د. أحمد الحطاب - المنظومة التربوية -ملف- الجزء الثالث (27--38)

ج -3-

27- المعلم، الطباشير، السبورة، القلم، المِحبرة والدفتر

قبل أن يمتطي طريقَه لأول مرة نحو المدرسة، يمتلك الطفلُ نوعا من الثقافة التِّلقائمة une culture spontanée (مجموعة معارف un savoir، أفكار idées، صور images، تمثلات représentations، اعتقادات croyances) خاصة به. وهذه الثقافة التِّلقائية تم بناءُها من طَرَف الطفل نتيجةً لتفاعلِه مع الوسط الذي يعيش فيه ومع الآخرين. وهي، أي الثقافة التِّلقائية، التي تمكِّن هذا الطفلَ من التعامل مع الواقع ومع الأشياء ومع وسطِه العائلي والبيئة ُالاجتماعية environnement social… كل شيء يتم تفسيرُه حسب أنانيته égoïsme.

بالنسبة للطفل، دخولُه إلى المدرسة لأول مرة، هو بمثابة الدخول في عالم جديد ليس له مكان بعدُ في ثقافته الخاصة. والمدرسة، كما هو متعارفٌ عليها كونيا، هدفُها الأساسي هو أن توفِّرَ للقادم الجديد، أي الطفل، تعليما ينقله من عالم التِّلقائمة ĺa spontanéité إلى عالمٍ معارفُه مدروسةً، أي منظّمةً ومُعقلنةً، عكسَ المعرفة التِّلقائية التي بناها (اكتسبها) على امتداد تفاعلاته مع الوسط الأسري والبيئة الاجتماعية.

وهذا يعني أن الطفلَ، فجأةً، يجد نفسَه في مواجهةِ نوعين من المعرفة : معرفتُه الخاصة التِّلقائية ومعرفةُ المدرسة التي هي نتيجةٌ لسياقٍ فكري processus intellectuel يعتمد على التفكير la pensée والملاحظة l'observation والتجريب l'expérimentation والتبصر la perspicacité والاستنباط la déduction والمقارنة la comparaison والتحليل l'analyse والتركيب la synthèse والبرهنة la démonstration والاستقراء l'induction...

الأولى، أي معرفة الطفل، مرسَّخةٌ بقوة في رأس الطفل، الشيء الذي يجعل دورَ المدرسة أساسيا وحاسما. وهذا يعني أن هذه الأخيرة عليها أن تساعدَه ليخرجَ من تلقائيته نحو عالم العقل والتفكير المنظم... وبعبارة أخرى، تَخليصُه من تمثُّلاته ses représentations ومن أفكاره وتصوراته التلقائية لتعويضها بنمطٍ من التفكير العقلاني والمتناسق coordonné.

وسعيا إلى مزيدٍ من التوضيح، قد أقول إن الطفلَ، مند ازدياده إلى سن التمدرس âge de scolarisation ، بنى نموذجا ثقافيا خاصا به يقود ويوجّه تصرفاتِه داخل البيئة الاجتماعية. فعلى المدرسة أن تقودَه تدريجيا نحو بناء نموذج ثقافي جديد، لكن مُقتسَم على نطاق واسع والذي هو ناتج عن نشاط فكري مُنظّم.

الانتقال التدريجي من نموذج معرفي إلى آخر يُلقي على عاتق المدرسة الابتدائية مسئوليةً كبيرةً تتمثل في تحميل هذه المدرسة واجباً يمكِن تلخيصُه في الاضطلاعِ بمهمة تغيير شخصية الطفل رأسا على عقب.

وهذا التغيير يجب أن يحدثَ ويبدأَ تحقيقُه في هذا المستوى الابتدائي وليس في مكان آخر. لماذا؟ لأنه في هذا المستوى يبدأ رسمُ معالمِ مستقبلِ الطفل. وعندما نقول "رسم مستقبل الطفل"، فهذا معناه أن المدرسةَ هي بكل تأكيد مكانٌ للتهذيب moralisation والتعليم enseignement ولكن كذلك، وعلى الأخص، مكان للتربية éducation والتعلّم apprentissage.

وعندما نتحدث عن "التعليم والتهذيب"، يتعلق الأمر بتبليغ المعارف لكن معارف تمكّن الطفلَ من إدراك نفسه وإدراك ما يجري حوله ومن التفاعل مع بيئته الاجتماعية، المُشيدة والطبيعية، لكن برصيدٍ معرفي جديد.

وعندما نتحدث عن "التعلّم والتربية"، يتعلق الأمر بالاستفادة من التعليم والتهذيب للمساهمة في بناء شخصية الطفل، بمعنى أن هذا الأخير، منذ نعومة أظافره، يجب أن "يتعلّمَ كيف يتعلّم" ليتعوَّدَ، مستقبلاً، على استخدامِ قدراته واستعداداته الفكرية.

وهنا، لا بدَّ من الإشارةِ أنه لم يكن، في يوم من الأيام، هدفُ ذهاب الطفل إلى المدرسة هو خروجُه منها كموسوعة encyclopédie أو علاّمة savant. ليس هذا هو دورُها. دورُها هو أن تساهمَ في بناء شخصية المتعلِّم وتُثَقِّفَه، وبالأخص، أن تُعلِّمَه كيف يتعلَّم.

إنها إذن مرحلة أساسية، حاسمة، هامة، مصيرية من حياة الطفل.

بعد هذا التوضيح، بدون شك أنكم تساءلتم لماذا أعطيت لهذه المقالة العنوان التالي : "المعلم، الطباشير، السبورة، القلم، المحبرة والدفتر". قبل أن أُجيب عن هذا التساءل، أودُّ أن أطرح السؤال التالي : هل المدرسة الابتدائية الحالية أدت وتؤدِّي المهامَ المشار إليها أعلاه، أي : التعليم، التهذيب، التعلّم والتربية؟ اعتبارا للوسائل المادية، البيداغوجية والديداكتيكية التي تتوفر عليها اليوم، والاهتمام والعناية اللذان يوليهما المجتمعُ لها والمكان المختار الذي تحتله في السياسات العمومية التنموية، وبالأخص، في السياسات التربوية، شيء عادي أن تكون المدرسة في مستوى هذه المهام.

غير أن الواقع صادمٌ عن غير عادة! لماذا؟ مند زمان، فشلت المدرسةُ الحالية فشلا ذريعا في أداء مهامها ولم تعُد سوى جهاز ميكانيكي لملء (إن أمكن) الأدمغة بمعارف بعيدة ومعزولة عن الواقع الاجتماعي. المدرسة تشتغل في حلقة مفرغة، أي أنها تُداول معرفةً خاصةَ بها لم تعد تصلح إلا لضمان بقائها.

إنه من غير المعقول ومن المفاجئ أن يُلاحظَ أن المدرسة الابتدائية للأربعينيات والخمسينيات، وشيئا ما الستينيات، رغم تواضع الوسائل التي كانت تتوفر عليها، كانت مدرسةً مواطنةً متجذرةً كلِّيا في المجتمع وتستجيب لحاجياته.

بالفعل، فما هي الوسائل التي كانت تتوفر عليها، بالخصوص، مدرسةُ الأربعينيات والخمسينيات الابتدائية؟

أمام تلك التي تتوفر عليها المدرسة الحالية، إنها تبدو ضئيلة، متواضعة ولكن، في نفس الوقت، وسائلُ كم هي ناجعة ومُنتجة! كانت هذه الوسائل تُحسب على رؤوس أصابع اليدين، أي : المدرس، الطباشير، السبورة، القلم، المِحبرة والدفتر.

كان المدرس هو محرِّك عملية التعليم والتهذيب والتّعلم والتربية. كما كان، كذلك، تجسيدا حيا لمهمة المدرسة السامية. تصرُّفاتُه داخل القسم، بالساحة وخارج المدرسة تصب كلها في تحقيق هذه المهمة. كان يُعطي المثال donner l'exemple كمهذِّب moralisateur وبيداغوجي pédagogue، ولكن كذلك وعلى الأخص، كمُربّي éducateur. كان يُولِّد عند الطفل حبَّ وحاجةَ ورغبةَ الدراسة والتّعلم. كل ما كان لديه من وسائل بيداغوجية وديداكتيكية تتمثل في خطابه (التواصل)، في الطباشير والسبورة. الاستعمال المدروس والمنظَّم لهذه الوسائل كان بمثابة رهان لجذب اهتمام الطفل.

عندما تؤدي الوسائل الثلاثة، أي المدرس والطباشير والسبورة مهامَّها : جلبُ انتباه المتعلِّمين، تفسير explication، إيضاح illustration، توضيح clarification...، يأتي دورُ الطفل ليؤديَّ، هو الآخرُ مهامَّه ليستبطنَ s'approprier ويسجِّلَ enregistrer ما تعلّمه وفهمه واستساغه. إنه ليس أكثر حظا من المدرس. إنه ليس لديه إلا القلم والمحبرة والدفتر. إنها وسائل لها أهميتُها كما هو الشأن بالنسبة لوسائل المدرس. كيفيةُ استعمالِها لها مكانة عند هذا الأخير. على الطفل أن لا يمسك القلم كما يحلو له! عليه أن لا يضع القلم في المحبرة كما يحلو له! عليه أن لا يكتب في الدفتر كما يحلو له! عليه أن لا يوسِّخَ أصابعَه والطاولةَ والدفترَ! الاشتغال بعناية وبنظافة والاعتناء بدفتره، أليست هذه أشياء لها علاقة بالتّعلم والتربية؟ باختصارٍ شديدٍ، دفترُ المتعلِّم كان يُجسِّد المدرسةَ كمكانٍ للتَّعليم والتَّعلُّم والتَّربية.

وفضلا عن ذلك، إذا كان القلمُ والمحبرةُ والدفترُ من الأهمية بمكان بالنسبة للمدرس والطفل معا، فإن هذه الأهمية تزيد شيئا ما عند هذا الأخير بالنسبة للدفتر. إنه ذاكرتُه، مرجعُه، كتابُه، خزانته، طريقُه نحو النجاح ! إنه كنزه الثمين الذي يرسم معالِمَ مساره الدراسي وأوَّلَ الخطوات نحو بناء مستقبلِه!

قد لا أبالغ إذا قلتُ إن المدرسَ والطباشيرَ والسبورةَ والقلمَ والمحبرةَ والدفترَ قِيمٌ لا ثمن لها بالنسبة لمدرسة الماضي. إنها وحدها كانت تضمن التعليم والتهذيب والتعلّم والتربية.

وهنا، لا داعي للقول أن المدرسةَ الحاليةَ، رغم تنوُّع وجودة الوسائل البشرية والمادية التي تتوفر عليها، لم تعد قادرةً على القيام بمهمَّتها الإنسانية والاجتماعية. إنها أصبحت، بالأحرى، مصدرا للضياع البشري، للتبذير المالي، للأمية المرجحة، لتفاقم التفاوتات الاجتماعية، لتبخيس مبدأ تكافؤ الفرص...

وباختصار، مدرسة غريبة جوهريا عن المجتمع الذي يحتضنها. ورغم ضخامة الميزانيات التي تلتهمها والإصلاحات المتتالية وتكوين المدرسين والميثاق والبرنامج الاستعجالي وثِقَل المِحفظات وتقلُّب المقررات الدراسية والتعريب والتراجع عن التعريب والعودة إلى التعريب والخوصصة والتشريع والجهوية...، إن المدرسةَ المغربيةَ منغمِسةٌ مرضيا في سبات عميق. وهذا يعني أن قاعدةَ، أساسَ، ركائزَ، دعامةَ، تُربةَ التنشئة الاجتماعية أصابها مرضٌ مزمنٌ علما أن هذا المرضَ له انعكاس على المجتمع وتضررت ولا تزال تتصرَّرُ منه عدة أجيال!

وفي الختام، قد يتساءل القارئُ عن أسباب نجاح مدرسة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات في أداء مهامِّها؟ في نظري الشخصي، هناك سببٌ واحدٌ رئيسي وحاسم. إنه اتِّصاف المدرسين، حتى ىالنُّخاع، بروح المواطنة وحبِّ الصالح العام. كانت مصلحة الوطن تعلو كلَّ شيء، أي ان هذه المصلحةَ لا شيءَ يأتي قبلها. ومصلحة الوطن هي التي كانت تحثُّ المدرسين على بذلِ أكثر ما في وُسعِهم من جُهدٍ لإنجاح مهامِّهم. اليوم، السياسة، بمعناها اللاأخلاقي، أفسدت كلَّ شيءٍ!

***

28- المنظومة التَّربوية عندهم والمنظومة التَّربوية عندنا

وأنا أبحث في العالم الافتراضي عن أسباب نجاح بعض المنظومات التَّربوية في أداء مهامها وتبوُّئها المراتب المتقدمة في التَّصنيفات العالمية، أثار انتباهي أن بعض البلدان المنتمية لأقصى شمال أوروبا كالسويد Suède والنرويج Norvège والدنمارك Danemark وفِنلندا Finlande، غالبا ما تتصدَّر هذه التَّصنيفات. وعلى رأس هذه البلدان، تأتي فنلندا، بحكم توفُّرها على منظومة تربوية لها نتائجٌ مُبهِرة على صعيد البرنامج الدولي لتتبُّع مكتسبات التلاميذ Programme International de Suivi des Acquis des élèves PISA.

وللتَّذكير، إن برنامجَ PISA وضعته وتُشرف عليه منظمة التَّعاون والتنمية الاقتصاديين Organisation de Coopération et de Développement Économiques OCDE.

حينها، ركَّزتُ اهتمامي على فنلندا، فوجدتُ أن هذا البلدَ يتوفَّر على منظومة تربوية لها من المميِّزات caractéristiques ما يجعلها تُحصِّل على أو تُفرِز إنجازات performances هائلة على مستوى البرنامج المذكور.

من بين هذه المميِّزات، أذكر على سبيل المثال ما يلي :

-قامت فنلندا، قبل نهاية الألفية الثانية بإصلاحات جذرية وصارمة لمنظومتها التَّربوية؛
-فقط 10% من التلاميذ كان باستطاعتهم إنهاءَ مسارهم الدراسي الثانوي خلال الستينيات. اليوم، نتيجةً لهذه الإصلاحات، وصلت هذه النسبةُ إلى أكثر من 90%؛
-حصول فنلندا سنة 2020 على ميزة "أحسن منظومة تربوية في العالم"؛
-اليوم، ما يُناهز 99% من سكان فنلندا يُحسنون القراءةَ والكتابة؛
-تعميم وتطبيق مبدأ "المساواة السياسية والاجتماعية"، الذي تتميَّز به بلدان شمال أوروبا، في مجال التَّربي والتَّعليم؛
-جعلت الدولة الفلندية من مجال التربية والتَّعليم الضامنَ الأساسي لبقاء البلاد على قيد الحياة. فكان من الازم أن يشملَ هذا المجالُ جميعَ المواطنين؛
-كلُّ ما له علاقة باشتغال المنظومة التَّربوية، مجاني من بنيات تحتية وتغذية وكُتُب ومعدَّات…؛
-إلى جانب مجانية التَّربية والتَّعليم، الالتحاق بالمدرسة إجباري بالنسبة لجميع أطفال فلندا البالغين 7 سنوات. وتمتدُّ المرحلة الإجبارية إلى غاية سنِّ 16؛
-تطبيق مبدأ المساواة بين الأطفال المتمدرسين تطبيقا صارما في الوسط المدرسي. بمعنى أن كل طفل فِلَندي له الحق في التَّأطير والعناية لتمكينه من التَّعبير عن استعداداتِه aptitudes، لكن حسب إيقاعه الخاص à son propre rythme؛
-تعويد الأطفال على روح المسئولية منذ نعومة الأظافر داخل الأسرة والمدرسة. بمعنى أن الأسرَ والمدرسةَ تثقين في الأطفال ثقةٍ كاملةً، دون التَّفريق في السلطة لكن بدون سُلطَوِية autoritarisme؛
-ليس هناك شيءٌ اسمه الرسوب المدرسي échec ،scolaire على الأقل، في المرحلة الإجبارية. بمعنى أنه لا يوجد ما يُسمَّى تكرارُ الأقسام le redoublement des classes. كما لا يوجد، في نفس المرحلة، تنقيطٌ notation للمتعلِّمين؛
-ما يتمُّ الإلحاحُ عليه هو "أن يتعلَّمَ المتعلِّمون كيف يتعلَّمون" بدون ضغطٍ pression ou stress أو إكراهٍ contrainte؛
-كل مَن أراد أن يتَّخذَ التَّربية والتعليم كمهنة، عليه أن يُمضيَ خمس سنوات في التعليم العالي للحصول على ماستر؛
-عدد ساعات التَّدريس مختصَرَة ليبقى للمدرسين الوقت الكافي للاعتناء بالأطفال ومرافقتهم في مسارهم الدراسي؛
-لا وجودَ للاكتظاظ داخل الأقسام، وذلك حتى يتمكَّنَ المدرسون من الاعتناء بكل طفلٍ على جدة، وكذلك تشجيع الأطفال على التَّعوُّد على أخذ الكلمة أمام أندادهم…

بعد هذه الجولة القصيرة في المنظومة التَّربوية الفِلَندية، يبدو لي أنه لا مجال للمقارنة بين عالمين الأول يوجد بفنلندا والثاني يوجد بالمغرب.

عالمان لا يجمعهما إلا الأسماء من قبيل : منظومة تربوية، متعلم، مدرسة، مدرس، قسم، الخ. لكن هذه الأسماء أو بالأحرى هذه المفاهيم، يُعطى لها كل ما تستحق من اهتمام و تؤخذ مأخذ جد عندهم. بينما عندنا، لا تعدو أن تكون مجرد كلمات تصلح في أحسن الأحوال للتواصل الإعلامي والاجتماعي، ومن فينة إلى أخرى، للترترة البرلمانية bavardage parlementaire.

لا مجال للمقارنة بين عالمين، الأول كرّس جهودَه لتكوين مواطنين مسئولين منذ نعومة الأظافر والثاني ضاع وقتُه في الإصلاحات وإصلاح الإصلاحات الفاشلة.

هناك، أي عندهم، المنظومة التربوية مُترسِّخة ومُتجدِّرة في المجتمع ويساهم الكلُّ في نجاحها، في أداء مهامها ولا يمكن أبدا أن تكون فريسة للمزايدات السياسوية أو النقابية.

عندنا، كم هم كثيرون الذين يزعمون أنهم يعملون لصالح المنظومة التربوية والحال أنهم لا يعرفون ما المقصود من هذا المفهوم. وعلى رأس هذه الفئة، النقابات التي، في غالب ممارساتها، تسيء لهذه المنظومة.

هناك، المنظومة التربوية تسعى جاهدةً لتمكين المتعلم من اكتساب الثقة بنفسه ومن التَّعلم في بيئة مريحة.

عندنا، لا وجود لهذه الأشياء ولو على الورق. بل الواقع يسير في الاتجاه المعاكس لهذين العاملين (الثقة و البيئة المريحة)، حينما يجد المتعلم نفسَه في أقسام يتجاوز عدد تلاميذها الستين. أو حينما يغرق المتعلِّمُ في ركام من الدفاتر والمراجع المدرسية أو حينما يدخل في دوامة الخوف من جراء حجم الواجبات المنزلية التي لا تزيد هذا المتعلم إلا إرهاقا أو عند اقتراب مواعد الامتحانات. عندنا، المدرسة مصدر للكوابيس وهناك، المدرسة، أولا وقبل كل شيء، مكان لإسعاد المتعلم.

هناك، المتعلم هو الشغل الشاغل الفعلي للسياسات التربوية وللمنظومة التربوية وللمدرسة وللمدرسين وللمجتمع (أولياء وأباء التلاميذ والجماعات المحلية الذين يلعبون دورا حاسما في التسيير الإداري والتربوي للمدرسة).

كل هذه الفعاليات تلحُّ على بثِّ روح المسئولية لدى المتعلم وحثه على أخذ المبادرة والقرارات أو إشراكه فيها والتَّعود على الاحترام المتبادل والاستقامة وعلى الاستقلال الفكري والتعبير عن الآراء بكل حرية والابتعاد عن الفردانية منذ نعومة الأظافر.
وهذا يعني أن المدرسة الفِنلندية تربِّي الأجيالَ وتُنمّي وتكوِّن شخصيتَهم لإشباعها، أولا وقبل كل شيء، بـأخلاق و قيم سامية.

عندنا، وجود المتعلم كجزء من المنظومة التربوية لا يتجاوز مستوى التصريحات والشعارات الفارغة التي لا تجد سبيلا إلى البلورة على أرض الواقع. وإن كان له وجود، فإنه، في غالب الأحيان، يُعتبر كإناءٍ فارغٍ يُملأُ بالمعارف الجافة التي تجعله يلجأ للحفظ والاستظهار. معارف مجردة لا حمولة لها لا من الناحية التربوية ولا من الناحية الاجتماعية.

عندنا، كل ما يجري داخل الأقسام يوحي بوضوحٍ أن المتعلمَ هو الذي يُسَخَّرُ للتعليم وليس العكس. وبعبارة أخرى، إن المتعلم، عوض أن يستمتع بالتعليم ويصبو إليه، فإنه يخضع له ويتحَمَّلُه بعيدا عن كل تنشئة اجتماعية.
هناك، المدرس يسعى إلى جعل المتعلم شخصا واثقا من نفسه ومطمئنا في بيئة تعليمية ويتعامل معه كشخص ناضج له مكانةٌ وصوتٌ داخل المنظومة التربوية والمدرسة والقسم.

هناك، المدرس يجعل المتعلمَ يُحس بأن المدرسة هي، أولا وقبل كل شيء، فضاءٌ لإسعاده. هناك، المدرس يضع المتعلم مند الصِّغَرِ أمام بعض المشكلات والصعوبات ليعوِّده على إيجاد حلول لها، وبالتالي، جعله يكتسب استقلالا في التفكير وفي اتخاذ القرار.

هناك، المدرس يعمل على أن تكون مجموعةُ المتعلمين في قسمِه متجانسةً وتلاميذُها متساوون بيداغوجيا وذلك بالسعي إلى محو الفوارق التّعَلُّمِية les différences d'apprentissage بينهم عملا بمبدأ تكافؤ الفرص principe d'égalité des chances وبعيدا عن الفوارق السوسيواقتصادية loin des différences socio-économiques، الإثنية ethniques والدينية religieuses...

هناك، المدرس يربط علاقات وطيدة ومنتظمة مع أولياء و أباء المتعلمين ليدلوا بدلوهم فيما يجري داخل الأقسام والمدرسة.

عندنا، المدرس أصناف من حيث التكوين التربوي إذ يتساكن في المنظومة التربوية مدرسون تكوَّنوا في مؤسسات تربوية وآخرون خضعوا لتكوين قصير وآخرون لا تكوينَ لهم.
عندنا، تكاد مهمة المدرس تنحصر في تلقين المعرفة، أي في تبليغها إلى المتعلمين. عندنا، يستحوذ المدرس على النصيب الأكبر من الوقت البيداغوجي المخصص للدرس داخل الأقسام وغالبا ما يُستهلك هذا الوقتُ في الكلام ثم الكلام.

عندنا، تربية المتعلمين وتكوين شخصيتِهم لا يشكلان أولويةً في مهمة المدرس. همُّه الأول والأخير هو تبليغ المعرفة وتراكمها لدى هؤلاء المتعلمين.

عندنا، لا يحظى مبدأ تكافؤ الفرص بالاهتمام الكافي من طرف المدرس. بل، غالبا، ما يتم انتهاكُه من طرف فئة من المدرسين الذين، بطريقة أو أخرى، يدفعون المتعلِّمين إلى طلب الدروس الخصوصية.

عندنا، المدرس لا اعتبار له لا ماديا ولا معنويا. وبحكم راتبه الشهري الضئيل، فإنه، يسعى إلى الاستجابة لمتطلبات الحياة العائلية والاجتماعية وذلك بحثا عن مصادر اخرى للرزق، الشيء الذي قد ينعكس سلبا على أداء مهمته النبيلة.
هناك، المدرسة عبارة عن فضاء يتلاءم وطموح المتعلم للتَّعلم والإدراك. هناك، المدرسة تكوِّن المتعلمَ ليصبح مواطنَ الغد وفاعلا مرتقبا للتنمية.

هناك، المدرسة فضاء يشارك في تصميمه المتعلمون. هناك، يعدُّ فشلُ المتعلم في دراسته بمثابة فشلٍ للمدرسة. هناك، المدرسة شأنها كشأن أية مؤسسة اجتماعية حيث أن وجودَها مبنيٌّ على الديمقراطية التي تساوي بين المتعلمين تربويا عملا بمبدأ تكافؤ الفرص.

ومن أجل هذا، فإنها توفر لهم كل ظروف الراحة والاطمئنان والثقة في النفس. هناك، المدرسة متفتِّحة على الحياة، أي أنها تستمد وجودَها من محيطها، وغالبا ما تُعدّ كأسرة أو كبيت أبناءُه هم المتعلمون.

هناك، المدرسة تعتمد على الكفاءات التربوية قبل الكفاءات المعرفية. هناك، المدرسة لا تقبل التنافسية بين المتعلمين بل تسعى إلى مساواتهم من حيث المعرفة والتربية والتكوين.

عندنا، المدرسة أصبحت عبارة عن معامل ميكانيكية تُنتج أشخاصا غرباء عن مجتمعهم، لا هم تعلموا ولا هم تربوا. وذلك لأن المدرسةَ نفسَها انعزلت عن المجتمع وعن محيطها وتقوقعت وتحجَّرتْ se sclérose إلى أن أصبحت كيانا خاصا لا وجود له إلا من خلال ما تنقله من معارف جافة، مجردة و غير مجدية اجتماعيا واقتصاديا.
مدرسةٌ، إن حُرِمت من مهمة نقل المعرفة وتراكمها لدى المتعلمين، لأصبحت عديمة الجدوى inefficaces. بل إنها، حاليا، تشكل عائقا من أكبر عوائق التنمية إن لم نقل عالةً على المجتمع و غولاً يلتهم الأموال الطائلةَ وينتج الضياع والفشل.

عندنا، المدرسة، عوض أن تجعل من مبدأ تكافؤ الفرص شعارا لها، فإنها تعمل على اختفائه ودحره. وذلك بجعل التنافسية بين المتعلمين هي المحرك الأساسي للتعليم والتَّعلُّم علما أنه من المفروغ منه أن أية منظومة تربوية تُحترم يجب حتما أن تُساوي بين المتعلمين، بحكم أنهم هم وقود التنمية الاجتماعية والاقتصادية مستقبلا. فما معنى أن تُقصيَ المدرسة شريحة عريضة من مريديها من هذه المهمة؟ عندنا...

إن هذه المقارنة تجعلني أطرح عدة تساؤلات :

1.إذا كان الطفل الفنلندي يستمتع بالحياة داخل المدرسة، فبماذا يستمتع الطفل المغربي لما يذهب إلى المدرسة (اقرأ الم ضرسة)؟
2.لماذا ينجح الطفل الفنلندي دون قيامه بالفروض المنزلية ولا ينجح الطفل المغربي رغم قيامه بهذه الفروض؟
3.لماذا ينجح الطفل الفنلندي وعدد ساعات دراسته أسبوعيا أقل من عدد ساعات دراسة الطفل المغربي؟
4.لماذا لا ينجح الطفل المغربي وهو يقضي بالمدرسة وقتا طويلا علما أنه مدجج بوابل من المراجع المدرسية والدفاتر؟
5.هل نجاعة التعليم ترتبط ارتباطا وثيقا بكثرة الكتب والدفاتر والمواد وأيام وساعات الدراسة؟
6.هل تستوي مدرسةٌ تسعى لإسعاد متعلِّمِيها ومدرسة تفعل كل شيء لإرهاقهم؟
7.هل تستوي مدرسةٌ تشرك أطفالَها في اتخاذ القرار ومدرسة تعتبرهم أشخاصا غير ناضجين؟
8.هل تستوي مدرسةٌ تُعتبر معبرا حقيقيا للحياة الاجتماعية والعملية ومدرسةٌ تنتج غرباء عن المجتمع؟

وفي الختام، يمكن القول إن سعادة المجتمع الفنلندي لم تأت من فراغ. لقد بدأت من المدرسة. لقد سبق لفِلندا أن صُنِّفت "أسعَدَ بلدٍ في العالم".

***

29- التقييم، أداةٌ لتحسينِ مردوديةِ الممارسةِ التعليمية التَّعلُّميةِ وليس وسيلةً لقهرِ المتعلِّمِ

عادةً، يهدف اللجوء إلى التقييم évaluation إلى تزويد، في نفس الوقت، المدرس والمتعلِّم بمعلومات عن التغييرات التي من المفترض أن تُحْدِثَها أَنْشِطَةُ التعليم والتعلُّم عند هذا الأخير. وبعبارة أخرى، التقييم هو الوسيلة التي، بواسطتها، يتأكد المدرس من تحقيق الأهداف المعرفية والتربوية التي سبق أن رسمها.

ومع ذلك، فإن التقييم، كما هو معمول به بصفة عامة في الممارسة التعليمية التَّعلُّمية المغربية، يُرَكِّزُ كثيرا على مراقبة المعارف contrôle des connaissances ويُهْمِلُ، إلى حدٍّ كبير، الجانبَ التربوي (الاجتماعي/الوجداني socio-affectif) الذي يؤدي عادةً إلى بناء المواقف attitudes والسلوكات comportements والمهارات habiletés والكفاءات compétences...

وهكذا، فعوض أن يُعْتَبَرَ التقييمُ كوسيلةٍ لتقويةِ وتسهيل تحقيق، كذلك، الأهداف التربوية، فإنه يتحوَّلُ إلى إِكْرَاهٍ contrainte يُجْبِرُ المتعلِّمَ على اللجوء إلى الحِفظ mémorisation والتخزين emmagasinage والاستظهار restitution، إن لم نقُل اللجوء إلى الببغائية psittacisme علما أن هذه الببغائية هي تِكرار (ترديد) شيء ما كما يفعل الببغاء دون فهم معنى الكلمات المسموعة. وبالخصوص، استرجاع آلي mécanique للكلمات، للجمل، للأفكار التي لم يتم إدراك معناها أو لم يتم اسْتِبْطَانُها leur appropriation بالشكل المطلوب. علما أن الاستبطانَ، إن لم يكن مسبوقا بنشاطٍ فكري، فلا جدوى منه.

حينها، يصبح التعليمُ، في نظر المتعلم، كُتْلَةً من المعارف أو، إن صحَّ القولُ، عقبةً عليه أن يتعامل معهما، بل ويتغلَّب عليها لاجتياز الامتحانات أو للمرور من مستوى دراسي إلى آخر أو للحصول على شهادة. فكيف سيتغلَّب هذا المتعلِّمُ على هذه العقبة التي تقف أمامَه كسدٍّ منيع عليه أن يتجاوزَه؟

أمامه حلٌّ وحيد هو أن يلجأَ إلى حفظ دروسه عن ظهر قلب. وخصوصا أن المتعلِّم يعرف مسبقا أن التَّقييمَ يميل إلى مراقبة المعارف قبل مراقبة ما خلفاه التَّعليم والتَّعلُّم من تغييرات على مستوى شخصية المتعلِّمين.

إن هذا النوع من التقييم، الذي يُحَوِّلُ المتعلمَ إلى آلة للحفظ والاستظهار، يَتَنَاقَضُ مع المُهِمَّةِ التربويةِ للتعليم. إنه يضع المتعلِّمَ في وضع يَتَّسِمُ بعدم الاطمئْنَانِ. وبِمُجَرَّدِ ما ينتهي التقييم، يَضْعُفُ تأثير التعليم على هذا المتعلم أو يختفي نهائيا.

إن التقييم، عوض أن يكونَ إِكْرَاهِياً contraignant (قهريا)، من المفترض أن يكون بَنَّاءً constructif، مُثَمِّناً valorisant وغير مُحْبِطٍ non décevant.

وفضلاً عن أنه أداةٌ لاختبار المسار الدِّراسي للمتعلِّم، من المفترض أن يكون كذلك وسيلةً لتقوية مساره وتَفَتُّحِهِ على المستوى الفكري. فمن الأهمية بمكان أن يتمَّ تقييمُ شخصيةِ المتعلم وليس حَصْرِيّاً تقييم قُدْرَتِهِ على ابتلاع واستظهار المعرفة.

وعليه، لا يجب أن يكون التقييم مُرَادِفا للعِقاب والتَّهميش والتَّوبيخ. التقييم القهري l'évaluation coercitive يتنافى مع المهمة السامية للتعليم (المدرسة) : "تكوين الإنسان". وتكوين الإنسان مُهمة لا يمكن، على الإطلاق، أن تتساكنَ مع القهر والإكراه. بل إن تكوين الإنسان يتطلَّب من المنظومة التَّربوية أن توليَ اهتماما كبيرا للجانب التَّربوي في الممارسة التَّعلمية.

كما أن التَّقييمَ، كما هو ممارسٌ اليوم في الوسط المدرسي، يتنافى كذلك مع مبدأ "تكافؤ الفرص" égalité des chances. وتكافؤ الفرص هو حق دستوري مكفولٌ لجميع المواطنين. فكيف للمدرسة أن تخرقَ هذا الحق في تناقض صارخ مع أخلاقيات éthique المنظومة التَّربوية ومع دستور البلاد؟

فعوض أن تكونا المنظومةُ التَّربويةُ والمدرسةُ هما المُدافعين الأساسيين عن هذا الحق، فإنهما تخرقانِه، من خلال تقييمٍ مٌجحِفٍ! وعوض أن يكونَ التَّقييمُ أداةً في متناول المنظومة التَّربوية والمدرسة والمدرسين لتحسين مردودية الممارسة التعليمية التَّعلُّمية والتربوية والتَّصدِّي لثغراتها ولنواقصها، فإن هذا التَّقييمَ أصبح أداةً لقهر المتعلمين. كيف ذلك؟

وهنا بيتُ القصيد وزيادةٌ في الطين بلَّةً! المُجحِف في التَّقييم، كما هو مُمارسٌ اليوم في الوسط المدرسي، هو تصنيف المتعلِّمبن، في القسم الواحد، إلى ثلاثة أصناف : صنف النبغاء المجتهدين studieux ou laborieux وصنفُ متوسِّطي الاجتهاد moyens ou valables وصنف الكسلاء أو ضِعاف الاجتهاد paresseux ou fainéants. وكيف سيميِّز المدرسُ بين متعلِّمي هذه الأصناف الثلاثة؟

يميِّز بينها بإسناد تنقيطٍ رقمي notation numérique يبدأ من 0 إلى 10 أو من 0 إلى 20! أتحدَّى أيةَ مدرٍِسة وأيَّ مدرس أن يُبيِّنَ لنا علميا وبالدليل القاطع أن هذا التنقيط هو صورةٌ حقيقيةٌ وصحيحةٌ لمستوي المتعلِّمين، الفكري والتَّعليمي التَّعلُّمي!

وهذه الملاحظة تجرُّنا إلى القول أن التَّنقيط الرقمي أداةٌ نسبية تخضع، إلى حدٍّ كبير، لتأثير ذاتية المدرس sa subjectivité، أي أنها غير موضوعية non objective، بحكم اختلاطها مع انطباع وارتسامات المدرس، وبالتالي، لا يمكن أن يكونَ التنقيطُ الرقمي صورةً أمينةً fidèle (أوصورة طبق الأصل) لمستوي المتعلِّم الفكري، وبالأخص، لمستواه الناتج عن الممارسة التعليمية التعلُّمية داخلَ القسم.

وانطلاقا من هذه الاعتبارات، تخلَّت منظوماتٌ تربوية كثيرة عن التَّنقيط الرقمي الذي، في أحسن الأحوال، يعطي فكرةً عن قدرة المتعلِّم على الحفظ والاستظهار. هناك منظومات تربوية تخلَّت عنه كليا. وهناك منظومات تربوية عوَّضته بتصنيف أبجدي على شكل ABCD حيث A تعني الفئة الممتازة excellente و B الفئة الجيِّدة جداًّ très bonne و C الفئة المتوسِّطة و D الفئة الضعيفة. وحتى هذه الطريقة لا تسلم من تأثير ذاتية المدرسين على التَّصنيف.

وفي نهاية المطاف، التقييم يجب أن يكونَ، أولا وقبل كل شيء، وسيلةً لمزيدٍ من التَّحسّ amélioration في الممارسة التَّعلمية التَّعلُّمية la pratique d'enseignement-apprentissage. وهذه الزيادة في التَّحسن هي، في الحقيقة وفي آنٍ واحدٍ، في صالح المنظومة التَّربوية والمدرسة وكذلك في صالح المتعلِّم. في صالح المتعلِّم إذا أدى التقييمُ إلى إعادة النظر في المقاربات البيداغوجية، الديداكتيكية والتَّربوية. لا شيءَ من هذا يحدث! ينتهي التَّقييم ولا مدرسٌ واحدٌ يطرح على نفسِه هذا السؤالَ : "لماذا بعضُ المتعلِّمين حصلوا ويحصلون على نُقَطٍ تحت المعدَّل؟". الجواب الذي يُريح الجميع هو نَعتُ هؤلاء المتعلمين ب"الكسلاء". والحقيقةُ هي أنه، لو تمَّ الاعتناءُ بما تُسمِّيه المدرسةُ "الكسلاء"، لظهروا بوجهٍ آخر غير الذي ألصقَه بهم التَّقييم الرقمي!

والحقيقةُ المُرةُ الأخرى هي أن التَّقييمَ، كما هو ممارسٌ اليوم في الوسط المدرسي، هو عِبءٌ ثقيل على المتعلمين ولا يُساعدهم، على الإطلاق، على تفجير طاقاتهم الفكرية، الإبداعية والتَّحرُّرية. إنه يجعلهم يعيشون في حالة رُعبٍ وخوف كلما اقتربت مواعدُ الامتحانات ومختلف أنواع مراقبة التَّحصيل المدرسي.

وفي ختام هذه المقالة، أذكِّربأن تراكمَ المعرفة لن ينفعَ المتعلِّمَ في شيء عندما يكون وجهاً لوجهٍ مع مُجريات الحياة اليومية ومع متطلبات سوق الشغل وفي حالة التعامل مع الآخرين... في عصرنا هذا، المعرفة تتغيَّر بسرعة. فمن المفيد أن يتعلَّمَ المتعلِّمُ كيف يتعامل مع هذا التغيير، عوض أن يكون ماهرا في تخزين المعرفة بدون جدوي. التقييم يجب أن يُسايِرَ هذا التطورَ. فلنقيِّمْ قدرتَه على التكيُّف مع التغيير عوض اعتباره كإناءٍ تمَّ ملءُه بمعارفَ تمّ تخزينُها تحت طائلة القهر. معارفٌ مصيرها الحتمي هو التَّبخُّر!

***

30- الطرائق البيداغوجية، مسار فكري و ليس قوالب نمطية

الطرائق (جمع طريقة) البيداغوجية، أي باللغة الفرنسية méthodes pédagogiques، هناك مَن يُسمِّيها الطرائق التَّربوية. لكني، أنا شخصيا، أفضِّل تسمية طرائق بيداغوجية عوض طرائق تربوية لماذا؟

لأن البيداغوجيا هي نوعٌ من التربية، لكن، في الأصل، خاص بالأطفال والمراهقين. بينما التربية، بمعناها الواسع، لا سِنَّ لها. لهذا، أنا شخصيا، أفضِّل أن يبقى مصطلحُ "بيداغوجيا" ملتصقا بالممارسة التَّعلمية في مرحلتيها الابتدائية والثانوية علما أن هذه الممارسة هي تعليمٌ وتعلُّمٌ وتربيةٌ. وهذا الاختيار لا ينفي، بتاتا، أن البيداغوجيا ليس لها جانبٌ تربوي في الممارسة التَّعلمية. بكل تأكيدٍ أن البيداغوجيا هي العامل الأساسي في تربية المتعلِّمين إنسانيا، فكريا، سلوكيا… فما هي الطرائق البيداغوجة؟

في مرحلة أولى، يمكن أن نقولَ أن الطرائق البيداغوجية تتلخَّص في النَّهجُ أو المسار الذي يتَّبعُه أو يسلكه المدرس، داخلَ القسم، ليكونَ تعليمُه ناجعا ومُسهِّلاً لتعلُّم المتعلمين. وبعبارةٍ أخرى، يمكن القول، كذلك، أن الطرائق البيداغوجية تتلخَّص في كل نشاط فكري، نظري أو مادي يقوم به المدرسُ، داخلَ القسم، من أجل تحقيق أهدافٍ تعليمية تعلُّمية، معرفية، تربوية أو سلوكية. كما يمكن تلخيصُ الطرائق البيداغوجية في التفاعل النشيط والمنشِّط الذي يُحدثُه المدرسُ، من خلال تدخُّلاته التعليمية التَّعلُّمية داخلَ القسم، بين المعرفة والمتعلِّمين. وفي نهاية المطاف، الطرائق البيداغوجية يمكن تلخيصُها في لغة تواصل المدرس، في تصرُّفه، في سلوكه داخلَ القسم، الكل يصبُّ في تسهيل عملية التَّعلُّم من طرف المتعلِّمين.

غير أن الطرائقَ البيداغوجية لا تأتي من فراغٍ. إنها تترتَّب عن الكيفية التي يتمثَّل se représente بواسطتها المدرسُ المعرفةَ والمتعلمَ. فإذا كان المدرس يعتقد، مثلا، أن المعرفةَ هي صورة حقيقية vraie وأمينة fidèle للواقع réalité، فإن الطريقة البيداغوجية التي سيركِّز عليها في ممارسته التَّعليمية، هي الطريقة السردية méthode expositive ou transmissive، التي ستُمكِّنه من الإلحاح على تبليغ هذه المعرفة. في هذه الحالة، ما على المتعلِّم إلا أن يقبلَ هذه المعرفة ويبذلَ مجهودا لتخزينها في ذاكرتِه. أما إذا كان المدرسُ يعتقد أن المعرفةَ ليست إلا تفسيرا explication أو تأويلا interprétation للواقع ومن الممكن أن تتغيَّرَ مع مرور الوقت، فإن الطريقةَ البيداغوحية التي سيعتمد عليها المدرس في الممارسة التعليمية، هي الطريقة النَّشِطة أو النَّشيطة أو طريقة الاستكشاف méthode active ou méthode de découverte. في هذه الحالة وخلافا للطريقة البيداغوجية السردية، فإن المتعلِّمَ يكون، بمساعدة المدرس، طَرَفا حيويا ونشيطا في بناء المعرفة أو إعادة بنائها. ولا داعيَ للقول أنه، من منطلق معطيات الإبيستيمزلوجيا épistémologie وعلم النفس التَّربوي psychopédagogie، الطريقة النَّشِطة هي الأكثر ملاءمةً لنجاح المدرس في أداء مهمته التَّعليمية التَّعلُّمية والتربوية. لأنه، في نهاية المطاف، كل ما يقوم به المدرس داخل القسم، هدفُه الأساسي هو تسهيلُ التَّغلُّم من طرف المتعلِّم. وما يُميِّز هذه الطريقة، هو مشاركة المتعلِّمين في بناء المعرفة أو إعادة بنائها.

ولهذا، فإن نوعيةَ الطرائق البيداغوجية التي يلجأ لها المدرسُ مرتبطةٌ ارتباطا وثيقا بالتمثُّلات التي يُدرك بها وضعَه داخلَ القسم، وكذلك بالتَّمثُّلات التي يدرك بها المعرفة والمتعلمين. في هذه الحالة، الطرائق البيداغوجية ماهي إلا نتيجة للتفاعل القائم بين المدرس والمعرفة والمتعلم. إنها تتأثر بالأوضاع التي توجد عليها هذه المكونات الثلاثة للممارسة التعليمية والتربوية. و إن لم تساعد على جعل التعليم سياقا ناجعا، نافعا ومؤثِّرا على بناء شخصية المتعلٍّمين، فإن الطرائق البيداغوجية تصبح مجرد التِواءات تنتهي عاجلا أو آجلا بتبليغ المعارف وتراكمها عند المتعلمين.

فإذا مثلا اعتبر المدرسُ نفسَه كمالكٍ للمعرفة واعتبر، كما سبق الذِّكرُ، أن معارفَه (تَصوَّرها) كحقائق لا غُبارَ عليها، واعتبر المتعلِّمَ (تَصوَّره) كعنصرٍ جامدٍ دورُه هو تلقِّي هذه المعارف وحفظها واستظهارها لاحقا، فلا حاجةَ له بالطرائق البيداغوجية. فما عليه إلا أن يُمليَ المعارف على المتعلِّمين وانتهى الأمر. أما إذا اعتبر، كما سبق الذِّكرُ، المعارفَ (تَصوَّرها) كتفسير للأشياء والظواهر والأحداث واعتبر المتعلِّمََ (تَصوَّره) كعنصرٍ يريد أن يفهمَ ويتعلَّمَ ويشاركََ في النشاط التعليمي، فلا مناصَ له من الطرائق البيداغوجية التي، من المفترض، أن تجسّد تصوُّرَه للمعارف والمتعلِّم.

ومن جهة أخرى، كل المزايا التي من المفترض أن تتسم بها الطرائق البيداغوجية المترتِّبة عن البيداغوجيا النشيطة أو البيداغوجيا المعتمِدة على المشاريع أو على المحاور أوالأهداف أو الكفاءات...، قد لا تكون مُجدية بالنظر إلى الوضع الذي يعطى للمعرفة وإلى سيادة تعليم يعطي الأولويةَ لتبليغ المعرفة.

وفضلا عن ذلك، عندما يكون المدرسُ منهمكا في الممارسة التعليمية التعلُّمية داخلَ القسم، لا يمكن، على الإطلاق، أن يعتمدَ، في ممارسته هذه، على طريقة بيداغوجية واحدة. لماذا؟ لأن كلَّ تدخُّلٍ للمدرس، داخلَ القسم، يتمُّ في طروف تفسية تربوية معيَّنة circonstances psychopédagogiques déterminées. ولهذا، فالأرجح، هو أن يمزِجَ المدرسُ بين عدة طرائق بيداغوجية التي، تارةً، تكون نشِطة، وتارةً توحيهية directives، وأخرى سردية…وعليه، عندما نتحدث عن الطرائق البيداغوجية، فالأمر يتعلق، أولا وقبل كل شيء ب"مسار فكري" un cheminement intellectuel ينتهي ببناء أو إعادة بناءٍ المعارف والمفاهيم من طرف المتعلمين. والبناء أو إعادة البناء هو في الحقيقة نشاط فكري يستدعي شيئا من التنظير théorisation والقدرة على صياغة المفاهيم conceptualisation. لماذا مسارٌ فكري؟

لأنه لو لم تكن تدخُّلات المدرس داخلَ القسم مسارا فكريا يتغيَّر بحسب الظروف النفسية التربوية السائدة داخلَ هذا القسم، لكانت الطرائق البيداغوجية عبارة عن وصفات جاهزة للاستعمال recettes prêtes à l'emploi أو قوالب نمطية modèles stéréotypés. وهذا شيءٌ غير ممكن لأن الطرائق البيداغوجية، هي نفسُها، عبارة عن جُهدٍ فكري يتطوَّر بانتظام!

وبالنظر إلى الكيفية المُنمَّطة التي تُستعمل بها الطرائق البيداغوجية في الممارسة التعليمية والتربوية، فإن هذه الطرائق ليست، في غالب الأحيان، محفِّزا لتنشيط الملكات الفكرية للمتعلمين. فإنها غالبا ما تُحوَّل إلى أعمال آلية actes mécaniques إن لم نقل إلى طقوس متكررة rites répétitifs وخطية التوجُّه linéaire، تُدخِل في نهاية المطاف، المللَ على أكثر المتعلمين حماسا، الذين يصبحون مع مرور الوقت مجردَ مشاهدين spectateurs أو بالأحرى، مجرد مُصدِّقين crédules. إن اللجوء إلى الطرائق البيداغوجية على هذا النحو المُنمَّط، يُعدُّ تضليلا للمتعلمين وذلك بجعلهم يعتقدون بأن إنتاجَ المعارف يتم حسب أساليب تتشابه وتتكرَّر بانتظام وبكيفية لامحدودة selon des processus identiques, répétitifs et sans limites. بينما إنتاج المعرفة من طَرَف الباحثين هو نتيجةُ أخذٍ وردٍّ و تقدُّمٌ إلى الأمام و رجوع إلى الوراء va-et-vient…

فعوض أن تُدركَ الطرائقُ البيداغوجيةُ كطقوس أو كأعمال آلية متكررة، يجب اعتبارها كمسار فكري يشكل منطلقا لبناء أو إعادة بناء المعارف من طرف المتعلمين. في هذه الحالة، سيتحول المدرس إلى مسهِّل ومحفِّز لهذا البناء أو إعادة البناء، ومن خلالهما، تسهيل التَّعلُّم من طرَف المتعلِّم. وكمسار فكري، من المفترض أن تساعد الطرائقُ البيداغوجية على إقامة حوارٍ متمرٍ بين المدرس والمتعلمين لإدراك ليس فقط أهمية المعرفة في التَّعلُّم والتَّربية، ولكن كذلك طبيعة الطرائق البيداغوجية نفسها. كما أنها، من المفترض، أن تساعدَ على دمج المتعلمين في العملية التعليمية-التعلمية كفاعلين كاملين ناشطين أولا وقبل كل شيء على المستوى الفكري.

***

31- تكافؤ الفرص في الوسط المدرسي

تكافؤ الفرص حق تَكفلُه الدساتير الوطنية. وهو نوع من المساواة تسعى هذه الدساتير، من خلالِه، إلى جعل الأشخاص يتوفَّرون على نفس الحظوظ وعلى نفس الفرص فيما يخصُّ تطوُّرَهم الاجتماعي والاقتصادي، بغضِّ النظر عن انتمائهم الاجتماعي أو الإثنين ethnique، وعن جنسهم، وعن الوضع المادي لأُسرهم أو عن مكان ازديادهم أو عن اعتقاداتهم الدينية…

وبعبارة أخرى، تكافؤ الفرص هو أن لا يكونَ، على الإطلاق، مصيرُ الأشخاصِ مرتبطا حصريا بالحظ أو حتى سوء الحظ. إنه الحق في النجاح، من خلال التَّعبير عن القدرات capacités والمواهب talents، وكذلك، من خلال التَّغلُّب على ما يعترض مصيرَ هؤلاء الأشخاص من صعوبات وضُعف. تكافؤ الفرص هو أن لايبقى أي شخصٍ، كيفما كان، حبيسَ عِرقه أو وسطِه أو وضعِه الاجتماعي والمادي. تكافؤ الفرص هو أن يواجهَ الأشخاص مصيرَهم (مستقبلَهم)، مطلقين من ظروف متساوية بينهم…

على المستوى المدرسي، تكافؤ الفرص هو توفير ظروف النجاح، على قدم المساواة، لجميع المتعلِّمين بغض النظر عن ظروفهم الاجتماعية، الاقتصادية، العِرقية، الدينية…

بعد هذه التَّوضيحات الضرورية، سأتناول بالتَّفصيل الوضعَ الذي يوجد عليه، حاليا، مبدأ تكافؤ الفرص في الوسط المدرسي.

إذا طرحنا على أي ربِّ أسرة (أبٌ، أمٌّ أو وليُّ أمر) سؤالَ "لماذا ترسل ابنك أو ابنتك إلى المدرسة" (المقصود: المدرسة العمومية)، سيجيب تلقائيا : "ليتعلم وينجح". ويعد هذا الجوابُ، بالتأكيد، جوابا مشروعا لأن المدرسة، كمؤسسة أنشِئت من طرف، من أجل وداخل المجتمع، مهمتُها الأساسية، ضمانُ نجاح الأجيال الصاعدة بدون تمييز لتهيئة اندماجها في المجتمع وفي سوق الشغل. وهذا هو ما يُطلِعنا عليه مبدأ "تكافؤ الفرص"، الذي يُعتبر من بين القِيم التي ترتكز عليها كل منظومة التربوية.
من منطلق مثالي idéal، المدرسة هي مدرسة النجاح بالنسبة لأولياء التلاميذ. وهذا يعني أن الرُّسوبَ لا مكانَ له في هذه المدرسة، على الأقل في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، أي المرحلة الإجبارية. وإذا كان أولياءُ التلاميذ يعتقدون أن مرورَ بناتِهم وأبنائهم من المدرسة مرادف للنجاح، فذلك باسم تكافؤ الفرص.

بل إن مبدأَ تكافؤ الفرص حقٌّ دستوري مكفول لجميع المواطنين. وما دام هذا المبدأ مكفولا لجميع المواطنين، فتطبيقُه في الوسط المدرسي يجرُّنا إلى طرحِ الأسئلة التالية :

-كيف يُرى مبدأُ تكافؤ الفرص في المدرسة من الناحية النظرية؟
-كيف تضمن المدرسةُ تكافؤَ الفرص؟
-كيف يُترجَم تكافؤ الفرص على مستوى الممارسة التعليمية التربوية، أي على مستوى المدرس؟
-هل هناك فرقٌ بين تكافؤ الفرص نظريا و واقعيا؟
-مَن هم ضحايا إخفاق المدرسة في ضمان تكافؤ الفرص؟
-ما هي الخسارات والأضرار المترتِّبة عن عدم احترام تكافؤ الفرص؟
-ما هي العراقيل التي تُعِيق ترسيخَ مبدأ تكافؤ الفرص في الوسط المدرسي؟

الجواب على السؤال الأول : كيف يُرى مبدأُ تكافؤ الفرص في المدرسة من الناحية النظرية؟

من الناحية النظرية، مبدأ تكافؤ الفرص حق من حقوق الإنسان. وكونُه حق من حقوق الإنسان، فإنه، بالنسبة للمواطنين، يساوي النجاحَ للجميع بغض النظر عن الأصول الاجتماعية للمتعلمين وظروفهم الاقتصادية. أما بالنسبة للمدرسة، فإن مبدأَ تكافؤ الفرص، بحكم الدستور، أمر إجباري.

الجواب على السؤال الثاني : كيف تضمن المدرسةُ تكافؤَ الفرص؟

تضمن المدرسةُ تكافؤ الفرص، أولا، بإقرار مجانية التعليم، ثانيا، بإعطاء نفس البرامج التعليمية للمتعلمين من نفس الفئة العمرية. ثالثا، بإخضاع المتعلمين لامتحانات وطنية موحدة. رابعا، بالتصدي لصعوبات التعلُّم التي يمكن أن توجد عند المتعلمين.

الجواب على السؤال الثالث : كيف يُترجم تكافؤ الفرص على مستوى الممارسة التعليمية التربوية، أي على مستوى المدرس؟

أولا، بحكم تواصله المستمر مع المتعلمين، المدرس ناقل للقيم، ومن ضمن هذه القيم، مبدأ تكافؤ الفرص يجب أن يحتلَّ الصدارةَ. ثانيا، من هذا المنطلق، وبصفته مواطن ومربِّي، يجب أن يكونَ من بين المُدافعين بقوة عن هذا المبدأ. ثالثا، عليه أن يبذل الجهدَ الضروري ليضَعَ المتعلمين على قدم المساواة من خلال تعليمه. رابعا وحتى يتمكَّنَ من وضعِ المتعلمين على قدم المساواة من خلال تعليمه، يجب عليه أن يعرفَ ويتعرَّفَ على المتعلمين شخصيا ليساعد من يعاني منهم ومنهن من صعوبات في التعلم. خامسا، لتجنب المساس بمبدأ تكافؤ الفرص، عليه أن يتفادى كل تمييز بين المتعلِّمينن، كل تخويف (ترويع)، تبخيس، نبذ...

الجواب على السؤال الرابع : هل هناك فرقٌ بين تكافؤ الفرص نظريا وعلى أرض الواقع؟

أولا، على مستوى التصريح بالنوايا (الغايات) déclaration d'intentions، المتعلقة بالمنظومات التربوية، أي على الورق، يحظى تكافؤ الفرص بمكانة جد مهمة. ثانيا، أما على أرض الواقع، وبالأخص، في الوسط المدرسي، يجد تكافؤُ الفرص صعوباتٍ وعراقيلَ ليُترجمَ إلى شيء ملموس.

الجواب على السؤال الخامس : مَن هم ضحايا إخفاق المدرسة في ضمان تكافؤ الفرص؟

في المرتبة الأولى، يأتي المتعلمون. من خلال هؤلاء المتعلّمين، تأتي الأُسرُ. ومن خلال الأسر. يأتي المجتمع. ومن خلال هذا الأخير، ياتي البلد برمته. الكل يكون سببا في ضياع رأسمال بشري له قيمات مضافة تفقدها التنمية بجميع تجلِّياتها.

الجواب على السؤال السادس: ما هي الخسارات والأضرار المترتِّبة عن عدم احترام تكافؤ الفرص؟

عدمُ احترام تكافؤ الفرص، أولا، يكون سببا في هدرٍ مهولٍ في الرأسمال البشري، ناتجٌ جزئيا عن الرسوب المدرسي. ثانيا، على المستوى الاقتصادي، عدمُ الاحترام هذا يكون سببا في هدرُ جزء من المال العام. ثالثا، على المستوى الاجتماعي، عدمُ الاحترام يكون سببا في استفحال البطالة accroissement du chômage وانحراف الأحداث délinquance des adolescents. رابعا، عدمُ الاحترام يؤدِّي إلى المس بقيمة المنظومة التربوية. خامسا، يأتي التشكيك في سُمعة المدرسة العمومية. سادسا وأخيرا، إهمال مبدأ تكافؤ الفرص يقود إلى استفحال الفوارق الاجتماعية.

الجواب على السؤال السابع : ،ما هي العراقيل التي تعوق ترسيخَ مبدأ تكافؤ الفرص في الوسط المدرسي؟

أولا، السببُ الرئيسي في عدمِ ترسيخ مبدأ تكافؤ الفرص، هو الرسوب المدرسي échec scolaire. ثانيا، تأتي الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمتعلمين. ثالثا، يأتي ضُعفُ أو عدمُ احترام أدبيات déontologie وأخلاقيات éthique المهنة. رابعا، يأتي عدمُ التَّصدي، من طرف المدرسين، لما يوجد من تفاوتات différences بين المتعلِّمين من حيث قدرة التّعلُّم capacité d'apprentissage. خامسا وفي الختام، اختلالات في حكامة واشتغال المنظومة التربوية.

فيما يلي، سأتطرَّق بالتَّفصيل للعرقلتين الأولى والثانية المشار إليهما أعلاه، أي "الرسوب المدرسي" و "الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمتعلمين" واللتان تحُولان، بالأساس، دون تطبيقِ مبدأ تكافؤ الفرص على أرض واقعِ الوسط المدرسي.

أول عرقلةٍ هي الرسوب المدرسي échec scolaire. فيما يخصُّ هذأ الرسوب المدرسي، إنه مشكلٌ يحتِّم، ، في حد ذاته، على كل عاقل أن يطرحَ على نفسه التَّساؤل التالي: "هل، فعلا، الامتحانات وكل أنواع المراقبة التي يخضع لها المتعلِّمُ لاختبار مساره الدراسي، تُعطينا فكرةً صحيحةً exacte، دقيقة précise وموضوعية objective عن هذا المسار، وبالأخص، عن مستوى هذا المتعلِّم، الفكري والتعليمي التعلُّمي؟"

جوابا على التساءل، أقول وبدون تردُّدٍ، إن الامتحانات ومختلف أنواع المراقبة لا تُعطينا، على الأطلاق، صورةً حقيقيةً، دقيقة وموضوعية عن مستوى المتعلِّمين الفكري والتعليمي التعلُّمي. لماذا؟ لأن التنقيطَ الرقمي الذي يُسنَد للامتحانات ولمختلف أنواع المراقبة يختلط بذاتية subjectivité المدرسين، أو بعبارة أخرى، التنقيط يتأثَّر بذاتية هؤلاء المدرسين، وبالتالي، لا يمكن أن يكون إلا نسبيا. وكل ما هو نسبي لا يعبِّر عن الحقيقة كما هي. إنه تفسيرٌ قد يحتمل الخطأ كما قد يحتمل الصواب. وفضلا عن كل هذا، لا توجد حقيقةٌ مُطلقةٌ يمكن الرجوعُ إليها للتَّصدي لاحتمال الخطأ واحتمال الصواب.

وبما أن ضحايا التَّنقيط الذي تشوبُه النسبيةُ، هم المتعلِّمون، فإن بعض المنظومات التَّربوية تخلَّت عن التنقيط الرقمي، على الأقل، في مرحلة التعليم الأساسي (الإجباري) enseignement fondamental obligatoire. بل تخلَّت عن مفهومي الامتحانات والرسوب المدرسي، ولجأت إلى خَفضِ عددِ المتعلمين في القسم الواحد ليُصبحَ للمدرسين الوقتُ الكافي للتَّصدي للتفاوتات التَّعلُّمية التي يعاني منها البعضُ من هؤلاء المتعلّمين.

ثاني عرقلةٍ هي الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمتعلمين. وهذا مشكلٌ آخر يُحتِّم، هو الآخر، على كل عاقلٍ أن يطرحَ على نفسه التساءل التالي : "هل الطفل، عندما يلتحق بالمدرسة لأول مرة أو أثناء مساره الدراسي، يلتحق بهذه المدرسة ويترعرع فيها تاركاً وراءه ظروفَه الاجتماعية والاقتصادية؟ بل هل باستطاعته أن يتخلَّصَ من هذه الظروف سواءً عند التحاقه بالمدرسة لأول مرة أو أثناء مساره الدراسي؟"

جوابا على هذا التساءل، المنطق والعقل والعِلم (وخصوصا علم الاجتماع sociologie وكثير من الأبحاث في علوم التَّربية، وبالأخص، في الديداكتيك) يقولون : لا يمكن للمتعلِّم، سواءً عند التحاقه بالمدرسة لأول مرة أو أثناء مساره الدراسي، أن يتخلَّصَ من الظروف الاجتماعية والاقتصادية لأنها جزء لا يتجزَّأ من تنشئته الاجتماعية. إنها ترافقه أينما حلَّ وارتحل ولها تأثيرٌ على مساره الدراسي. وهذا التَّأثيرُ قد يحُدُّ من قدرة المتعلمين على التَّعلُّم أو قد يُضعِفها. وبالتالي، تحدث تفاوتاتٌ في قدرة التَّعلُّم بين متعلِّمي نفس القسم الدراسي. وإذا لم يتصدَّ المدرسون لهذه التفاوتات، فمبدأ "تكافؤ الفرص" هو الذي يُضرِب عرضَ الحائط!

وفي غالب الأحيان، لا يُعيرُ المدرسون أي اهتمام للتفاوتات التَّعلُّمية لأسباب مختلفة، أذكرُ منها على الخصوص، اكتظاظ الأقسام وحتمية إتمام المقرَّرأت المدرسية قبل نهاية السنة الدراسية أو قبل حلول مواعد الامتحانات.

فيما يخصُّ اكتظاظَ الأقسام، إنه مُعضلةٌ لا تزال منظومتُنا التَّربوية تعاني منها. واكتظاظ الأقسام يتنافى مع تطبيق مبدأ تكافؤ الفرص على أرض واقع الوسط المدرسي. فكيف للمدرسين أن يتصدَّوا للتفاوتات التَّعلُّمية في أقسامٍ يتجاوز عددُ المتعلِّمين فيها، أحيانا، 40 متعلِّما بينما العددُ، المتعارف عليه دوليا وتربويا، يجب أن يتراوحَ بين15 و 24 متعلِّما؟ فكيف للمدرسين أن يتصدَّوا للتفاوتات التَّعلُّمية وهم مهووسون بحتمية إتمام المقرَّرات الدراسية قبل نهاية السنة أو قبل حلول مواعد الامتحانات؟

وفي الختام، ما أؤكِّد عليه هو أننا بعيدون كل البعد عن المدرسة المثالية التي يتصورها أولياء التلاميذ والتي تكون مدة حياتها قصيرة جدا إذ تنتهي مباشرة بعد تسجيل المتعلمين لأول مرة لبدء مسارهم الدراسي. بمجرد ما تطأ قدمُهم أرض القسم، تبدأ المدرسة الواقعية، ذات الذوق المرير، مدرسة عدم تكافؤ الفرص.

***

32 - جودة أداء المدرس ليست وصفة جاهزة!

ليس هناك وصفة جاهزة للتمييز بين المدرس الجيد والمدرس غير الجيد. ولو وُجِدت هذه الوصفةُ، لكانت وبالاً على المنظومة التربوية، وبالأخص، على المتعلِّمين. لأنه في هذه الحالة، ستُنتج المنظومة أشخاصا منمَّطين ومتشابهين فكريا. وهذا شيء غير مرغوب فيه وله خطورة على المجتمع ومخالف للطبيعة البشرية التي لا وجودَ لها إلا بالاختلاف والتَّغَيُّر.

ولهذا، نرى الباحثين التربويين يتنافسون في صياغة نظريات التَّعلُّم théories d’apprentissage. كل نظرية لها مزاياها ولها عيوبُها. فهناك النظريات التي تُعطي للمدرس حصَّة الأسد في العملية التعليمية التَّعلُّمية، وبالتالي، تكون مُتمحوِرةً حول تبليغ المعرفة أولا وقبل كل شيء. وهناك النظريات التي تُعطي للمتعلُّم حصةَ الأسد لتجعلَ منه محورَ وصُلبَ العملية التَّعليمية التَّعلُّمية، وبالتالي، ما يهمها هو تنميةُ شخصيةِ هذا المتعلِّم وصَقل قدراته الفكرية والتعلُّمية capacités intellectuelles et cognitives.

في هذه الحالة، تصبح ملقاةً على عاتق المدرس مسئولية اختيار النظريات التي تلائم، أولا، سِنَّ المُتعلِّمين وقدراتهم الفكرية واللغوية، وثانيا، الظروفَ التي يعمل فيها. واختيارُ النظريات المُلائمة يقتضي من المدرس أن يعرفَ متعلِّميه معرفة اجتماعية، تربوية ونفسية. ولماذا أقول النظريات وليس النظرية؟ لأن المُدرِّسَ، حين قيامه بالعملية التَّعليمية التَّعلُّمية، غالبا ما يكون مضطرا للمزج بين عدة نظريات للتَّعلُّم. وهذا شيء ليس بالهيِّن ولن يقدرَ عليه إلا المدرِّس الرفيعُ مستوى تكوينِه وعلى بيِّنة مما يجري في الساحة التربوية من أبحاث وإنجازات وتجارب…

ولهذا، فجودة أداء المُدرِّس ليست مقترنةً حصريا بإتقانه لمادة تدريسه فحسب، ولكن بقدرته على استعمال نظريات التَّعلُّم والمزج بينها في المكان والزمان المناسبين. والمزج بين نظريات التعلُّم يعني الانتقال من هذه النظرية إلى أخرى وهكذا. وهذا الانتقال بين النظريات يتغيَّر من درس إلى آخر ومن مادة إلى أخرى ومن ظرف إلى آخر. وهذا هو ما لا يسمح لجودة أداء المُدرِّس أن تكونَ وصفةً جاهزةً للاستعمال.

ولماذا نقول : "نظرية التَّعلُّمِ" وليس "نظرية التَّعليم"؟

أولا، لأن المدرسةَ خُلِقت من أجل المُتعلِّم وليس العكس. ثانيا، لماذا يذهب المُتعلِّم إلى المدرسة؟ ليتعلَّمَ. ولكي يتعلَّمْ، من الضروري أن يفهم. ولكي يفهم، لا بد أن يستعملَ قدراته الفكرية. ثالثا، سُمِّيَ التَّعلُّمُ تعلُّماً (التَّعلُّم = تعليم ذاتي، أي أن المتعلِّمَ يعلِّم نفسَه بنفسِه، لكن بمساعدة المدرس) لأنه ينطلق دائما من المُتعلِّم. وهنا، يظهر دورُ المُدرِّس الذي يجب أن يتمحورَ حول مساعدة المُتعلِّم على استعمال قدراته الفكرية ليفهمَ. رابعا، كي يساعدَ المدرِّسُ المُتعلِّمَ على الفهم، لا بدَّ أن يلجأَ إلى وسائل تربوية، بيداغوجية وديداكتيكية تمكِّنه من تحقيق هذا الهدف. وهنا، تظهر الأهمية الأساسية لنظريات التَّعلُّم. وتظهر كذلك أهمِّية التَّمييز بين نظريات التَّعلُّم.

وفي نهاية المطاف، يجب أن تستجيبَ المدرسةُ لتَعَطُّش المُتعلِّم إلى الفهم، أي إلى مساعدتِه على تنمية قُدراته التَّعلُّمية capacités d'apprentissage. وقُدراتُه التَّعلُّمية لا يمكن أن تنموَ بدون تعويده على الفكر النقدي esprit critique والتحليل analyse والتركيب synthèse والاستقراء induction والاستنتاج déduction والمقارنة comparaison والتنظير théorisation وبناء المفاهيم conceptualisation والتنظيم organisation والملاحظة observation والتَّعوُّد على حل المشكلات résolution des problèmes وأخذ المبادرة prise d'initiative واتخاذ القرارات prise de décisions وتخزين المعلومة mémorisation وإتقان لغة التَّواصل maîtrise de la langue de communication والتركيز concentration…

هناك العديد من نظريات التَّعلُّم تساعد على تنمية هذه القدرات الفكرية. لكن نجاعتَها داخل الأقسام لها علاقة وطيدة بالتَّكوين الرفيع المستوى للمُدرِّسين! وأهمُّ شيءٍ في هذا التَّكوين، هو قدرةُ المدرسين، أثناءَ تدخُّلاتهم التَّعليمية التَّعلُّمية داخلَ الأقسام، على المزج بين التَّعليم والتربية. والمقصود هنا بالتَّربية ليس فقط المعنى المرتبط بالآداب والأخلاق. المقصود هو التَّأثيرُ على شخصية المتعلِّمين لتنتقلَ من حسنٍ إلى أحسن. وبعبارة أخرى، التَّعليم يجب أن بستهدفَ، في آنٍ واحد، إغناءَ معارف المتعلِّمين وبناءَ شخصيتهم.

انطلاقا من هذه الاعتبارات، من المفيد التذكير بأن المدرس، فضلا عن دوره في نقل المعرفة والتثقيف، هو، أولا وقبل كل شيء، مربي. فالمعرفة التي يبلِّغها للمتعلم يجب أن تُعتبرَ كوسيلة لضمان تربية (كما تمَّ توضيحُها أعلاه) هذا الأخير. وكما يُلاحَظ في غالب الأحيان، فإن وظيفةَ التربيةِ تلاشت في بعض المنظومات التَّعليمية حيث يسود خلطٌ مفاهيمي بين "التربية" و"التعليم".

تحت ضغط الممارسات المتكررة pratiques répétitives والاعتياد habituation ونظرا لعدم الملاءمة بين التكوين الأولي والمستمر formation initiale et continue أو لضعف التتبع أو التقييم...، أصبح التعليمُ، بمعناه التلقيني (تبليغ المعرفة transmission des connaissances)، يطغى على التربية، بل قد يُلغيها كليا. وليس من المبالغ فيه أن نقول إن هذا الوضعَ أصبح محلَّ مَوْضَعَةٍ objectivation (من مَوْضَعَ : أعطى لشيءٍ واقعا حقيقيا أو ألبسه وضعَ الحقيقة rendre objectif) ضمنية من طرف، أولا، هيئة التدريس وثانيا، من طرف الوسط المدرسي.

فلا غرابةَ إذن أن تكون منزلةُ statut المدرس صورة تامة للوضع المذكور، المُمَوضَع objectivé. وهذه الصورة ناتجة عن تمثُّلٍ représentation لتعليمٍ سببُ وجوده الرئيسي هو تبليغُ المعرفةِ. في هذه الحالة، يُعتبر المدرسُ كمالك للمعرفة. بل أكثر من هذا، تُعتبر معارفُه المُبلَّغة للمتعلِّمين حقيقة لا جدال فيها أو لا يمكن التشكيك فيها من طرف المتعلم علما أن التاريخ يُبيِّن لنا أن تطورات المعرفة هي نتيجةٌ لإعادات نظرٍ متكررة في نظريات ومبادئ سبق الاعترافُ بها كونيا.

وهذا يعني أن التعليم، كعمل activité أو ممارسة pratique، عوض أن يكون منطلقُه المتعلم، يتم احتكارُه من طرف المدرس حيث أن هذا الأخير، معتقدا هو نفسُه، أحيانا، أن معرفتَه صورة للحقيقة، يركِّز اهتمامَه على كيفية "نقل متقن" للمعرفة une transmission correcte du savoir من مكان إلى آخر، أي منه إلى المتعلم. كل الجهد المبذول من طرف المدرس يتم استغلالُه لتحويل كيفية "النقل المتقن" إلى طرائق وخطوات وأساليب وتقنيات... وباختصار، سيُحدِث ظروفَ وحيثياتِ تبليغٍ جيد لمعارفَ جاهزة ولكن على حساب الوضع النَّفسي/التَّربوي للمتعلم statut psychopédagogique de l'apprenant.

إن هذه الكيفية، رغم أن بعض المدرسين يحاولون إخفاءها ببذل جهد على مستوى القول parole (التواصل communication) والإيضاح illustration، تعطي للفعل التعليمي طابعا توجيهيا directif يمكن أن يقود إلى الجزمية dogmatisme (الدوغمائية) التي تكبح بروز القدرات الفكرية للمتعلمين، أي تنمية فكرهم النقدي وتكوين شخصيتهم. بكل بساطة، سيصبح هؤلاء المتعلمون مجرد متلقين ومستهلكين غير نشيطين للمعرفة récepteurs et consommateurs inactifs du savoir.

وحتى تعودَ للتربية المكانةُ اللائقةُ بها في الفعل التعليمي acte d'enseignement، يجب القيامُ بتغيير جذري للوضع الإبستيمولوجي للمدرس ليتخلَّص تدريجيا من التصورات التي كوَّنها عن نفسه، عن بيداغوجيته، عن المعرفة وعن المتعلم. و هذا التغيير، يجب أن يحدث، أولا، على المستوى الفكري وثانيا، على مستوى علاقة المدرس بالمعرفة وكذلك على مستوى العلاقة مدرس/متعلمون. لا يمكن أن يكون مالكا للحقيقة لأن المعرفة التي ينقل احتمالية وديداكتيكيا، نسبية. فعليه إذن أن يغيِّرَ دورَه ليتحول إلى مسهل لبناء أو إعادة بناء المعرفة واستبطانها (تملُّكها) من طرف المتعلمين. في هذه الحالة، يجب على المدرس، عندما يكون منهمِكا في تبليغ المعرفة، أن يفتحَ حوارا حولها تكون للمتعلمين مساهمةٌ مكثفةٌ فيه. و لن يتأتَّى هذا إلا إذا استطاعَ المدرِّسُ أن يجعلَ من العملية التَّعليميم-التَّعلُّمية مزحاً بين التَّعليم والتَّربية.

ما أختم به هذه المقالة، هو أن نشاطَ المدرس داخلَ القسم، لا يمكن، على الإطلاق، أن يُختزَلَ في وصفة جاهزة قابلة للتَّطبيق في كل زمانٍ ومكانٍ. المدرس المقتدر هو ذلك الشخص المتوفِّر على تكوينٍ رفيع المستوى يجعله قادرا على تكييف نشاطِه داخلَ القسم حسب ما تقتضيه مهمَّتُه الأساسية، أي التَّعليم، ومن خلال هذا التَّعليم، التَّربية. وبعبارة أخرى، أن يكونَ قادرا، أثناءَ نشاطِه داخلَ القسم، أن يمزجَ بين التَّعليم والتَّربية.

***

33 - علم النفس التَّربوي، توفيق بين البيداغوجيا وعلم نفس المتعلِّم

علم النفس التربوي psychopédagogie عبارة عن دمج بين البداغوجيا وعلم النفس (علم نفس الطفل والمراهق على الخصوص). وهو ما يوفِّره هذا الأخير من سندٍ ودعمٍ على المستوى العلمي للبداغوجيا. وهو فرعٌ من علوم التَّربية، وبالضبط، فرعٌ من علم نفس التَّربية psychologie de l'éducation. وهذا الأخير يهتمُّ بدراسة وتطوير وتطبيق نظريات التَّعلُّم على أرض الواقع، أي بالأخص، في الوسط المدرسي. ويهتمُّ، كذلك، من منظور علمي نفسي، بدراسة المؤسسات التعليمية والتربوية والطرائق والأساليب والسياقات والمعدات matériel… التي تستعملها من أجل تسهيل عملية التَّعلُّم…

وبعبارة أخرى، علم النفس التربوي، الذي هو جزءٌ لا يتجزَّأُ من علم نفس التربية، هو نوعٌ من علم النفس التَّطبيقي psychologie appliquée، هدفُه الأساسي هو التَّصدي لكل ما من شأنه أن يُعيقَ التَّعلُّم عند الأطفال والمراهقين.

ولقد سبق أن قلتُ في مقالات سابقة أن الطفلَ، قبل التحاقه بالمدرسة، يبني construit تمثُّلات تلقائية représentations spontanées تمكِّنه من التفاعل مع الوسط الذي يعيش فيه، بما في ذلك الوسط الأسري. وقد قلتُ أيضا أن الطفلَ، عندما يلتحق بالمدرسة لأول مرة، فإنه يعاني من صراعٍ conflit يحدث بين تمثُّلاته التلقائية وما توفِّره له المدرسةُ من معرفة منظمة وعقلانية.

وقد سبق أن قلتُ، كذلك، في إحدى مقالاتي أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والأسرية لها تأثيرٌ، في الاتجاه الإيجابي أو في الاتِّجاه السلبي، على قدرة المتعلمين على التَّعلُّم. فظروف الطفل الذي يعيش في وسط فقير ليست هي ظروف طفل يعيش في وسطٍ ميسور. وظروف الطفل الذي يعيش في وسط أسري مثقَّف و واعي ليست هي ظروف طفل يعيش في وسط أسري أمي وغير واعي… المقصود ب"واعي" هنا، هو إدراكُ، بكيفية عقلانية وعن دراية وسابق معرفة، الأمورِ التي تدور مُجرياتُها في الوسط الذي يتفاعل معه شخصٌ ما. والوعي يقتضي أن كل ما يجري في الوسط المذكور له مسبِّبات وله نتائج. أما ضعفُ الوعي أو عدمُه، فهو ناتجٌ، في غالب الأحيان، عن القيل والقال colportage والتقليد الأعمى imitation aveugle والنمطية stéréotypes…

علم النفس التَّربوي هو الذي يسعى، بالتَّدريج، لإزالة التَّمثُّلات التلقائية، المشار إليها أعلاه، لتحُلَّ محلَّها المعرفة المدرسية المنظمة والعقلانية. وعندما أقول معرفة عقلانية، فالأمر يتعلَّق بمعرفة ناتِجة عن التفكير والتَّحليل والتركيب والاستنتاج والتَّجريب والمقارنة والاستنباط والاستقراء… وعلمُ النفس التَّربوي هو الذي يدرس، عبر التَّجريب expérimentation، تأثيرَ الفوارق الاجتماعية والاقتصادية على قدرة التَّعلُّم.

وفي نهاية المطاف وكما سبق الذكرُ، علمُ النفس التربوي هي الأداة أو الوسيلة التي، من المفروض، أن يلجأَ لها المدرِّسون لتسهيل التَّعلُّم من طرف الطفل والمراهق. وعلم النفس التَّربوي هو، كذلك، الوسيلة التي، بواسطتها، يتمُّ تحريرُ émancipation المتعلمين فكريا واجتماعيا، وتتِم كذلك تقوية رغبتُهم leur désir في التعلُّم. ولهذا، فمن الضروري أن يتضمَّن تكوينُ المدرسين إحاطةً بعلم النفس التَّربوي لِما يوفِّره لهم من معطيات علمية تُمكِّنُهم من تكييف أساليبِهم البيداغوجية مع نفسية المتعلِّمين. كما تمكِّنهم من الاطلاع على نُقََط الضعف التي قد تعترض تعلُّمَ بعض المتعلِّمين.

وبعبارة أوضح، يتعلق الأمر باستعمال السند العلمي الذي يوفِّره البحثُ ليتم التوفيق بين البداغوجيا وعلم نفس الطفل والمراهق أو لتكييف البداغوجيا مع نمو الطفل والمراهق وبالخصوص مع نمو قدرته على التَّعلُّم والإدراك والمعرفة développement cognitif. وحينما نتحدث عن نمو قدرة الإدراك والمعرفة، فالأمر يتعلق بنمو مَلَكَةِ بناء المعرفة أو التعرُّف على الأشياء بواسطة قدرة المعرفة cognition.

ومن البديهي أن نقول إن هذه القدرة أو المَلَكَة ليست متشابهة عند الطفل والمراهق والراشد. علم النفس التربوي يحث المدرس/المربي على أخذ هذه الفوارق بعين الاعتبار أثناء ممارسة العملية التعليمية التعلمية.

فعليه أن يصيغَ بداغوجيا تمكِّن من تكييفٍ تدريجي للبنيات الدماغية structures cérébrales للطفل والمراهق مع التعَقُّد التَّدريجي للمعارف complexité progressive du savoir. وهذا يعني تسهيل مَلَكَة بناء أو إعادة بناء المعرفة، أي تسهيل امتلاكها (استبطانها) من طرف الطفل والمراهق حسب سنهما، ;في نهاية المطاف، تسهيل التَّعلُّم.

وهكذا، يجب أن تتكيَّف عمليةُ التعليم والتَّعلم مع سياقات processus قدرة الإدراك والمعرفة التي يستعملها الطفلُ والمراهقُ للفهم compréhension والاستبطان appropriation علما أن هذه السياقات تتطوَّر باستمرار من الطفولة إلى سن الرشد.

فعِلم النقس التربوي يتوسط بين المدرس (كبداغوجي pédagogue، مثقِّف instructeur ومربي éducateur) والمتعلِّم (فرد في طور النمو) لتسهيل هذا التطور وتوفيقه مع قدرة الإدراك والمعرفة. يُعتبر المدرسُ، في هذه الحالة، حجر الزاوية في هذه الوضعية. أسلحتُه هي البداغوجيا والديداكتيك والمعرفة بينما تتمثل مهارتُه في قدرته على صَهْر، تنظبم ومَزْجِ هذين السلاحين لجعلِهما أداةً بنَّاءةً لقدرة الإدراك والمعرفة (التَّعلُّم).

وعلمُ النفس التَّربوي هو الذي يمكِّن الطِّفلَ والمراهقَ من الانتقال من التفاعل التلقائي (الساذج) إلى تفاعلٍ عقلاني ناتجٍ عن معرفة منظَّمة. وهذا الانتقال يُعد مرحلة من مراحل بناء شخصية الطفل والمراهق. كما يُعتبَر كذلك أول خطوة في بناء مستقبل المتعلمين.

وباختصار، علمُ النفس التَّربوي يساعد، من خلال التَّعليم، الأطفالَ والمراهقين على تقوية راحتهم النفسية فيما يخصُّ التَّعلُّمَ، وذلك، بالاستجابة لحاجياتهم المتمثِّلة في تحسين مردوديتهم المدرسية، وبالتَّصدي لكل السلوكات التي، من شأنها، إعاقة هذا التَّعلُّم. وفضلا عن كل هذا، علم النفس التَّربوي يُقَوِّي ثقةَ الأطفال والمراهقين بأنفسِهم، وبالتالي، يُقوِّي رغبتَهم في التَّعلُّم والفهم والإدراك.

***

34- التواصل أداة أساسية في الممارسة التعليمية التَّعلُّمية

التواصل communication داخلَ الأقسام يتمثَّل في إحداث علاقة، من خلال الحِوار conversation بين المدرس والمتعلِّمين. وإحداث هذه العلاقة يعتمد على اللغة langage. وهو ما يُسمَّى بالتواصل اللفظي communication verbale. وهذا يعني أن كل لفظٍ أو كلمةٍ ينطق بها المدرسُ، أثناء تواصله مع المتعلمين، لها وزنُها ولها مكانُها في العلاقة البيداغوجية التي تربط بين هذا المدرس وهؤلاء المتعلِّمين. فما هو التواصل اللفظي داخلَ الأقسام؟

التواصل اللفظي داخلَ الأقسام، هو مجموع العناصر اللغوية التي يُصدِرها المدرس عبر الصوت la voix والتي تهدف إلى إقامة جسرٍ تواصلي بين هذا المدرس والمتعلِّمين، علما أن المقصودَ من هذا الجسر، هو إحداث تفاهم متبادل بين هذين الطرفين. فما هي العناصر اللغوية التي يعتمد عليها التواصل داخلَ الأقسام؟

هذه العناصر هي الصوت la voix، النبرة le ton، النُّطق la prononciation واختيار الكلمات les mots والعبارات les expressions.

فيما يخصُّ الصوت، يجب أن يكونَ واضحا، نقِيّاً (صافيا)، مُتحكَّما فيه ومسموعا. أما نَبرَةُ الصوت، فهي حِدَّتّه. نبرة الصوت يجب أن تتغيَّرَ حسب نوعية وأهمية الرسالة التَّعلمية أو التربوية التي يريد المدرس إيصالَها للمتعلِّمين. النبرة، إما أن تعلو وإما أن تنخفِضَ. النُّطقُ لا يقل أهميةً عن العنصرين، الأول والثاني. كل كلمة يجب أن تكون منطوقةً بوضوح؟ وبالأخص، عندما يتعلَّق الأمرُ بالكلمات الجديدة بالنسبة للمتعلِّمين. وآخِر عنصر هو اختيار الكلمات والعبارات التي، من شأنها، تسهيلُ التواصل وجعلُه في متناول قدرة إدراك المتعلِّمين.

ولهذا، فالتواصل الجيد داخلَ الأقسام هو الذي تكون لغتُه مبسَّطة، أي في متناول قدرة إدراك المتعلِّمين. بمعنى أن هؤلاء المتعلّمين يُدركون بسهولةٍ ما يوجِّهه لهم المدرس من كلام ويلتقطون كذلك بسهولة الرسائلَ التَّربوية التي تحملها هذه اللغةُ المبسَّطة.

عادةً، التواصل يقتضي أن يكونَ هناك مُرسِلٌ ومُرسَلٌ إليه. داخل الأقسام، يجب أن يكونَ هذا التواصلُ متبادلا، بمعنى أن يشاركَ فيه المتعلِّمون شريطةَ أن يكون المدرسُ هو مُحرِّكُه ومُوجِّهه، وأن يكونَ جاذبا للانتباه، دون أن يفقِدَ سلطتَه son autorité على ما يجري داخلَ القسم من أنشطة تعليمية تعلُّمية.
كما أن التَّواصلَ الجيد هو الذي يكون فيه المدرس على بيِّنةٍ من مستوى المتعلِّمين اللغوي ويلعب فيه هذا المدرسُ دورَ المشجِّع لهؤلاء المتعلِّمين على المشاركة في الحوار البيداغوجي والديداكتيكي والتربوي الذي تدور أطوارُه حول الوضعيات التعليمية التعلُّمية situations d'enseignement apprentissage، شريطةَ أن لا تكونَ هذه المشاركة فوضويةً تُفقِد المدرسَ سيطرتَه على الوضع.

والتواصل الجيد هو الذي يُنصِت فيه المدرس للمتعلِّمين، كل على حِدة، بإصغاءٍ وتأنٍّ، وأن لا يُوبِّخَهم إذا أخطأوا لغويا أو نحويا. بل عليه أن يُشجِّعَهم على أن يستمرُّوا في المشاركة في الحوار وأن لا يُظهِر إستياءَه من هذه الأخطاء.

والتواصل الجيد هو الذي يكون فيه المدرسُ ضابطاً للوقت لتجنُّب حدوث ثغراتِ فراغٍ يستغلُّها المتعلِّمون للانشغال بالترترة والشَّغب.

والتواصل الجيد هو الذي يكون فيه المدرسُ حافزا يُقوِّي رغبةَ المتعلِّمين في التَّعلُّم والفهم والإدراك، وفي إعطاء الفرص لهؤلاء المتعلِّمين للتعبير عن آرائهم وعن فضولهم وتطلُّعهم إلى أنجع وأفيد وضعيات التَّعلُّم. وفي هذا الصدد، على المدرس أن يوزِّعَ أخذ الكلمة بإنصاف على المتعلِّمين لئلا يستحوِدَ المتفوِّقون منهم على أخذ هذه الكلمة.

من هذا المنطلق، يبدو واضحا أن نجاحَ الوضعيات التعليمية التَّعلُّمية رهين إلى حدّ كبير بطبيعة وجودة وملاءمة التواصل القائم بين المدرس والمتعلمين. في صُلب هذا التواصل، تلعب اللغة، أي التعبيرُ الشفوي والمكتوب، دورا حاسما.
وفي هذا الصدد، تجدر الإشارةُ إلى أن المدرسَ ليس فقط متخصِّصاََ في مجاله. إنه، من المفترض، أن يكونَ كذلك ملمّاً بلغة تواصُله مع المتعلمين. فهو مطالب، في هذا الشأن ومن حين إلى آخر، أن يلجأَ إلى التَّجريد abstraction وصياغة المفاهيم conceptualisation. حينها، تصبح لغتُه عاملا حاسما في اسْتِبْطان المفاهيم وبناء أو إعادة بناء المعارف من طرف المتعلمين.

فأثناء لقائهِما داخل القسم، يتبادل المدرس وجمهورُه (المتعلمون) كَمّاََ من المعلومات شفويا أو بواسطة حركات هدفُها، في آخر المطاف، هو تسهيلُ التَّعلُّم وتغيير معارف وكفاءات وسلوكات المتعلمين. إنه من المُهِمِّ بمكان أن يتمَّ التَّأَكُّدُ من أن هذه المعلومات تصِل إلى مَن يستقبلها بالتَّمام كما يرغب في ذلك المدرسُ. في هذه الحالة، من المفترض أن يكون هذا الأخير قادراََ على:

1.القيام بقراءةٍ وإِملاءٍ واضحين وسَهْلَيْ الإلتقاط من طرف جمهوره؛
2.إدراكٍ جيِّدِِ للطريقة التي يستقبل بها جمهورُهُ الرّسالةَ التربويةَ ويقوم بإدماجها في سلوكه؛
3.إدراكٍ جيِّدِِ لما يريد جمهورُه تبليغَهُ له بدوره؛
4.تكييف لغته مع قدرة التعلُّم والمستوى الفكري لهذا الجمهور؛
5.التَّعرف على الصورة التي يُكَوِّنُهَا عنه هذا الأخير وهل تُوَلِّدُ لديه الاحترامَ أو تُولِّد لديه الشكَّ وأحاسيسَ عدمِ الاطمئنان؛
6.اختيارِِ جيِّدِِ للمُعينات التربوية التي سَتُوَظَّفُ والتي من شأنها أن تضمنَ تواصلا تفاعليا، ناجعا وقادرا على استقطاب اهتمام جمهوره؛
7.تفادي كل طريقة تواصلية تُظْهِرُ المدري/المُرَبِّي كمالك للمعرفة وتَبَنِّي تلك التي تُظْهِرُهُ كَمَرْجِعِِ، كَمُنَشِّطِِ لتنمية شخصية وفضول أولائك الذين يتعلمون.

انطلاقا من هذه الاعتبارات، لا يُعَدُّ المدرس فقط مُعلِّما يُتْقِنُ البيداغوجيا (مدرس مرموق، موهوب) ومُرَبِّياََ (يستهدف تنميةَ شخصية المتعلم) ولكن كذلك مُحاوِراََ (مُنَشِّطاََ، مُتَعَاطِفاََ بمعنى تَقَمُّصِ حالة الآخرين empathique، أي أن المدرس لا يمكن أن يكونَ باستمرار عَقْلَاِنيّاََ داخل القسم) ومُرَبِّياََ نفسانيا (التعرف على نفسانية المتعلم). وكما يُقَاُل في اللغة المُتداولة، يجب أن يَسْرِيَ التَّيارُ بينه و بين مُسْتَمِعِيهِ audience.

فعلى المدرس أن يكون محيطا بلغة التعليم وخصوصا بتلك التي لها علاقة بتخصصه. وقد يكون من المرغوب فيه أن يُدعَّمَ التكوينُ الأساسي والتربوي للمدرس بتكوينِِ في التواصل. وبعبارة أوضح، يجب على المدرس أن يكون مُحيطاََ بِخَبايا مهنته التي يلعب فيها التواصل دورا حاسما.

ولا داعيَ للقول أن عمليةَ التَّعليم التي يكون وراءها المدرسُ، كي تكونَ فعالة وناجعة، من المفروض أن تكونَ لغةُ التواصل شفافةً وسهلةَ الإدراك من طرف المتعلمين. ونجاعة وفعالية عملية التَّعليم تكمنان في لغة تواصلٍ من شأنها أن تجعل من تدخُّلاتِ المدرس داخلَ القسم ذاتَ تأثيرٍ إيجابي، بيداغوجياً وفكريا، على المتعلِّمين ليكونوا قادرين على كل ما من شانه أن يسهِّلَ عليهم عمليةَ التَّعلُّم. وعندما تُسَهَّلُ عمليةُ التَّعلُّم، يصبح المتعلِّمُ، حسب ما يبدله المدرس من جُهد بيداغوجي وديداكتيكي، قادرا على اكتسابٍ منظَّمٍ للمعارف وعلى الفهم والإدراك، وبالأخص، أن يكونَ شريكا فعالا ونشيطا في التواصل…

واشتراك المتعلمين في التواصل الذي يُحرِّكه المدرس داخل القسم، من الضروري أن يُتِيح الفرصةَ لهؤلاء المتعلِّمين لتفجير قدرتِهم على الإبداع créativité وعلى النقد وعلى الأخذ والرَّد وعلى الاقتراح… علما أن التواصلَ الجيِّدَ والمفيدَ هو الذي يُخرِج المتعلِّمين من جمودهم passivité وانغلاقهم على أنفسهم renfermement.

***

35- الاحترام الذي لم يعد واحدة من مُقوِّمات المنظومة التربوية ومُكوِّنها الأساسي، المدرسة

أولا، لما حصل Albert Camus، الذي يُعدَّ من عظماء الأدب الفرنسي، على جائزة نوبل في الأدب سنة 1957، بعث إلى مُدرسه Monsieur Germain رسالةً يعترف بفضل هذا الأخير عليه وكيف ساهم في تكوينه بمجهوده وتفانيه في العمل وقلبه الطيب.

ثانيا، في إحدى محاكم الأردن، نهض القاضي، أثناء جلسة محاكمة، من مكانه وانحنى أمام المتهم وقبّل يدَه لما عرف، بعد مرور سنوات طوالا، أن هذا المتَّهمَ كان مدرسَه في المدرسة الابتدائية. والقُبلة التي طبعها القاضي على يد المتَّهم هي الأخرى تعبِّر عن الاحترام والتقدير اللذين يُكِنُّهما القاضي لمدرسِه والذي، لولا فضله عليه، لما وصل للمرتبة التي هو عليها اليوم.

وإن دلَّت رسالةُ Albert Camus وانحناء القاضي أمام المتَّهم على شيء، إنما يدلان على أن الاحترامَ كان من إحدى القيم النبيلة التي تقوم عليها المدرسةُ والذي كان يُكِنُّه المتعلِّمون لمدرسِهم ومدرستِهم. كما تبين أن المدرسة كانت، في الماضي القريب، تُنتج عظماءَ رغم فقرهم وانتمائهم الاجتماعي المتواضع.

أين نحن اليوم من هذا الوضع الذي كان سائدا في مدرسة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات؟ إن الجيل الذي أنتمي إليه، أنا شخصيا، كان يُكِنُّ احتراما قويا للمدرس، ومن خلاله، للمدرسة. كان المدرس بالنسبة لنا كأب ثاني نقبِّل يدَه وأحيانا، نخاف أن يرانا نلعب في الشارع كي لا يوجه لنا اللومَ بإهمالنا لدروسنا.

أين نحن اليوم من الاحترام للمدرسة ولمهمَّتِها النبيلة وللمدرس ولمهنته ولمهمته وللمسئولية الملقاة على عاتقه في تربية وتنشئة الأجيال الصاعدة؟ لقد أصبح هذا الاحترام في خبر كان وأصبح المدرسُ محطَّ اعتداء جسدي ومحطَّ سبٍّ و قذفٍ... فقدت المنظومةُ التربويةُ ومدرستُها المكانة اللائقة بهما في المجتمع ولم يعد لقيمة الاحترام فيها مكان.

كان للمدرس دورٌ فعَّالٌ وبارزٌ في التَّنشئة الاجتماعية socialisation ، وبالأخص، الأخلاقية morale. بفضل هذا المدرس، كان المتعلِّمُ يستبطن كل القيم والأعراف وما يلزمه من سلوكات للتَّصرُّف داخلَ المجتمع واحترام الآخرين. الكلُّ متوَّجٌ باندماجٍ سَلِسٍ ولائق في هذا المجتمع. وبعبارة أخرى، كان اندماجُ الطفل في المجتمع يبدأ منذ نعومة الأظافر، أي في السابعة من عمره (اليوم، يبدأ هذا الاندماج في المرحلة ما قبل المدرسية). كانت المدرسةُ والأسرةُ تتعاونان في تمكبن المتعلِّمين من تنشئة اجتماعية وأخلاقية تجعل منهم مواطني المستقبل.

ولا داعيَ للتَّذكير أن الطفلَ، في سنوات عُمره الأولى، يكون أنانيا إلى أقصى حدٍّ. فإنه يظن، من خلال اللعب، أن العالمَ مِلكٌ له وحده، ولا يريد أن يتقاسمه مع الآخرين، وخصوصا الأطفال من نفس الفئة العمرية. من هنا، تظهر أهمِّيةُ التَّنشئة الاجتماعية، وبالأخص، الاختلاطُ مع أنداده، وهو الشيءُ الذي سيمكِّنه، تدريجيا، من أن يُدركَ أنه، من الضروري، أن يتواصلَ معهم لإرضاء رغباتِه وفي نفس الوقت، رغباتِهم. وهكذا، فإن الطفلَ يتعلَّم apprend أن وجودَ الأطفال الآخرين في حياته شيءٌ عادي. لماذا أقول "الطفلُ يتعلَّم"؟

أقول "الطفلُ يتعلَّم" لأنه، من الضروري، كما سبق أن وضَّحتُ ذلك في إحدى مقالاتي، أن يرغبَ الطفلُ في التَّعلُّم، بمعنى أنه لا يجب أن يُفرضَ عليه أيُّ شيءٍ. كلما كانت رغبةُ المتعلِّم في التعلُّم عالية، كلما سهُلت تنشئتُه الاجتماعية. ومن هنا، يظهر دورُ المدرس، كمُربِّي، علما أن هذا الدورَ كان يقوم به المدرس، في الماضي، على أحسن ما يُرام.

وما يثيرُ الانتباهَ هنا، هو أن المدرسَ، في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، لم يكن تكوينُه مشابها للتَّكوين الحالي الذي يخضع له المدرسون. ومع ذلك، فإن مدرسَ تلك الفترة من الزمان، التي تزامنت مع خروج البلاد من وطأة الاستعمار، كان مواطنا بما للكلمة من معنى. أي كان يحب وطنَه ويريد له الخير. وخير خدمة كان يُقدِّمها المدرسُ لوطنه، كانت تتجسَّد في الإخلاص في عملِه بالمساهة الفعلية في التَّنشئة الاجتماعية والأخلاقية للمتعلِّمين.

اليوم، كل القيم، لا الاجتماعية ولا الأخلاقية، آخذةٌ في التَّدهور، إن لم نقل في الانقراض. إنها فعلا دخلت طورَ الانقراض، وخصوصا، عندما أصبح التَّعليم سِلعَةً تباع وتشتَرَى. وخصوصا كذلك، عندما أصبح بعضُ المدرسين، سامحهم اللهُ، يحثُّون المتعلِّمين، صراحةً أو بطُرُق ملتوية، على طلب الدروس الخصوصية وعلى مرآى ومسمعِ الجهات الوصية المعنية.

وخصوصا أن هذه الجهات لا تُحرِّك ساكنا وتتفرَّج على تدهور القيم والأعراف والأخلاق التي هي أساسُ سُمعة المنظومة التربوية. ولعلَّ أرقى وأسمى القيم التي تقوم عليها كل منظومة تربوية عادلة، هي تكافؤ الفرص égalité des chances. تكافؤ الفرص الذي لم يعد إلا ذكرى من ذكريات الزمن الجميل. وما يؤسفُ له هو أن سببَ انقراضِ هذه القيمة من الوسط المدرسي، آتٍ من داخلِ المنظومة التربوية، أي من بعض المدرسين، سامحهم اللهُ، الذين فضَّلوا ويُفضِّلون الاغتناءَ غير المشروع، لكن، على حساب مصلحة البلاد.

فلا غرابة أن تفشلَ كل الإصلاحات التي خضعت وتخضع لها منظومتُنا التَّربوية. فكل ما يُرادُ إصلاحُه، يتمُّ إجهاضُه من داخل هذه المنظومة. فكيف للإصلاحات أن تنجحَ في تقويم ما أفسدته بعضُ الأيادي من داخل هذه المنظومة، تمشِّيا مع المقولة الشهيرة "حوتَ وحدَ كتخنّْز الشواري" وعلما أن أهمَّ عنصرٍ في نجاح الإصلاحات هم المدرسون. ولا غرابةَ أن تُصنَّفَ منظومتُنا التَّربوية في المراتب المتأخِّرة في التَّصنيفات العالمية.

وما يُتَخَوَّفُ منه، مستقبلاً، هو أن فكرةَ تحويلَ التَّعليم، من قيمة سامية وفوق كل اعتبار، إلى سِلعَةٍ تباع وتشترى، آخذَةٌ في الانتشار في المجتمع المغربي. وهذا الانتشارُ أقبر وسيُقبر أكثر وإلى الأبد القيمة الاجتماعية، الأدبية والأخلاقية ألتي كانت تتمتَّع بها المدرسةُ في الماضي القريب. والدليل على ذلك، كثرةُ المتاجرين بالتَّعليم واعتباره سِلعة مُربحة تقود بسرعة إلى الاغتناء. فكم هي كثيرةٌ الدكاكين، من مختلف الدرجات والأنواع، التي تعرض التَّعليمَ كسلعة ثمنُها يتلاءم مع الميسورين وغير الميسورين، أي سلعة معروضة على مَن جيوبُهم مليانة بالدراهم وعلى مَن يضحون بالغالي والنفيس لاقتناء هذه السِّلعة.

أين نحن من ما قاله الشاعرُ المقتدر أحمد شوقي "كاد المعلِّمُ أن يكونَ رسولا"؟ فإلى أين يسيرُ مجتمعٌ مدرستُه فاشلة؟ يكفي أن نُلقيَ نظرةً على ما نراه وما يجري أمام أعيننا من فساد، لنقول : غابت المسئولية عن الجميع، وبالأخص، عن الذين بيدهم الأمرُ، الذين تركوا المدرسةَ، بصفة عامة، تفقد هويتَها ومهمتَها النبيلة المتمثلة في التنشئة الاجتماعية والأخلاقية للأجيال الصاعدة. فمتى الخلاص؟

***

36- الخلط بين لغة التدريس والهوية

إصلاحُ التعليم أو المنظومة التربوية ولغةُ التدريس مشكلتان كان بالإمكان إيجاد حلول لهما خلال عشرات السنين التي مضت. لكن مَن يُسمون أنفسَهم سياسيين مُدبِّرين للشأن العام يفضِّلون الاستفادةَ من مُتعة وارتياح كراسي السلطة، أو بعبارة أخرى، إن إيجاد حلول لقضية وطنية مرتبطٌ بها مصيرُ بلادٍ وأجيال بأكملها، لا قيمةَ لها مقارنة مع هذين الارتياح والمُتعة.

كلنا نعلم أن الإصلاحات المتتالية فشلت كلُّها، وكل ما بُدِلَ من جُهد مالي، بشري وزمني ذهب سدىً. لماذا؟ لأن الإصلاحَ، من الضروري أن يكونَ نابعا من إرادةٍ سياسيةٍ قوية، ومن الغيرة على الوطن ومن جعل مصلحته فوق كل اعتبار. لوكان الإصلاحُ نابعا من إرادةٍ سياسيةٍ قوية ومن حب الوطن ومن مصلحتِه العُليا، لنجح في بلوغ أهدافه. ولانشغلنا، بعد ذلك النجاح، فقط، في تحسين مردودية وجودة أداء منظومتنا التربوية. وعدم توفُّر الإرادة السياسية هو الذي جعل ويجعل مَن بيدهم الأمرُ يُطلقون الإصلاحَ بعد الإصلاح ويتركونه يسيرُ لوحده دون تتبُّعٍ ودون تقييم مختلف مراحله. وكأن الإصلاحَ يتضمَّن أو يتوفَّر، في حدِّ ذاته، على ما يجعله ناجحا. الإصلاحُ، وخصوصا، إصلاحُ المنظومة التربوية، عبارة عن خارطة طريق، إن لم يتم تتبُّعُ مراحلها خطوة بخطوة، فلا شيءَ يضمنُ نجاحَها. وهذه اللامبالاة وهذا الإهمال هما اللذان أرادهما السياسيون لمنظومتنا التربوية. النتيجة، هدرٌ للأموال وضياعٌ للأجيال. أنْ يبقى إصلاح التعليم بدون حل على امتداد أكثر من 60 سنة، إنه فعلا لأمر غريب لا يقبله لا العقل ولا المنطق. أمر يطرح أكثر من نقطة استفهام!

أما لغة التَّدريس يا ما أثارت من نقاش ومن تجاذبات ومن أخد وردٍّ ومن غضب جهاتٍ سياسيةٍ وغير سياسيةٍ ومن انتقالٍ من لغةٍ أجنبية إلى اللغة العربية ومن تراجعٍ عن اللغة العربية والعودة إليها، علما أن مَن يؤدِّي ثمنَ هذه التَّقلُّبات هم الأجيال الصاعدة. فأين هو الضمير السياسي؟ وأين هي روحُ المسئولية السياسية، الاجتماعية والأخلاقية؟ النتيجة هي أن كل الأجيال التي تزامن وجودُها في المدرسة مع هذه التَّقلُّبات، لا يتقنون لا اللغةَ العربيةَ ولا اللغة الأجنبية والدليل على ذلك، احتلالُ بلادنا المراتب المتأخِّرة في البرنامج الدولي لتتبُّع مكتسبات التلاميذ Programme International de Suivi des Acquis des élèves PISA فهل يُعقلُ أن متعلِّما اجتاز مرحلة التَّعليم الأساسي الإجباري enseignement fondamental obligatoire يجد صعوبةً في القراءة والكتابة؟

أنا، شخصيا، أفضِّلُ التَّدريسَ باللغة العربية، لكن بشروط. فما هي هذه الشروط؟ إن التَّدريسَ باللغة العربية، له شرطان أساسيان. الشرط الأول هو أن يُتقِنَ المتعلِّمون هذه اللغة. وكي يُتقنونها، يجب أن يبدأَ تملُّكها منذ نعومة الاظافر. وعوضَ أن يتمَّ الاهتمامُ بلغة التَّدريس، فإن السياسيين فضَّلوا التَّردُّدَ بين هذه اللغة أو تلك، غير مبالين بمصير أجيالٍ بأكملها. والغريب في الأمر، أن جلَّ هؤلاء السياسيين يتفادون تسجيلَ بناتِهم وأبنائهم في المدرسة العمومية. أليس هذا نفاقٌ ما بعده نفاق؟ الشرط الثاني يتمثَّل في إتقان لغة التَّدريس من طرف المدرسين. ولو تمَّ الاهتمامُ بلغة التَّدريس منذ نعومة الأظافر، لانعكس هذا الاهتمامُ على المدرسين منذ زمان!

غير أن الاهتمامَ باللغة العربية لا تُمطره السماء! إنه يستوجب تحضيراً متقناً وبعيدَ المدى. كيف ذلك؟ أولا، لا بد أن تتوفَّرَ البلادُ على مؤسسة تهتم بتطويراللغة العربية لجعلها تواكب التَّطوٌّرَ الحاصل في إنتاج المعرفة، وخصوصا، تلك التي يتمُّ إنتاجُها في مختلف مجالات العلوم والتِّكنولوجيا. ثانيا، لا بدَّ من وجود بنيةٍ تواكب ما استجدَّ من مصطلحات في جميع مجالات المعرفة وترجمتها إلى اللغة العربية و وضعِها رهن إشارة القطاعات الوزارية بما فيها قطاعُ التَّربية والتَّعليم. ثالثا، لا بدَّ من إحداث مؤسسة تهتمُّ بترجمة الكُتُب الصادرة في مختلف مجالات المعرفة و وضعها رهن إشارة الباحثين والسياسيين بمختلف مشاربهم…

وعوض أن يهتمَّ السياسيون بكل هذه الأمور، فإنهم تفرَّغوا للمزايدات والتَّجاذبات والتَّطاحنات حول قضيةٍ تتعلَّق بمصير يلادٍ بأكملها. أليس هذا إِظْهارٌ بَشِعٌ وفَظِيعٌ لنفاق سياسي أبشع وأفظع. والفظاعة الكبرى أن البعضَ من هؤلاء السياسيين ربطوا لغة التدريس بالهوية وبحب الوطن و ب... وهم أكثر الناس دوساً لهذه الهوية. لو كان هذا الربطُ نابعا من إرادةٍ سياسيةٍ واضحة وصادقة، لقلنا إنكم مُحِقُّون. لكن، عندما يبعث هؤلاء السياسيون بناتِهم وأبناءَهم إلى المدارس الأجنبية، يتَّضِح كلُّ شيءٍ! ربطوا لغةَ التَّدريس بالمواطنة وحب الوطن والقومية العربية وب... وهم مَن برعوا في نسيان هذا الوطن وفي تركه عُرضةً للفساد.

يا أيها السياسيون، كُفُّوا عن النفاق! إن الهوية، وأنتم تعرفون هذا تمام المعرفة، مجموعة من الخصائص والصفات مرتبطة أولا بتراب وثقافات (بما فيها اللغات) وعادات وتقاليد البلاد. لكن، مَن قال إن مغربياً سيفقِد هويتَه إذا تكلّم وكتب بلغات أخرى، غير العربية، وعندما يتعلق الأمر بتدريس العلوم والتكنولوجيا؟ يا لها من سخافة ويا له من هُراء!

هل فقد المهاجرون العرب والمسلمون المعاصرون (وأخص بالذكر الأدباء والعلماء بمختلف تخصصاتهم، وما أكثرهم) هويتَهم عندما استقروا في بلدان المهجر مضطرين لتعلُّم لغاتها؟ بل بالعكس، ما ألاحظه أنا شخصيا، هو أن هويتَهم تتقوى وتزداد حضورا. هل فقد قدماء العلماء العرب والمسلمين هويتَهم عندما كانوا، من أجل العلم، يتنقلون من بلد إلى آخر وكانوا مضطرين أن يتعلموا لغةَ بلد إقامتهم؟ هل فقد الطلبة المغاربة الذين يدرسون بالخارج، وهم عشرات الآلاف وبمختلف اللغات، هويتَهم؟ هل فقد العلماءُ المسلمون هويتَهم، ما بين القرن الثامن والثالث عشر، عندما انكبوا على ترجمة ما أنتجه اليونانيون من معرفة في شتى المجالات؟

يا مُدبِّري الشأن العام، كفى من استحمار الناس وكفى من تجميد العقول! إنكم تعرفون تمام المعرفة أنه، من بين أسباب فشل التعليم في هذا البلد السعيد، إخضاعُه لتعريب متوحش وارتجالي، غير متبصر وغير استشرافي.

بالطبع، إنكم غير معنيين بهذا الأمر لأن أبناءكم وبناتكم يدرسون بلغات، غير العربية، إما في المؤسسات الخاصة ذات الجودة العالية وإما بأغلى وأرقى المؤسسات بالخارج. المنطق يقول : "كان عليكم، قبل تسجيلهم بهذه المؤسسات، أن تخافوا عليهم من فقدان هويتهم"! شتان ما بينكم وبين الهوية بمعناها النبيل!

***

37- المتعلم، إنسان في حاجة للتربية قبل كل شيء

التربية تشمل التَّنشئة الاجتماعية socialisation والتَّفتُّح épanouissement والتَّحرُّر émancipation الفكريين. والتربية، إلى جانب التثقيف والتنوير، واحدٌ من الأدوار التي تلعبها المدرسةُ أو الممارسة التعليمية. فما هي التَّنشئة الاجتماعية؟

التنشئة الاجتماعية عبارة عن سياق processus يتشرَّب الطفلُ/المتعلِّمُ، من خلاله، بثقافة تشمل القيمَ والأعرافَ والأدوارَ التي تمكِّن المجتمعَ من الاشتغال fonctionnement.

القِيم هي مجموعة من المبادئ principes التي يراها المجتمعُ صائبة، أي فيها حكمة واستقامة ورزانة وسداد. أما الأعراف، فهي مجموعةٌ من القواعد règles، المتَّفق عليها اجتماعيا، والتي تحدِّد ما يلزم من سلوكٍ داخلَ المجتمع. أما الأدوار rôles، فهي مجموعة من الوظائف التي يقوم بها الأشخاصُ أو مجموعةٌ من الأشخاص داخلَ المجتمع، علما أن هذه الأدوار تتكامل فيما بينها، وهي التي تمكِّن هذا المجتمعَ من أن يشتغلَ على أحسن ما يرام.

التنشئة الاجتماعية تبدأ في الأسرة وتستمر في المدرسة. قبل أن يلتحقَ الطفلُ بالمدرسة، تكاد تكون تنشئتُه الاجتماعية عفويةً، أي أن هذه التنشئة لا تخضع لتعليمٍ/تعلُّم خاص. والتفاعل مع أفراد الأسرة ومع الآخرين هو الذي يُساهم في بناء هذا النوع من التنشئة الاجتماعية.

والمدرسة تُكمِّل هذه التنشئة الاجتماعية، متبنِّيةً من أجل ذلك تعليما وتعلُّما خاصين. وأول ما تقوم به المدرسة هو إدخال نوعٍ من الترتيب التدريجي structuration progressive على شخصية المتعلِّم ليتلاءم دمجُه في المجتمع مع سِنِّه ومع نمو قدرتِه على الإدراك والتَّعرُّف على الأشياء développement cognitif.

وحينما نقول إن المدرسةَ تكمِّل التنشئة الاجتماعية، فهذا يعني أنها تتَّبعُ أسلوبا خاصا بها يتمثَّل في ممارسة العملية التعليمية العلُّمية. ولهذا قلتُ في العديد من مقالاتي السابقة إن هذه العملية، إن لم تكن حاملةً لرسالة تربوية، فهي مجرَّد حشو للأدمغة. وبعبارة أخرى، إن لم يكن لها تأثير إيجابي على شخصية المتعلم، فإنها لا تُساهم في بناء التنشئة الاجتماعية.

وما يجب إثارةُ الانتباهِ إليه، هو أن التنشئة الاجتماعية لا تتوقف عندما يغادر المتعلمون المدرسةَ. التنشئة الاجتماعية سياقٌ يرافقُ الإنسانَ طول حياته. وهذا يعني أن التنشئةَ الاجتماعية التي تمَّ بناءُها، من خلال الأسرة والمدرسة، تتغيَّر باستمرار ليتكيَّفَ الإنسان مع ظروف الوسط الذي يعيش فيه. غير أن النواةَ الصلبة noyau dur للتنشئة الاجتماعية، هي تلك التي يتمُّ بناءُها أثناء مرور الطفل من المدرسة.

في المدرسة، من المفترض، أن ينمِّي الطفلُ ويُقوِّي شخصيتَه. في المدرسةِ، يستفيد الطفلُ من تعلُّماتٍ غير تلك التي وفَّرتها له الأسرة. في المدرسة، تتقوَّى التنشئة الاجتماعية للطفل، أولا من خلال التَّعلُّم، أي من خلال ما توفِّره له هذه المدرسة من معارف وظيفية connaissances fonctionnelles ومن اكتساب المهارات والكفاءات التي تُنير طريقَه نحو اندماج سهل في المجتمع. وفي المدرسة، تتقوَّى كذلك التنشئة الاجتماعية للطفل من خلال تفاعله مع أنداده.

أما التفتُّح والتَّحرُّر الفكريان، فهما كذلك عنصران أساسيان في تنشئة اجتماعية متكاملة. التّفتُّح على مستوى الفكر هو أن ينعمَ ويتمتَّعَ الطفلُ بملكاته الفكرية، أن يطوِّرها وأن تساعدَه على تحسين تنشئته الاجتماعية. أما التَّحرُّر الفكري يتمثَّل في تخلُّص الطفلِ من عفويته spontanéité ومن القيل والقال ومن الأفكار المسبقة والخرافات والتنميط… والتفتُّحُ والتَّحرُّرُ الفكريان لا جدوى منهما إذا لم يتسلَّح الطفلُ بالفكر النقدي esprit critique. الفكر النقدي هو أن يأخذَ الطفلُ مسافةً بالنسبة لمحيطه وللأشياء الموجودة به. كل شيء يجب أن يخضعَ لتحليل وتمحيص من أجل إدراكِه، وفي نهاية المطاف، من أجل استبطانه.

فهل مدرستُنا تقوم، توازياً مع الأسرة، بكل هذه الأدوار من أجل التنشئة الاجتماعية للأطفال؟

إذا نظرنا، بعين نقدية، إلى الوضع الذي تسير عليه، حاليا، الممارسةُ التَّعلميةُ التَّعلُّميةُ، فسنجد أنها ترتكز، في غالبية أطوارها، على تبليغ المعرفة. وهذا يعني أن المدرسَ يُمضي وقتا طويلا في هذا التبليغ. بالطبع، هذا دورُه، لكن تبليغَ المعرفة، إذا لم يُتوَّج بتغييرٍ على مستوى شخصية المتعلِّمين سلوكيا وفكريا، فإنه مجرَّد حشوٍ للأدمغة.

وإذا لم يُتوَّج تبليغُ المعرفة بتغيير إيجابي على مستوى شخصية المتعلِّمين، فإن المدرسةَ تكون قد فشلت جزئيا أو كليا في بناء التنشئة الاجتماعية التي هي، في الحقيقة، واحد من أدوارها الأساسية، كما سبق الذكرُ. في هذه الحالة، سيكون موقفُ هؤلاء المتعلّمين إزاءَ هذه المعرفة المبلَّغة إليهم هو حِفظُها mémorisation واستظهارُها restitution أثناء مختلف أنواع المراقبة وأثناء الامتحانات. فما هي الجدوى من التعليم إذا لم يساهم، إلى جانب الأسرة، في بناء التنشئة الاجتماعية للمتعلِّمين؟

من هذا المنطلق، يمكن التأكيد بدون تردُّد أن التعليمَ ليس وظيفة مسخرة من أجل تفتُّح épanouissement المتعلمين فكريا واجتماعيا. بل المتعلمون هم المسخَّرون لهذا التعليم. وهذا يعني أن المتعلمَ هو الذي يجب أن ينصاع لمتطلبات هذا الأخير وليس العكس. والدليل الأول على ذلك، الخوف الذي يغزو المتعلِّمين كلما اقتربت مواعد المراقبات والامتحانات. والدليل الثاني، هو تبخُّرُ المعارف بعد اجتياز الامتحانات. والدليل الثالث والحاسم، والذي يؤكِّد هذا التَّبخُّرَ، هو المراتب المتأخِّرة التي يحتلُّها المتعلمون بعد خضوعهم للبرنامج الدولي لتتبُّع مكتسبات التلاميذ Programme International de Suivi des Acquis des élèves PISA.

وبعبارة أخرى، يوجد هذا المتعلم في حالة تكون فيها مُجريات التعليم متجهة نحو هدفين لا ثالثَ لهما. يتمثَّل الهدفُ الأولُ في تبليغ جافٍّ ومحض للمعرفة لا يستفيد منه المتعلِّمُ تربويا وينتهي، في آخر المطاف، بحشوٍ للأدمغة. بينما يتمثَّل الهدفُ الثاني في تهميش طاقات وقدرات المتعلِّم الفكرية التي تلعب دورا حاسما في بناء التنشئة الاجتماعية.

وكما سبق الذكرُ، هذا النوع من الممارسة التعليمية-التعلُّمية المتمركز حول التبليغ الجاف للمعارف، يدفع المتعلِّمين إلى إعطاء أهمِّية كبيرة للتسجيل enregistrement والحفظ mémorisation والتخزين emmagasinage والاستظهار restitution. وهذا لا يعني أن قدرةَ المتعلمين على التسجيل والحِفظ والتَّخزين والاستظهار لا قيمةَ لها ويمكن تبخيسها. لا أبدا! لكن، إذا تمَّت تقويتُها عند المتعلِّمين، بكيفية حصرية، فإنها بالأحرى تنتسب إلى الببغائية psittacisme.

التعليم، كما هو ممارس في غالبية أطواره، يَعتبِرُ المتعلمَ كفردِ individu (من عامة الناس) يُرادُ حشوُ دماغه بمعارفَ بكيفية منتظمة ŕegulière وآلية mécanique عوض أن يَعتبِرَه هذا التعليمُ كإنسان يُرادُ تكوينُه وتربيتُه وتنشئتُه احتماعياً، أخذا بعين الاعتبار متطلباتِه على المستويين النفسي-التربوي psychopédagogique والإبستيمولوجي épistémologique.

أمام هذا النهج التعليمي، محكوم على المتعلّم أن ينغلق في وضع استسلام (لافاعلية absence de réactivité، واستكانة فكرية léthargie intellectuelle) يُجبرُه على لعب دور المُسَجِّلِ enregistreur المُستسلم soumis، والمُنضبط docile. ليس هكذا تُبنى التنشئة الاجتماعية!

وهكذا، إن المتعلمَ، رغم كونه مُكوِّنا أساسيا ومحوريا في الممارسة التعليمية التعلُّمية، التي أُنشِئت من أجله، فإنه، في نفس الوقت، يبقى ضحيةً لنهجها المرتكز، أساساً، على تبليغ المعرفة. ونفسُ النهج يجعله مهمَّشا فكريا وتربويا، إذ أن الممارسة التعليمية التَّعلُّمية لا تستهدف بناءَ شخصيتِه ولكن تقويةَ قدرتِه على ابتلاع والتهام المعرفة.

من الضروري أن تعطي العمليةُ التعليميةُ-التعلُّميةُ الأسبقيةَ لعلاقة المتعلم بالمعرفة، أي أن هذا المتعلم يجب أن يَتَمَوْقَعَ بالنسبة لهذه المعرفة. وليتموقع بالنسبة لهذه المعرفة، أضعف الإيمان، هو أن يعرفَ لماذا تُبلَّغُ له. ومن الضروري، كذلك، أن يتم الكفُّ عن اعتباره مجرد مُتَلَقٍّ ومُستهلكٍ جامدٍ للمعرفة. بل، من الضروري، أن يُعتبرَ المتعلِّمُ كفاعل نشيطٍ يريد أن يعرفَ. ويريد أن يفهمَ بعد أن يعرفَ. وبعد أن يفهمَ، يريد أن يكوِّنَ أفكاراً شخصيةً عن محيطه بمختلف مكوِّناته. هكذا تُبنى التنشئة الاجتماعية. تُبنى بالفكر وليس بحشو الأدمغة.

ولا داعي للقول أن الأوضاع الإبستيمولوجية للمدرس والمعرفة تحدد بشكل كبير وضعَ المتعلِّم. فكل ما سيطرأ من تغيير إيجابي على هذا الوضع يكون رهينا بنوعية التكوين الذي يتلقاه المدرسون علما أن هذا التكوين يجب أن يضع في الحسبان أن المتعلِّم كائن حي يرى، يسمع، يفكِّر، يشعر، يحس، يحب، لا يحب، يؤثر، يتأثر، الخ. وباختصار، له حاجيات على المستوى النفسي، الاجتماعي والفكري. فلا يجب بأي حال من الأحوال أن يُعْتَبَر كوعاء فارغ أو عجين يمكن للمدرس أن يملأه أو أن يشكِّله كما يريد.

وحتى تتمكَّنَ المدرسةُ من لعب دورها كاملا في بناء التنشئة الاجتماعية، من الضروري أن تتحوَّلَ من مجرَّد آلة لتبليغ المعرفة إلى جهازٍ دورُه الأساسي هو جعلُ هذه المعرفة دعامةً لتغيير شخصية المتعلِّمين من حسن إلى أحسن. وهذا التَّحوُّلُ يقتضي تغييرا جدريا إبستيمولوجيا، إن لم نقل فلسفيا، للمكوِّنات الأربعة للممارسة التعليمية التعلُّمية المتمثِّلة في المدرس، المعرفة، الطرائق البيداغوجية والمتعلِّم.

المدرس، عوض أن يكونَ العارف أو المالك للمعرفة، من المفيد أن يدركَه المتعلِّمون كمنشِّطٍ، مشجِّعٍ، محفِّزٍ، مساعدٍ، مرافقٍ… المعرفة يجب اعتبارُها كدعامة لبناء التنشئة الاجتماعية وليس وسيلة لقهر المتعلِّمين أثناء المراقبات والامتحانات. الطرائق البيداغوجية يجب اعتبارُها كمسار فكري، هدفُه الأول والأخير، هو تسهيل التَّعلُّم. المتعلِّمُ يجب اعتبارُه كإنسان يُراد تنشئتُه اجتماعياً، فكريا، أخلاقيا، سلوكيا… ليصبحَ مواطنا قادرا على المساهمة في تطوير نفسِه ومجتمعه وبلاده.

***

38- مضامين البرامج والمناهج الدراسية، كلها مسخَّرة من أجل رأس جيدة التركيب

المقصود بالبرامج الدراسية programmes scolaires والمناهج الدراسية curricula (المفرد curriculum) هو ما تعوَّدنا على تسميته ب"المُقرَّرات". والمقرَّرأت عبارة عن مجموعة مضامين معرفية أدبية، علمية، تكنولوجية، اقتصادية، اجتماعية، تاريخية، جغرافية، لغوية، فنية…، من المُقرَّر تبليغُها للمتعلِّمين من أجل تحقيق ما رسمته المنظومة التَّربوية من غايات finalités. من بين هذه الغايات، أذكر على سبيل المثال، التنشئة الاجتماعية socialisation والتَّفتُّح épanouissement والتَّحرُّر émancipation الفكريين. والمقرَّرات، إما أن تكونَ مُعزَّزةً بتوجيهات بيداغوجية وديداكتيكية وتربوية، وإما أن لا تكون معزَّزة بهذه الأشياء.

والمضامين هي، في الحقيقة، مجموعة معارف connaissances ومفاهيم concepts، الهدف من تبليغها للمتعلِّمين، ليس ملء الرؤوس بالمعارف الجافة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع. بل الهدف منها هو تكوينُ رؤوس جيدة التَّركيب، فكريا واجتماعيا.

والرأس الجيدة التَّركيب هي عكس الرأس المملوءة بدون فائدة. يُقال بالفرنسية : "une tête bien faite vaut mieux qu'une tête bien pleine"، بمعنى أن الرأسَ الجيدةَ التَّركيب أحسن بكثير من الرأس المملوءة (بالمعارف) بدون فائدة. الرأس الجيِّدةُ التَّركيب تفكر وتحلِّل وتقارن وستستنبط وتستنتج… أما الرأس المملوءة بدون فائدة، فإنها تجد صعوبة في ممارسة كل ما هو فكري، لأنها متعوِّدة فقط على الحِفظِ والاستظهار.

والرأس الجيدة التركيب تكون أفكارُها منظَّمة، مرتَّبة ومتسلسِلة، وبالأخص، متطابقة مع الواقع. أما الرأس المملوءة بدون فائدة (بالطبع، مملوءة بالمعارف)، فهي مملوءة بالمعارف الجافة (لا أقول الأفكار)، أي المحفوظة عن ظهر قلب لكن بدون تنظيم وبدون ترتيب وبدون تسلسل. فهي معارفٌ تتراكب se superposent في دماغ المتعلِّمين بدون ترتيب. بمعنى أنه لا شيءَ يضمن استمرارَ بقائِها في دماغ الحافظ عن ظهر قبل، اللهم إذا كرَّرَ حفظَها وترديدَها باستمرار. وهذا هو ما يحدث لحُفاظ (وخصوصا الأطفال) القرآن الكريم أو الآجرومية (قواعد نحوية على شكل شعر لابن آجروم) أو الألفية (نفس الشيء لابن مالك)… تحت الضغط والإكراه. فبمجر ما يغيب الصغطُ والإكراه، يتبخَّر كل ما تمَّ حفظُه عن ظهر قلب.

بصفة عامة، الغاية من صياغة البرامج الدراسية أو المناهج الدراسية ليس تكوين ، على الأقل في مرحلتي التعليم الأساسي الإجباري enseignement fondamental obligatoire والثانوي التأهيلي enseignement secondaire qualifiant، علماء موسوعيين savants encyclopédistes. الغاية منهما هو التثقيف والتَّنوير والتَّوعية والتفتُّح والتَّحرُّر… استعدادا لإندماج سهلٍ وسلسٍ في المجتمع وفي الحياة العملية.

في هذه الحالة، كل المعارف، بدون استثناء، التي تنقلها البرامج أو المناهج الدراسية، يجب أن تُعتَبرَ، فقط وحصريا، دعامةً un soutien لتحقيق هذا الاندماج السهل والسلس. فما هو البرنامج الدراسي وما هو المِنهاج الدراسي؟

البرنامج الدراسي هو وصفٌ أو توصيفٌ أو تخطيطٌ مفصَّلٌ للمحتويات المعرفية التي تمَّ تحديدُها رسميا من طرف الجهة الوصية على قطاع التربية والتَّعليم لتبليغها إلى المتعلمين. وانطلاقا من هذا التَّوصيف، يقع على عاتق المدرسين تحويلُ ما ينص عليه البرنامج الدراسي من مضامين إلى أنشطة تعليمية تعلُّمية أو أنشطة بيداغوجية تربوية تدور أطوارها داخلَ الأقسام. ولا داعيَ للقول أن كلَّ مرحلة تعليمية لها برنامج دراسي، مُكيَّفةٌ مضامينُه المعرفيةُ مع سنِّ المتعلمين ومستواهم الفكري niveau intellectuel ونموِّهم الإدراكي développement cognitif. وكلما تقدَّم المتعلمون في السنِّ، كلما تعقَّدت المعارف والمفاهيم المُبلَّغة إليهم.

أما المنهاج الدراسي، فهو أكثر توضيحا وتفصيلا من البرنامج الدراسي. فإضافةً لتفصيل المضامين المعرفية، فإنه يشتمل على الأهداف المرادُ تحقيقها من خلال تبليغ مضامين المنهاج للمتعلمين. وهذه الأهداف ليست فقط تعليمية تثقيفية. بل المنهاج يُشير كذلك للأهداف التربوية (كفاءات، مهارات، سلوك…) التي، من المفترض، أن يكونَ لها انعكاس إيجابي على تطوُّر شخصية المتعلمين. كما يتضمَّن المنهاج الطرائق البيداغوجية méthodes pédagogiques والمُعدَّآت الديداكتيكية matériel didactique التي يلجأ لها المدرسون أثناء ممارسة العملية التعليمية-التعلمية. وأكثر من هذا وذاك، يتضمَّن المنهاج الدراسي اقتراحاتٍ لوسائل التقييم moyens d'évaluation، من بينها اقتراحات للوقوف على ما تحقَّق من كفاءات لدى المتعلِّمين بعد خضوعهم للعمليات التعليمية-التعلمية. بل قد يتضمَّن المِنهاجُ المهارات habiletés والاستعدادات aptitudes التي يجب أن يتوفَّر عليها المدرسون للقيام بهذا النوع أو ذاك من الممارسات التعليمية-التعلمية.

فهل هناك فرقٌ بين البرامج الدراسية والمناهج الدراسية؟ أو كيف يتمُّ التَّمييزُ بين البرنامج الدراسي والمنهاج الدراسي؟

هناك فرقٌ واضحٌ بين البرنامج الدراسي programme scolaire والمِنهاج الدراسي curriculum. كلاهما يحتويان على المضامين المعرفية، بمختلف أنواعها، التي ستُدرَّس للمتعلِّمين. لكن، إذا تمعَّنا مليا في محتوى البرنامج الدراسي والمنهاج الدراسي، فسنجد أن الثاني يختلف عن الاول بنوعية ما يشتملان عليه من مضمون. ولعل الفرق الأساسي بينهما، هو أن المنهاج الدراسي يكتسي صبغةً توجيهية caractère directif، بمعنى أنه يُهيِّئ للمدرس كل شيء ليقوم بعمله على أحسن ما يُرام. بينما البرنامج الدراسي هو عبارة عن توصيف مفصَّل لما يجب تبليغُه من معارف للمتعلِّمين، تاركا المجالَ مفتوحاً للمدرسين لاختيار كل ما من شأنه أن يساعدَهم على أداء مهمتهم التَّعليمية التعلُّمية. فهل هناك قاسم مشترك بينهما؟

القاسم المشترك بينهما هو أنهما معا يُعدَّأن الوسيلة التي، من خلالها، تتجسَّد على أرض الواقع غايات المنظومات التربوية، التي سبقت الإشارةُ إلى البعض منها أعلاه.

السؤال الذي يفرض نفسَه هنا هو : "هل المقرَّرات التَّعليمية، سواءً كانت على شكل برامج دراسية أو مناهج دراسية تُمكِّن من تحقيق ما تمَّ رسمُه لها من غايات وأهداف"؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، هناك ملاحظةٌ تكتسي أهمِّيةً بالغة بالنسبة لكل منظومة تربوية. تتمثَّل هذه الملاحظة في كون : "لا أحد يعرف، بالتدقيق، هل البرامج الدراسية أو المناهج الدراسية يتمُّ تطبيقها على أرض الواقع، أي داخلَ الاقسام، كما خطَّطت لذلك السلطة الوصية". لماذا؟

لأنه، ليس هناك سلطةٌ وصيةٌ تقوم بتقييم المنظومة التَّربوية برمتها أو تقوم بتقييم تطبيق البرامج الدراسية والمناهج الدراسية على أرض الواقع، من أَلِفِها إلى يائِها. بالطبع، هناك المراقبات والامتحانات. لكن هذه الأخيرة لا تُعطي فكرةً عن تقييم المنظومة التَّربوية ولا حتى على مجموع البرامج والمناهج الدراسية. المراقبات والامتحانات، عبارة عن تقييم مرحلي، ولا يمكن، على الإطلاق، أن تُعتَبَرَ تقييما لتطبيق البرامج والمناهج الدراسية على أرض الواقع. وحتى الزيارات التفتيشية التي يقوم بها المفتِّشون للأقسام لا يمكن أن تفيَ بهذا الغرض لأنها، غالبا ما يكون الهدف منها هو التَّرقية الإدارية للمدرسين.

وجوابا على السؤال المطروح أعلاه؟ أي : "هل المقرَّرات التَّعليمية، سواءً كانت على شكل برامج دراسية أو مناهج دراسية تُمكِّن من تحقيق ما تمَّ رسمُه لها من غايات وأهداف؟"

ما يمكن قولُه في هذا الصدد، هو أن الوسيلة الوحيدة المتاحة حاليا، هي إخضاعُ عيِّنةٍ من المتعلِّمين لرائز test البرنامج الدولي لتتبُّع مكتسبات التلاميذ Programme International de Suivi des Acquis des élèves PISA الذي يتم، من خلاله، تقييم غايات مرحلة التعليم الأساسي الإجباري enseignement fondamental obligatoire، المتمثِّلة في اكتساب كفاءات القراءة والكتابة والمبادئ الرياضية savoir élémentaire mathématique وبعض المبادئ العلمية savoir scientifique élémentaire.

وما يزيد في الطين بلَّةً، هو أن غالبية المدرسين، يُسرعون في إتمام ما تنص عليه المقرراتُ من معارف قبل حلول مواعد الامتحانات، وخصوصا منها الإشهادية. وهذا يعني تبليغ كمِّية لا يُستهان بها من المعارف للمتعلِّمين في ظرف وجيز. في هذه الحالة وتحت ضغط الامتحانات، لا خيارَ للمتعلمين سوى إعطاء الأولوية للتسجيل والحفظ والتخزين والاستظهار.

في هذه الظروف، حيث الوقتُ يُشَكِّلُ إكراهاََ باستمرار، لن يُكَلَّلَ مضمونُ المقررات أو يكاد بأية تربية من خلال العملية التعليمية التَّعلُّمية. والمتعلمون هم الذين يؤدون ضريبةَ هذا الوضع الذي يَعُوقُ تَفَتُّحَهُم الفكري والشخصي. إنه من غير المعقول، في وقت أصبحت فيه المعرفة في المتناول بفضل تكنولوجيات الإعلام، أن تتم التضحية بهذا التفتح لإنتاج رؤوس مملوءة سرعان ما يتبخر محتواها أو يكاد بعد الامتحانات.

العِبرة ليست في حجم المعارف التي تُبلَّغ للمتعلمين. العِبرة مختزلةٌ في السؤال التالي : "ما الفائدة من حشو أدمغة المتعلمين بمعارف لا تصلح إلا للامتحانات"؟

فأين هو تحقيقُ غايات finalités المنظومة التَّربوية المتمثِّلة في التنشئة الاجتماعية وتفتُّح وتحرّّر المتعلمين فكريا واجتماعيا؟

وفي الختام، دعوني أقول: "إن الحصول على شهادة البكالوريا أو حتى على شهادة أعلى منها، ولو بكُبريات النقط، لا يعني، على الإطلاق، أن الحاصلَ على هذه الشهادة أو أكثر منها، تمَّت تنشِئتُه اجتماعيا وهو متفتِّح ومتحرِّر فكريا واجتماعيا.

أنا شخصيا، أُفضِّل أن تكونَ المقررات متمحوِرةً حول ما قل ودلّ من المعارف وأن تكونَ جذابةً، أي مُصاغَة على شكل أنشطة هدفُها التكوين أو على شكل مشكلات أو أوضاع تَشُدُّ الانتباهَ أو على شكل نصوص عذبة وأخاذة… تستدعي اللجوءَ إلى المهارات الفكرية كالاستخلاص والتحليل والنقد والمقارنة والتركيب والترابط وحل المشكلات والنقاش وبناء المفاهيم… وباختصار، أن تكونَ المقررات مصدرا لممارسة تعليمية تعلُّمية "يتعلَّم، من خلالها، المتعلِّمُ كيف يتعلَّم"!

***
===================
1-


2-




>>>>>>>>>



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
27- العلم، الطباشير، السبورة، القلم، المِحبرة والدفتر
28- المنظومة التَّربوية عندهم والمنظومة التَّربوية عندنا
29- التقييم، أداةٌ لتحسينِ مردوديةِ الممارسةِ التعليمية التَّعلُّميةِ وليس وسيلةً لقهرِ المتعلِّمِ
30. الطرائق البيداغوجية، مسار فكري و ليس قوالب نمطية
31- تكافؤ الفرص في الوسط المدرسي
32- جودة أداء المدرس ليست وصفة جاهزة!
33- علم النفس التَّربوي، توفيق بين البيداغوجيا وعلم نفس المتعلِّم
34- التواصل أداة أساسية في الممارسة التعليمية التَّعلُّمية
35- الاحترام الذي لم يعد واحدة من مُقوِّمات المنظومة التربوية ومُكوِّنها الأساسي، المدرسة
36- الخلط بين لغة التدريس والهوية
37- المتعلم، إنسان في حاجة للتربية قبل كل شيء
38- مضامين البرامج والمناهج الدراسية، كلها مسخَّرة من أجل رأس جيدة التركيب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى