أخي الحبيب علي
كم مضى من الوقت دون أن أحدثك كما اريد؟ ربما كان كل الوقت كذلك فقد فرضت علينا أيامنا أن نفترق منذ دراستك المتوسطة! ولست أدري أي قدر هذا الذي يضع أخوة مع وقف التنفيذ او ما يشبه ذلك حين يحل الفراق محل التواصل المقيم.
إيه .. دعنا من هذا ولنحمد الله، على ان ما اقام في القلوب من الود ما يسخر من تلك الافتراقات الجغرافية التي استمرأت الامتداد لتتحول الى زمن من شوق وعمر من قلق وأمد من مخاوف ولهفة لا يعلم إلا الله نهاية لها أو تطامنا على الاقل.
عذرا، عزيزي علي، إذ فرضت هذه البداية نفسها لأن كل ذلك كتبته لك فيما سبق كان على عجل .. وفي إحدى المرات كنت أكتب والرسول الذي سيحمل كتابتي يجلس امامي منتظرا أن انتهي لكنني اكتب الآن ولست ادري هل ستجد كتابتي هذه من يحملها لك اولا، وان كنت أعترف إنني اكتبها بوحي من معلومة ان ثمة من سيأتي اليك قريبا، حسنا فاسمح لي ان أعبر الحديث عن الاشواق إذ إتخذت مسراها في دمي الذي يستوعب يومياتنا بكل تناقضاتها العجائبية، ولن أكرر الآن مخاوف تعصرني وتثقل أحيانا حد أن تجد مساربا لها في الحديث المسموع مع النفس كالهذيان وما هو كذلك بل هو فيض مداراة او كتمان، وسأحاول ان اتخلص من الوقوف عند العديد من ملامح الزمن الذي يحملني او أعيشه حتى ان كنت أنت ترغب في أن تعرف الكثير عني الآن، ولذلك سأبدأ بداية أخرى فأشكرك كل الشكر واقبلك قبلة الامتنان إذ اسعدتني بذكريات "مجرد ذكريات"* الذي تدفق بمفردات صنعنا مثلها بذات الروح وبالصفاء نفسه وبالحماس نفسه، لقد انعشت تلك الذكريات / الوقائع في عقلي وقلبي رغبات جديدة من عزم الاستقامة على النقاء، واقول جديدة لأن القديم من الاستقامة ما اهتز لحظة واحدة ولم يخب بصره رغم مضي السنين بالتوالي ورغم علامات مرورها على الجسد، ولذا أحاول ان أجد فسحة من وقتي الضيق كخرم ابرة لإعادة قراءتها!.. إن تيسر لك ان تكتب لصاحب الذكريات فاكتب له عني هذا واضف اليه رغبتي ان اقول له اننا نخطيء كثيرا حين ننكمش في الحديث عن انفسنا بعد الذي قدمناه وكأنه الهواء في طبيعيته أو كأنه البديهية بينما كان غيرنا يدوسون علينا كي يفرحوا او يكسبوا، لقد كنَا – دونما اية مزايدة او ادعاء – ملائكة في دنيا شيطانية، ولعل الشر الذي يفتك بها الآن هو العقاب الذي ينزل بها لانها لم تصغ لغنائنا ولم تصدق حلمنا، وانا هنا اتحدث عمًن انسجم في القول والعمل مترفعا عن رذيلة النفاق متعاليا على مكاسب انانية، لقد قرأته وأقرأته لطه، فطار به مثلي فرحا، فالشكر لك موصولا بعدد حروفه وحروف كانت معه.
ثم أقف عند "بغداد ذلك الزمان" .. وأدهش للكثير مما رشح لي عن مؤلفه .. فهو فيه ليس كالذي كان من جمال التعبير، ام ترانا كنا ننظر اليه بصورته الاولى فنضفي عليه ما ليس فيه؟ لقد كان اسلوبه أو بنائه أدنى بكثير من موضوعه رغم ما فيه من حميمية وأهمية، تخيلته بعد قراءتي عنوان الكتاب انه سيرتقي فيه عتبة ادبية رفيعة لتلج السيرة او التاريخ الاجتماعي، لكنه كان ساردا عاديا، ولذا كانت ملاحق الكتاب اجمل من المتن أي ان ما كتبه غيره أجمل مما كتب هو، حين يخلط أو يجهل من هو المدفون الى جانب موسى الكاظم (ع) حين يقول انه محمد الباقر؟
ومع كل ذلك يبقى مسعى في درب نحتاج لجهود اخرى ان تسير فيه .. ويبقى وثيقة عملية للمقارنة بين الاستقامة التي مثلها مؤلف "مجرد ذكريات" وكيف تنفخ في الإسلوب والسطور ألق التوهج والتماسك، وبين التقلب الذي يفرز التفكك حتى في استرجاع عمر صاحبه نفسه! وهي مقارنة تصلح في باب دراسة اجتماع الادب او علم نفس الكتابة، والأدهى من تفكك إسلوب المؤلف ان النسخة التي وصلتني فيها ملزمة مطبوعة بين صفحة واخرى ( كتابة / بياض ) مما اضاع عليّ نصف احد الفصول.
هل استمر فاشكرك على "حوارات الشهر" **هذه الحوارات الخصبة – وهي الآن لدى طه، يقرأها بعد ان حدثته عنها – ام على غيرها وهو كثير؟ ولكني اضافة للشكر أو فضلا عنه اجدد دعواتي الصادقات بأن ينشر الله عليك جناحي رحمته وحماه وان يحيطك بجنة تقيك دواعي كل مكروه .. وان يغدق عليك وأسرتك عافية ورزقا وأمانا.
لعلك ايها العزيز تريد ان احدثك بغير هذا .. عن احوالي مثلا .. وانا ماض في استعادة قراءات قد تغري باستعادة غيرها ولكن لا تلمني فهذه القضية هي الآن مشكلتي الأم كشخص، لأن العمر قد تقدم كثيرا عن مسوغات الانتظار والتأجيل ولذا تكاد كل الاحلام الثقافية والمشروعات الابداعية ان تتبدد او تنثر سرابا امام حصار اكتساب القوت، انا اعمل يوميا 14- 16 ساعة اذا اعتبرنا ساعتي السفر والعودة .. وعملي فيه الكثير من المنغصات .. أخطاء فنية هي الخطايا، غباء إداري او غرور ثمرته خراب انتاجي، نفاق وغبن يشمل كثيرين ومنهم أخاك بالطبع رغم إنني في رأس احد أهم اقسام المصنع او على قائمة الرواتب الثقيلة، ان العمل يستهلكني جسديا ونفسيا .. وحين اعود، ابدأ كفاحا ضد المنطق البايولوجي في الجسد، اريد لجسدي الاّ يتعب لكنه تعب، واريد له الاّ يستسلم للنعاس ولكنه ينهزم، والشقة تتسع بين ما يجب عليّ انجازه ثقافيا وبين ما يتاح لي فأسقط في حزن الفقدان وعار التخلف .. قدم لنا في احد اماسي "اتحاد ادباء بابل" – وما زلت نائبا لرئيسه بعد الانتخابات الاخيرة – الاخ ناجح المعموري محاضرة عن تجربته في عمّان وكيف انجز ستة كتب وكيف كتب وكيف قال وكيف وكيف .. وقد عقبت عليه بدعوة المستمعين لاستخلاص الدرس الاهم من حديثه وهو تحرر الكاتب من سوط العيش ومتطلباته .. فان اغراق المثقف العراقي بهموم الفقر اكبر اهداف الحصار "الثقافية "وأخطر معاولها لتدمير الروح العراقية اخلاقيا، ولذا فان تخصيص رواتب للادباء اخيرا قد حرّر الكثير منهم من هموم عديدة، وكالعادة لم يشمل ذلك اخاك، فقد جاءني امس من يقول لي ان ثمة لجنة للاعتراضات فسارع اليها قبل فوات المهلة المحددة .. فنهرته قائلا انا لا استجدي، ومن تجاهل عمرا من الكتابة المستمرة لا يستحق استعطافي له، ادع لي بالعافية كي استمر بالعمل فجاءني في اليوم التالي ليقول لي انك اخجلتني، ولكن أليس مضنيا ان تستمر هذه المكابرة حتى انطفاء العمر؟؟ لقد كنت اخطط كي اتفرغ للارض والزراعة فاكسب وقتا لعملي الثقافي، فأصاب الجفاف وسوء ادارة الري خططي بالبوار إذ تفاقمت شحة مياه الري الى حد عجزنا عن زراعة الموسم الصيفي المنقضي .
لقد جاء ما ارسلته لحيدر في اليوم الذي اعلن فيه التحول من الدولار فانخفضت قيمته فحل التردد بين القبول بها وبين الانتظار، وما سبق لك أن ارسلت به من قبل اضفت اليه وارد موسم زراعي جيد سابق فاشتريت قطعة ارض مجاورة لنا من جهتين مما لا يمكن السماح بأن تذهب لغريب يحاصرنا ولذا كان لا بد من شرائها، وهكذا حدث، ولكن ذلك حدث في زمن الجفاف مما جعل المشروع مجرد أمل قد يتحقق او لايتحقق لكن المنطق كان يفرض الدخول فيه ! ولا بأس أفليس هو عمر الخسائر ؟؟
قل لي انت كيف احوالك؟ ومتى وكيف سنلتقي بحق السماء؟ انا افكر جديا بزيارتك، وعسى الله ألاّ يخيب مسعاي هذا تحت وطأة مفاجآت او مشكلات ليست متوقعة أو بالاحرى هي منذرة، فصحة ام ربيع ليست مستقرة منذ اكثر من شهرين، وصارت هي حساسة لأقل هاجس أو اصغر حدث حيث تتسارع ضربات قلبها وتخنقها "الضربة الهاجرة" كما يسميها الاطباء، فتسارع الى حبة من اقراص "الأنجيد" تحت اللسان واحيانا اكثر من واحدة! ولا يكاد يمر شهر دون ان ادفع لحيدر مبلغا كبيرا يتابع به معاملة تسريحه التي لا تريد ان تنتهي منذ اكثر من عشرة شهور جزاء لخدمته الحسنة دون غياب !! وبالمناسبة، ان ما ترسله اليهم اعطيه لهم فعلا طالما خصصته لهم بالاسم فما لأزهر لأزهر وما لربيع لربيع وهكذا، عافاك الله ورعاك.
مقطع من الرسالة بخطه الجميل
اخي الحبيب :
بودي الاستمرار في البوح ولكن هل هذا ممكن؟ لست ادري ولكني سأفعل ولتكن وقفة عابرة عند الرسالة الشفهية التي نقلها لك الاخ ابو محمد، هذا المتعب النبيل الذي عاد بكرامته وخسارته .. وكل ما اقول في الموضوع انها صارت لي مصدر قلق عليك، و دع عنك ما سأقوله عنك فالطرف الآخر*** لديه صورة أو مقياسا خاصا به بصرف النظر عن قولي، ومع اني لم اخبر أم ربيع بزيارتي لهم إلا ان الامر تسرب اليها من بوابات اخرى بصيغة انك موضع استفهام فامتلأت رعبا يمتد منك ويمر عبري ولا ينتهي بالأولاد! ولكنني هونت عليها المسألة .. واتفقنا ان نزيد دعواتنا لك بالسلامة.. دعوات اخرى .. وليحفظك الله ولا تبتئس بما يفعلون فلنا رب يرحمنا غير انني اتمنى عليك كأب واخ ان تكون – وهذا ما يلقي عليك عبئا – في الدرجة القصوى من التحسب واليقظة لتبقى النموذج الاحلى، ومن الله التوفيق، وتذكّر انك معنا دائما حتى ان حيدر قد رآك ذات ليلة في منامه واستيقظ يحدثنا مسرورا لأنه رآك انيقا مهيبا ومتأسفا لانه لم يتحدث معك، وطافت صورتك في منام احدى خالات ربيع وانت تزف الى عروس بهية جدا، ثرية جدا حتى انها جاءت بسيارتها المرسيدس لتحملكما الى عش العرس وكنت انت متألقا وكلنا معك وكاننا نزفك لعروسك! والحق انني تشاءمت لذلك .. واستحالت الاضواء والبريق في منام هذه الاخت الى كابوس يؤرقني.
علاوي الحبيب
برغم كل تلك التجاذبات وحصار العمل الطويل اسهمت في مؤتمرات علمية وأدبية قدمت فيها ابحاثا ومداخلات تتعلق بالبيئة والتلوث واقتصاديات اللقاح البكتيري ( جامعة بابل و جامعة القادسية ) وعن البعد الثقافي للنقد الادبي – عبد الجبار عباس نموذجا ( جامعة الكوفة ) اضافة لمداخلات في جلسات المؤتمر، وامسيات مطولة عن المسؤولية الثقافية وعن تجربتي مع الصحافة الادبية ضمن البرامج الثقافية لاتحاد الأدباء في بابل ونقابة الفنانين فيها ... وانجزت دراسات مازالت مسودات لأني لا اجد الوقت لاعادة كتابتها!! ناهيك عن المشاريع المبتورة .. والمؤجلة، غير انني صرت اسمي ذلك (الابداع ركضا) فأنا انجز ذلك وانا اركض ما بين العمل وسيارات الاجرة وملاحقة الواجبات .. حتى انني حضرت امس الاول لموعد أمسية اتحاد الادباء ركضا لتقاطع موعدها مع وجودي في المعمل ولانني كنت سأقدمها نيابة عن الشاعرة ريم قيس كبه التي اعتذرت لمرضها ولانني هيأت دراسة عن مجموعتها الاولى .. وعدت الى البيت ليلا لأكمل مسودة عن مجموعة شعرية لناهض الخياط وهكذا.
الاولاد بخير ( والاهل والموتى يخصون الاقارب بالسلام ) والحمد لله و ( القشه معدن ) و ( يادار مادخلك شر ) و ( توته توته خلصت الحدوته ) ... الخ، المهم ان تسلم انت وان اسعد بنجاحك، والناس الذين تحبهم جميعا يبادلونك الحب والتحيات والتمنيات.
20-12-1999
*هنا يشير الى كتاب "ذاكرة عراقية" للكاتب روفائل بطي بجزئيه الذي كنت ارسلته اليه مع مجموعة اخرى من الكتب بينها ايضا كتاب عزيز الحاج عن بغداد وذلك رفقة الشاعرة الصديقة يرم قيس كبه التي كانت تزور عمّان واحملها لقاسم بعض ما يحب من اصدارات ثقافية.
**مطبوع مسلسل تصدره مؤسسة عبد الحميد شومان الثقافية في عمّان.
*** يشير هنا بشكل غير مباشر الى استدعائه من قبل مخابرات النظام السابق بسبب عملي في المعارضة العراقية.
كم مضى من الوقت دون أن أحدثك كما اريد؟ ربما كان كل الوقت كذلك فقد فرضت علينا أيامنا أن نفترق منذ دراستك المتوسطة! ولست أدري أي قدر هذا الذي يضع أخوة مع وقف التنفيذ او ما يشبه ذلك حين يحل الفراق محل التواصل المقيم.
إيه .. دعنا من هذا ولنحمد الله، على ان ما اقام في القلوب من الود ما يسخر من تلك الافتراقات الجغرافية التي استمرأت الامتداد لتتحول الى زمن من شوق وعمر من قلق وأمد من مخاوف ولهفة لا يعلم إلا الله نهاية لها أو تطامنا على الاقل.
عذرا، عزيزي علي، إذ فرضت هذه البداية نفسها لأن كل ذلك كتبته لك فيما سبق كان على عجل .. وفي إحدى المرات كنت أكتب والرسول الذي سيحمل كتابتي يجلس امامي منتظرا أن انتهي لكنني اكتب الآن ولست ادري هل ستجد كتابتي هذه من يحملها لك اولا، وان كنت أعترف إنني اكتبها بوحي من معلومة ان ثمة من سيأتي اليك قريبا، حسنا فاسمح لي ان أعبر الحديث عن الاشواق إذ إتخذت مسراها في دمي الذي يستوعب يومياتنا بكل تناقضاتها العجائبية، ولن أكرر الآن مخاوف تعصرني وتثقل أحيانا حد أن تجد مساربا لها في الحديث المسموع مع النفس كالهذيان وما هو كذلك بل هو فيض مداراة او كتمان، وسأحاول ان اتخلص من الوقوف عند العديد من ملامح الزمن الذي يحملني او أعيشه حتى ان كنت أنت ترغب في أن تعرف الكثير عني الآن، ولذلك سأبدأ بداية أخرى فأشكرك كل الشكر واقبلك قبلة الامتنان إذ اسعدتني بذكريات "مجرد ذكريات"* الذي تدفق بمفردات صنعنا مثلها بذات الروح وبالصفاء نفسه وبالحماس نفسه، لقد انعشت تلك الذكريات / الوقائع في عقلي وقلبي رغبات جديدة من عزم الاستقامة على النقاء، واقول جديدة لأن القديم من الاستقامة ما اهتز لحظة واحدة ولم يخب بصره رغم مضي السنين بالتوالي ورغم علامات مرورها على الجسد، ولذا أحاول ان أجد فسحة من وقتي الضيق كخرم ابرة لإعادة قراءتها!.. إن تيسر لك ان تكتب لصاحب الذكريات فاكتب له عني هذا واضف اليه رغبتي ان اقول له اننا نخطيء كثيرا حين ننكمش في الحديث عن انفسنا بعد الذي قدمناه وكأنه الهواء في طبيعيته أو كأنه البديهية بينما كان غيرنا يدوسون علينا كي يفرحوا او يكسبوا، لقد كنَا – دونما اية مزايدة او ادعاء – ملائكة في دنيا شيطانية، ولعل الشر الذي يفتك بها الآن هو العقاب الذي ينزل بها لانها لم تصغ لغنائنا ولم تصدق حلمنا، وانا هنا اتحدث عمًن انسجم في القول والعمل مترفعا عن رذيلة النفاق متعاليا على مكاسب انانية، لقد قرأته وأقرأته لطه، فطار به مثلي فرحا، فالشكر لك موصولا بعدد حروفه وحروف كانت معه.
ثم أقف عند "بغداد ذلك الزمان" .. وأدهش للكثير مما رشح لي عن مؤلفه .. فهو فيه ليس كالذي كان من جمال التعبير، ام ترانا كنا ننظر اليه بصورته الاولى فنضفي عليه ما ليس فيه؟ لقد كان اسلوبه أو بنائه أدنى بكثير من موضوعه رغم ما فيه من حميمية وأهمية، تخيلته بعد قراءتي عنوان الكتاب انه سيرتقي فيه عتبة ادبية رفيعة لتلج السيرة او التاريخ الاجتماعي، لكنه كان ساردا عاديا، ولذا كانت ملاحق الكتاب اجمل من المتن أي ان ما كتبه غيره أجمل مما كتب هو، حين يخلط أو يجهل من هو المدفون الى جانب موسى الكاظم (ع) حين يقول انه محمد الباقر؟
ومع كل ذلك يبقى مسعى في درب نحتاج لجهود اخرى ان تسير فيه .. ويبقى وثيقة عملية للمقارنة بين الاستقامة التي مثلها مؤلف "مجرد ذكريات" وكيف تنفخ في الإسلوب والسطور ألق التوهج والتماسك، وبين التقلب الذي يفرز التفكك حتى في استرجاع عمر صاحبه نفسه! وهي مقارنة تصلح في باب دراسة اجتماع الادب او علم نفس الكتابة، والأدهى من تفكك إسلوب المؤلف ان النسخة التي وصلتني فيها ملزمة مطبوعة بين صفحة واخرى ( كتابة / بياض ) مما اضاع عليّ نصف احد الفصول.
هل استمر فاشكرك على "حوارات الشهر" **هذه الحوارات الخصبة – وهي الآن لدى طه، يقرأها بعد ان حدثته عنها – ام على غيرها وهو كثير؟ ولكني اضافة للشكر أو فضلا عنه اجدد دعواتي الصادقات بأن ينشر الله عليك جناحي رحمته وحماه وان يحيطك بجنة تقيك دواعي كل مكروه .. وان يغدق عليك وأسرتك عافية ورزقا وأمانا.
لعلك ايها العزيز تريد ان احدثك بغير هذا .. عن احوالي مثلا .. وانا ماض في استعادة قراءات قد تغري باستعادة غيرها ولكن لا تلمني فهذه القضية هي الآن مشكلتي الأم كشخص، لأن العمر قد تقدم كثيرا عن مسوغات الانتظار والتأجيل ولذا تكاد كل الاحلام الثقافية والمشروعات الابداعية ان تتبدد او تنثر سرابا امام حصار اكتساب القوت، انا اعمل يوميا 14- 16 ساعة اذا اعتبرنا ساعتي السفر والعودة .. وعملي فيه الكثير من المنغصات .. أخطاء فنية هي الخطايا، غباء إداري او غرور ثمرته خراب انتاجي، نفاق وغبن يشمل كثيرين ومنهم أخاك بالطبع رغم إنني في رأس احد أهم اقسام المصنع او على قائمة الرواتب الثقيلة، ان العمل يستهلكني جسديا ونفسيا .. وحين اعود، ابدأ كفاحا ضد المنطق البايولوجي في الجسد، اريد لجسدي الاّ يتعب لكنه تعب، واريد له الاّ يستسلم للنعاس ولكنه ينهزم، والشقة تتسع بين ما يجب عليّ انجازه ثقافيا وبين ما يتاح لي فأسقط في حزن الفقدان وعار التخلف .. قدم لنا في احد اماسي "اتحاد ادباء بابل" – وما زلت نائبا لرئيسه بعد الانتخابات الاخيرة – الاخ ناجح المعموري محاضرة عن تجربته في عمّان وكيف انجز ستة كتب وكيف كتب وكيف قال وكيف وكيف .. وقد عقبت عليه بدعوة المستمعين لاستخلاص الدرس الاهم من حديثه وهو تحرر الكاتب من سوط العيش ومتطلباته .. فان اغراق المثقف العراقي بهموم الفقر اكبر اهداف الحصار "الثقافية "وأخطر معاولها لتدمير الروح العراقية اخلاقيا، ولذا فان تخصيص رواتب للادباء اخيرا قد حرّر الكثير منهم من هموم عديدة، وكالعادة لم يشمل ذلك اخاك، فقد جاءني امس من يقول لي ان ثمة لجنة للاعتراضات فسارع اليها قبل فوات المهلة المحددة .. فنهرته قائلا انا لا استجدي، ومن تجاهل عمرا من الكتابة المستمرة لا يستحق استعطافي له، ادع لي بالعافية كي استمر بالعمل فجاءني في اليوم التالي ليقول لي انك اخجلتني، ولكن أليس مضنيا ان تستمر هذه المكابرة حتى انطفاء العمر؟؟ لقد كنت اخطط كي اتفرغ للارض والزراعة فاكسب وقتا لعملي الثقافي، فأصاب الجفاف وسوء ادارة الري خططي بالبوار إذ تفاقمت شحة مياه الري الى حد عجزنا عن زراعة الموسم الصيفي المنقضي .
لقد جاء ما ارسلته لحيدر في اليوم الذي اعلن فيه التحول من الدولار فانخفضت قيمته فحل التردد بين القبول بها وبين الانتظار، وما سبق لك أن ارسلت به من قبل اضفت اليه وارد موسم زراعي جيد سابق فاشتريت قطعة ارض مجاورة لنا من جهتين مما لا يمكن السماح بأن تذهب لغريب يحاصرنا ولذا كان لا بد من شرائها، وهكذا حدث، ولكن ذلك حدث في زمن الجفاف مما جعل المشروع مجرد أمل قد يتحقق او لايتحقق لكن المنطق كان يفرض الدخول فيه ! ولا بأس أفليس هو عمر الخسائر ؟؟
قل لي انت كيف احوالك؟ ومتى وكيف سنلتقي بحق السماء؟ انا افكر جديا بزيارتك، وعسى الله ألاّ يخيب مسعاي هذا تحت وطأة مفاجآت او مشكلات ليست متوقعة أو بالاحرى هي منذرة، فصحة ام ربيع ليست مستقرة منذ اكثر من شهرين، وصارت هي حساسة لأقل هاجس أو اصغر حدث حيث تتسارع ضربات قلبها وتخنقها "الضربة الهاجرة" كما يسميها الاطباء، فتسارع الى حبة من اقراص "الأنجيد" تحت اللسان واحيانا اكثر من واحدة! ولا يكاد يمر شهر دون ان ادفع لحيدر مبلغا كبيرا يتابع به معاملة تسريحه التي لا تريد ان تنتهي منذ اكثر من عشرة شهور جزاء لخدمته الحسنة دون غياب !! وبالمناسبة، ان ما ترسله اليهم اعطيه لهم فعلا طالما خصصته لهم بالاسم فما لأزهر لأزهر وما لربيع لربيع وهكذا، عافاك الله ورعاك.
مقطع من الرسالة بخطه الجميل
اخي الحبيب :
بودي الاستمرار في البوح ولكن هل هذا ممكن؟ لست ادري ولكني سأفعل ولتكن وقفة عابرة عند الرسالة الشفهية التي نقلها لك الاخ ابو محمد، هذا المتعب النبيل الذي عاد بكرامته وخسارته .. وكل ما اقول في الموضوع انها صارت لي مصدر قلق عليك، و دع عنك ما سأقوله عنك فالطرف الآخر*** لديه صورة أو مقياسا خاصا به بصرف النظر عن قولي، ومع اني لم اخبر أم ربيع بزيارتي لهم إلا ان الامر تسرب اليها من بوابات اخرى بصيغة انك موضع استفهام فامتلأت رعبا يمتد منك ويمر عبري ولا ينتهي بالأولاد! ولكنني هونت عليها المسألة .. واتفقنا ان نزيد دعواتنا لك بالسلامة.. دعوات اخرى .. وليحفظك الله ولا تبتئس بما يفعلون فلنا رب يرحمنا غير انني اتمنى عليك كأب واخ ان تكون – وهذا ما يلقي عليك عبئا – في الدرجة القصوى من التحسب واليقظة لتبقى النموذج الاحلى، ومن الله التوفيق، وتذكّر انك معنا دائما حتى ان حيدر قد رآك ذات ليلة في منامه واستيقظ يحدثنا مسرورا لأنه رآك انيقا مهيبا ومتأسفا لانه لم يتحدث معك، وطافت صورتك في منام احدى خالات ربيع وانت تزف الى عروس بهية جدا، ثرية جدا حتى انها جاءت بسيارتها المرسيدس لتحملكما الى عش العرس وكنت انت متألقا وكلنا معك وكاننا نزفك لعروسك! والحق انني تشاءمت لذلك .. واستحالت الاضواء والبريق في منام هذه الاخت الى كابوس يؤرقني.
علاوي الحبيب
برغم كل تلك التجاذبات وحصار العمل الطويل اسهمت في مؤتمرات علمية وأدبية قدمت فيها ابحاثا ومداخلات تتعلق بالبيئة والتلوث واقتصاديات اللقاح البكتيري ( جامعة بابل و جامعة القادسية ) وعن البعد الثقافي للنقد الادبي – عبد الجبار عباس نموذجا ( جامعة الكوفة ) اضافة لمداخلات في جلسات المؤتمر، وامسيات مطولة عن المسؤولية الثقافية وعن تجربتي مع الصحافة الادبية ضمن البرامج الثقافية لاتحاد الأدباء في بابل ونقابة الفنانين فيها ... وانجزت دراسات مازالت مسودات لأني لا اجد الوقت لاعادة كتابتها!! ناهيك عن المشاريع المبتورة .. والمؤجلة، غير انني صرت اسمي ذلك (الابداع ركضا) فأنا انجز ذلك وانا اركض ما بين العمل وسيارات الاجرة وملاحقة الواجبات .. حتى انني حضرت امس الاول لموعد أمسية اتحاد الادباء ركضا لتقاطع موعدها مع وجودي في المعمل ولانني كنت سأقدمها نيابة عن الشاعرة ريم قيس كبه التي اعتذرت لمرضها ولانني هيأت دراسة عن مجموعتها الاولى .. وعدت الى البيت ليلا لأكمل مسودة عن مجموعة شعرية لناهض الخياط وهكذا.
الاولاد بخير ( والاهل والموتى يخصون الاقارب بالسلام ) والحمد لله و ( القشه معدن ) و ( يادار مادخلك شر ) و ( توته توته خلصت الحدوته ) ... الخ، المهم ان تسلم انت وان اسعد بنجاحك، والناس الذين تحبهم جميعا يبادلونك الحب والتحيات والتمنيات.
20-12-1999
*هنا يشير الى كتاب "ذاكرة عراقية" للكاتب روفائل بطي بجزئيه الذي كنت ارسلته اليه مع مجموعة اخرى من الكتب بينها ايضا كتاب عزيز الحاج عن بغداد وذلك رفقة الشاعرة الصديقة يرم قيس كبه التي كانت تزور عمّان واحملها لقاسم بعض ما يحب من اصدارات ثقافية.
**مطبوع مسلسل تصدره مؤسسة عبد الحميد شومان الثقافية في عمّان.
*** يشير هنا بشكل غير مباشر الى استدعائه من قبل مخابرات النظام السابق بسبب عملي في المعارضة العراقية.