الآخرون

كانت المرايا جزءاً ثابتاً في كل مدن الألعاب والترفيه، وكانت تجذب الأطفال والكبار فتنتزع منهم ضحكتهم وهم يرونها تجعلهم أكثر طولاً أو وزناً أو أقصر قامة، لكن الصورة الحقيقية لنا ورغم توفرها في بيت كلٍ منا لم تكن تجذب سوى القلة القليلة ربما لأنها لا تكذب ولا تحدثنا عن أشخاص آخرين كما يفضل الغالبية بدلاً من التحدث عن أنفسنا..

فقد اعتادت مجتمعاتنا دوماً على الحديث والقاء اللائمة في أغلب مشكلاتها على الغير أياً كانت تلك المشاكل وفي أي زمانٍ ومكان، فكل تغيير أو ظاهرة أو حدث نعيشه ويقوم بتغيير حياتنا له أبعاده الإجتماعية تماماً كما قد يكون له أبعاد سياسية أو اقتصادية، لكننا في كل مرة بغض النظر عن الظاهرة نفسها كنا نمر بنفس المراحل أو الخطوات من إنكار ورفض الفكرة في البداية ثم انقسام الرأي حولها، ثم ترويج البعض لها، ثم تغلغلها بين الناس على اختلاف طبقاتهم وثقافتهم لتصبح جزءًا عادياً من حياتهم في نهاية المطاف يمارسونها أو يحتضنونها بشكلٍ أو بآخر حتى وإن كانت سلبية..

ومن أكثر الظواهر التي تشير إلى اضطرابات عديدة ومتشعبة تعيشها مجتمعاتنا ولا تنفصل عن الأحداث التي نعيشها اليوم سواءاً كان في غزة أو غيرها من بلاد العالم هي الحالة التي خلقتها مواقع التواصل الإجتماعي من تعطش وبحث مستمر عن الثناء والإهتمام ولفت الأنظار من خلال مجموعة من السلوكيات أو التصرفات التي لا تخرج عن إطار التركيز على المظهر والصورة والملبس ونمط الحياة الذي تحول إلى حالة من التنافسية الشديدة التي وصلت إلى حد الهوس (حتى وهم يقومون بفعل إيجابي) وجعلت البعض يبحث عن الإهتمام أو يتسوله عبر التمارض والبحث عن أي سبب لدخول المستشفيات وجذب المزيد من المشاركات و المشاهدات والإهتمام، فدائرة الضوء التي كانت قبل عقود تقتصر على الفنان أو المثقف أو صاحب الإنجاز أياً كان اتسعت بشكلٍ تدريجي لتصبح بلا قيود أو ضوابط بناءاً على زيادة حضور المادة وطغيانها وتغولها وتأثيرها على حياتنا في مقابل تراجع كل دور للثقافة والإبداع والأدب والموهبة والعلم والأخلاق وحتى الدين، وهو ما بات الناس يدركونه رغم انكارهم له ويتعاملون معه بازدواجية فاضحة..

فمجتمعاتنا وبكل وضوح وصراحة تنتقد مواقع التواصل الإجتماعي وتنتقد الفن وتقوم بالتعميم دون أن تفصل بين ما هو تجاري وهابط ومزيف وعابر (ساهمت بدورها في نجاحه وانتشاره ورواجه) وبين ماهو راقي ومحترم وأصيل و (حقيقي) هذه الكلمة التي تنقص كل ما نعيشه في حاضرنا.. لكنها فعلياً (تقلد وتغار وتحقد) على كل من هو في دائرة الضوء حتى وإن كان مثالاً شديد التدني وتتمنى أن تكون مكانه، فالكثيرون باتوا يرددون عباراتٍ بتنا نسمعها باستمرار مثل (لا أحد أفضل من أحد) وهو ما جعل من شخصيات الكثيرين من حولنا أكثر زيفاً وتوحشاً ومادية وأنانية وأكثر رغبة في الركض ضمن سباق ما يعتقدونه (تأكيداً لذاتهم)، ولذلك لا يمكننا أن نعتقد أن الأرواح التي امتلأت بهذا الخواء على تفاوت أعمارها وتنازلت عن كل الصفات التي تميزها لتتحول إلى نسخة كربونية مضطربة عن نماذج معينة تضخها مواقع التواصل الإجتماعي تتحدث وتعيش وتمشي وتأكل وتنام وتحب وتكره وتتزوج وحتى تمرض بشكل غير طبيعي يمكنها أن تقدم شيئاً ذا قيمة أو تكون صاحبة تفكير أو ذوق أو اختيار سليم أو قادرة على استيعاب ما يحدث من حولها، فهي دائماً في حالة من الإنكار والتناقض والبحث عن تسويق نفسها بطريقة لا تمكنها من الإستبصار أو التوقف لبرهة حتى لترى ما يحدث لأقرب الناس لها في حياتها الشخصية، حيث بات الكثيرون يخسرون من يفترض أنهم أحبتهم دون أن يدفعهم ذلك إلى تغيير ما، فهم لا يملكون بسبب هذا اللهاث والسباق المحموم القدرة ولا الوقت حتى للحزن على عزيز وهو ما نراه يمتد إلى الشأن العام، حيث يكرر الأكثرية ذات العبارات بتناقضاتها مع سلوكه مع التأكيد دوماً على أنهم ضحية الآخرين مع أن أغلب ما يعيشونه هو اختيار شخصي بمحض إرادتهم وهم من سعى إليه لا العكس، ولولا اقبالهم عليه كما أقبلوا على الكثير من الظواهر السلبية من قبل لما تضرر الإنسان في أعماقهم إلى هذا الحد..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى