النقائِضُ في الشٌَعرِ:
النقيضَةُ قصيدَةٌ شعريَّةٌ لشاعِرٍ تَكُونُ رَدًّا وإجابَةً علَى قَصيدَةٍ أخرى لشاعِرٍ آخَرَ، ينقضُ فيها الرّادُّ مضامينَ وادِّعاءاتِ خصمِهِ، ويلتزمُ فيها الوزنَ والقافيةَ لقصيدَةِ خَصْمِه.
ويمكنُ أن تكونَ النقيضَةُ بَيْتًا واحِدًا مُفْحِمًا، أو أبياتًا وقصائِدَ.
ومن الأمثلةِ على البيتِ الواحِدِ وهو الأبرزُ في القصيدَةِ قَوْلُ حسّانَ بنِ ثابِتٍ يَذُبُّ عَن الرسول، عَلَيْهِ اَلسَّلامُ، هجاءَ سُفيانَ بنِ الْحارِثِ شاعرِ مكَّةَ:
من الوافرِ
أَتَهْجوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ
فَشَرِّكُما لِخَيْرِكُما الْفِداءُ
فَأَسْكَتَه.
ومِثْلُه في الإفحامِ ما حَدَثَ بَيْنَ ليلى الأخْيَلِيَّةِ صاحبَةِ تَوْبَةَ بنِ الْحُمَيِّرِ، عندما هجاها النابغةُ الْجَعْدِيُّ بِأبياتٍ فَأقذَعَ فيها، يمنعني الحياءُ أنْ أذكرَ منها أبياتًا عدا مَطْلَعَها: من الطّويل
ألا حَيِّيا لَيلَى وَقولا لها هَلَا
فَقَدْ رَكِبَتْ أَمْرًا أغَرَّ مُحَجَّلا
فَرَدَّتْ عَلَيْهِ وغلبَتْه بِقَصيدَةٍ فيها هذا البيْتُ:
تُعَيِّرُني داءً بِأُمِّكَ مِثْلُهُ
وَأيُّ حصانٍ لا يُقالُ لَهَا هَلَا
فسمِّيَ المغلَّبَ، وكانَ يخجلُ بعدَها أن يقولَ شِعْرًا، قَالَت
وعندما نذكرُ النقائضَ نعني بها نقائِضَ جريرٍ والفرزدَقِ والأخطلِ. والأهمُّ جريرٌ والفرزدَقُ.
وقد صمَدَ جريرٌ لِأكثرَ من أربعينَ شاعِرًا هَجَوْهُ فغلبَهم ، ولَم يصمُدْ منهم أمامَهُ إِلَّا الفرزدقٌ، فكانَ قِرْنًا عَصِيًّا عَلَيْهِ.
ولمّا سكنَ الأخطلُ عن هجاء جريرٍ ضَحِكَ ابنُه للنصرِ، فقالَ له أبوهُ: أدركتُه ياًبُنَي وله نابٌ واحِدٌ، ولو أدركتُه وله نابان لأكلني.
بالنسبة لنقائض جرير والفرزدق سأُحيلُ القرّاء
إلى النُّسخة المطبوعة بثلاثة مجلّدات وصدرت عن دار المثنى في بغداد.
شَرَحَ هذه النقائض التي تضمّ أكثر من ١٧٠٠ صفحة علّامةُ العرب أبو عُبيدَة مَعْمَرُ بن المثنّى
(ت ٨٢٤م) اللّغويُّ النحويُّ المؤرخُ، من عظماء المؤلفين العرب. في النصف الأوّل من القرن الثالث الهجري.
هذه النقائض حفظت نصفَ اللغةِ العربيّة، والأحداث التاريخيّة فيها حفظت تاريخ العرب منذ العصر الجاهلي الأَوَّل حتى القرن الثالث الهجري. وهي أكبرُ إجابةٍ وأصَحُّها للقائلينَ بانتحال الشعر العربي، حتى جعلونا نشكُّ خطأً في كلِّ قصيدَةٍ وصلتنا. يقلقنا دائمًا السّؤالُ الآتي: لمن هذه القصيدةُ؟ أصحيحٌ أنّها لامرئ القيس أم لغيره؟
طُبِعَت النقائضُ في ليدن في هولندا سنة ١٩٠٥م، على يدِ المستشرقين ، الذينَ غاروا على العربيَّةِ لجمالها أكثَرَ من أهلِها، وأُعيدَت طباعتُها في بغداد، وهي بَيْنَ أيدينا الْيَوْمَ.
>>>>
تابعٌ للنَّقائِض: أيُّهُما أشْعَرُ ؟
انشغلَ النَّاسُ في شعْرِ جَريرٍ والفرزدقِ. وكانَ الْمِرْبَدُ في الْبَصْرَةِ حَلَبَةَ الصِّراعِ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ. المربَدُ لُغَةً الْبَيْدَرُ، ولكنَّهُ في الْبصرةِ كانَ سُوقَ الإبِلِ القديمَةِ، يَؤُِمُّهُ الشُّعَراءُ ورُواتُهم، والخطباءُ والأعرابُ الفصحاءُ، وجامعو اللّغَةِ العربيَّةِ مِنْ أفواهِ الأعراب الفُصحاءِ الذينَ لم تتلَوَّثُ لُغَتُهُمْ بفعلِ الاندماجِ مع سكّانِ الْمَدَرِ. فبقيتْ نقيَّةً منَ شوائبِ الْعامِّيَّةِ والدَّخيلِ .
كانَ المربدُ مدرسةً للُّغَةِ العربيَّةِ،
وَالْأَدَبِ العربيّ، وأيّامِ العرَبِ يسمعونها من الْقُصّاص، في الْهواءِ الطَّلْقِ وفِي الْبَرَدَيْنِ.
وعندَما كانَ يجيءُ الفرزدقُ واسمه همّامُ بنُ غالبٍ وحاشيَتُهُ ومحِبُّو شعرِهِ، لِيُنْشِدَ قصيدَةً في هجاءِ جريرِ بنِ عَطِيّةَ الْخَطَفي ، يأتي الأخيرُ ومعه أيضًا حاشيتُهُ ومُؤَيِّدوهُ. ويستمِعُ الجميعُ بشغَفٍ إلى الإبداعِ الشَّعري دُونَ مخاصمَةٍ أو خِلاف وخصامٍ، وينصرِفُ الجميعُ إلى الدَّوْرَة القادِمةِ التي يرُدُّ فيها جَريرٌ على خصمِه، منتظرين ذلك على أحَرَّ من الْجَمْرِ.
وصَمَدَ الْقَرينانِ الواحِدُ للآخَرِ، وأحَبَّ النَّاسُ حلاوَةَ شعرِ جريرٍ وحُسْنَِ طَلاوتِهِ، وعذوبَةَ ألْفاظِهِ، وسهولةَ نَظْمِهِ ورصْفِهِ. ولكنَّهُم سَرعانَ ما ينقلبونَ عندما يسحرُهم الفرزدقُ بجزالةِ لفظِهِ ومتانةِ أسلوبهِ وصلابةِ تراكيبِه، وهو يصِفُ مفتخرًا بمجدِ آبائِه ومآثرِهم ومناقبِهم، أمامَ وضاعةِ قَومِ جريرٍ وآبائِه.
احتارَ النَّاسُ في أمْرِهِما. ووقفَ جريرٌ عاجِزًا أمامَ القنابِلِ المدَوِّيَةِ، عندما انفجرتْ قريحةُ الفرزدقِ
في تحدِّيهِ لجريرٍ حينَ قالَ له: من الطّويل
فَوا عَجَبًا حتّى كُلَيْبٌ تَسُبُّني
كَأنَّ أَبَاها نَهْشَلٌ وَمُجاشِعُ
أُولَئِكَ آبائي فَجِئْني بِمِثْلِهِم
إذا جَمَعَتْنا يا جَريرُ الْمَجامِعُ
لم يستَطِعْ جريرٌ الرّدَّ على خصمِهِ فيما قالَهُ من حقائقِ الشُّهْرَةِ والنسبِ. هل يفخرُ بأبيهِ راعي الضَّأْنِ، لقدكان الفرزدقُ يُعَيِّرُهُ به ويخاطبُهُ بابنِ الْمُراغةِ (الأتانُ التي تتمرَّغُ في الترابِ القذر).
وصَبَرَ جريرٌ حتّى جَاءَ يومُ الفصلِ. فَقَدْ قَرَّرَ أحَدُ نبلاءِ الْبَصْرَةِالمعروفين أن يزورَ الْفرزدَقَ وجريرًا، دونَ أنْ يعلنَ موعِدَ الزيارةِ. فبدأَ بالفرزدقِ، فوجدَهُ صادقًا في شعرِه. ثمّ انثنى إلى جريرٍ وسألَهُ: أيُّكُما أشعرُ يا جَريرُ ؟" بِاللّهِ عليك أصدِقني الْقَوْلَ
فقالَ جريرٌ: هيّا معي، فأخذَهُ إلى زريبةِ الضَّأْنِ، ونادى: يا أبتِ اُخرُجْ إلينا. فخرجَ رجلٌ أشعثُ الشِّعرِ، رَثُّ الثِّيابِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، يسيلُ منها اللَّبَنُ،
وقال: ما رَأْيُكَ بِمَنْ ساوى هذا الشيخَ - الذي يرضعُ اللَّبَنَ من ضَرْعِ الشّاةِ - بِشيوخِ دارِمٍ رهطِ
الفرزدقِ ؟
فأجابَ الرجُلُ: أَنْتَ أشعرُ يا أبا حَرْزَةَ. أَنْتَ تغرِفُ من بحرٍ، والفرزدقُ ينحتُ من صخرٍ ، وشتّانَ ما بَيْنَ البحرِ والصَّخْرِ!!
>>>>>
الْخَِلِيفَةُ الْمَهْدِي الْعَبّاسِي وَالشُّعَراءُ الْأَرْبَعَةُ:
كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ الْخَليفَةَ الْعَبّاسِيَّ الثّالِثَ محمّدًا الْمَهْدِيَّ لا يَقِلُّ صَرامَةً عَنْ والِدِهِ أَبي جَعْفَرٍ الْمَنْصورِ، حَتَّى قَرَأْتُ خَبَرًا في كِتابِ (الْمَحاسِنُ وَالْمَساوِئُ) لِلشَّيخِ إبْراهِيمُ ابنُ مُحَمَّدٍالْبَيْهَقِيُّ (ت ٣٢٠ هج) الَّذِي سَطَعَ نَجْمُهُ أَيّامَ الْخَليفَةِ الْمُقْتَدِرِ . وَهوَ غَيْرُ الْبَيْهَقِيِّ صاحِبِ مَوْسوعَةِ السُّنَنِ الْكُبْرَى.
مَعْلّوماتُنا عَنِ مَؤَلِّفِ الْكِتابِ شَحيحَةٌ، لَمْ يَتْرُكْ لَنا أَثَرًا غَيْرَهُ. وَهُوَ كِتابٌ ضَخْمٌ عَظُيمُ الْفائِدَةِ، في مَحاسِنِ الشَّخْصِيّاتِ وَسائِرِ الْأَشْياءِ وَمَساوِئِها، طُبِعَ نَصُّ الْكِتابِ في دار صادِر دونَ تَحْقيقٍ أَوْ مُقَدِّمَةٍ أَوًْ شَرْحٍ يُعَرِّفُ بِالْكِتابِ وَمُؤَلِّفِهِ.
دامَتْ خِلافَةُ الْمَهْدِيِّ عَشْرَ سَنَواتٍ، وَهوَ والِدُ الْخَليفَتَيْنِ الْهادِي والرَّشِيدِ. وَكانَ مُحِبًّا للِشًِّعْرِ مُقَرِّبًا لِلشُّعَراءِ وَالْأُدَباءِ وَالْعُلَماءِ، شَديدَ الْبَطْشِ بِالزَّنادِقَةِ.
يَعُودُ الْفَضْلُ في حُبِّهِ لِلشِّعْرِ إلى والِدِهِ الْمَنْصورِ. فَقَدْ أرادَ أنْ يُعَلِّمَهُ الْعَرَبِيَّةَ وَتاريخَ الْعَرَبِ، خَوْفًا عَلَيْهِ مِنَ الشُّعُوبِيَّةِ عِنْدَما كانَ وَلِيًّا لِلْعَهْدِ، فَاسْتَقْدَمَ لَهُ عالِمَيْنِ ، هُما عالِمُ الْعَرَبِيَّةِ الْمُفًَضَّلُ الضَّبِيُّ الَّذي عَلَّمَهُ القصائِدَ الْمَعْروفَةَ بِالْمُفَضَّلِيّاتِ، وَهِيَ مِنْ عُيُونِ الشِّعْرِ الْعَرَبيي.
أَمّا الْمُعَلِّمُ الثّاني فَهُوَ مُحَمَّدُ بنُ إسحاقَ بنِ يَسار صاحِبُ السًِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ الشَّريفَةِ.
كانَ الْخَليفَةُ الْمَهْدِي في الْمَدينَةِ الْمُنَوَّرَةِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ شُعَراءَ بَعْدَ أَنْ أَذِنَ لَهُمْ. وَهُمْ: الْمُغِيرَةُ ابنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ المَخْزوميُّ (فَقِيهُ الْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفاةِ مالِكِ ابنِ أَنَسٍ صاحِبِ الْمُوَطَّأِ ، (ت ١٨٨هج) وَأَبُو السًائِبِ، وَالْعُثْمانِيُّ بنُ لُؤْلُؤِ الرَّطْب، وَابْنُ أُخْتِ الشّاعِرِ الْأَحْوَصِ.
قالَ الْمَهْدِي لَهُمْ أَنْشِدوني.
فَأَنْشَدَ الْمُغِيرَةُ: مِنَ الطّاويل
وَلِلنّاسِ بَدْرٌ في السَّماءِ يَرَوْنَهُ
وَأَنْتَ لَنا بَدْرٌ عَلى الْأَرْضِ مُقْمِرُ
فَبِاللَّهِ يا بَدْرَ السَّماءِ وَضَوْءَهُ
تَزالُ تُكافِي عُشْرَ ما لَكَ أَضْمُرُ
(أَقْسَمَ الشّاعِرُ أنَّ الْخليفَةَ يُكافِئُ بَعُشْرِ ما لَهُ وَيراهُ قَليلًا)
وَما الْبَدْرُ إلّا دُونَ وَجْهِكَ في الدُّجَى
يَغِيبُ فَتَبْدُو حِينَ غابَ فَتُقْمِرُ
وَما نَظَرَتْ عَيْنِي إلى الْبَدْرِ ماشِيًا
وَأَنْتَ فَتُمْسِي في الثِّيابِ وَتُسْحِرُ
(البَدْرُ لا يَمُشي لِيَتَفَقَّدَ رَعِيَّتَهُ، أمّا أَنْتَ فَتَمْشِي بِلِباسِكَ مُتَفَقِّدًا إلى السَّحَرِ)
وَأَنْشَدَ ابْنْ أُخْتِ الْأَحْوَصِ: بَحْرُ الْبَسيط
قالَتْ كِلابَةُ: مَنْ هَذا فَقُلْتُ لِها
أَنا الَّذِي أَنْتِ مِنْ أَعْدائِهِ زَعَمُوا
إنِّي امْرُؤٌ لَجَّ بِي حُبٌّ فَأَحْرَضَنِي
حَتَّى بَلِيتُ وَحَتَّى شَفَّنِي سَقَمُ
(الْبَيْتانِ لِلْعَرْجِي في ديوانِهِ (ص ٣١٣) أَحَدِ شُعَراءِ الْمَدِينَةِ الْكِبارِ الْغَزِلينَ كَالْأَحْوَصِ وابنِ الرُّقَيّاتِ وَابْنِ رَبيعَةَ. وَهُما مِنْ قَصيدَةٍ ضَمَّتْ ثَمانِيَةً وَثَلاثينَ بَيْتًا مَطْلَعُها:
حُورٌ بَعَثْنَ رَسُولًا في مُلاطَفَةٍ
ثَقْفًا إذا أَسْقَطَ النَّسّاءَةُ الَوَهِمُ
لَجَّ: أَلَحّ، أَحْرَضَني: أَسْقَمَني، شَفَّني: أَنْحَلَنِي)
وَأَنْشَدَهُ الْعُثْمانِيُّ الْمَخْزُومًِيُّ:
رَمَى الْقَلْبُ مِنْ قَلْبي االسَّوادَ فَأَوْجَعا
فَصاحَ فَصِيحٌ بِالرَّحًِيلِ فَأَسْمَعا
(الْأَبْياتُ الثَّلاثَةُ الْأولَى مَنْسُوبَةٌ لِلْمُغِيرَةِ الْمَخْزوميِّ الْمَذْكُورِ سابِقًا، وهي في ديوانِهِ. الظّاهِرُ أَنَّ الْتِباسًا حَدَثَ في الْأَسماءِ عِنْدَ طِباعَةِ مَخْطُوطَةِ كِتاب المحاسن والْمَساوِئ. القَلْبُ فاعِلُ رَمَى، السَّوادَ مَفْعًولٌ بِهُ. أَصْلُ الْكَلامِ: رِمَى الْقَلْبُ السَّوادَ مَنْ قَلْبِي. الْقَلْبُ لِلْمَمْدُوحِ)
وَغَرَّدَ حادي الْبَيْنِ وَانْشَقَتِ العَصا
فَأَصْبَحْتُ مَسْلُوبَ الْفُؤادِ مُفَجَّعا
(اِنْشَقَّتْ عَصا الْقَوْمُ: اِخْتَلَفُوا وَتَفّرَّقُوا)
كَفَى حُزَنًا مِنْ حادِثِ الدَّهْرِ أَنَّنِي
أَرَى الْبَيْنَ لا أَسْطِيعُ لَلْبَيْنِ مَدْفَعا
(كَفَى: فِعْلٌ ماضٍ فاعِلُهُ الْمَصْدَرُ الْمُؤَوّل مِنْ أَنّ وَاسْمِها وَخبَرُها، تَقْدِيرُهْ رُؤْيَةُ، حَزَنًا: تَمْييزٌ مَنصوبٌ)
وَقَدْ كُنْتُ قَبْلَ الْيَوْمِ بِالْبّيْنِ جاهِلًا
فَيا لَكَ بَيْنًا ما أَمَرَّ وَأَوْجَعا
(ما أَمَرَّ: ما التَّعَجُّبِيَّةُ، وَهِيَ نَكًِرَةٌ تامَّةٌ مَعْناها شَيْءٌ في مَحَلِّ رَفْعٍ مُبْتِدَأٌ، أَمَرَّ: فِعْلٌ ماضٍ لِلتَّعَجُّبِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ يَعودُ إلى ما، وَالْججُمْلَةُ الْفِعْلًِيَّةُ في مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرٌ لِما)
وَأَنْشَدَ أًَبو السّائِبِ: مِنَ الطَّويل
أَصِيخا لِداعِي حُبِّ لَيْلَى فَيَمِّما
صُدُورَ الْمَطايا نَحْوَها فَتَسَمَّعا
(أَصاخَ: رَكّزَ السَّمْعَ وَالِانْتِباهَ، يَمِّما: وَجِّها، نَحْوَها: الضَّميرُ يَعُودُ إلى لَيْلَى)
خَلِيلَيَّ إنْ لَيْلَى أَقامَتْ فَإنَّنِي
مُقِيمٌ، وَإنْ بانَتْ فَبِينا بِنا مَعَا
(خَلِيلَيَّ: الْخِطابُ لِاثْنَيْنِ لِأَنَّهُمْ كانُوا لا يَخْرُجُونَ أَقَلَّ مِنْ ثَلاثَةٍ، بانَتْ: فارَقَتْ)
وَإِنْ إنْثَنَتْ لَيْلَى بِرَبْعٍ يَحُوزُها
قَعِيدَكُما بِاللَّهِ أَنْ تّتَزَعْزَعا
(المَعْنَى: إنْ غَيَّرَتْ لَيْلَى وُجْهَتَها إلى مَكانٍ آخَرَ فُهُوًَ يُقْسِمْ عَلَيْهِما أنْ لا يَهْتَزّا بَلْ يُواصِلا إلَى وُجْهَتِها. القَعيدُ: الْمُضْنَى وَالقاعِدُ عَنِ السَّيْرِ)
لَوْ تَأَمَّلْنا الْأَبْياتَ نَفْهَمُ أَنَّ الْمَهْدِي لَمْ يَكُنْ هَمُّهُ الْمُديحَ وَإنَّما الشِّعْرُ. وَقَدْ أغْدَقَ على الْأَرْبَعَةِ مالًا وافِرًا.
النقيضَةُ قصيدَةٌ شعريَّةٌ لشاعِرٍ تَكُونُ رَدًّا وإجابَةً علَى قَصيدَةٍ أخرى لشاعِرٍ آخَرَ، ينقضُ فيها الرّادُّ مضامينَ وادِّعاءاتِ خصمِهِ، ويلتزمُ فيها الوزنَ والقافيةَ لقصيدَةِ خَصْمِه.
ويمكنُ أن تكونَ النقيضَةُ بَيْتًا واحِدًا مُفْحِمًا، أو أبياتًا وقصائِدَ.
ومن الأمثلةِ على البيتِ الواحِدِ وهو الأبرزُ في القصيدَةِ قَوْلُ حسّانَ بنِ ثابِتٍ يَذُبُّ عَن الرسول، عَلَيْهِ اَلسَّلامُ، هجاءَ سُفيانَ بنِ الْحارِثِ شاعرِ مكَّةَ:
من الوافرِ
أَتَهْجوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ
فَشَرِّكُما لِخَيْرِكُما الْفِداءُ
فَأَسْكَتَه.
ومِثْلُه في الإفحامِ ما حَدَثَ بَيْنَ ليلى الأخْيَلِيَّةِ صاحبَةِ تَوْبَةَ بنِ الْحُمَيِّرِ، عندما هجاها النابغةُ الْجَعْدِيُّ بِأبياتٍ فَأقذَعَ فيها، يمنعني الحياءُ أنْ أذكرَ منها أبياتًا عدا مَطْلَعَها: من الطّويل
ألا حَيِّيا لَيلَى وَقولا لها هَلَا
فَقَدْ رَكِبَتْ أَمْرًا أغَرَّ مُحَجَّلا
فَرَدَّتْ عَلَيْهِ وغلبَتْه بِقَصيدَةٍ فيها هذا البيْتُ:
تُعَيِّرُني داءً بِأُمِّكَ مِثْلُهُ
وَأيُّ حصانٍ لا يُقالُ لَهَا هَلَا
فسمِّيَ المغلَّبَ، وكانَ يخجلُ بعدَها أن يقولَ شِعْرًا، قَالَت
وعندما نذكرُ النقائضَ نعني بها نقائِضَ جريرٍ والفرزدَقِ والأخطلِ. والأهمُّ جريرٌ والفرزدَقُ.
وقد صمَدَ جريرٌ لِأكثرَ من أربعينَ شاعِرًا هَجَوْهُ فغلبَهم ، ولَم يصمُدْ منهم أمامَهُ إِلَّا الفرزدقٌ، فكانَ قِرْنًا عَصِيًّا عَلَيْهِ.
ولمّا سكنَ الأخطلُ عن هجاء جريرٍ ضَحِكَ ابنُه للنصرِ، فقالَ له أبوهُ: أدركتُه ياًبُنَي وله نابٌ واحِدٌ، ولو أدركتُه وله نابان لأكلني.
بالنسبة لنقائض جرير والفرزدق سأُحيلُ القرّاء
إلى النُّسخة المطبوعة بثلاثة مجلّدات وصدرت عن دار المثنى في بغداد.
شَرَحَ هذه النقائض التي تضمّ أكثر من ١٧٠٠ صفحة علّامةُ العرب أبو عُبيدَة مَعْمَرُ بن المثنّى
(ت ٨٢٤م) اللّغويُّ النحويُّ المؤرخُ، من عظماء المؤلفين العرب. في النصف الأوّل من القرن الثالث الهجري.
هذه النقائض حفظت نصفَ اللغةِ العربيّة، والأحداث التاريخيّة فيها حفظت تاريخ العرب منذ العصر الجاهلي الأَوَّل حتى القرن الثالث الهجري. وهي أكبرُ إجابةٍ وأصَحُّها للقائلينَ بانتحال الشعر العربي، حتى جعلونا نشكُّ خطأً في كلِّ قصيدَةٍ وصلتنا. يقلقنا دائمًا السّؤالُ الآتي: لمن هذه القصيدةُ؟ أصحيحٌ أنّها لامرئ القيس أم لغيره؟
طُبِعَت النقائضُ في ليدن في هولندا سنة ١٩٠٥م، على يدِ المستشرقين ، الذينَ غاروا على العربيَّةِ لجمالها أكثَرَ من أهلِها، وأُعيدَت طباعتُها في بغداد، وهي بَيْنَ أيدينا الْيَوْمَ.
>>>>
تابعٌ للنَّقائِض: أيُّهُما أشْعَرُ ؟
انشغلَ النَّاسُ في شعْرِ جَريرٍ والفرزدقِ. وكانَ الْمِرْبَدُ في الْبَصْرَةِ حَلَبَةَ الصِّراعِ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ. المربَدُ لُغَةً الْبَيْدَرُ، ولكنَّهُ في الْبصرةِ كانَ سُوقَ الإبِلِ القديمَةِ، يَؤُِمُّهُ الشُّعَراءُ ورُواتُهم، والخطباءُ والأعرابُ الفصحاءُ، وجامعو اللّغَةِ العربيَّةِ مِنْ أفواهِ الأعراب الفُصحاءِ الذينَ لم تتلَوَّثُ لُغَتُهُمْ بفعلِ الاندماجِ مع سكّانِ الْمَدَرِ. فبقيتْ نقيَّةً منَ شوائبِ الْعامِّيَّةِ والدَّخيلِ .
كانَ المربدُ مدرسةً للُّغَةِ العربيَّةِ،
وَالْأَدَبِ العربيّ، وأيّامِ العرَبِ يسمعونها من الْقُصّاص، في الْهواءِ الطَّلْقِ وفِي الْبَرَدَيْنِ.
وعندَما كانَ يجيءُ الفرزدقُ واسمه همّامُ بنُ غالبٍ وحاشيَتُهُ ومحِبُّو شعرِهِ، لِيُنْشِدَ قصيدَةً في هجاءِ جريرِ بنِ عَطِيّةَ الْخَطَفي ، يأتي الأخيرُ ومعه أيضًا حاشيتُهُ ومُؤَيِّدوهُ. ويستمِعُ الجميعُ بشغَفٍ إلى الإبداعِ الشَّعري دُونَ مخاصمَةٍ أو خِلاف وخصامٍ، وينصرِفُ الجميعُ إلى الدَّوْرَة القادِمةِ التي يرُدُّ فيها جَريرٌ على خصمِه، منتظرين ذلك على أحَرَّ من الْجَمْرِ.
وصَمَدَ الْقَرينانِ الواحِدُ للآخَرِ، وأحَبَّ النَّاسُ حلاوَةَ شعرِ جريرٍ وحُسْنَِ طَلاوتِهِ، وعذوبَةَ ألْفاظِهِ، وسهولةَ نَظْمِهِ ورصْفِهِ. ولكنَّهُم سَرعانَ ما ينقلبونَ عندما يسحرُهم الفرزدقُ بجزالةِ لفظِهِ ومتانةِ أسلوبهِ وصلابةِ تراكيبِه، وهو يصِفُ مفتخرًا بمجدِ آبائِه ومآثرِهم ومناقبِهم، أمامَ وضاعةِ قَومِ جريرٍ وآبائِه.
احتارَ النَّاسُ في أمْرِهِما. ووقفَ جريرٌ عاجِزًا أمامَ القنابِلِ المدَوِّيَةِ، عندما انفجرتْ قريحةُ الفرزدقِ
في تحدِّيهِ لجريرٍ حينَ قالَ له: من الطّويل
فَوا عَجَبًا حتّى كُلَيْبٌ تَسُبُّني
كَأنَّ أَبَاها نَهْشَلٌ وَمُجاشِعُ
أُولَئِكَ آبائي فَجِئْني بِمِثْلِهِم
إذا جَمَعَتْنا يا جَريرُ الْمَجامِعُ
لم يستَطِعْ جريرٌ الرّدَّ على خصمِهِ فيما قالَهُ من حقائقِ الشُّهْرَةِ والنسبِ. هل يفخرُ بأبيهِ راعي الضَّأْنِ، لقدكان الفرزدقُ يُعَيِّرُهُ به ويخاطبُهُ بابنِ الْمُراغةِ (الأتانُ التي تتمرَّغُ في الترابِ القذر).
وصَبَرَ جريرٌ حتّى جَاءَ يومُ الفصلِ. فَقَدْ قَرَّرَ أحَدُ نبلاءِ الْبَصْرَةِالمعروفين أن يزورَ الْفرزدَقَ وجريرًا، دونَ أنْ يعلنَ موعِدَ الزيارةِ. فبدأَ بالفرزدقِ، فوجدَهُ صادقًا في شعرِه. ثمّ انثنى إلى جريرٍ وسألَهُ: أيُّكُما أشعرُ يا جَريرُ ؟" بِاللّهِ عليك أصدِقني الْقَوْلَ
فقالَ جريرٌ: هيّا معي، فأخذَهُ إلى زريبةِ الضَّأْنِ، ونادى: يا أبتِ اُخرُجْ إلينا. فخرجَ رجلٌ أشعثُ الشِّعرِ، رَثُّ الثِّيابِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، يسيلُ منها اللَّبَنُ،
وقال: ما رَأْيُكَ بِمَنْ ساوى هذا الشيخَ - الذي يرضعُ اللَّبَنَ من ضَرْعِ الشّاةِ - بِشيوخِ دارِمٍ رهطِ
الفرزدقِ ؟
فأجابَ الرجُلُ: أَنْتَ أشعرُ يا أبا حَرْزَةَ. أَنْتَ تغرِفُ من بحرٍ، والفرزدقُ ينحتُ من صخرٍ ، وشتّانَ ما بَيْنَ البحرِ والصَّخْرِ!!
>>>>>
الْخَِلِيفَةُ الْمَهْدِي الْعَبّاسِي وَالشُّعَراءُ الْأَرْبَعَةُ:
كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ الْخَليفَةَ الْعَبّاسِيَّ الثّالِثَ محمّدًا الْمَهْدِيَّ لا يَقِلُّ صَرامَةً عَنْ والِدِهِ أَبي جَعْفَرٍ الْمَنْصورِ، حَتَّى قَرَأْتُ خَبَرًا في كِتابِ (الْمَحاسِنُ وَالْمَساوِئُ) لِلشَّيخِ إبْراهِيمُ ابنُ مُحَمَّدٍالْبَيْهَقِيُّ (ت ٣٢٠ هج) الَّذِي سَطَعَ نَجْمُهُ أَيّامَ الْخَليفَةِ الْمُقْتَدِرِ . وَهوَ غَيْرُ الْبَيْهَقِيِّ صاحِبِ مَوْسوعَةِ السُّنَنِ الْكُبْرَى.
مَعْلّوماتُنا عَنِ مَؤَلِّفِ الْكِتابِ شَحيحَةٌ، لَمْ يَتْرُكْ لَنا أَثَرًا غَيْرَهُ. وَهُوَ كِتابٌ ضَخْمٌ عَظُيمُ الْفائِدَةِ، في مَحاسِنِ الشَّخْصِيّاتِ وَسائِرِ الْأَشْياءِ وَمَساوِئِها، طُبِعَ نَصُّ الْكِتابِ في دار صادِر دونَ تَحْقيقٍ أَوْ مُقَدِّمَةٍ أَوًْ شَرْحٍ يُعَرِّفُ بِالْكِتابِ وَمُؤَلِّفِهِ.
دامَتْ خِلافَةُ الْمَهْدِيِّ عَشْرَ سَنَواتٍ، وَهوَ والِدُ الْخَليفَتَيْنِ الْهادِي والرَّشِيدِ. وَكانَ مُحِبًّا للِشًِّعْرِ مُقَرِّبًا لِلشُّعَراءِ وَالْأُدَباءِ وَالْعُلَماءِ، شَديدَ الْبَطْشِ بِالزَّنادِقَةِ.
يَعُودُ الْفَضْلُ في حُبِّهِ لِلشِّعْرِ إلى والِدِهِ الْمَنْصورِ. فَقَدْ أرادَ أنْ يُعَلِّمَهُ الْعَرَبِيَّةَ وَتاريخَ الْعَرَبِ، خَوْفًا عَلَيْهِ مِنَ الشُّعُوبِيَّةِ عِنْدَما كانَ وَلِيًّا لِلْعَهْدِ، فَاسْتَقْدَمَ لَهُ عالِمَيْنِ ، هُما عالِمُ الْعَرَبِيَّةِ الْمُفًَضَّلُ الضَّبِيُّ الَّذي عَلَّمَهُ القصائِدَ الْمَعْروفَةَ بِالْمُفَضَّلِيّاتِ، وَهِيَ مِنْ عُيُونِ الشِّعْرِ الْعَرَبيي.
أَمّا الْمُعَلِّمُ الثّاني فَهُوَ مُحَمَّدُ بنُ إسحاقَ بنِ يَسار صاحِبُ السًِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ الشَّريفَةِ.
كانَ الْخَليفَةُ الْمَهْدِي في الْمَدينَةِ الْمُنَوَّرَةِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ شُعَراءَ بَعْدَ أَنْ أَذِنَ لَهُمْ. وَهُمْ: الْمُغِيرَةُ ابنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ المَخْزوميُّ (فَقِيهُ الْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفاةِ مالِكِ ابنِ أَنَسٍ صاحِبِ الْمُوَطَّأِ ، (ت ١٨٨هج) وَأَبُو السًائِبِ، وَالْعُثْمانِيُّ بنُ لُؤْلُؤِ الرَّطْب، وَابْنُ أُخْتِ الشّاعِرِ الْأَحْوَصِ.
قالَ الْمَهْدِي لَهُمْ أَنْشِدوني.
فَأَنْشَدَ الْمُغِيرَةُ: مِنَ الطّاويل
وَلِلنّاسِ بَدْرٌ في السَّماءِ يَرَوْنَهُ
وَأَنْتَ لَنا بَدْرٌ عَلى الْأَرْضِ مُقْمِرُ
فَبِاللَّهِ يا بَدْرَ السَّماءِ وَضَوْءَهُ
تَزالُ تُكافِي عُشْرَ ما لَكَ أَضْمُرُ
(أَقْسَمَ الشّاعِرُ أنَّ الْخليفَةَ يُكافِئُ بَعُشْرِ ما لَهُ وَيراهُ قَليلًا)
وَما الْبَدْرُ إلّا دُونَ وَجْهِكَ في الدُّجَى
يَغِيبُ فَتَبْدُو حِينَ غابَ فَتُقْمِرُ
وَما نَظَرَتْ عَيْنِي إلى الْبَدْرِ ماشِيًا
وَأَنْتَ فَتُمْسِي في الثِّيابِ وَتُسْحِرُ
(البَدْرُ لا يَمُشي لِيَتَفَقَّدَ رَعِيَّتَهُ، أمّا أَنْتَ فَتَمْشِي بِلِباسِكَ مُتَفَقِّدًا إلى السَّحَرِ)
وَأَنْشَدَ ابْنْ أُخْتِ الْأَحْوَصِ: بَحْرُ الْبَسيط
قالَتْ كِلابَةُ: مَنْ هَذا فَقُلْتُ لِها
أَنا الَّذِي أَنْتِ مِنْ أَعْدائِهِ زَعَمُوا
إنِّي امْرُؤٌ لَجَّ بِي حُبٌّ فَأَحْرَضَنِي
حَتَّى بَلِيتُ وَحَتَّى شَفَّنِي سَقَمُ
(الْبَيْتانِ لِلْعَرْجِي في ديوانِهِ (ص ٣١٣) أَحَدِ شُعَراءِ الْمَدِينَةِ الْكِبارِ الْغَزِلينَ كَالْأَحْوَصِ وابنِ الرُّقَيّاتِ وَابْنِ رَبيعَةَ. وَهُما مِنْ قَصيدَةٍ ضَمَّتْ ثَمانِيَةً وَثَلاثينَ بَيْتًا مَطْلَعُها:
حُورٌ بَعَثْنَ رَسُولًا في مُلاطَفَةٍ
ثَقْفًا إذا أَسْقَطَ النَّسّاءَةُ الَوَهِمُ
لَجَّ: أَلَحّ، أَحْرَضَني: أَسْقَمَني، شَفَّني: أَنْحَلَنِي)
وَأَنْشَدَهُ الْعُثْمانِيُّ الْمَخْزُومًِيُّ:
رَمَى الْقَلْبُ مِنْ قَلْبي االسَّوادَ فَأَوْجَعا
فَصاحَ فَصِيحٌ بِالرَّحًِيلِ فَأَسْمَعا
(الْأَبْياتُ الثَّلاثَةُ الْأولَى مَنْسُوبَةٌ لِلْمُغِيرَةِ الْمَخْزوميِّ الْمَذْكُورِ سابِقًا، وهي في ديوانِهِ. الظّاهِرُ أَنَّ الْتِباسًا حَدَثَ في الْأَسماءِ عِنْدَ طِباعَةِ مَخْطُوطَةِ كِتاب المحاسن والْمَساوِئ. القَلْبُ فاعِلُ رَمَى، السَّوادَ مَفْعًولٌ بِهُ. أَصْلُ الْكَلامِ: رِمَى الْقَلْبُ السَّوادَ مَنْ قَلْبِي. الْقَلْبُ لِلْمَمْدُوحِ)
وَغَرَّدَ حادي الْبَيْنِ وَانْشَقَتِ العَصا
فَأَصْبَحْتُ مَسْلُوبَ الْفُؤادِ مُفَجَّعا
(اِنْشَقَّتْ عَصا الْقَوْمُ: اِخْتَلَفُوا وَتَفّرَّقُوا)
كَفَى حُزَنًا مِنْ حادِثِ الدَّهْرِ أَنَّنِي
أَرَى الْبَيْنَ لا أَسْطِيعُ لَلْبَيْنِ مَدْفَعا
(كَفَى: فِعْلٌ ماضٍ فاعِلُهُ الْمَصْدَرُ الْمُؤَوّل مِنْ أَنّ وَاسْمِها وَخبَرُها، تَقْدِيرُهْ رُؤْيَةُ، حَزَنًا: تَمْييزٌ مَنصوبٌ)
وَقَدْ كُنْتُ قَبْلَ الْيَوْمِ بِالْبّيْنِ جاهِلًا
فَيا لَكَ بَيْنًا ما أَمَرَّ وَأَوْجَعا
(ما أَمَرَّ: ما التَّعَجُّبِيَّةُ، وَهِيَ نَكًِرَةٌ تامَّةٌ مَعْناها شَيْءٌ في مَحَلِّ رَفْعٍ مُبْتِدَأٌ، أَمَرَّ: فِعْلٌ ماضٍ لِلتَّعَجُّبِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ يَعودُ إلى ما، وَالْججُمْلَةُ الْفِعْلًِيَّةُ في مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرٌ لِما)
وَأَنْشَدَ أًَبو السّائِبِ: مِنَ الطَّويل
أَصِيخا لِداعِي حُبِّ لَيْلَى فَيَمِّما
صُدُورَ الْمَطايا نَحْوَها فَتَسَمَّعا
(أَصاخَ: رَكّزَ السَّمْعَ وَالِانْتِباهَ، يَمِّما: وَجِّها، نَحْوَها: الضَّميرُ يَعُودُ إلى لَيْلَى)
خَلِيلَيَّ إنْ لَيْلَى أَقامَتْ فَإنَّنِي
مُقِيمٌ، وَإنْ بانَتْ فَبِينا بِنا مَعَا
(خَلِيلَيَّ: الْخِطابُ لِاثْنَيْنِ لِأَنَّهُمْ كانُوا لا يَخْرُجُونَ أَقَلَّ مِنْ ثَلاثَةٍ، بانَتْ: فارَقَتْ)
وَإِنْ إنْثَنَتْ لَيْلَى بِرَبْعٍ يَحُوزُها
قَعِيدَكُما بِاللَّهِ أَنْ تّتَزَعْزَعا
(المَعْنَى: إنْ غَيَّرَتْ لَيْلَى وُجْهَتَها إلى مَكانٍ آخَرَ فُهُوًَ يُقْسِمْ عَلَيْهِما أنْ لا يَهْتَزّا بَلْ يُواصِلا إلَى وُجْهَتِها. القَعيدُ: الْمُضْنَى وَالقاعِدُ عَنِ السَّيْرِ)
لَوْ تَأَمَّلْنا الْأَبْياتَ نَفْهَمُ أَنَّ الْمَهْدِي لَمْ يَكُنْ هَمُّهُ الْمُديحَ وَإنَّما الشِّعْرُ. وَقَدْ أغْدَقَ على الْأَرْبَعَةِ مالًا وافِرًا.