محمد جبر حسن ‏‎ - لعبة الكتابة..

مولعٌ بكتابة النصوص السردية، وبعض من هذه السرديات غرائبية المحتوى، يعرف شخوصها الذين يخلقهم من خياله المحض أو من واقعه الحقيقي، وحتى من الممازجة ما بينهما، وأحياناً أُخرى من خلال استنهاضهم من قاع ذاكرته المتعبة التي استوطنوا فيها لسنوات طويلة، ليقوم بعدها بدفعهم على سطح وريقات كرّاس قديم وريقاته تميل الى اللون الأصفر يكتب به ما يجول في خاطره ونفسه لتلعب هذه الشخصيات ادواراً يرسمها لهم بحرفية السرد ووفق جنسه الأدبي الذي يستهويه.
قرر هذه المرة أن يكتب نصاً جديداً يحدد فيه مثل كل مرة ما (يجب) ان تفعله كل شخصية وحسب الدور الذي يناط لها.
‏‎فجأة تراجع عن هذا الفعل بعد أن سمع هاتفاً في داخله يقول له:
قف.. ماذا أنت فاعل؟ أترك سلطتك على مسار النص و دَع لشخصياتك السردية فسحة من الحرية، اعتقهم ولا تضع قيودك عليهم.
فكّر بما سمع وقال لنفسه لن يضرّني شيء إن رضخت هذه المرة لهذا الهاجس وأرى الى أين تسير الأمور، ولا بأس ايضاً بحذف كلمة (يجب)، سأترك الأمر للشخصيات بالحركة والتنقل بين الجمل كيفما يشاؤون.. مَن يدري ربما يقومون بأدوارٍ كانوا يحلمون بها أو يتمنون أن يعيشونها وجاءتهم الفرصة الآن ليظهروا مهاراتهم في تجسيد هذه الأدوار.
قام متثاقلاً لتهيئة الأجواء المناسبة التي يسميها بعض الأدباء والمثقفين ب(طقوس الكتابة) حتى تظهر الشخصيات على مسرح الأحداث -الورقة- واكتفى لنفسه بالمشاهدة.
‏‎هو الآن في اجواء هذه الطقوس، ينظرُ الى القلم الذي ستقع عليه المهمة والعبء الأكبر بتدوين مجريات السرد المتوقع كتابته، أطال النظر اليه وكأنه يحدثه:
-ماذا تقول يا قلم؟ هل أنا ملزم بالتودد إليك لتحفيزك ان تكتب كلمتك الأولى التي تبدأ فيها القصة؟
انتظر منهُ ان يُحرّك حروفه، ويستعرض خزينه من الخيال وذخيرته من المصطلحات السردية، انتظر كيف ستكون كلماته، هل هي صادقة؟ خائفة؟ خائنة؟ مترددة؟ هل هي كلمات حق لا تعرف المداهنة والمجاملة للكاتب أو للقرّاء أو الساسة الذين يطربون على كلمات المديح من هذا وذاك؟ ويتطيرون من أية كلمة تخدش كبريائهم المزيّف، أو تتعرض لفسادهم الذي أزكم الأنوف بتملق الحروف، أم كلمات مفروضة عليه من جهة سياسية يخاف منها على نفسه، أو جهة دينية يخشاها ولا يتقرّب منها لكثرة ما أُشيع عنها وقيل عنها ما لم يقله مالك في الخمر!
ترك القلم وهو حائر مثل حيرته وأكثر ونظرَ صوب الكرّاس الذي ستدور على اديم صفحاته مجريات أحداث القصة.
و‏‎بعد مرور عدة دقائق.. ثم بعدها مرور ساعة لم يحدث شيء!
‏‎-ما هذا؟ ما الذي حدث حتى تتوقف الحروف في ذاكرة القلم ولم تخرج منه؟
حسناً حسناً سأنتظر عسى أن ينزف القلم حبره ويتجسد حروفاً طال انتظارها..
للأسف لا شيء جديد..
بقي الوضع كما هو!!
جراء هذا وبعد أن أمضى معظم اليوم بالإنتظار شعرَ بخيبة الأمل وقرر أن يترك الأمر لغاية الغد وعندها سيكون لكل حادث حديث.
‏‎ لكن الذي حصل في الرمق الأخير من الليل وفي اللحظة التي أراد فيها إطفاء ضوء المصباح الموضوع بالقرب من سريره خُيل له إنه رأى خيالاً لم يعرف طبيعته، ولم يميّز جنسه يتسلق حافة الكرّاس ماراً على نبلة القلم و(يوشوش) معه بكلام خفيّ غير مفهوم، ومن ثم يتمدد بالقرب منه دون حراك!!
‏‎انتابه الفضول لمعرفة ردة فعل القلم فتراجع عن إطفاء النور وبقي ساكتاً لا ينبس ببنت شفة..
فوجئ بحدثٍ لم يخطر بباله ابداً ولم يكن يتوقعه، عندما قام الكرّاس بإغلاق دفتيه، وانسحبت نبلة القلم الى داخله وأبتعد كل واحدٍ منهما عن الآخر بمسافة وكأنهما يرسلان رسالة يعلنان فيها رفضهما بكتابة نص جديد ما لم تكن فكرة النص حاضرة قبل كل شيء!!

محمد جبر حسن
‏‎

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى