لعل الحوار من أنسب الإجراءات الفنية التي تلائم الشعر،
من حيث إن كليهما يميل إلى "إجاعة اللفظ وإشباع المعنى"
كما يقول أسلافنا، أي: الإيجاز والتكثيف. ذلك أن الحوار
يحدد ويسوّر الوحدة القولية في بناء الخطاب الشعري.
والحوار – عمومًا – يمكن النظر إليه بوصفه نمطًا تواصليًّا
يقوم على تبادل وتعاقُب قولين بين اثنين - أو أكثر - يتبادلان
بالتناوب موقع المرسل والمتلقي؛ فالسائل يرسل والمجيب
يتلقى ثم يرسل فيكون السائل متلقيًّا بعد أن كان مرسلا، ومن
خلال تبادلهما معا يتكون النص (الرسالة)، ونكون نحن
المتلقين في آخر المطاف لنص تحقق فيه انسجام النسيج
والاتساق البنيوي وإنتاج الدلالة الكلية المؤطَّرة بالطاقة
والحيوية والإقناع والإثارة التي يبثّها الحوار.
وهذا النص الذي بين أيدينا هو نص من الشعر النبطي –
البدوي الذي اتّخذ الحوار سمة بارزة وإجراء فنيًّا أطّر به
الشاعر البدوي أفكاره وأحاسيسه. يقول النص الموروث
الذي جُهل قائله:
يـا ونّـتــي ونّــة امحــنّــن شـعـيــلـه
قامت تصيح وتجعل الصوت بجفال
ع الصــاحب اللي مـا شـهدنا مثـيله
ما لـه شبـيـه في بلادنـا غير غزلان
قالـوا هو اللـي مشـرفٍ ع الطويلـة؟
قلت اي نعم هو مشرفٍ كل الاطوال
قالوا هـو اللـي مـثـل بــرقٍ نخــيـلـه؟
قلت اي نعم ومْسيّلٍ كل الاسيال
قالوا هو اللي مثل قمح الطفيلة
قلت اي نعم ما كيّله كل كيّال
قالوا هو اللي مثل عشب النجيلة
قلت اي نعم ومخضّرٍ بعد الامحال
ظامر حشاها تمرتينٍ عشاها
شربه مْن المي ما لحق ربع فنجال
شفته بسرحه وامتلا القلب فرحه
من غمق جرحه ما بقيت انقل الحال
والشاعر هنا يرثي زوجته في نص بُني على الغنائية في أول
بيتين، ثم جاءت البينية الحوارية في أربعة أبيات تمثل نصف
القصيدة، ثم تلاها بيتان ختاميان غنائيان.
يبدأ الشاعر في التحسّر على زوجته المتوفّاة، رامزًا لها بناقة
(شعيلة) كان يحنّنها (يدلّلها)، ثم جعل الصياح والصوت
المُجفِل للناقة – المرأة نفسها، وكأن البدوي يستنكف أن يعلو
نحيبه من أجل امرأة، ولو كانت محبوبته! ولو كانت لا مثيل
لها إلا غزلان البر!
ثم يأخذ الشاعر بداية من البيت الثالث في توظيف الحوار
بينه وبين جماعة من المحاورين، وهو حوار ظاهر يقوم
على الجمل الاستجوابية، على السؤال والجواب، وعلى
"قالوا" قلت", وكأنه – مرة أخرى، وبسبب ثقافته البدوية
المحافظة – فرّ سريعًا من الوصف المباشر إلى الحوار بعد
أن وصفها بالغزال في آخر كلمة قبل الحوار مباشرة؛ ليجد له
مسوّغًا ثقافيًّا أو (سيسوثقافيًّا) يتيح له وصف المرأة الذي أتي
في صورة أجوبة على أسئلة المجتمع الذي تعجّب من حزن
الشاعر وأخذ يسائله عن هذه الأوصاف التي تستدعي هذا
الحزن كله.
وإذا كان الحوار يقترب بالشعر من المسرح والقصة وينأى
عن الغنائية والخطابية؛ فإن الحوار في قصيدتنا هذه لا
يصوّر صراعًا ولا يتبع خطًّا دراميًّا ناميًّا، وإنما مؤداه أن
يجد المسوّغ ليصف لنا المحبوبة، لا غير.
قالوا له هل محبوبك هو ذاك الذي يُشرف على تلك التلعة
الطويلة؟ فيجيب بـ "نعم"، وبأن عادته أن يُشرف على كل
الجبال الطوال، في إشارة إلى طموح المحبوب وسمو نفسه
وبُعد تطلّعه.
قالوا هل هو الذي يشبه برقًا كنّا نراه من بعيد (نخيله)؟
فيكون الرد إنه هو البرق نفسه الذي يضيء رءوس الجبال
ويغمرها بالغيث؛ فيكون السيل ويكون الخير والنماء وما
يتبعهما من مظاهر الحياة في البادية، وكأن هذه المظاهر
التي هي مَدد الحياة لساكني الصحراء كأنها تتبع آثار
المحبوب، وكأنها ستموت بموته!
وهكذا يتواصل الحوار طبيعيًّا غير مفتعل، مصاغًا على
صورة حوار السطر الواحد أو المبارزة الكلامية؛ فكل سؤال
يبدأ بداية ثابتة: "قالوا هو اللي"، وثلاثة منها تكرر كلمة
"مثل"؛ فلا يطرأ على البنية اللغوية إلا كلمتان أو ثلاث.
وكذلك الأجوبة كلها، تُستهل بقوله: "قلت إي نعم" وهذا
الاستهلال الثابت المتواتر يكشف عن استراتيجية ثابتة
اعتمدها الشاعر الذي جعل محاوريه هم من يبتدئون وصفًا
هو يريده، فيجيبهم بالموافقة، ويزيد من عنده تفصيل محاسن
المحبوب.
فإذا كان المحبوب برقًا يتبعه المطر، فلا غرابة أن يكون مثل
قمح مدينة (الطفيلة) الفاخر، والقمح في البوادي كنز يعرفه
البدو الذين جرّبوا الجوع! يوافقهم الشاعر في هذا الوصف ثم
يجعل المحبوب أنفس وأغلى، فلا "يكيّله كل كيّال" !
ويسألونه إن كانت هي التي تشبه عشب النجيل الذي يضرب
بجذره في عمق الأرض ويقاوم الجفاف ليبقى حيًّا، وهذه
صورة وضعها الشاعر على لسان محاوريه يرمز بها إلى
دوام منزلتها في قلبه بعد وفاتها، كما يدوم النجيل أخضر
رغم المحل! وما المحل إلا وفاة الحبيب الذي هطل الغيث
على آثاره.
إلى هنا ينتهي الحوار، ويبدو أن مشاركة الجماعة للشاعر
أكسبته الجرأة على أن يسترسل منفردًا في ذكر أوصاف
المحبوب، ويبدو أن حالة من النشوة والطرب انتابته حتى
أطلق هذه الغنائية الموقّعة في الشطرين الأولين من البيتين
الأخيرين: " ظامر حشاها تمرتينٍ عشاها"، و" شفته بسرحه
وامتلا القلب فرحه" حتى أفاق في الشطر الأخير على غُمق
(عُمق) الجرح.. والانهيار!
مسعد بدر
شمال سيناء - مصر
من حيث إن كليهما يميل إلى "إجاعة اللفظ وإشباع المعنى"
كما يقول أسلافنا، أي: الإيجاز والتكثيف. ذلك أن الحوار
يحدد ويسوّر الوحدة القولية في بناء الخطاب الشعري.
والحوار – عمومًا – يمكن النظر إليه بوصفه نمطًا تواصليًّا
يقوم على تبادل وتعاقُب قولين بين اثنين - أو أكثر - يتبادلان
بالتناوب موقع المرسل والمتلقي؛ فالسائل يرسل والمجيب
يتلقى ثم يرسل فيكون السائل متلقيًّا بعد أن كان مرسلا، ومن
خلال تبادلهما معا يتكون النص (الرسالة)، ونكون نحن
المتلقين في آخر المطاف لنص تحقق فيه انسجام النسيج
والاتساق البنيوي وإنتاج الدلالة الكلية المؤطَّرة بالطاقة
والحيوية والإقناع والإثارة التي يبثّها الحوار.
وهذا النص الذي بين أيدينا هو نص من الشعر النبطي –
البدوي الذي اتّخذ الحوار سمة بارزة وإجراء فنيًّا أطّر به
الشاعر البدوي أفكاره وأحاسيسه. يقول النص الموروث
الذي جُهل قائله:
يـا ونّـتــي ونّــة امحــنّــن شـعـيــلـه
قامت تصيح وتجعل الصوت بجفال
ع الصــاحب اللي مـا شـهدنا مثـيله
ما لـه شبـيـه في بلادنـا غير غزلان
قالـوا هو اللـي مشـرفٍ ع الطويلـة؟
قلت اي نعم هو مشرفٍ كل الاطوال
قالوا هـو اللـي مـثـل بــرقٍ نخــيـلـه؟
قلت اي نعم ومْسيّلٍ كل الاسيال
قالوا هو اللي مثل قمح الطفيلة
قلت اي نعم ما كيّله كل كيّال
قالوا هو اللي مثل عشب النجيلة
قلت اي نعم ومخضّرٍ بعد الامحال
ظامر حشاها تمرتينٍ عشاها
شربه مْن المي ما لحق ربع فنجال
شفته بسرحه وامتلا القلب فرحه
من غمق جرحه ما بقيت انقل الحال
والشاعر هنا يرثي زوجته في نص بُني على الغنائية في أول
بيتين، ثم جاءت البينية الحوارية في أربعة أبيات تمثل نصف
القصيدة، ثم تلاها بيتان ختاميان غنائيان.
يبدأ الشاعر في التحسّر على زوجته المتوفّاة، رامزًا لها بناقة
(شعيلة) كان يحنّنها (يدلّلها)، ثم جعل الصياح والصوت
المُجفِل للناقة – المرأة نفسها، وكأن البدوي يستنكف أن يعلو
نحيبه من أجل امرأة، ولو كانت محبوبته! ولو كانت لا مثيل
لها إلا غزلان البر!
ثم يأخذ الشاعر بداية من البيت الثالث في توظيف الحوار
بينه وبين جماعة من المحاورين، وهو حوار ظاهر يقوم
على الجمل الاستجوابية، على السؤال والجواب، وعلى
"قالوا" قلت", وكأنه – مرة أخرى، وبسبب ثقافته البدوية
المحافظة – فرّ سريعًا من الوصف المباشر إلى الحوار بعد
أن وصفها بالغزال في آخر كلمة قبل الحوار مباشرة؛ ليجد له
مسوّغًا ثقافيًّا أو (سيسوثقافيًّا) يتيح له وصف المرأة الذي أتي
في صورة أجوبة على أسئلة المجتمع الذي تعجّب من حزن
الشاعر وأخذ يسائله عن هذه الأوصاف التي تستدعي هذا
الحزن كله.
وإذا كان الحوار يقترب بالشعر من المسرح والقصة وينأى
عن الغنائية والخطابية؛ فإن الحوار في قصيدتنا هذه لا
يصوّر صراعًا ولا يتبع خطًّا دراميًّا ناميًّا، وإنما مؤداه أن
يجد المسوّغ ليصف لنا المحبوبة، لا غير.
قالوا له هل محبوبك هو ذاك الذي يُشرف على تلك التلعة
الطويلة؟ فيجيب بـ "نعم"، وبأن عادته أن يُشرف على كل
الجبال الطوال، في إشارة إلى طموح المحبوب وسمو نفسه
وبُعد تطلّعه.
قالوا هل هو الذي يشبه برقًا كنّا نراه من بعيد (نخيله)؟
فيكون الرد إنه هو البرق نفسه الذي يضيء رءوس الجبال
ويغمرها بالغيث؛ فيكون السيل ويكون الخير والنماء وما
يتبعهما من مظاهر الحياة في البادية، وكأن هذه المظاهر
التي هي مَدد الحياة لساكني الصحراء كأنها تتبع آثار
المحبوب، وكأنها ستموت بموته!
وهكذا يتواصل الحوار طبيعيًّا غير مفتعل، مصاغًا على
صورة حوار السطر الواحد أو المبارزة الكلامية؛ فكل سؤال
يبدأ بداية ثابتة: "قالوا هو اللي"، وثلاثة منها تكرر كلمة
"مثل"؛ فلا يطرأ على البنية اللغوية إلا كلمتان أو ثلاث.
وكذلك الأجوبة كلها، تُستهل بقوله: "قلت إي نعم" وهذا
الاستهلال الثابت المتواتر يكشف عن استراتيجية ثابتة
اعتمدها الشاعر الذي جعل محاوريه هم من يبتدئون وصفًا
هو يريده، فيجيبهم بالموافقة، ويزيد من عنده تفصيل محاسن
المحبوب.
فإذا كان المحبوب برقًا يتبعه المطر، فلا غرابة أن يكون مثل
قمح مدينة (الطفيلة) الفاخر، والقمح في البوادي كنز يعرفه
البدو الذين جرّبوا الجوع! يوافقهم الشاعر في هذا الوصف ثم
يجعل المحبوب أنفس وأغلى، فلا "يكيّله كل كيّال" !
ويسألونه إن كانت هي التي تشبه عشب النجيل الذي يضرب
بجذره في عمق الأرض ويقاوم الجفاف ليبقى حيًّا، وهذه
صورة وضعها الشاعر على لسان محاوريه يرمز بها إلى
دوام منزلتها في قلبه بعد وفاتها، كما يدوم النجيل أخضر
رغم المحل! وما المحل إلا وفاة الحبيب الذي هطل الغيث
على آثاره.
إلى هنا ينتهي الحوار، ويبدو أن مشاركة الجماعة للشاعر
أكسبته الجرأة على أن يسترسل منفردًا في ذكر أوصاف
المحبوب، ويبدو أن حالة من النشوة والطرب انتابته حتى
أطلق هذه الغنائية الموقّعة في الشطرين الأولين من البيتين
الأخيرين: " ظامر حشاها تمرتينٍ عشاها"، و" شفته بسرحه
وامتلا القلب فرحه" حتى أفاق في الشطر الأخير على غُمق
(عُمق) الجرح.. والانهيار!
مسعد بدر
شمال سيناء - مصر