رياض بوبسيط - حارسة الجمر لصليحة نعيجة، تركيب العنونة ودلالتها بين التصريح والتلميح

بعد مجيء الفكر البنيوي لدوسوسير والذي نظر إلى النص نظرة الهيكل المتكامل الذي ترتبط فيه كل العناصر المشكلة له ببعضها البعض ارتباطا وثيقا، أولت الدراسات النقدية الحديثة عناية بالغة الأهمية بالعنونة، إذ جعلت دراسة العنوان وتحليله توازي وقد تفوق دراسة النص، ذلك أن العنوان جزء لا يتجزء من الكتاب عامة، وهو هوية النص، الذي يصبح ناقصا وعاجزا عن التأثير والجذب، إذا ما وضع دون عنوان.

إن صياغة العنوان وتركيبه تركيبا لغويا جماليا ورمزيا يفتح النص على التأويل ويمنحه تخريجات دلالية مختلفة باختلاف القراء ومشاربهم، وكذا اختلاف تذوقهم للنص الإبداعي وتفاعلهم معه، يعتبر أمرا مهما أهمية النص ذاته. فالعنوان هو النافذة التي يطل من خلالها المتلقي على متن النصوص ومحتوياتها، وهو المثير الذي يثيره أيضا، فإن حقق العنوان تأثيرا على ذائقة المتلقي سيكون هنالك حتما استجابة من القارئ، فيستمتع بالنص ويتفاعل معه جملة بجملة. ولأن العنوان يكتسي هذه الأهمية، تنوعت دراسته وطرق الوقوف عنده، بين دراسات سيميائية ودلالية، وأخرى سياقية وبلاغية، وغيرها من العلوم والنظريات التي منحت العنونة قيمتها كمدخل إلى الكتاب وما فيه من نصوص ومواضيع.

إن عنوان النص هو ماهيته، وقد قلنا مسبقا أن دراسته في النقد الحديث توازي وقد تفوق دراسة النص عينه، ونحن وإن لم نكن مخطئين في ذلك، يمكن القول أن هذا ينطبق تماما على النص الشعري بصفة خاصة، تخصه كجنس أدبي يتميز برمزية لغته ومعانيه المجازية، ولذلك فصياغة العنوان في الدواوين والمجموعات الشعرية، يكون أصعب من كتابة القصيدة، خاصة العنوان العام لهذه القصائد، والذي يجب أن يكون شاملا لكل النصوص الشعرية ومنسجما معها، ومع ما تطرحه من صور وأفكار. العنوان الشعري أيضا لا بد أن يكون جذابا ملفتا للانتباه، ولذلك يتعمد الشعراء تركيب عناوين نصوصهم ومجموعاتهم الشعرية من مفردات لغوية في سياقات معنوية خارجة عن المألوف، بحيث تكون مفتوحة على الإيحاء والتأويل، وهذا ما يؤدي بالقارئ إلى التساءل عن معنى هذا العنوان، وما هي علاقته بالمحتوى.

لم يعد العنوان بمنأى عن اهتمام النقاد والمختصين بدراسة الشعر، بل أضحى أول ما يهتم به مع خلفية الغلاف، ومدى انسجامهما وتكامل أبعادهما الجمالية والإيحائية، ثم مدى توافق العنوان العام مع العناوين الفرعية للنصوص ومعانيها، وهذا ما يجعل حسن انتقاء العنونة لكل نص ثم الديوان الشعري كاملا، اشتغال شعري آخر، فالعنوان أيضا يحتاج إلى شعرية اللغة وعمق المعنى.


تركيب العنونة ودلالتها في حارسة الجمر:

تركيبة هذا العنوان تحديدا مشكلة من مفردتين لغويتين لهما من البساطة ما يجعل الجميع يفهمها بمجرد القراءة السطحية لهذا العنوان العام، لكنهما في المقابل ذا رمزية تحتاج إلى التفكيك والتحليل، فمفردة حارسة وظفت هنا بمعناها العادي والمتداول عند كافة القراء، لكن الشيء الذي جعلها تحمل معنى مجازيا مختلفا، هو مفردة الجمر والتي كانت مفردة مضافة، أتت لتمنح العنوان رمزية مفتوحة على التأويل، لتجعل الجميع يتساءل ما المقصود بالجمر؟ وهل هناك من يحرس الجمر؟.

إن تركيبة حارسة الجمر عنوان ظاهر يخفي من وراءه معنى باطن، فالمتأمل في هذا العنوان يفهم من الوهلة الأولى أنه ثنائية أخرى بين تصريح وتلميح، تلميح إلى لغة النصوص وتراكيبها، وأسلوب طرحها ومضامينها ونوع الصور والمشاهد الشعرية المشكلة داخلها...، وتصريح بأن هذه المجموعة الشعرية جمر من المعنى وبوح بما تخفيه الذات داخلها من مشاعر ملتهبة، واستنطاق لكينونتها الوجدانية والفكرية، وهنا نعود إلى مفردة حارسة، والتي اتضحت الأمور بشأن دورها في العنوان، إذ أنها وظفت دلالة على أن الشاعرة في نصوصها هذه تحرس أناها وتساءل أحزانها ومخاوفها بوحا واعترافا، ويتضح ذلك في قولها:

أعترف:
أدمنُ الانصاتَ الى قلبى
أتقنُ فهمَ مواجعي
أُدركُ مَفَاتِيحَ الأبوابِ التي تزودني بالسكينةِ
أُدرِكُ فحوى الرَّسَائلِ التي تــبثـــُّها مخاوفي
عند كل ليلةٍ أتوسَّدُ فيها مخدتي لأحلمَ بغدٍ لن يأتي∙
ربما ,,
قدَ أُضْرِمُ الَّنارَ بكلِّ صورِ العــامِ المنصرمِ
كي لا َأذْكُرَ مَخالبَ الفجَيعة ,,
كلَّ الوادعات المُتَعَاقِبَة,,
الحدادُ الذي عِشْتُهُ على مَدَارِ السَّنَة,,
الخَيْبَاتْ غَيْرِ المبَّرَّرة ,,
النَّوَارِسُ المُهَاجِرة ﺈلى نورٍ أقلْ,,
و نارٍ ليستْ أكثَرَ دِفــئًا∙
هذا المقطع من قصيدة حارسة الجمر والتي كان عنوانها، عنوان رئيسا للمجموعة الشعرية ككل، تصريح بمواجع الذات الشاعرة ومخاوفها، وما ورد في المقطع من مصطلحات تدل على احتراق الذات كمخالب الفجيعة، والخيبات والنار المضرمة، يثبث تناسق العنوان بمضمون النص وانسجامه معه، فالعنونة هنا تخدم معنى القصيدة وتناسبها دلالة وإيحاء.

جاء في نفس القصيدة قول الشاعرة:

سأقولٌ للعام القادم :
تعلمتُ كثيًرا
منْ زادِ الصَّمتِ ,
منْ حِكْمَةِ الإنصات المتأني,,
منْ بلاغة النَّظرِ في عيون الَّنارِ المتقَّدَةِ
المتأهبة لفتنٍ أكثَرْ∙
سأقول للعام الجديد :
لي أجندةُ ثقيلةُ جدًا,,
سَفْرَةُ حَالِمَةُ إلى أَرْضٍ كَـتَبـْـتٌـها,,
عواصمَ بالقلبِ تتأهَّبُ لانتظاري.
لنْ يكونَ هٌناكَ منْ جَدْوَى لِلْبَقَاءِ على أثـوبيا الفرحْ

هذا المقطع أيضا بوح بأحاسيس الشاعرة واعتراف منها بأنها تعلمت كيف تحرس ذاتها من الجمر والاحتراق، وأن هذا اللهيب بداخلها قد يخمد طوعا للصمت والإنصات، وإننا قد لا نبالغ إذا ما قلنا أن حارسة الجمر هو التركيب الأنسب لهذا النص، حيث أنه كان موحيا بحزن النص قادرا على احتواء معانيه.

موافقة العنونة العامة لهذه المجموعة، لم يقتصر على نص حارسة الجمر فقط، بل إنه يشمل جميع النصوص ومعانيها، وهو يناسب عناوينها الفرعية أيضا، ولأنه كان سيشملها، كان لابد عليه أن يمهد لها ويتنبأ بما ستحتويه من مناجاة للذات وبوح بحزنها وما خلفه من جمر بداخلها، ولذلك كانت العناوين الفرعية أيضا، في سياق متصل مع العنونة الرئيسية، وهي جميعا تتشارك في كونها تصريح برؤى الشاعرة، تلميح إلى حالاتها النفسية.
إن صياغة العناوين في مجموعة حارسة الجمر يوحي بوعي الشاعرة بمضامين نصوصها ومعاني الأفكار التي خلقتها شعريا وفنيا، حيث أن أغلب العناوين، إن لم نقل كلها توحي بذاتية الشاعرة وحالاتها النفسية التي جعلتها تكتب ذاتها وتعبر عن وجودها وأحاسيسها، وقد اعتمدت في صياغة هذه العناوين على تراكيب لغوية مختلفة.

1/ التركيب المفرد:

اختصرت الشاعرة عناوين أغلب نصوصها في مفردة لغوية واحدة، حيث إكتفت بهذه المفردة لقدرتها على إيجاز مضمون النص وإيفاءه حقه، وكذا منحه الغموض الذي يجعله أكثر شعرية وبلاغة من حيث مقاصده وما يرمي إليه، هذا ويجدر الإشارة إلى أن هذه العناوين جسدت فكرة النص لعمق معناها، ولمرافقتها رغبة النص في البوح والتصريح بكينونة صاحبه، ولذلك هو لم يكن بحاجة إلى تراكيب لغوية أخرى.
من المفردات التي وضعت في مقدمة النص كعنوان له، مفردات: (ملاحم، شرخ، خفوت، حمى، إرتجاف، أمنية، البئر)، وإذا ما قمنا بمقاربة هذه العناوين بالعنوان الرئيسي (حارسة الجمر) نجد أن القاسم المشترك بينها جميعا هي دلالة الخوف والإلتهاب والحرق التي تنتاب مشاعر صاحب النص، ومن أجل استيعاب هذه المشاعر ومناسبتها للعنونة الرئيسية ومضامين النصوص، تم الإستعانة بهذه المفردات التي تفتح باب التأويل على نصوص وجدانية مفعمة بالأحاسيس ومناجاة الذات، وهذا ما تؤكد عليه مصطلحات الخفوت وحمى والبئر أيضا.

2/ التركيب الإضافي:

من التراكيب اللغوية المعتمدة في صياغة عنوان هذه المجموعة الشعرية أيضا، التركيب الإضافي، والذي يقوم فيه صاحب النصوص بإضافة مفردة أخرى للمفردة الأولى، فتصبح مضافا لها، وهذا ما يمنح العنوان حركية أكثر، ويجعل المعنى أكثر اتساعا ما يمنحه نفسا جديدا من التأويل، ذلك أن هذه العناوين تحتاج إلى التفكيك دوما، من أجل معرفة مدى مجانسة بعضها لبعض، وما هي الدلالات التي تؤديها، سواء أكانت دلالة حقيقية أو دلالة مجازية مبتكرة، والملاحظ دوما أن هذا النوع من التراكيب اللغوية في العنونة، يقصد توليد معان جديدة غير تلك المتعارف عنها، بالاعتماد على التخييل بطبيعة الحال.
من التراكيب الإضافية في مجموعة حارسة الجمر: إياب الشوك، غنج الصدفة، موال الندى، شهقة اللقاء، بوليميا البوح، مخالب الأسئلة، وهي كلها عناوين تساءل القارئ وتثير إدراكه لها، وتمكنه من فهم ما تحيل إليه، وإذا ما أتينا على هذه العناوين تحليلا يتبين لنا جليا، أنها تفتح الباب على نصوص ذا نزعة ذاتية تحرس الشاعرة وجودها، ويستنطقها التصريح بما يتجمر داخلها من شهقة وشوك، وأسئلة تحرك عقل الشاعرة وتستفز عواطفها، وهذا أيضا ما نجده في متن القصائد. ومن ذلك هذا المقطع من قصيدة شهقة اللقاء، والذي جاء فيه:

مالذي يؤجج النار
يا أيها القلب؟
صريعا
سقط في فخ البكاء
تساقط دموع الروح
يمر السائح الأجنبي
يلتقط جثث اللحظة
يأمرني باصطناع الفرح.

وجاء في مقطع آخر من نص موال الندى، قول الشاعرة:

تأتي الأشياء دفعة واحدة
تتجمل على يديها الفلوات
ترتمي بين أحضانها الكلمات
ترحل بغتة
تأخذ الذكرى والدمع ونزيف الأمكنة
تأخذ معها أمنيات العهد
ونكوص القبرات
تحتمي بالنظر إلى نشوب حرب قاتمة
سوف تأتي!

ما وصفته هذه المقاطع من قلب مؤجج بالنار، وسقوط في فخ البكاء، واصطناع للفرح أيضا، وكذلك نزيف الأمنيات ونشوب الحرب، وغيرها من الصور التي تجسد حزن الشاعرة وخيبتها، هي تحديدا ما كانت تلمح إليه تلك العنونة بتركيبها الإضافي، فعلى الرغم من أنهما مفردتين فقط، إلا أنهما جسدتا فكرة النص بكل إختصار، وهنا يمكن القول أن العنوان تلميح، في حين أن النص تصريح بما لمحت إليه العنونة التي تم وضعها عمدا.

3/ تركيب الجملة:

وردت العنونة في نصوص صليحة نعيجة أيضا على شكل جملة نحوية مقبولة الطول، حيث أنها لم تكن طويلة حد الحشو والإطناب، وهذا طبعا لا يتفق مع خصوصية العنوان، والذي يمتاز بالقصر والإيجاز، والإيحاء بدرجة كبيرة خاصة عندما يتعلق الأمر بالشعر، وربما هذا ما تم أخذه بعين الإعتبار في صياغة يعض عناوين هذه المجموعة، ومنها نذكر ( عندما يكفهر الربيع بالغضب، أسطورة للأزمة كلها، ناي لأوصال مبتورة الأحزان، أسير نحو زوابع الروح، عتاب أخير لموانئ الروح). الملاحظ أن أغلب هذه العناوين مشكلة من أربع مفردات أو أقل، ولقد تم انتقاءها بحذر شديد من أجل أن تناسب مواضيع المتن الشعري، وحتى تؤدي نوعا من الدلالة الشعرية المختلفة، والتي لا يتم تداولها إلا في الشعر، فعتاب أخير لموانئ الروح مثلا تمنح المتلقي تأويل هذا النص على من اصطفوا في الروح ثم رحلوا، وربما عتابهم أكثر ما يريح الشعراء، ذلك أن العتاب لانهم في مثل هذه الحالات الشعورية. ويمكن التمثيل لذلك بهذا المقطع الذي تقول فيه صاحبة النص:

غيمة فاجرة
عبرت كل الحدود
ولا يحلو لها المقام
إلا على شواطئ قلبي
غيمة عمرها
نكسة بل نكستان
أراقب خطوي
أحتمي بالسماء علها تمطر
لماذا
منذ الأزل
تصطف كل الخيانات
ولا يلتفت الجناة لنبضي؟

إن الجمر الذي يوحي به العنوان الرئيسي لهذه المجموعة، لا ينبثق من الخوف والشهقة والإرتجاف فقط، وإنما أيضا من الحب أحيانا أخرى، ذلك أن هذا الإحساس اتجاه من نحب يولد بداخلنا عالما من الدفئ، وعندما يكون هذا الحب منسوبا إلى الأم فإردف الدفئ بالأمان أيضا، وهذا ما أراد عنوان أمي خيلاء الأزمنة، الإحالة إليه، فالأم هي حبيب الأزمنة وبوجودها لا ينقطع عنا الدفئ وجمر حنانها، وإذا ما اطلعنا على القصيدة يتثبث لنا أننا لم نجانب الصواب فيما نقول، وذلك عندما تقول القصيدة في هذا المقطع:

لأمي
أساطيرها الطويلة
لها خرافات الحكي

لها أمجادها
لها عصافيرها التي تغرد بكل لغات الدنيا
تسافر عاليا
بأراضي الكلام
لتزرع الفرح
وتقطف تفاح الفكرة
لأمي
متسع من الوقت لتقول
ما تعجز عنه القصيدة.

في هذه المجموعة أيضا عنوان آخر طويل نوعا ما، وهو عنوان نص ثرثرة قلب في عتابه ما قيل الأخير لقيصر، وهو بالضبط يحتوي على ثمان مفردات، الأمر الذي جعله يتسم بالثقل وفقد كثيرا من رمزيته وقدرته على الإيحاء الموجز، كما أنه قد يمنع القارئ من التأويل المفتوح، لأن هذا العنوان حدد الواصف والموصوف، وعلى الرغم من أن العنوان كان بإمكانه أن يرد في تركيب أكثر بلاغة وتضمينا للمعنى الموحي إليه، إلا أنه لم يكن بعيدا عن فكرة المجموعة ككل والتي كانت في خطاب مفتوح ومتواصل مع الذات الشاعرة، وهذا ما اختصرته عبارة ثرثرة قلب.

تجتمع شهقة اللقاء، مع ثرثرة القلب، والشرخ وحمى، وكذلك الخفوت ومخالب الأسئلة...، في هذه المجموعة الشعرية لتشكل جمرا أشعلته المشاعر والوجدان، وحرسته القصيدة، فكانت هذه العناوين في انسجام مضامينها وتوافق موضوعاتها إشتغالا آخر، منح للشعرية ما تحتاجة من رمزية وجمالية وتأويل، تشد القارئ وتثيره ذائقته لتذوق المعنى وتفكيكه، انطلاقا من العنونة وصولا إلى فكرة النص.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى