أحمد محفوظ عمر - أضرب على الدف... فمن يرقص؟؟

1

وقف العم عبده وسط السوق المكتظ بالمارة قبل الغروب بدقائق ورفع الدف إلى أعلى بيده اليسرى حتى قابل وجهه وأخذ يهزه برفق ثم ضرب بأصابع يده اليمنى على طرفه لحظات. ولما سلس له قياد الإيقاع أرتفع صوت الدق وبدأ جذعه يهتز.. والناس يتجمعون ويضربون حوله حلقه وهو يجيل الطرف فيهم بسرور ثم أنطلق صوته بنشيد قديم وكلمات مرتجلة شعبية بدأه بذكر الله مناشدا الناس بالصلاة والسلام على رسوله الكريم.
وبعد أن أثنى على نفسه أستمر يسرد بصوته السريع وإيقاعه المنغم قصة الشاب الذي أنتحر بعد أن رمى بنفسه من أعلى العمارة التي يسكن أحدى شققها احتجاجا على البطالة الطويلة عن العمل وعن الرجل الذي أغلق باب بيته ومات مع أسرته جوعا بسبب الفقر.
وكان كلما يرين الصمت حوله يزداد صوته ارتفاعا وايقاعه حرارة وجسمه حركة.
وحين اقترب من نهاية نشيده. عاد وذكر الناس بالصلاة والسلام على سيد الخلق اجمعين والإكثار من ذكر الله الحليم العظيم.
بعد الانتهاء من الغناء لم يصفق له احد من المتجمعين.. وطاف بعينيه في الوجوه المحدقة به من كل جانب فلمس الاكتئاب واضحا فيها.. تهالك على ركبتيه وبسط أمامه عمامته التي انتزعها من فوق رأسه على الأرض وصمت وهو ينكس وجهه للأرض. وأخذت النقود الورقية والمعدنية تتساقط على العمامة المنبسطة بصمت.
وعندما توقف سقوط النقود رفع وجهه حوله فرأى الناس قد تفرقوا من حوله وكل واحد في طريق.
2
في عصر يوم توقف العم عبده أمام مجلس للقات مشرع الباب القى بالتحية وسمع الرد عليها من الحاضرين بهمهمات هامسة أرسل نظراته إلى الوجوه بخجل لحظات وحين تأكد من ارتفاع اللغط بين الجالسين والتجاهل واضح لوجوده أمام الباب رفع الدف إلى أعلى بيده اليسرى واخذ ينقر عليه باليد اليمنى برفق وبعد موت اللغط بين الجالسين والأنظار تتجه إليه أرتفع صوت ضربات الدف وتمايل جسده الفارع مع الايقاع وخرج صوته مبحوحا وهو يغني نشيدا شعبيا متداولا بكلمات اعتاد ارتجالها في مثل هذه المناسبات ودعا الناس الى ذكر الله العظيم والصلاة والسلام على سيد الخلق وخاتم الرسل وشرع يعدد مساوئ غلاء المعيشة ورفع الأسعار للمواد التي تمس حياة الناس اليومية واضرارها الجسيمة على المواطنين واقفل نشيده يحض الحاضرين على ذكر الله والصلاة السلام على سيد المرسلين وتوقف الايقاع المؤسي.
ران صمت مهيب بين الحاضرين للحظات وعلى وجوههم تبدت علامات الأسى والاكتئاب.
همهم احدهم ضجرا: لقد أحبطت خطتنا جئنا نمضغ القات لكي ننسى الواقع الأليم فجئت تذكرنا به.
بدأت الايدي تتناقل النقود أوراقا وقطعا معدنية وتستقر في الاخير بيد العم عبده.
3
قبل أن يتوقف أمام باب لمجلس قات كان بعض الأطفال يصرخون خلفه مطالبين ان يضرب على الدف ولكنه كان يتجاهلهم اثناء سيره وعندما توقف التفت اليهم ورفع يده الى فمه ليصمتوا.
جاس ينظراته في وجوه الجالسين بالداخل... كانوا مشغولين بأحاديث متفرقة وجوه مقطبة ووجوه مبتسمة.. لم يعره احد منهم اهتماما شعر بالحرج وهم بالتراجع للحظات ولكن فجأة خرج صوته وارتفعت يمناه بالتحية معا. استغرب من حركته هذه ولكنه تماسك.
مات الكلام بالداخل وهم يقذفون بنظراتهم إلى وجهه أمام الباب بالخارج ولمس هو في عيونهم ذلك الاحساس الخفي الذي يستوطن أعماقه منذ فترة ليست بالقصيرة.
رفع العم عبده الدف إلى يده اليسرى وحركه بالهواء مرات عديدة ندت عنه أصوات غير مرتبة لحظات قبل أن ينقر بيمينه على جلدته ويستوي الايقاع هز جسده ببطء مع حركة الايقاع وأنسحب صوته من داخله محملا بعذاب عميق وسحيق لا يقوي على حمله إلا ندرة من البشر.
هيمن صمت مهيب على الموجودين في مجلس القات وقد تعلقت عيونهم المرهقة بوجهه المخدود المغضن.. وهو يحثهم على ذكر الله جلت قدرته والصلاة والسلام على من بعثه للعالمين هاديا ونذيرا لبني البشر ثم اسرعت أصابع يده اليمنى تضرب على الدف بإيقاع سريع وعال...وبدأ الانفعال على وجهه وجسده الأعلى واضحين.. ومضى بصوت متهدج يعدد مساويْ القبلية والمناطقية والرشوة وعدم استتباب الآمن وعرج في الأخير على السامعين للصلاة والسلام على آخر المرسلين والاستغاثة بمن يفرج كربة الداعي إذا دعاه.. الله أعدل الحاكمين.
صمت وظهر الاربداد والإرهاق على وجهه جلس صامتا وأنفاسه تترى بسرعة.
أخذت الايدي تتناقل الاوراق النقدية من قبل الحاضرين في مجلس القات والصمت يتسيدهم وتستقر في يدي العم عبده.
4
وهو يحث الخطى متجها إلى سكنه في شارع تكسوه الظلمة بردائها الثقيل وتتقطع فيه أقدام المارة بعد أذان صلاة العشاء.
توقفت سيارة بجانبه وقفز منها ثلاثة رجال بثياب مدنيه وأحاطوا به من الجهتين شاهرين مسدساتهم في وجهه وطلبوا منه الركوب معهم بدون ضوضاء قبل ان يسأل عن السبب دفعوه بعنف إلى السيارة .. داهمه خوف جبار سمع هدير محرك السيارة يرتفع وهي تمرق في الأزقة الضيقة.. وركبتاه تحت بطنه ووجهه مندس فوق حديد قاع السيارة الحار...ويداه تطوقان الدف بين وجهه وصدره.
توقفت السيارة فجأة وصمت محركها وانتشلته الايدي الغليظة للخارج ودفعته الى غرفة صغيرة من مبنى كبير بقوة مهولة سقط على الارض وهو يرتعد فرقا من هول المفاجأة وشراسة المعاملة وقد اغلق عليه باب الغرفة.
ادار بؤبؤي عينه فيما حوله فرأى مصباحا صغيرا يتدلى من السقف ويهمس في ضوء خجول.
تحامل على نفسه ونهض واقفا مشى إلى منضدة طويلة وحيدة تلتصق بالجدار المقابل لباب الغرفة وجلس عليها بتهالك أراح رأسه وظهره على الجدار وهو يحتضن الدف فوق صدره والخوف المتعاظم يملأ اعماقه. ارتجت الغرفة حين انفتح باب الغرفة بقوة مباغته ويدخل منه ضابطان ورجل واحد بملابس مدنيه ارتاع العم عبده وقف امامه الرجال الثلاثة انهمرت الاتهامات عليه من الافواه الثلاثة المهددة:
= أنت تنشر الفتن بين الناس.
= أنت تختلق حوادث لم تحصل وتنشرها بين الناس
= الأمن مستتب في البلاد وانت تحاول زعزعته بأكاذيبك.
صمتت الأفواه الثلاثة وأخذت العيون الست تحرث في وجهه بغضب متحفز.
رد بصوت مرتجف
= أنا أردد ما أراه وأسمعه وتنشره الصحف.
داهمه صراخ ضابط وهو يقترب منه:
= أنت تعمل لجهات معادية في الداخل والخارج
قال بنبرة ضعيفة.
= أنا لا أعمل لحساب أحد وإنما لكي أعيش من عملي هذا.
صرخ الضابط
= كاذب
ثم هوى بيده على خذ العم عبده الأيسر.. مال مع شدة اللطمة الحديدية على جانبه الايمن وفقد وعيه لثوان.. ثم استعاد وعيه وهو يرتعش.. وقد ضاعت الرؤى من عينيه.. وشعر بمادة لزجة تسيل من فمه وتسيح خارج شفته السفلى من الجانب الأيسر فمد يده اليسرى يتحسسها ولكنه قبل أن يتأكد من ذلك..أمتدت يد الضابط وأمسكت بعمامته فوق رأسه ورفعتها مع رأسه إلى أعلى واعادته الى وضعه الأول.. أنفك رباط العمامة وتدلى نصفها إلى حضنه ونظر الى الضابطين بصعوبة فتراءت العيون الغاضبة المصوبة الى وجهه قد تحولت إلى جمر أحمر.. تتناسل وتنسل من الوجوه الحاقدة إلى عينيه وتمنع عنهما الرؤية وتحرقه بفظاظة.
تقدم الضابط الآخر إليه وهو يحمل بندقية وفي مقدمتها سكين حاد وقال بصوت آمر:
= هات الدف الذي يقبع في حضنك.
غمغم العم عبده بصوت يشوبه الحذر وسهام العيون تخترق أعماقه وتمنع عن حدقتي عينيه صفاء الرؤية وهو يطوق الدف بيده فوق حضنه.
= لن أسلمه إلى أحد وهو مصدر رزقي.
بغضب عارم دفع الضابط بالبندقية إلى حضن العم عبده...
فاخترقت السكين جلد الدف ولامس طرفها بطن العم عبده صرخ مفجوعا وهو يتحسس جلد الدف المخترقة
وشعر بالدم ينبعج من بطنه خيطا حارا وينزل من فوق السرة الى شعر العانة.
سمع صوتا مهددا:
هذا تحذير أولي وإذا عدت إلى نشر الأكاذيب مرة أخرى ستكون نهايتك.
لم يحر العم عبده جوابا .. بل أستمر في ارتجافه الواضح فجأة أمتدت يد غليظة ودفعت جبهته بقوة إلى الخلف .. فارتطمت مؤخرة رأسه بالجدار الذي يسند ظهره .. فندت عنه آهة ألم طويلة : ومال جسده إلى جهة اليسار وفقد الوعي.
5
ألفى العم عبده نفسه في السيارة مرة أخرى جاثيا على ركبتيه .. ووجهه منكفئا على قاعها..أرجل ست تحيط به من الجانبين وقد تدلي جزء من عمامته على كتفه والجزء الأخر ما يزال مثبتا على رأسه وضجيج محرك السيارة يكاد يصم أذنيه والآلام تشدد من قبضتها على رأسه .. والخوف المجنون يعربد في أعماقه وهو يرتعد والسيارة تنهب الأرض بسرعة في الشوارع الضيقة والمزدحمة .. تلف يمينا وتسرع .. ثم تهدئ السرعة لتدخل يسارا.
بغتة توقفت السيارة وهمد هدير الدوران..شعر بيد قوية تمسك بقميصه من الخلف بالقرب من رأسه وترفع وجهه إلى أعلى وتسحبه خارج السيارة بعنف وتقذف به إلى الطوار.
وجد نفسه ممددا على جانبه الأيمن.. وسمع ضجيج محرك السيارة يزداد قوة ويدفعها بعيدا عنه.
بقى هامدا لحظات وأنفاسه الحرى تترى بلا نظام .. ثم فتح عينيه بصعوبة وأدارهما حوله يتحسس بهما ما يحيط به من أشياء .. فرأى الظلام يسد عليه كل المنافذ زحف إلى آخر الطوار بجسده وحين أرتطم رأسه بباب حديد لدكان مغلق تلمس بأصابع يده الحديد..فوجده باردا أراح رأسه وظهره عليه بعد أن أستوى جالسا على المصطبة الخارجية للدكان.
داخلته وحشة رهيبة وهو يرى الشارع خاليا من المارة تحسس الدف المخروق بيديه وضمه إلى صدره ورفع رأسه للسماء وأنتبه فجأة على دمعتين تسقطان من عينيه وتتدحرجان على وجنتيه الشائبتين سمع نهنهة من داخله تنبعث وتتحول بعد هنيهات إلى نحيب خافت.
توقف فجأة عن البكاء حين شعر بالخجل يداهمه.. وضع الدف فوق حضنه واخذت يداه تسويان العمامة على رأسه .. ثم مرر أصابعه على جانب خذه الأيسر يتحسس الورم ويمررها على شفته السفلى فتأكد من تختر الدم ثم نقلها إلى خلف رأسه فلمس ورما ناتئا.
أحتضن الدف المبقور من جديد بحزن معتق وهو يكتنز كمية من الهواء المنعش في رئتيه.
فجأة برز من كبد العتمة شابان في العشرين من عمريهما وألقيا عليه التحية.
رفع رأسه إلى الشابين وفتح عينيه يتبينهما بصعوبة.
قال الشاب الأول=سلامتك يا عم عبده.
قال الشاب الثاني= قم معنا يا عم عبده.
تعاون الشابان في مساعدته على الوقوف أدخل الأول رأسه تحت إبط يده اليمنى وأدخل الثاني رأسه تحت أبط يده اليسرى.
وأمسك كل واحد منهما بيده إحدى يدي العم عبده، واليد الأخرى تلتف حول ظهره.. وجراه معهما الى الأمام.
سار الشابان والعم عبده الى مشارف السوق الطويل حيث الاضواء تسحق دياجير الظلام وتجمع البشر .
= يا عم عبده.. يا عم عبده.
توقف الرجال الثلاثة وهم ينظرون الى الخلف.. فرأوا صبيا يخرج من رحم الظلام مسرعا، وهو يحمل بيديه لفافة خضراء.
توقف أمامهم وسلمها الى العم عبده .. وهو يقول لاهثا:
= هذه هدية من أمي لك.
وقبل أن يسأله عن أمه وعن نوع الهدية.. كان الطفل قد قفل راجعا من حيث اتى ،وسرعان ما غيبته العتمة عن الأنظار .
فتح العم عبده اللفافة الخضراء بلهفة.. فتبدى له دف جديد .. سميك الجلد.. بديع المنظر. خفيف الوزن.
سحب الشاب الأول الدف المخروق.. وسحب الثاني الخرقة الخضراء.. وتفرق كل واحد منهما في طريق.. عن يمينه واليسار.
صرخ العم عبده بهما متسائلا:-
= لماذا تتركاني وحيدا ؟؟
توقف الشاب الأول وقال: أطمئن.. أنت لست وحيدا.
توقف الشاب الثاني وقال: سنكون بجانبك عند الحاجة .
واصل الشابان سيرهما.. وذابا بين الزحام والأنوار المتلألئة.
رفع العم عبده الدف بيده اليسرى الى أعلى حتى وازاه مع وجهه ..
ثم رفع يده اليمنى الى أعلى وضرب على جلدة الدف ضربة واحدة برفق كأنه يختبرها .. فسمع لها صوتا أعلى وأحلى ..
توالت ضربات يده اليمنى وهو يخطو الى الأمام ويدخل الى السوق الطويل المزدان بالأضواء المتقدة .. وبدأ جسده يهتز نشوة .
أعلى