باسم سليمان - الطعام: كتاب الحياة والإبداع

ابتداءً، سنستخدم أسلوبًا تحليليًا في فهم اللغة (1)، ليؤمّن لنا منظورًا نبني عليه رؤى هذا المقال، فلو قلبنا كلمة (طبخ) وقرأناها بشكل معكوس (خبط) والتي تعني- بعد تدبّر أكثر دلالاتها- اللانظام، فكما يقال: خبط عشواء؛ فهذا يؤدي إلى أنّ معنى طبخ - الضد من خبط – النظام. فالطبخ من أوائل الأنظمة التي سنّها الإنسان. حيث تأتي الكلمة اليونانية (فنّ التذوّق/ gastronomy) وهي مؤلفة من كلمتي: المعدة والقوانين(2) وكأنّ فن التذوق يعني: قوانين المعدة! وهذا يدعم توجّهنا في القراءة الدلالية لكلمة (طبخ).

كان اكتشاف النار عاملًا حاسمًا في نشوء حضارة الإنسان، وبواسطتها انتقل من الطعام النيء إلى المطهو، وبذلك فارق عالم الحيوان، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يطهو وبهذا الفعل يصبح استثناءً عن بقية المخلوقات. وليس غريبًا أن تتصوّر القبائل التي تعيش في جزر المحيط الهادئ(3) بأنّ البشر الأصليين خُلِقوا من عجينة من الأرز والذرة المشكّلة في قوالب، أي المطهوة وكأنّ الأسطورة تقول بأنّ الإنسان هو طبيخ الإله، ولهذا فالإنسان يقلّد الإله، فهو يطبخ أيضًا، فالطعام عماد حياته الرئيسي وبه يحيا.

يقول الكاتب الفرنسي جان بريلات(4): "قل لي ماذا تأكل، أقول لك من أنت"، وكأنّه يعيد مقولة سقراط: "تكلّم كي أراك"، فالطعام ليس مجرد حاجة جسدية فقط، بل هو رمز ديني وسياسي وثقافي واجتماعي واقتصادي. وكما قال كلود ليفي ستراوس (5) عن الطعام/ المطبخ، بأنّه يتوسط العلاقة بين الطبيعة والثقافة، فعندما نقوم بتحويل مادة غذائية من شكلها الخام/ النيء إلى الشكل المطبوخ، نحن نقوم بعملية تتضمن الكثير من الدلالات التي بموجبها يصبح الطعام مدونة معرفية قادرة على تشكيل صورة نستطيع أن نقرأ من خلالها المجتمع البشري في فترة زمنية ما. وليس هناك أدلّ على محورية الطعام في تشكيل البُنى المعرفية للإنسان، إلّا ارتباطه بالخطيئة الأساسية – الهبوط من الجنة- بسبب فعل الأكل من الثمرة المحرمة. وقد يقول قائل بأنّ هذا الأكل ترميز للعملية الجنسية وليس متعلقًا بالأكل كما هو متعارف عليه، لكن الأسطورة بأدواتها الرمزية تخادع، فالطعام لدى بعض القبائل الهندية(6) يعني الممارسة الجنسية وبتعبير أدق يعني: "الأكل حتى التخمة" والدلالة تكمن بأنّ الأعضاء الجنسية للذكر والأنثى؛ هي طعام متبادل بينهما. هذه الفكرة عبّر عنها الشاعر جورج هيربوت في بدايات القرن السابع عشر بالقول: "يقول الحبّ، لا بدّ أن تجلس وتتذوّق لحمي، وهكذا جلست وأكلت". وهذا ما فعلته الغانية التي أرسلها جلجامش لكي تغوي أنكيدو، فتحويله من حيوان لإنسان كان عبر الجنس. والجنس هنا لم يكن بشكله الطبيعي الحيواني الفجّ، بل عبر المرور بغانية المعبد المتجمّلة بالحلي والثياب والعطور، أي بأدوات الحضارة البشرية. وبعد تلك الواقعة نفرت الحيوانات من أنكيدو، فلم تعد تشاركه الشرب من مياه الينابيع، ولا تناول الطعام النيء، ولا هو عاد يفعل ذلك، فلقد انتقل إلى مدينة أوروك وتعرف إلى المشروبات والأطعمة المطهوة.

إنّ التدقيق بالعرض الإلهي في المدونات الدينية السماوية لآدم، نستنتج منه بأنّ التزام آدم أبي البشرية بالأوامر والنواهي الإلهية، سيؤمّن له البقاء في الجنة، حيث لا جوع ولا عري. وعندما يخالف ذلك، تكون العقوبة، بأن يصبح تأمين طعامه عبر العمل الشاق بعد إهباطه إلى الأرض. ولم تختلف ما سُمي بالديانات الوثنية عن التوحيدية، من تصوّر وجود جنّة بدئية كان الطعام متوفرًا فيها، حيث الأرض تمنح غلالها بمجانية والأشجار قطوفها دانية يتحصل عليها الكائن البشري من دون جهد. وهذا ما أشار إليه الشاعر اليوناني هزيود في كتابيه: (الثوجونيا/ أنساب الآلهة والأعمال والأيام). وفي قصيدة الأبيقوري الروماني لوكريتيوس؛ طبيعة الأشياء، نلقى وصفًا لذلك الزمن الذهبي، فالأرض مليئة بالثمار والذرة، وتتدفق أنهار الحليب والعسل وتقطر شجرة البلوط بالعسل.

وإذا كان لنا أن نضع أحد الأطعمة التي لعبت دورًا أساسيًا في تاريخ الإنسان، فسنجد أنّ الخبز هو الرائد الأول، فمن خلاله عبّر الإنسان عن هواجسه الوجودية وآماله الغيبية، فتخلل أفكاره وأمثاله وحكاياه كلبنة تنشأ من خلاله الحضارة أو تُهدم. وفي منطقتنا العربية اختلط الخبز بالدين والسياسة والأدب والفن. والخبز اسم جنس يعدّ من الحبوب، كالقمح والشعير والذرة والأرز وغير ذلك، لذلك قال الشاعر العربي(7):

في حبّة القلب منّي/ زرعت حبّ ابن حبّة.

وابن حبّة هذا هو الخبز، الذي قال السيد المسيح عنه: "َليْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ". تأتي حكمة المسيح تعبيرًا عن العلاقة العميقة بين الإنسان والخبز كرمز عن الطعام، بحيث أن الإنسان كان يظن أن الخبز سبب بقائه حيًّا؛ من هذه القناعة أتت المقارنة التي أجراها المسيح. لكن فكرة أنّ الطعام سبب الحياة لدى الإنسان لم تقتصر عليه ككائن حيّ، بل إنّ شعوب ما بين النهرين كانت تقدّم وجبات من الطعام للآلهة صبحًا ومساء حتى أنّ أرستوفانيس بمسرحيته الطيور، تم إخضاع الآلهة لرغبات بعض البشر عندما شكّلوا حلفًا مع طيور السماء لتحجب دخان القرابين. وليس تقليدًا سخيفًا، أن يصنع الجاهلي إلهًا من تمر وعندما يجوع يأكل إلهه، فهو يمارس قناعة طوطمية، بأن يدفع إلهه إلى إعادة الخصب للأرض عبر أكله.

لقد جاء في ملحمة جلجامش(8) في الجدل الذي جرى بينه وبين أتونبشتِم ما معناه بأنّ الإنسان هو مجرد رغيف خبز، مصيره أن ييبس ويعلوه العفن، هكذا قدّرت الآلهة مصيره. يقرر أتونبشتِم اختبار جلجامش، ليكون مستحقًا للحياة الأبدية، فيطلب منه ألّا ينام لستة أيام وسبع ليال، لكنّ جلجامش العنيد والصابر لا يلبث أن يقع تحت سلطان النوم. يطلب أتونبشتِم من زوجته أن تخبز رغيفًا عن كل يوم من أيام جلجامش التي سينامها وأن تؤشّر على الحائط عدد الأيام. وهكذا مضت الأيام وصنع مقابلها من الأرغفة: "أصبح الرغيف الأول يابسًا، وتلف الرغيف الثاني، والثالث لم يزل رطبًا، وابيضت قشرة الرغيف الرابع، والخامس لم يزل طريًّا، والسادس قد خبز في الحال، ولما كان الرغيف السابع، لا يزال على الجمر مسّه، فاستيقظ الرجل. وعندما استيقظ جلجامش قال لأتونبشتِم: لم تكد سنة النوم تأخذني، حتى مسستني فايقظتني!" وعند ذلك يقول له أتونبشتم، أنظر إلى أرغفة الخبز! فيتكلم جلجامش بأنّ الموت يجري منه مجرى الدم، فما الحل؟ قُدّر على الإنسان أن تكون حياته مستندة بشكل كلي على الطعام.

هذه النتيجة أوضحها الفراعنة حيث أطلقوا على الخبز اسم: العيش؛ كناية عن أنّه قوام الحياة مطلقًا، لذلك كان الفراعنة يضعونه في قبور موتاهم. تنص تعويذة ترافق الميت: "أنا لن آكل العذرة لأنّني سأنال تاج أنوبيس الأبيض ذي الخبز الأبيض(9)". فقد كان الفراعنة عبر وضعهم الخبز قرب الميت يطبقون ما سينطق الإله به: "انهض هذا خبزك الطازج وجعتك الطازجة".

إنّ ثيمة الطعام متغلغلة في الأصول الفكرية الأسطورية للإنسان، فالأسطورة اليونانيّة عندما تعرض لنا قصة سرقة النار من قبل برومثيوس لإعطائها للإنسان حدثت بعد أن أحتج زيوس على قسمة أجزاء الثور المضحّى به له، من قبل برومثيوس، فقام زيوس بإخفاء النار وطمر أسباب معاش الإنسان في التربة، وبالتالي ذهب إلى غير رجعة الزمن الذهبي الذي تكلّم عنه هزيود ولوكريتوس حيث الأرض تعطي الإنسان محاصيلها وثمارها من دون جهد منه. وبعد أن فعل ذلك خلق له باندورا وصندوقها المملوء بالشرور، وكأنّنا مع سردية الخطيئة التي أهبطت آدم وحواء من الجنة، ففي التوراة يقول يهوا لآدم أن يأكل أكلًا من كل أشجار الجنة ما عدا شجرة واحدة، وفي القرآن كذلك.

هذه الأساطير تفيد بأنّ أول خطوة في حضارة الإنسان كانت انتقاله من مرحلة التقاط الطعام إلى إنتاجه، أي انتقاله من مرحلة مشابهة الحيوان إلى مشابهة الآلهة، وبالتالي اعتماده على نفسه في إحيائها، وهذا ما يقوله أحد الطباخين الذي كان يرد بمكان ما على التفريق الذي أجراه أفلاطون بين الطاهي والطبيب. كان الطب في العالم القديم يقوم على نوعية الأغذية التي يتناولها المريض لا على طيبتها أو مذاقها الرائع. وما أراده أفلاطون من ذم الطاهي ومدح الطبيب هو أن لا ينجرّ الإنسان وراء شهواته وليقتصر طعامه على إقامة الجسد فقط، من أجل أن يتفرّغ العقل للتفكير بالمثل العليا، لكن الطاهي (10) يقول بأنّ مهنته: "بسبب المتع التي ظللت أتحدث عنها، كفّ الكلّ عن التهام جثة، وقرروا أن يعيش بعضهم مع بعض، وتجمّع الناس وسكنوا المدن، وكل ذلك بسبب فن الطاهي، كما أسميه".

هذا الاعتماد الذاتي للإنسان على نفسه، بإنتاج طعامه، لم ينسه فضل الآلهة أو زمنه الذهبي كما كان أنكيدو، لذلك اشترع أطعمة محلّلة وأخرى محرّمة، فالديانة اليهودية مليئة بالمحظورات الطعامية بالإضافة إلى حتمية التضحية بأبكار الحيوانات والمحاصيل للإله. أمّا المسيحية التي جاءت برخصة سماحية كل الأطعمة، لأن الذي ينجس كما قال السيد المسيح، ليس ما يدخل الفم بل ما يخرج منه، أي الكلام السيئ. بينما الإسلام كان وسطًا بين اليهودية والمسيحية، فجاء تحريمه للأطعمة التي أكلت في المجاعات كالدم والميتة والخنزير؛ الذي له إشكاليته الخاصة، بأنّه الحيوان قاتل الآلهة من أدونيس إلى أتيس. فإذا تأمّلنا ذلك، كان الطعام بحلاله وحرامه أول القوانين التي وضعتها الآلهة على الإنسان أو استنّها لنفسه. ومن هنا نفهم شعيرة الصوم التي تواجدت في كل الأديان أرضية كانت أو سماوية، والتي تختصّ بالامتناع عن الطعام والشراب والجنس، وكلّها قوام وجود الإنسان على الأرض.

أهمية الطعام لدى الإنسان كان لا بدّ أن تظهر في منتجاته الثقافية وخاصة الأدبية منها. وقد رأينا كيف تداخل الطعام مع الأسطورة والدين والسياسة، ولذلك كانت المجاعات تترك أثرًا لا يمحى في ذاكرة الشعوب، وقد ذكر ابن الجوزي بأنّه في سنة 343 هجرية أكل الناس الأطفال والجيف بسبب الجوع. وقد سجّلت ذاكرة الجوع قصة هانسل وغريتل التي دوّنها الأخوان غريم، حيث تقوم زوجة الأب الشريرة بترك الطفلين في الغابة، ليموتا، لأنّ الطعام لا يكفي. يتجوّل الطفلان على غير هدى في الغابة، ليجدا بيتًا مصنوعًا من الحلوى وهناك تحتجزهما ساحرة شريرة تعمل على تسمينهما من أجل أكلهما، فتسجن هانسل وتجبر أخته على خدمتها. وكانت تدفع الطعام اللذيذ ليأكله هانسل ويسمن، لكن هانسل يمد عودًا لتلمسه الساحرة بدلًا من يده، فتجده نحيفًا فتؤجّل أكله، وفي النهاية يتمكّن هانسل وأخته من دفع الساحرة إلى فرن الطعام وحرقها والعودة إلى أبيهما مع المجوهرات التي كانت الساحرة تمتلكها، ليعيشوا أغنياء يتوافر الطعام لديهم بكثرة. هذه القصة قد تم تهذيبها، فهي تعود إلى زمن المجاعة في القرن الرابع عشر ميلادي التي ضربت أوروبا، حيث كان الناس يتخلصون من الأطفال والعجائز عبر تركهم في الغابة ليصبحوا طعامًا لجوعى آخرين أو يقومون بأكلهم. بعيدًا عن تاريخية القصة أو تخييلها، هناك رمزية تكمن في أنّ الطفلين لم يتمكنا من القضاء على الساحرة، إلّا بعد تمكّنهما من ضبط شهواتهما نحو الطعام.

طعام يدٍ، لا طعام يدين

لا تختلف علاقة العرب بالطعام عن غيرهم من الشعوب في تحميله الدلالات الكثيرة، وخاصة أنّهم كانوا يعيشون في بيئة شحيحة بالموارد الغذائية، ممّا جعل من الطعام جوهر الكرم. وفي الوقت نفسه حوّل الانغماس في الطعام إلى خطيئة أخلاقية إن لم تتم مشاركته مع الغير، ومن هذا المنطلق اشتهر حاتم الطائي بكرمه في إطعام الجياع، فلم يحفظ حصانه، مع ما يشكّله الحصان للعربي من فخر وعزّ، بأن ذبحه على مائدة الجوعى. وليس غريبًا أن يبتدره ابنه طالبًا أن يذبحه لإطعام ضيوفه. هكذا لعب الطعام دورًا محوريًا في حياة العرب في الجاهلية، حتى أنّ امرئ القيس ذبح ناقته لإطعام بنات عمّه، على الرغم مما كان يخبئ تحت هذا الكرم من رغبات مجنونة:

وَيَوْمَ عَقَرْتُ للعَذارى مَطيّتِي/ فيا عجبًا من كورِها الْمُتَحَمَّلِ/
فظلَّ العذارى يرْتَمينَ بلحمها/ وشحمٍ كَهُدَّابِ الدَّمَقس الْمُفَتَّلِ.

وإذا تتبعنا سطوة الطعام بالنسبة للجاهليين، نجد أن عمرو بن عبد مناف، جد الرسول الكريم، قد ساد قريش بعد أن أطعمهم في سنة جوع، والذي نال اسمًا آخر بعد تلك الواقعة وأصبح هاشمًا، بعد أن هشم الكعك على الثريد، فقال الشاعر:

عَمْرُو الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ/ قَوْمٌ بِمَكَّةَ مُسْنِتِينَ عِجَافِ.

إن تعفّف العربي الجاهلي عن الطعام، على الرغم من ندرته، قد تغيّر بعد الفتوحات الإسلامية وتدفّق الموارد المالية والسلع، حيث يقول زياد بن حنظلة في فتح الخليفة عمر بن الخطاب إيلياء/ بيت المقدس:

وألقت إليه الشام أفلاذ كبدها / وعيشًا خصيبًا ما تعد مآكله.

هذه الوفرة غير المعتادة لدى العرب في شبه جزيرتهم في الطعام والانغماس في ملذّاته، تصدى لها الخليفة عمر، وفي الخبر أنّ الخليفة دخل على ابنه فوجده يأكل لحمًا مأدومًا بسمن، فعلاه بالدرة/ العصا وقال له: "لا أم لك، كُل يومًا خبزًا بلحم، ويومًا خبزًا ولبنًا، ويومًا خبزًا وسمنًا... ويومًا خبزًا قفارًا"... هذا المنهج في التقشّف خرج عنه العرب فيما بعد، حيث جاء في الأثر أنّ عوف بن القعقاع كان يعدّ من أعراب البصرة، فطلب من خادمه أن يعد طعامًا يشبع من يرد إليه، وعندما رأى ما صنعه خادمه من ألوان الطعام المختلفة التي لم تكن العرب تدركها واستظرافهم لها الواحد بعد الآخر، فقال له: "فهلا جعلته طعام يد، ولم تجعله طعام يدين"، وهذا كناية عن تناول الطعام باليدين نهمًا إليه، بسبب تعدّد أنواعه، كما يقول الجاحظ. ومن تبعات الطعام السياسية أنّ العباسيين بعد إزاحتهم بني أمية عن الحكم، نقّبوا في أخبارهم عن ما يشين سيرتهم، فكان نهمهم للطعام أحد المثالب التي أثيرت بحق بني أمية حتى أنّ أحد الشعراء، كما يذكر الثعالبي في كتابه (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر) قد قال: وصاحب لي بطنه كالهاوية/ كأنّ في أمعائه معاوية.

هكذا تواردت الأخبار عن النهم للطعام في الزمن الأموي من قبل الخلفاء والأمراء كأحد الوسائل في الدعاية السياسية للعباسيين. لكن مع الزمن العباسي، تفتح المطبخ العربي بشكل كامل على إرث الطعام الفارسي والرومي بشكل خاص مع أطعمة البلاد التي فتحوها. وأمام هذا الواقع الجديد بدأ الأدب يتخذ من الطعام إحدى ثيماته، فنجد ابن الرومي وكشاجم قد دبجا القصائد في مدح بعض الأطعمة، حتى أن إبراهيم بن المهدي المشهور عنه قول الشعر في الطعام، ينشئ أبياتًا يصف فيها خبز الفتيت الذي أهداه له ابن أخيه الأمين وفي الوقت نفسه يعلن موالاته السياسية له. وتعدّدت قصائد إبراهيم بن المهدي، فيقول في وصف أكلة تُدعى النرجسية:

يا سايلي عن أطيب المآكل/ سألت عنه اليوم غير جاهل
خذ يا خليلي أضلعًا من لحم/ ولحم فخذ بعده والشحم
واطرحه في الطابق فوق النار/ ثم أقله بالربّ والأبزار...

هذا التغيّر في استخدام ثيمة الطعام من جوهر الكرم عند الممدوح أو انتفائه عند المهجو، جعل من الشاعر أبي مخفف يقول:

دَع عَنكَ رَسمَ الدِيارِ/ وَدَع صِفاتِ القِفارِ
وَصِف رَغيفًا سَرِيّا/حَكَتهُ شَمسُ النَهار
أَو صورَةُ البَدرِ لَمّا اِس/تَتَمَّ في الاِستِدارِ
فَلَيسَ يَحسُنُ إِلّا/ في وَصفِهِ أَشعاري.

لم يعد الوقوف على الأطلال والتشبيب والفخر والمدح والهجاء من أولويات القصيدة، فالحاجة إلى الطعام أولى وجمالياته تفوق ما درج الشاعر العربي على استحضاره في قصائده.

تداخلت الثقافات في الزمن العباسي وتنوعت الأطعمة بشكل كبير وظهرت كتب الطبخ وقد أورد ابن النديم في فهرسه العديد من أسماء مؤلفيها، كذلك فعل المسعودي في (مروج الذهب) وكانت هذه المؤلفات تجمع بين أدب النديم والمسامرة والطبيخ، كما عند الشاعر كشاجم الذي كان طباخ سيف الدولة الحمداني. وظهرت طبقة الكدية، هؤلاء الطفيليون الذين أنشأ لهم الجاحظ كتابًا سمّاه (البخلاء). ونستطيع أن نعتبر كتاب (الطبيخ) لمحمد بن حسن البغدادي صلة الوصل بيننا وبين ما ضاع من تلك الكتب سواء كانت ترجع لإبراهيم الكاتب أو عمّ الخليفة الأمين، التي ذكرها كل من ابن النديم والمسعودي، فقد ملأه بوصفات إعداد الطعام وبالأشعار المصاحبة لها. وأمام هذا الواقع المتطوّر حيث انتقل الطعام من الحاجة البيولوجية إلى التمتّع المحض به، لا يجب أن نستغرب كيف غيّر زرياب عادات الطعام في الأندلس ومنها انتقلت إلى أوروبا.

الوفرة في الطعام بدأت بالتناقص وخاصة بعد سقوط الدولة العباسية، ليتحوّل الطعام إلى صوت سياسي. وإذا كان الشاعر اللاتيني الكوميدي جوفنيال قد كشف عن آليات السلطة الرومانية في إسكات شعبها، وذلك بتأمين الخبز له وإشغاله بالمهرجانات، فإن الشاعر ابن الجزار وصل به الأمر أن يقسم بالرغيف:

قسمًا بلوح الخبز عند خروجه/ من فُرنه وله الغداة بخار
ورغائفٍ منه تروقُكَ وهي في/ سحب الثِفال كأنّها أقمار
فكأنّ باطِنه بكفّك درهم/ وكأنّ ظاهِر لَوْنه دينار.

وإذا كانت تعتبر ألف ليلة وليلة اللاشعور الجمعي للشعوب العربية والإسلامية في ذلك الزمن، فمن الطبيعي أن يكون الطعام فيها نسقًا فاعلًا ومعبّرًا عن أحوال الناس ومعبرًا بين طبقة وطبقة اجتماعية، ففي الليلة السابعة والعشرين، يتزوّج أحد التجار من جارية زوجة الخليفة هارون الرشيد زبيدة ويحدث أن يقدم له طعام الزرباجة – تصنع من اللحم- فيأكل وينسى أن يغسل يديه وعندما خلا إلى الجارية شمّت منه رائحة الزرباجة، فاستشاطت غضبًا، ووصفته بأنّه سوقي لا يعرف آداب الطعام. هكذا أصبح الطعام وآدابه محدّدًا يفصل بين طبقات المجتمع.
غابت آثار الطعام عن السرديات العربية إبّان الحكم العثماني للمنطقة، ولربما تلمح لنا هذه النادرة إلى السبب، فيحكى بأنّ أحد الخلفاء العثمانيين أحبّ الباذنجان جدًا وكان هناك شاعر في حاشيته، عندما رأى ولع الخليفة بالباذنجان، شرع يدبّج القصائد في مدح الباذنجان. ولكن بعد مدّة من الزمن سئم الخليفة من الباذنجان، فأمر طباخيه أن ينفوه عن مائدته، وفي الحال تغيّرت قصائد الشاعر من المدح إلى هجاء الباذنجان، فاستفسر الخليفة عن ذلك، فأجابه الشاعر: أنا من حاشيتك يا مولاي، ولست من حاشية الباذنجان!

مع بدايات القرن العشرين وظهور طلائع نتاج الأدب العربي في الشعر والقصة والرواية عاد ذكر الطعام على استحياء، حيث نجد ذكرًا له لدى طه حسين في كتابه (الأيام) واستخدمه نجيب محفوط كثيمة ثانوية داعمة في سردياته، لكن لم يكن بحدّ ذاته موضوعًا لمحكيه. ونجد ذكرًا للمجاعة لدى هاني الراهب في روايته (الوباء) حيث يرصد المجتمع السوري في القرن العشرين، حيث يُجبر والدان على ترك طفلهما الرضيع تحت الجسر لمشيئة الأقدار، لعدم قدرتهما على إطعامه. ظل ذكر الطعام في الأدب العربي مجرد شذرات حتى لو كان عنوانًا لأحد الكتب. فقد كتب توفيق يوسف عواد رواية (الرغيف) راصدًا فيها المجاعة التي حدثت في زمن الحرب العالمية الأولى، حيث وصف المعاناة الشّاقة من أجل الحصول على رغيف واحد. أمّا الشاعر نزار قباني عبر حنكته اللمّاحة، فقد عنون إحدى قصائده بالثلاثية التي تحكم العقل العربي (خبز وحشيش وقمر). وقد يكون الكاتب محمود السعدني من أوائل من جعل الطعام موضوعًا لمحتوى كتابه (وداعًا للطواجن)، لكن لن نجد في أدبنا العربي تخيلًا كاملًا كُتب من أجل الطعام وحده، كما في رواية لورا إسكوفيل التي صدرت عام 1989 بعنوان (كالماء بالنسبة للشوكولاته) فهي رواية تدور عن أسرار الحبّ والحياة كما يكشف عنها المطبخ. وتعد رواية (خبز على طاولة العم ميلاد) لمحمد النعاس (ليبيا) الفائزة بجائزة البوكر من الروايات العربية التي استخدمت ثيمة الطعام وخصوصًا الخبز لرصد التغيرات الجندرية، لكن ما زال دخول الشاعر والقاص والروائي العربي يقتصر على شم روائح الطعام المنبعثة من المطبخ من دون ولوجه، لربما يعود ذلك إلى انشغاله بقضايا أخرى أكثر أهمية من التلذّذ بوجبة طعام مكتوبة بالحبر.

هذا الفقر السردي في تناول الطعام في منتجنا الثقافي الحديث تم تعويضه إلى حدٍ ما في الدراسات التاريخية والاجتماعية، وتحقيق المخطوطات القديمة المتعلّقة بالطعام، فنجد الباحثة نادية الغزي تصدر خمسة مجلدات بعنوان (حضارة الطعام في بلاد الرافدين وبلاد الشام).

إنّ الأمثلة المذكورة أعلاه عن الطعام في منتجنا الثقافي، هي مجرد علامات، لا بدّ هي قاصرة جدًا عن رصد سيرة الطعام في ثقافتنا العربية الحالية، على الرغم من أنّ الثورات جميعها تبدأ عندما تجوع المعدة؛ وقديمًا سُئل أشعب ما ناتج جمع اثنين إلى اثنين، فأجاب: أربعة أرغفة.

المصادر:

1- جدلية الحرف العربي وفيزياء الفكر والمادة، محمد عنبر. دار الفكر – دمشق 1987.
2- الطبخ في الحضارات القديمة، كاثي ك. كوفمان، ترجمة سعيد الغانمي. هيئة أبو ظبي للسياحة والسفر- مشروع كلمة لعام 2012.
3- أنثروبولوجيا الطعام والجسد، التنوع والمعنى والقوة، كارول م. كونيهان. ترجمة: سهام عبد السلام. المركز القومي للترجمة -القاهرة 2013.
4- Jean Anthelme Brillat-Savarin - Wikipedia
5- كلود ليفي ستروس - ويكيبيديا (wikipedia.org)
6- أنثروبولوجيا الطعام والجسد، التنوع والمعنى والقوة، كارول م. كونيهان. ترجمة: سهام عبد السلام. المركز القومي للترجمة -القاهرة 2013.
7- صناجة الطرب في تقدمات العرب، تأليف نوفل الطرابلسي، دار الرائد العربي، بيروت، الطبعة الثانية 1982.
8- ملحمة جلجامش، طه باقر. مديرية الثقافة العامة، بغداد 1971.
9- مجلة الفنون الشعبية، العدد34 لعام 1991.
10- الطعام في العالم القديم، جون إم ويلكنز وشون هيل، ترجمة إيمان جمال الدين الفرماوي. الناشر مؤسسة الهنداوي- القاهرة 2017.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى