وكشف.. خسائرنا القيمية الكبرى، في إنتاج "إنسانية جمعية" أو حتى "فردانية عقلانية" تدبر الأزمات العصيبة بمزيد من الحكمة والتبصر والإيثار"..(5)
مدخل ثان: (أعطاب المدينة).
تعتبر "المدينة" في رواية "قبر ومدينة" مشهدا خصبا للتحولات القيمية والاجتماعية، التي غزت المدينة؛ قد تكون "مدينة معسكر"، وقد تكون غيرها، إنها فكرة عن المدينة وليست بالضرورة المدينة ذاتها.و"أن المكان الموسوم هو مكان خاص بالتجربة الإبداعية".(6)
وما دامت المدينة فضاء رحبا، وعمقا ثقافيا، لا تتحدد أهميتها ببناياتها وشوارعها وبيوتاتها..؛ بقدر ما تتحدد في فضاءاتها الدلالية ، حين المزج بين المدلول المجازي والمدلول الحقيقي.(7) وكذلك مَحْوُ تلك التمثيلات السلبية للآخر عن مدننا(. ولا أقصد بــ"الآخر"، تلك الحمولة الدلالية التي تعني تربص الآخر/الغرب بحيواتنا في شتى مناحيها.. وإنما سأعكس الصورة إلى كيف ننظر نحن لمدننا؟
وصف السارد التحولات التي طرأت على مقهى الصياد، "فمقهى الصياد تحولت إلى محلات متلاصقة تفتح أبوابها على ردهة تطل فوق سور حديقة باستور، يبدو مع الأدرج من أول وهلة بدائيا، وباتت هندسته متشعبة لكنه ممتدّ ودقيق متماسك أساسه بالأحجار الصّلدة حتى عاد كتحفة عتيقة ظلت تقاوم رطوبة الدهر وحتّ الزمن خوفا من عريها".."بالرغم من أن المدينة تغيرت... فهل هذه المدينة تقوم على زينة العقل أم زينة عمرانها"(ص8)
قد يبدو أنني تعسّفت على النص، لكن لأشير فقط إلى مدى إلماعات السارد إلى موقفه من المدينة، وهو موقف أتى على سرد أعطاب المدينة أو "أمراض التمدن" (9)؛ وهي بحسب د.إدريس مقبول:" أمراض الإنسان المقهور في المدينة الحديثة، والذي تحولت حياته إلى مجال واسع للاستغلال والاستثمار من رأس المال المتوحش الذي يبيع ويشتري في كل شيء؛فأمراضه هي بالتحديد أمراض التلوث بجميع أنواعه السمعي والبصري، وأمراض السياسة والاقتصاد التي تباشر القضاء على مصالحه..."(10).
وإن كانت الأمراض جزء من نظام مادي صرف، فقد تناولها السارد من زاوية أخرى، ترصد مجموع الأمراض الرمزية التي عصفت وتعصف بالإنسان الحديث وكذا بمدينته؛ من هنا وجاهة السؤال التالي: "فهل هذه المدينة تقوم على زينة العقل أم زينة عمرانها"؟(ص8).
من أعراض مرض التمدن أو القبح(11)، امتلاك السلطتين: المال والجاه؛ لتفتح لك جميع الأبواب الموصدة، أما ماعدا ذلك، فالموت في انتظارك؛ ألم يمت صديق "البهلول" الذي كان يكتب كل يوم صفحة من مذكراته، وكلما انتهى تغمره فرحة؟ ثم لماذا لم تكتمل قصته؟(ص11). يبدو أن القصة/الرسالة ستصل حتما للناس، وما على المتلقي سوى فكّ شفرتها المعلنة أمامه؛ إنه في الحاجة إلى تشابه وتلاحم بُنى المجتمع؛" فهل التشابه والظروف تقربان الناس لبعضهما البعض أكثر من أي شيء خلا؟"(ص12)؛ التي طغى عليها التفكك والتفتت بين عناصرها، حتى سرى الفتور في العلاقة مع الآخر، معلنة الفقر الإنساني..(12).
وحين تجوله بين الشوارع، ليتفقد معالمها المُميزة،، الحظ البهلول بعض التشوهات الطاغية عليها وعلى عادات الناس/النسوة. اللواتي التقين عند المقامين: سيدي محمد وسيدي بوجلال،"وكلهن شغف للحديث عن الكنات، وما يشغلهن"(ص18).ويتوالى السارد في حديثه عن استمرار مثل هذه الطقوس في المجتمعات المدينية، رغم نداءات التباعد المعلنة؛ وهي نداءات مستمرة يحث عليها السارد لتجاوز مستوى التعسف التي يمارسها الواقع؛ وقد انصب الوصف على مستوى العلاقات الإنسانية التي اندحرت وانطفأ لهيبها، دون وصف المجتمع المديني من حيث هو "مجالا وحيزا مكانيا"، يجمع بين الأمل والألم معا(13)؛ والحق أن تلك الجموع لم يكونوا يفكرون في الموت بل كانوا لا يفكرون في سيء وأيديهم فارغة مبسوطة علة المقاعد ليس إلا."(ص23).
وأشير إلى أن العمل استمر في انتقاد المجتمع المديني وعلاقاته الطارئة والمشوبة بكثير من التوجس والريبة نحو الآخر؛ والآخر هنا هو "الأنت" في مقابل"الأنا"(14).وتأصيل مفهوم جديد للمدينة قائم على الانفتاح والوعي الروحي والرمزي؛"فقد قامت كل حضارة على أسس أخلاقية وأنظمة سياسية ومعتقدات غيبية كان لها الأثر في صورة المدينة ونوعية محيطها الحضري"(13).
مدخل ثالث: (لغة السرد).
"حان الوقت لنقف سويا وجها لوجه مع الماضي، ونتأكد أننا أضعنا الكثير بسذاجة، نعم بسذاجة مفرطة فإياك أن تتمنى الموت، وما يدُريك في يوم ما ستصبح إنسانا يزرع في هذه الأرض شيئا من الفأل والرحمة."(ص150/151).
مالت الرواية إلى الارتكان للماضي ومواجهته، بجلِّ الخيبات التي عرَّت الواقع المعيش، في تخلّ صارخ عن مجمل الشعارات والمواقف الكبرى التي طبعت الماضي.."غير أن أجمل ما في الطفولة، أنها تأتي فجأة، وترحل فجأة.. فهل يحن لها الجميع؟."(ص150)
هذا الموقف من الماضي والحنين إليه، هو في نفس الوقت حنين إلى منبع اللغة، وصفاء الماضي؛ وتأكيد على سيطرة السارد على اللغة بما يضفيه عليها من ذاته وروحه.
جاءت لغة الرواية؛ وهو ما أثار انتباهي؛ لغة راقية،"مصقولة صقلا دقيقا عاما".."وعلى الدراسة الأدبية للغة الأعمال الفنية التغلغل في أعماق روح الكاتب الإبداعية وفي طبيعة معانيه الخصوصية وبناء مشاعره ومن الضرورة بمكان إيضاح دقائق عمله وماهية أفكاره"(15).
يتوالى السرد بلغة رشيقة، تمتح من الماضي معجما شديد الصلابة:"حدائق خزرة، أشاير الانتظار(ص7)،خمرها منظره، مازال يحجل(ص11).يتمرغون بالوصيد(ص27)..." حينما يتماهى داخل النص، يضفي مسحة إبداعية، تعيدك إلى عهود اللغة العربية الفصيحة؛ ولهذا دلالته إذا ما ربطناه بعصور المدينة الزاهية،" فحين يسجل الكاتب حاضر وماضي حي معين أو منطقة معينة، فهو يدون على الخارطة التي تنتجها انحيازاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والجمالية، وهي ترى أن الجغرافيا الأدبية وسيلة لطرح أسئلة جديدة والتطلع إلى إجابات جديدة"(16).
من هذا المنظور تناولت لغة السرد، لا من حيث هي تقنيات كتابية، يتحتم السير على منوالها، لإدراك خصائصها الجوهرية...بل من حيث هي جنس مُنْفَلت وعصي على الإدراك، أليست الرواية ذات وجوه عديدة، كما يؤكد د.عبدالملك مرتاض:"فالرواية ما انفكت تتخذ لنفسها ألف وجه، وترتدي في هيئتها ألف رداء، وتتشكل أمام القارئ تحت ألف شكل"(17).
فرواية "قبر ومدينة" توجهت إلى قارئ/سامع، لا باعتباره متلقيا عاديا، بل حرصت على مخاطبة قارئ ناضج/مثقف، تحترم تكوينه وتسعى إلى محاولة إرجاعه إلى المنابع الأول في كل شيء،والأهم أن يرتقي القارئ إلى مستوى الرواية، لا أن تنزل الرواية إلى مستوى المتلقين العاديين في فهم العلاقات بين الشخوص والأمكنة ومدى تأثير ذلك على لغة السرد؛" ظل قادة يفضل هذه الأمكنة أو لأن سحر الكتب يجره دون أن يعبأ وهو يتأبط كتابا كعادته وأحد الجالسين يسأله عن عنوان كتاب هذا الأسبوع..."(ص9).
".. مدَّ يده يطلب صدقة وانفتح صدره دون أن يرغمه أحد، يحدث بنبرة حزينة ويزعم أنه كان له صديق يكتب كل مساء صفحة من مذكراته، ما جعله يتعلق بهذا المكان ومساءاته، وكلما انتهى تغمره فرحة، لكن قصته لم تكتمل...(ص11)...
إن رواية "قبر ومدينة" ذات وجود "ثقافي لغوي"، قبل أن تكون أحداثا عادية، تستلهم واقعة عمت العالم كله، والمتمثل في "جائحة كورونا"؛ولا يمكن إنكار مجموع الأدبيات التي صدرت في حينها، عملت على تسريد لحظوي للأزمة:( يوميات، شهادات، روايات،شعر، ونصوص غير خاضعة للتصنيف...)(18)؛ ولكن السارد جعل من الجائحة مدخلا عاما، يتطلع من خلاله إلى تلك المساحات النفسية التي تغوص في أعماق شخصيات روايته؛التي استطاعت نسج علاقات جديدة من رحم الجوائح المستشرية في النفوس،"ليس الآن باستطاعة أحد معرفة ما يسلبه الوباء أو يمنحه إلا أن الكثير من العابرين بين هذه الحجرات من منحهم عناوين جديدة" (ص37)؛ فالشخصيات في المستشفى خلقت عالما موازيا (ص34.33.33...)، ينهض على أنقاض العالم/الفضاء الخارجي والذي تمثله المدينة.
حاول السارد أن يشكل مدينة فاضلة لغويا، ليغطي تلك الفوضى العارمة التي تبدو عليها المدن؛"مجرد تكويمات عشوائية،أو فضلات راكمها الإنسان في المكان،وتبدو الشوارع والميادين أثلاما غائرة في جسد تلك الفضلات المكومة علامة على وجود بشري كثيف يمارس فيها نخر فضلاته من غير توقف"(19)"الشيء الغريب في هذه المدينة، انك ستلاقي نفس الجماجم يحفظون قائمة من الأسئلة !...(ص42).
ويلاحظ أن لغة السرد في الرواية لم تسقط في وهدة العامية/الدارجة إطلاقا، وأن السارد علا بمستوى شخصيات روايته رغم بساطة تفكيرها وثقافتها، لأن المكان/المستشفى:(الدائرة الصغرى)، هو مكان مستقل رمزيا عن الفضاء الخارجي؛ فيه تُنسج حياة جديدة وبالتالي لغة سامية.
على سبيل الختم:
والذي لم أستطع الوصول، ويحتاج إلى متن أكثر من هذا:
هو رمزية شخصية البهلول وتموقعها داخل الرواية، وكذا رمزيتها الفائضة؛ والأسئلة الملحَّة من الفتى،" أرهقني كثيرا فضولك"(ص41)؛ وهل يمكن اعتبارها الشخصية الرئيسية؟
هل نحن أمام يوميات، سيرة،أم رواية؟ لن ألج هذا الصخب أبدا؛ بقدر ما أؤكد أنها حافلة "بالأفكار والتأملات" التي تنساب"انسيابا بطيئا يشبه الحركة البطيئة في السيمفونية"(20)؛
العودة إلى الماضي له ما يبرره، وهو الهروب من التقريرية والتسجيلية في الرواية، كما يؤكد د.سعيد بنكراد في حوار معه:"...إنما هناك أعمال تسجيلية ترصد وقائع بعينها تضمنها نص روائي... ولن يفيد الأدب ولا الشعر في شيء أن يكون تسجيليا"؛
قد نجد هذا العالم من الصعوبة الاستمرار فيه، أو قد يلفحنا شيء من التذمر إزاءه "تمنيت أن أحيا بدون ألم" (ص45)، كيف السبيل إلى ذلك؟ آنئذ، نطمح إلى التغيير، إلى خلق عالم مواز مثلما نرغب أن يكون، تخييلا يمتح مما هو متاح لتلطيف فظاعة الحياة الواقعية" هل رأيت يوما معركة بين العلم والعادات؟ ! وإذا حدث فاعلم إن العادات هي التي لها الكلمة الأخيرة"(ص45)؛
هل يعمل السارد على تلحيم ماضي المدينة بحاضرها، مع إعطاء مقادير قيمية زائدة،" في وقت بدأ التماسك القيمي والخلقي يتعرض لهزة عنيفة..."(13)، فصرخ:" يأهل المدينة، لما لا تجعلوا المحبة والفرح ينتقل بينكم كالثأر من جيل إلى جيل"(ص44)؛ هل أظهرت المجتمعات الأكثر تمدُّنا تدميرية أكبر من المجتمعات الأقل ؟(13)؛
لغة السرد كما ألمعنا، أظهرت تشابكا على مستوى الرواية، و نسيجا متماسكا، يقرُّ بترفُّع الشخصيات عن واقعها، ومحاولة خلق لغة تعبر عن الطموح المنشود"أن يكون المكان نسيجا افتراضيا لعوالم خيالية لا واقعية...فإن المهم في المدينة في الرواية ليس اسمها ولا ملامحها ولا التصريح بها أو الكناية عنها، بل المهم هو ما صورة تلك المدينة في سياق الرواية؟"(16)؛
----------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
1) انظر ما تناولته مجلة العلوم الشرعية واللغة العربية،المجلد السابع.العدد الثاني مايو 2022، من مادة وفيرة بهذا الشأن..
2) (*)للتوسع أكثر في مفهوم الراوي، انظر:بناء الرواية.سيزا قاسم.ص181-182.دار التنوير.بيروت.ط1/1985.
3) الأدب في زمن الوباء.إلياس خوري.ص143/146. مجلة الدراسات الفلسطينية 123. صيف 2020.
4) للتوسع أكثر، انظر الولاية والولاية الجذبية.ذ أحمد الوارث.مجلة المريد.العدد2- 1990.
5) العدو اللامرئي وسردية الرعب المعمم.د عبدالرحيم العطري. ص32.مجلة الدوحة. أبريل 2020.
6) إعادة كتابة المدينة العربية.معجب العدواني .ص12. المركز الثقافي للكتاب.ط1/2024.
7) انظر: بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي.د.حميد لحمدانيص60. المركز الثقافي العربيط1/1991.
انظر مقدمة كتاب:إعادة كتابة المدينة العربية.معجب العدواني.
9) المدينة العربية الحديثة قراءة سوسيولوجية في أعراض مرض التمدن. إدريس مقبول. مجلة عمران العدد16/4.ربيع 2016 - وانظر كذلك كتابه:الإنسان والعمران واللسان.المركز العربي للأبحاث..بيروت.ط1/2020.
10) الإنسان والعمران واللسان.د إدريس مقبول.المركز العربي للأبحاث..بيروت.ط1/2020.
11) انظر، إعادة كتابة المدينة العربية. معجب العدواني.ص 75.
12) المدينة العربية الحديثة قراءة سوسيولوجية في أعراض مرض التمدن.ص54.
13) انظر:الإنسان والعمران واللسان.ص19...ص63...
14) من صفحة د.منذر عياشي على الفايس بوك.
15) الأفكار والأسلوب.أ.ف.تشيتشرين-تر: د.حياة شرارة.ص163.دار الشؤون الثقافية العامة.دون طبعة ودون تاريخ.
16) العمارة والمدينة والرواية: بناء النص ونص البناء.علي عبدالرؤوف. العمارة والمدينة والرواية - تحليل العمران المصري والعربي في الإبداع الروائي المعاصر
17) في نظرية الرواية.ص11.عالم المعرفة.الكويت.عدد 240/1998.
18) السرديات الوبائية في زمن جائحة كورونا..قراءة أجناسية أولى لبعض النماذج المواكبة.د.فهد إبراهيم سعد البكر.
مجلة العلوم الشرعية واللغة العربية،الجزء الأول المجلد السابع.العدد الثاني مايو 2022،
19) انظر: المدينة الضحلة تثريب المدينة في الرواية العربية.د.صلاح صالح.ص12.منشورات الهيئة العامة السورية/2014.
20) فن الرواية.كولن ولسن.تر: محمد درويش.ص34.الدارالعربية للعلوم.ط1/2008.
قد يبدو من السهل تناول المتن الروائي "قبر ومدينة"،إذ تحمل معها مفتاحها في الصفحة ما قبل الأخيرة؛ عبارة عن قُصاصة من جريدة، تشير إلى أن النص كُتب "من داخل قسم كوفيد 19"، على إثر إصابة الكاتب بالوباء وحكاية تجربته مع المأساة... وكيف استطاعت الكتابة أن تساعده على تجاوز محنته...
إلى هنا، قد نضُم قراءتنا إلى مجموعة من القراءات، على نصوص مشابهة، تناولت هي كذلك المحنة مع الوباء وانتهت من سرد عِلَّتها.(1)
كما قد يبدو لي تناول المتن من حيت لغة سرده، على اعتبار أن النص كانت لغته عالية، وأنها "من الاجتهادات الكبرى التي تواجه الروائي" كما يقول عبدالرحمان منيف.
وفعلا،دأب الكاتب على تجويد لغته،وكشف عن استراتيجية فنية تكشف عن لا حيادية الراوي، وانخراطه في تعرية الواقع، ضمن رؤية تنتقل من موقع إلى آخر.
والمدخل الآخر للتناول، هو "المدينة"؛ التي تُشكل الجزء الثاني من عنوان الرواية، ثم أُسْهِبُ في ذكرها وتناولها، لكن ألم يكن الكاتب متفطنا لكل هذا؟ ألم تكن "كوفيد" مطية، يمتطيها لخوض غمار معان غائرة، جاء الوقت لتعرية بعض من غموضها؟ ألم يحِن الوقت لسرد "أعطاب المدينة"؟
مدخل أول: (الجائحة).
"ويزعم العارفون أن شوارعنا اجتاحها الوباء منذ أمد بعيد !..هذا ما تلفظ به عبدالقادر لمرافقه."(ص26)
الوباء ليس هو الوباء؛ هذا ما يظهر من العبارة السالفة، فقبل أن يكون الوباء فيروسا متفشيا بين فئة عريضة من الناس بل وفي العالم بأسره؛ كان قبله وباء رمزيا، يتوزع بين الجميع، ويحمل الفزع حيث انتشر؛ إنها إشارة إلى فساد ما، طال جميع جوانب حياة الإنسان،
يقول:" كان (قادة) يتوهَّم أن الحكم أصدرته عدالة الأرض، ولو كان الأمر كذلك فَلِم رأى أصحاب المخالب منبطحين على الأرض بجانبهما سائق تاكسي وبائع الخضار؟. ! " (ص27). فما يشير إليه الراوي(*) ليس جديدا، وإنما كان منتشرا في العصور الخوالي و "جاءت كورونا (الآن) لتذكرنا بتاريخ منسي، حاملة أسئلة كبرى عن علاقة الأوبئة بالتاريخ"(2)..." تاريخ الهشاشة"(2).. ولإعادة بناء رؤى أخرى على أرض جديدة، يطمح إليها الراوي، تخلو من جميع أسباب الانفصال التخاذل والتنابذ؛ لما دخل قادة المستشفى كان في انتظاره عند ولوج الغرفة "جمال"، وهو نموذج المثقف التنويري الذي يسعى إلى اجتراح معايير تساعد على حل القضايا الطارئة على المجتمع،" اكشف الآثام المتعبة والقديمة على الملأ يا صديقي.. ناقش الجميع، خذ بيدك وساعد نفسك وأصدقاءك، قدم ما استطعت لتخفف من دخائلهم.. إذا لم يتحقق ما لم تحلم به، فلا تيأس، بل انتظر فرصة أخرى تحمل في طياتها ما يهفو قلبك من أمل." (ص112)، وهو لقاء تعمَّده الرواي، ليخلق ذلك المعادل الموضوعي، الذي يجنبه مرارة السقوط في تجزيئية الرؤية لقضايا المجتمع.
داخل هذا النفس الدائري الصغير (المستشفى)، تتحرك الشخصيات؛ قد يُتْعِبها المرض، وقد تعاني منه، وقد يرْزأون بفَقْد يوميا، لكن،الذي يجمعهم، ويعيشون على إثره حياة جديدة، ممزوجة بالفرح أحيانا، وبالحزن أحايين كثيرة. هو "منحهم عناوين جديدة"(ص37).
كانوا يحبون بعضهم بعضا، ويدأبون على بعضهم البعض، ينسجون حياة جديدة رغم أخبار الموت اليومي،(قادة، جمال، الهواري، بولوفة،عبدالسلام، سعاد، زوليخة...)يتنازعهم الخوف، ولكن يستمرون..."ولأن حياته (عبدالسلام) طرأت عليها الطمأنينة والتفاؤل، بدأ يعرف أن الحب هو من منحه تلك القوة، لذلك أصبح مصرّا وصار ينتظرها على أحر من الجمر أثناء مواعيد الغٍذاء." (ص 34). على ماذا عرَّت "كورونا" ؟"أم هي دعوة إلى استعادة الترابط المجتمعي إلى موقع القيادة؟ كما يؤكد"مارسيل غوشيه".
من رحم المأساة، أحبَّت سعاد عبدالسلام، نسيت مصيرها حينما تخلى عنها زوجها، بمجرد إصابتها بالمرض؛ الزوج نموذج لفردانية معطوبة. وتكريس ذاتي لمنفعته ومتعته الشخصية الخاصة. والحال أنه "وحده عبدالقادر البهلول من يتذوق الحرية بلا قيود، وحده من يصرخ في أي وجه ويتحدث في كل شيء..يتحدث في شؤون العروش وشؤون الكهنة والمشعودين، يتحدث عن المارقين والمرجفين في المدينة دون رقيب أو حسيب..البهلول رجل استثنائي..رجل من ورق ولا يشبهه إلا بهلول مثله،"..(ص40)
والبهلول(4) من الماضي،ووفق طرائقه اللامألوفة،هو لسان حال الجميع، ينوب عن المستضعفين في الرواية، وينفي حدوث مثل هذه المتناقضات،" .. هكذا ضرب عبدالقادر على آثار أحلامه قصصا كان أصحابها يؤسسون قواعد وأصول وضعتها نفوس وارتضتها عقول منحرفة وأجازتها مقاييس مختلة فيها كثير من الشذوذ جعلت نظرته إلى ذلك المدعي مرذولا ومبغوضا.." (ص45)؛ هل يمكن أن أقول "البهلول" رمز أم في الحاجة إليه في وقتنا الراهن؟
إن "عبدالقادر البهلول" يبني من "الداخل"، بعدما عرّانا الوباء من "الخارج"، وكشف جروحنا النرجسية العميقة... وكشف.. خسائرنا القيمية الكبرى، في إنتاج "إنسانية جمعية" أو حتى "فردانية عقلانية" تدبر الأزمات العصيبة بمزيد من الحكمة والتبصر والإيثار"..(5)
مدخل ثان: (أعطاب المدينة).
تعتبر "المدينة" في رواية "قبر ومدينة" مشهدا خصبا للتحولات القيمية والاجتماعية، التي غزت المدينة؛ قد تكون "مدينة معسكر"، وقد تكون غيرها، إنها فكرة عن المدينة وليست بالضرورة المدينة ذاتها.و"أن المكان الموسوم هو مكان خاص بالتجربة الإبداعية".(6)
وما دامت المدينة فضاء رحبا، وعمقا ثقافيا، لا تتحدد أهميتها ببناياتها وشوارعها وبيوتاتها..؛ بقدر ما تتحدد في فضاءاتها الدلالية ، حين المزج بين المدلول المجازي والمدلول الحقيقي.(7) وكذلك مَحْوُ تلك التمثيلات السلبية للآخر عن مدننا(. ولا أقصد بــ"الآخر"، تلك الحمولة الدلالية التي تعني تربص الآخر/الغرب بحيواتنا في شتى مناحيها.. وإنما سأعكس الصورة إلى كيف ننظر نحن لمدننا؟
وصف السارد التحولات التي طرأت على مقهى الصياد، "فمقهى الصياد تحولت إلى محلات متلاصقة تفتح أبوابها على ردهة تطل فوق سور حديقة باستور، يبدو مع الأدرج من أول وهلة بدائيا، وباتت هندسته متشعبة لكنه ممتدّ ودقيق متماسك أساسه بالأحجار الصّلدة حتى عاد كتحفة عتيقة ظلت تقاوم رطوبة الدهر وحتّ الزمن خوفا من عريها".."بالرغم من أن المدينة تغيرت... فهل هذه المدينة تقوم على زينة العقل أم زينة عمرانها"(ص8)
قد يبدو أنني تعسّفت على النص، لكن لأشير فقط إلى مدى إلماعات السارد إلى موقفه من المدينة، وهو موقف أتى على سرد أعطاب المدينة أو "أمراض التمدن" (9)؛ وهي بحسب د.إدريس مقبول:" أمراض الإنسان المقهور في المدينة الحديثة، والذي تحولت حياته إلى مجال واسع للاستغلال والاستثمار من رأس المال المتوحش الذي يبيع ويشتري في كل شيء؛فأمراضه هي بالتحديد أمراض التلوث بجميع أنواعه السمعي والبصري، وأمراض السياسة والاقتصاد التي تباشر القضاء على مصالحه..."(10).
وإن كانت الأمراض جزء من نظام مادي صرف، فقد تناولها السارد من زاوية أخرى، ترصد مجموع الأمراض الرمزية التي عصفت وتعصف بالإنسان الحديث وكذا بمدينته؛ من هنا وجاهة السؤال التالي: "فهل هذه المدينة تقوم على زينة العقل أم زينة عمرانها"؟(ص8).
من أعراض مرض التمدن أو القبح(11)، امتلاك السلطتين: المال والجاه؛ لتفتح لك جميع الأبواب الموصدة، أما ماعدا ذلك، فالموت في انتظارك؛ ألم يمت صديق "البهلول" الذي كان يكتب كل يوم صفحة من مذكراته، وكلما انتهى تغمره فرحة؟ ثم لماذا لم تكتمل قصته؟(ص11). يبدو أن القصة/الرسالة ستصل حتما للناس، وما على المتلقي سوى فكّ شفرتها المعلنة أمامه؛ إنه في الحاجة إلى تشابه وتلاحم بُنى المجتمع؛" فهل التشابه والظروف تقربان الناس لبعضهما البعض أكثر من أي شيء خلا؟"(ص12)؛ التي طغى عليها التفكك والتفتت بين عناصرها، حتى سرى الفتور في العلاقة مع الآخر، معلنة الفقر الإنساني..(12).
وحين تجوله بين الشوارع، ليتفقد معالمها المُميزة،، الحظ البهلول بعض التشوهات الطاغية عليها وعلى عادات الناس/النسوة. اللواتي التقين عند المقامين: سيدي محمد وسيدي بوجلال،"وكلهن شغف للحديث عن الكنات، وما يشغلهن"(ص18).ويتوالى السارد في حديثه عن استمرار مثل هذه الطقوس في المجتمعات المدينية، رغم نداءات التباعد المعلنة؛ وهي نداءات مستمرة يحث عليها السارد لتجاوز مستوى التعسف التي يمارسها الواقع؛ وقد انصب الوصف على مستوى العلاقات الإنسانية التي اندحرت وانطفأ لهيبها، دون وصف المجتمع المديني من حيث هو "مجالا وحيزا مكانيا"، يجمع بين الأمل والألم معا(13)؛ والحق أن تلك الجموع لم يكونوا يفكرون في الموت بل كانوا لا يفكرون في سيء وأيديهم فارغة مبسوطة علة المقاعد ليس إلا."(ص23).
وأشير إلى أن العمل استمر في انتقاد المجتمع المديني وعلاقاته الطارئة والمشوبة بكثير من التوجس والريبة نحو الآخر؛ والآخر هنا هو "الأنت" في مقابل"الأنا"(14).وتأصيل مفهوم جديد للمدينة قائم على الانفتاح والوعي الروحي والرمزي؛"فقد قامت كل حضارة على أسس أخلاقية وأنظمة سياسية ومعتقدات غيبية كان لها الأثر في صورة المدينة ونوعية محيطها الحضري"(13).
مدخل ثالث: (لغة السرد).
"حان الوقت لنقف سويا وجها لوجه مع الماضي، ونتأكد أننا أضعنا الكثير بسذاجة، نعم بسذاجة مفرطة فإياك أن تتمنى الموت، وما يدُريك في يوم ما ستصبح إنسانا يزرع في هذه الأرض شيئا من الفأل والرحمة."(ص150/151).
مالت الرواية إلى الارتكان للماضي ومواجهته، بجلِّ الخيبات التي عرَّت الواقع المعيش، في تخلّ صارخ عن مجمل الشعارات والمواقف الكبرى التي طبعت الماضي.."غير أن أجمل ما في الطفولة، أنها تأتي فجأة، وترحل فجأة.. فهل يحن لها الجميع؟."(ص150)
هذا الموقف من الماضي والحنين إليه، هو في نفس الوقت حنين إلى منبع اللغة، وصفاء الماضي؛ وتأكيد على سيطرة السارد على اللغة بما يضفيه عليها من ذاته وروحه.
جاءت لغة الرواية؛ وهو ما أثار انتباهي؛ لغة راقية،"مصقولة صقلا دقيقا عاما".."وعلى الدراسة الأدبية للغة الأعمال الفنية التغلغل في أعماق روح الكاتب الإبداعية وفي طبيعة معانيه الخصوصية وبناء مشاعره ومن الضرورة بمكان إيضاح دقائق عمله وماهية أفكاره"(15).
يتوالى السرد بلغة رشيقة، تمتح من الماضي معجما شديد الصلابة:"حدائق خزرة، أشاير الانتظار(ص7)،خمرها منظره، مازال يحجل(ص11).يتمرغون بالوصيد(ص27)..." حينما يتماهى داخل النص، يضفي مسحة إبداعية، تعيدك إلى عهود اللغة العربية الفصيحة؛ ولهذا دلالته إذا ما ربطناه بعصور المدينة الزاهية،" فحين يسجل الكاتب حاضر وماضي حي معين أو منطقة معينة، فهو يدون على الخارطة التي تنتجها انحيازاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والجمالية، وهي ترى أن الجغرافيا الأدبية وسيلة لطرح أسئلة جديدة والتطلع إلى إجابات جديدة"(16).
من هذا المنظور تناولت لغة السرد، لا من حيث هي تقنيات كتابية، يتحتم السير على منوالها، لإدراك خصائصها الجوهرية...بل من حيث هي جنس مُنْفَلت وعصي على الإدراك، أليست الرواية ذات وجوه عديدة، كما يؤكد د.عبدالملك مرتاض:"فالرواية ما انفكت تتخذ لنفسها ألف وجه، وترتدي في هيئتها ألف رداء، وتتشكل أمام القارئ تحت ألف شكل"(17).
فرواية "قبر ومدينة" توجهت إلى قارئ/سامع، لا باعتباره متلقيا عاديا، بل حرصت على مخاطبة قارئ ناضج/مثقف، تحترم تكوينه وتسعى إلى محاولة إرجاعه إلى المنابع الأول في كل شيء،والأهم أن يرتقي القارئ إلى مستوى الرواية، لا أن تنزل الرواية إلى مستوى المتلقين العاديين في فهم العلاقات بين الشخوص والأمكنة ومدى تأثير ذلك على لغة السرد؛" ظل قادة يفضل هذه الأمكنة أو لأن سحر الكتب يجره دون أن يعبأ وهو يتأبط كتابا كعادته وأحد الجالسين يسأله عن عنوان كتاب هذا الأسبوع..."(ص9).
".. مدَّ يده يطلب صدقة وانفتح صدره دون أن يرغمه أحد، يحدث بنبرة حزينة ويزعم أنه كان له صديق يكتب كل مساء صفحة من مذكراته، ما جعله يتعلق بهذا المكان ومساءاته، وكلما انتهى تغمره فرحة، لكن قصته لم تكتمل...(ص11)...
إن رواية "قبر ومدينة" ذات وجود "ثقافي لغوي"، قبل أن تكون أحداثا عادية، تستلهم واقعة عمت العالم كله، والمتمثل في "جائحة كورونا"؛ولا يمكن إنكار مجموع الأدبيات التي صدرت في حينها، عملت على تسريد لحظوي للأزمة:( يوميات، شهادات، روايات،شعر، ونصوص غير خاضعة للتصنيف...)(18)؛ ولكن السارد جعل من الجائحة مدخلا عاما، يتطلع من خلاله إلى تلك المساحات النفسية التي تغوص في أعماق شخصيات روايته؛التي استطاعت نسج علاقات جديدة من رحم الجوائح المستشرية في النفوس،"ليس الآن باستطاعة أحد معرفة ما يسلبه الوباء أو يمنحه إلا أن الكثير من العابرين بين هذه الحجرات من منحهم عناوين جديدة" (ص37)؛ فالشخصيات في المستشفى خلقت عالما موازيا (ص34.33.33...)، ينهض على أنقاض العالم/الفضاء الخارجي والذي تمثله المدينة.
حاول السارد أن يشكل مدينة فاضلة لغويا، ليغطي تلك الفوضى العارمة التي تبدو عليها المدن؛"مجرد تكويمات عشوائية،أو فضلات راكمها الإنسان في المكان،وتبدو الشوارع والميادين أثلاما غائرة في جسد تلك الفضلات المكومة علامة على وجود بشري كثيف يمارس فيها نخر فضلاته من غير توقف"(19)"الشيء الغريب في هذه المدينة، انك ستلاقي نفس الجماجم يحفظون قائمة من الأسئلة !...(ص42).
ويلاحظ أن لغة السرد في الرواية لم تسقط في وهدة العامية/الدارجة إطلاقا، وأن السارد علا بمستوى شخصيات روايته رغم بساطة تفكيرها وثقافتها، لأن المكان/المستشفى:(الدائرة الصغرى)، هو مكان مستقل رمزيا عن الفضاء الخارجي؛ فيه تُنسج حياة جديدة وبالتالي لغة سامية.
على سبيل الختم:
والذي لم أستطع الوصول، ويحتاج إلى متن أكثر من هذا:
هو رمزية شخصية البهلول وتموقعها داخل الرواية، وكذا رمزيتها الفائضة؛ والأسئلة الملحَّة من الفتى،" أرهقني كثيرا فضولك"(ص41)؛ وهل يمكن اعتبارها الشخصية الرئيسية؟
هل نحن أمام يوميات، سيرة،أم رواية؟ لن ألج هذا الصخب أبدا؛ بقدر ما أؤكد أنها حافلة "بالأفكار والتأملات" التي تنساب"انسيابا بطيئا يشبه الحركة البطيئة في السيمفونية"(20)؛
العودة إلى الماضي له ما يبرره، وهو الهروب من التقريرية والتسجيلية في الرواية، كما يؤكد د.سعيد بنكراد في حوار معه:"...إنما هناك أعمال تسجيلية ترصد وقائع بعينها تضمنها نص روائي... ولن يفيد الأدب ولا الشعر في شيء أن يكون تسجيليا"؛
قد نجد هذا العالم من الصعوبة الاستمرار فيه، أو قد يلفحنا شيء من التذمر إزاءه "تمنيت أن أحيا بدون ألم" (ص45)، كيف السبيل إلى ذلك؟ آنئذ، نطمح إلى التغيير، إلى خلق عالم مواز مثلما نرغب أن يكون، تخييلا يمتح مما هو متاح لتلطيف فظاعة الحياة الواقعية" هل رأيت يوما معركة بين العلم والعادات؟ ! وإذا حدث فاعلم إن العادات هي التي لها الكلمة الأخيرة"(ص45)؛
هل يعمل السارد على تلحيم ماضي المدينة بحاضرها، مع إعطاء مقادير قيمية زائدة،" في وقت بدأ التماسك القيمي والخلقي يتعرض لهزة عنيفة..."(13)، فصرخ:" يأهل المدينة، لما لا تجعلوا المحبة والفرح ينتقل بينكم كالثأر من جيل إلى جيل"(ص44)؛ هل أظهرت المجتمعات الأكثر تمدُّنا تدميرية أكبر من المجتمعات الأقل ؟(13)؛
لغة السرد كما ألمعنا، أظهرت تشابكا على مستوى الرواية، و نسيجا متماسكا، يقرُّ بترفُّع الشخصيات عن واقعها، ومحاولة خلق لغة تعبر عن الطموح المنشود"أن يكون المكان نسيجا افتراضيا لعوالم خيالية لا واقعية...فإن المهم في المدينة في الرواية ليس اسمها ولا ملامحها ولا التصريح بها أو الكناية عنها، بل المهم هو ما صورة تلك المدينة في سياق الرواية؟"(16)؛
----------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
1) انظر ما تناولته مجلة العلوم الشرعية واللغة العربية،المجلد السابع.العدد الثاني مايو 2022، من مادة وفيرة بهذا الشأن..
2) (*)للتوسع أكثر في مفهوم الراوي، انظر:بناء الرواية.سيزا قاسم.ص181-182.دار التنوير.بيروت.ط1/1985.
3) الأدب في زمن الوباء.إلياس خوري.ص143/146. مجلة الدراسات الفلسطينية 123. صيف 2020.
4) للتوسع أكثر، انظر الولاية والولاية الجذبية.ذ أحمد الوارث.مجلة المريد.العدد2- 1990.
5) العدو اللامرئي وسردية الرعب المعمم.د عبدالرحيم العطري. ص32.مجلة الدوحة. أبريل 2020.
6) إعادة كتابة المدينة العربية.معجب العدواني .ص12. المركز الثقافي للكتاب.ط1/2024.
7) انظر: بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي.د.حميد لحمدانيص60. المركز الثقافي العربيط1/1991.
انظر مقدمة كتاب:إعادة كتابة المدينة العربية.معجب العدواني.
9) المدينة العربية الحديثة قراءة سوسيولوجية في أعراض مرض التمدن. إدريس مقبول. مجلة عمران العدد16/4.ربيع 2016 - وانظر كذلك كتابه:الإنسان والعمران واللسان.المركز العربي للأبحاث..بيروت.ط1/2020.
10) الإنسان والعمران واللسان.د إدريس مقبول.المركز العربي للأبحاث..بيروت.ط1/2020.
11) انظر، إعادة كتابة المدينة العربية. معجب العدواني.ص 75.
12) المدينة العربية الحديثة قراءة سوسيولوجية في أعراض مرض التمدن.ص54.
13) انظر:الإنسان والعمران واللسان.ص19...ص63...
14) من صفحة د.منذر عياشي على الفايس بوك.
15) الأفكار والأسلوب.أ.ف.تشيتشرين-تر: د.حياة شرارة.ص163.دار الشؤون الثقافية العامة.دون طبعة ودون تاريخ.
16) العمارة والمدينة والرواية: بناء النص ونص البناء.علي عبدالرؤوف. العمارة والمدينة والرواية - تحليل العمران المصري والعربي في الإبداع الروائي المعاصر
17) في نظرية الرواية.ص11.عالم المعرفة.الكويت.عدد 240/1998.
18) السرديات الوبائية في زمن جائحة كورونا..قراءة أجناسية أولى لبعض النماذج المواكبة.د.فهد إبراهيم سعد البكر.
مجلة العلوم الشرعية واللغة العربية،الجزء الأول المجلد السابع.العدد الثاني مايو 2022،
19) انظر: المدينة الضحلة تثريب المدينة في الرواية العربية.د.صلاح صالح.ص12.منشورات الهيئة العامة السورية/2014.
20) فن الرواية.كولن ولسن.تر: محمد درويش.ص34.الدارالعربية للعلوم.ط1/2008.