د. أحمد الحطاب - الاحترام الذي لم يعد واحدة من مُقوِّمات المنظومة التربوية ومُكوِّنها الأساسي، المدرسة

أولا، لما حصل Albert Camus، الذي يُعدَّ من عظماء الأدب الفرنسي، على جائزة نوبل في الأدب سنة 1957، بعث إلى مُدرسه Monsieur Germain رسالةً يعترف بفضل هذا الأخير عليه وكيف ساهم في تكوينه بمجهوده وتفانيه في العمل وقلبه الطيب.

ثانيا، في إحدى محاكم الأردن، نهض القاضي، أثناء جلسة محاكمة، من مكانه وانحنى أمام المتهم وقبّل يدَه لما عرف، بعد مرور سنوات طوالا، أن هذا المتَّهمَ كان مدرسَه في المدرسة الابتدائية. والقُبلة التي طبعها القاضي على يد المتَّهم هي الأخرى تعبِّر عن الاحترام والتقدير اللذين يُكِنُّهما القاضي لمدرسِه والذي، لولا فضله عليه، لما وصل للمرتبة التي هو عليها اليوم.

وإن دلَّت رسالةُ Albert Camus وانحناء القاضي أمام المتَّهم على شيء، إنما يدلان على أن الاحترامَ كان من إحدى القيم النبيلة التي تقوم عليها المدرسةُ والذي كان يُكِنُّه المتعلِّمون لمدرسِهم ومدرستِهم. كما تبين أن المدرسة كانت، في الماضي القريب، تُنتج عظماءَ رغم فقرهم وانتمائهم الاجتماعي المتواضع.

أين نحن اليوم من هذا الوضع الذي كان سائدا في مدرسة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات؟ إن الجيل الذي أنتمي إليه، أنا شخصيا، كان يُكِنُّ احتراما قويا للمدرس، ومن خلاله، للمدرسة. كان المدرس بالنسبة لنا كأب ثاني نقبِّل يدَه وأحيانا، نخاف أن يرانا نلعب في الشارع كي لا يوجه لنا اللومَ بإهمالنا لدروسنا.

أين نحن اليوم من الاحترام للمدرسة ولمهمَّتِها النبيلة وللمدرس ولمهنته ولمهمته وللمسئولية الملقاة على عاتقه في تربية وتنشئة الأجيال الصاعدة؟ لقد أصبح هذا الاحترام في خبر كان وأصبح المدرسُ محطَّ اعتداء جسدي ومحطَّ سبٍّ و قذفٍ... فقدت المنظومةُ التربويةُ ومدرستُها المكانة اللائقة بهما في المجتمع ولم يعد لقيمة الاحترام فيها مكان.

كان للمدرس دورٌ فعَّالٌ وبارزٌ في التَّنشئة الاجتماعية socialisation ، وبالأخص، الأخلاقية morale. بفضل هذا المدرس، كان المتعلِّمُ يستبطن كل القيم والأعراف وما يلزمه من سلوكات للتَّصرُّف داخلَ المجتمع واحترام الآخرين. الكلُّ متوَّجٌ باندماجٍ سَلِسٍ ولائق في هذا المجتمع. وبعبارة أخرى، كان اندماجُ الطفل في المجتمع يبدأ منذ نعومة الأظافر، أي في السابعة من عمره (اليوم، يبدأ هذا الاندماج في المرحلة ما قبل المدرسية). كانت المدرسةُ والأسرةُ تتعاونان في تمكبن المتعلِّمين من تنشئة اجتماعية وأخلاقية تجعل منهم مواطني المستقبل.

ولا داعيَ للتَّذكير أن الطفلَ، في سنوات عُمره الأولى، يكون أنانيا إلى أقصى حدٍّ. فإنه يظن، من خلال اللعب، أن العالمَ مِلكٌ له وحده، ولا يريد أن يتقاسمه مع الآخرين، وخصوصا الأطفال من نفس الفئة العمرية. من هنا، تظهر أهمِّيةُ التَّنشئة الاجتماعية، وبالأخص، الاختلاطُ مع أنداده، وهو الشيءُ الذي سيمكِّنه، تدريجيا، من أن يُدركَ أنه، من الضروري، أن يتواصلَ معهم لإرضاء رغباتِه وفي نفس الوقت، رغباتِهم. وهكذا، فإن الطفلَ يتعلَّم apprend أن وجودَ الأطفال الآخرين في حياته شيءٌ عادي. لماذا أقول "الطفلُ يتعلَّم"؟

أقول "الطفلُ يتعلَّم" لأنه، من الضروري، كما سبق أن وضَّحتُ ذلك في إحدى مقالاتي، أن يرغبَ الطفلُ في التَّعلُّم، بمعنى أنه لا يجب أن يُفرضَ عليه أيُّ شيءٍ. كلما كانت رغبةُ المتعلِّم في التعلُّم عالية، كلما سهُلت تنشئتُه الاجتماعية. ومن هنا، يظهر دورُ المدرس، كمُربِّي، علما أن هذا الدورَ كان يقوم به المدرس، في الماضي، على أحسن ما يُرام.

وما يثيرُ الانتباهَ هنا، هو أن المدرسَ، في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، لم يكن تكوينُه مشابها للتَّكوين الحالي الذي يخضع له المدرسون. ومع ذلك، فإن مدرسَ تلك الفترة من الزمان، التي تزامنت مع خروج البلاد من وطأة الاستعمار، كان مواطنا بما للكلمة من معنى. أي كان يحب وطنَه ويريد له الخير. وخير خدمة كان يُقدِّمها المدرسُ لوطنه، كانت تتجسَّد في الإخلاص في عملِه بالمساهة الفعلية في التَّنشئة الاجتماعية والأخلاقية للمتعلِّمين.

اليوم، كل القيم، لا الاجتماعية ولا الأخلاقية، آخذةٌ في التَّدهور، إن لم نقل في الانقراض. إنها فعلا دخلت طورَ الانقراض، وخصوصا، عندما أصبح التَّعليم سِلعَةً تباع وتشتَرَى. وخصوصا كذلك، عندما أصبح بعضُ المدرسين، سامحهم اللهُ، يحثُّون المتعلِّمين، صراحةً أو بطُرُق ملتوية، على طلب الدروس الخصوصية وعلى مرآى ومسمعِ الجهات الوصية المعنية.

وخصوصا أن هذه الجهات لا تُحرِّك ساكنا وتتفرَّج على تدهور القيم والأعراف والأخلاق التي هي أساسُ سُمعة المنظومة التربوية. ولعلَّ أرقى وأسمى القيم التي تقوم عليها كل منظومة تربوية عادلة، هي تكافؤ الفرص égalité des chances. تكافؤ الفرص الذي لم يعد إلا ذكرى من ذكريات الزمن الجميل. وما يؤسفُ له هو أن سببَ انقراضِ هذه القيمة من الوسط المدرسي، آتٍ من داخلِ المنظومة التربوية، أي من بعض المدرسين، سامحهم اللهُ، الذين فضَّلوا ويُفضِّلون الاغتناءَ غير المشروع، لكن، على حساب مصلحة البلاد.

فلا غرابة أن تفشلَ كل الإصلاحات التي خضعت وتخضع لها منظومتُنا التَّربوية. فكل ما يُرادُ إصلاحُه، يتمُّ إجهاضُه من داخل هذه المنظومة. فكيف للإصلاحات أن تنجحَ في تقويم ما أفسدته بعضُ الأيادي من داخل هذه المنظومة، تمشِّيا مع المقولة الشهيرة "حوتَ وحدَ كتخنّْز الشواري" وعلما أن أهمَّ عنصرٍ في نجاح الإصلاحات هم المدرسون. ولا غرابةَ أن تُصنَّفَ منظومتُنا التَّربوية في المراتب المتأخِّرة في التَّصنيفات العالمية.

وما يُتَخَوَّفُ منه، مستقبلاً، هو أن فكرةَ تحويلَ التَّعليم، من قيمة سامية وفوق كل اعتبار، إلى سِلعَةٍ تباع وتشترى، آخذَةٌ في الانتشار في المجتمع المغربي. وهذا الانتشارُ أقبر وسيُقبر أكثر وإلى الأبد القيمة الاجتماعية، الأدبية والأخلاقية ألتي كانت تتمتَّع بها المدرسةُ في الماضي القريب. والدليل على ذلك، كثرةُ المتاجرين بالتَّعليم واعتباره سِلعة مُربحة تقود بسرعة إلى الاغتناء. فكم هي كثيرةٌ الدكاكين، من مختلف الدرجات والأنواع، التي تعرض التَّعليمَ كسلعة ثمنُها يتلاءم مع الميسورين وغير الميسورين، أي سلعة معروضة على مَن جيوبُهم مليانة بالدراهم وعلى مَن يضحون بالغالي والنفيس لاقتناء هذه السِّلعة.

أين نحن من ما قاله الشاعرُ المقتدر أحمد شوقي "كاد المعلِّمُ أن يكونَ رسولا"؟ فإلى أين يسيرُ مجتمعٌ مدرستُه فاشلة؟ يكفي أن نُلقيَ نظرةً على ما نراه وما يجري أمام أعيننا من فساد، لنقول : غابت المسئولية عن الجميع، وبالأخص، عن الذين بيدهم الأمرُ، الذين تركوا المدرسةَ، بصفة عامة، تفقد هويتَها ومهمتَها النبيلة المتمثلة في التنشئة الاجتماعية والأخلاقية للأجيال الصاعدة. فمتى الخلاص؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى