تحتل منظومةُ (الطعام والإطعام) في البيئة القَبَلية موقعاً حسَّاساً، وشديد الأهمية. فهذه المنظومة دليل باهر على الكَرَم والسِّيادة والمكانة الاجتماعية الرفيعة. ولا شَكَّ أن المنْزلة الاجتماعية في الجاهلية كانت تقاس بالقُدرة على إعداد الطعام، وتنظيم الولائم، وإطعام الناس.
وهذه الأمورُ لا يمكن للشخص العادي أن يَقوم بها، وإنما يقوم بها شيوخُ القبائل ووجهاء القَوْم وأبناء العائلات «الشريفة» الثَّرية، فإعدادُ الطعام ليس عملاً مجانياً، أو شِعاراً مُفْرغاً من المعنى، بل هو عملٌ يحتاج إلى أموال طائلة ورجالٍ كثيرين. وقد بَرز الطعامُ كقيمةٍ أساسية في بعض الأشعار، واهتم بهذه القيمة شاعران من شعراء المعلَّقات هُما امرؤ القَيْس وطَرَفة بن العبد. والجدير بالذِّكر أن هذين الشاعرَيْن من أُسرتَيْن شريفتَيْن، فامرؤ القَيْس من عائلة مَلَكِية، وطَرَفة من عائلة شريفة غنية، لذلك ليس غريباً أن يتشرَّبا ثقافةَ إعداد الولائم للآخرين.
ويتَّضح الارتباطُ الوثيقُ بين المغامرات العاطفية وإعداد الطعام، فتظهر فكرةُ إطعام العذارى (النساء القريبات إلى قلب الشاعر) وبالطبع، إن المرأةَ تحب الرَّجلَ الكريمَ الذي يُنفِق عليها بلا حساب، ويقوم بتحقيق رغباتها الروحية والمادية. وأيضاً، تَظْهر مؤشِّرات شِعرية على «كثرة الطعام»، وهذا يدل على الغِنى والازدهار، ورغد العَيْش، والمنْزلة الاجتماعية الرفيعة. وتتجلى ثقافة إطعام الندامى (الأصدقاء) في النسق الشِّعري، مما يشير إلى ترابط العلاقات الاجتماعية، والحرصِ على حضور مجالس اللهو والاستمتاع، وتنظيمِ اللقاءات الحميمة بين الأصدقاء والأحبة. وأخيراً، يَبْرز الفرقُ بين طعام السادة وطعامِ الخدم، وهذا أمرٌ طبيعي في المجتمع العربي القَبَلي القديم الذي هو مجتمع طبقي إقطاعي قائم على التمييز والعنصرية.
1ـ إطعام العذارى:
يعيش الشاعرُ حُلماً سِحرياً مع حبيباته العذارى، وهو حريصٌ على خَطْبِ وُدهنَّ، وبعثِ الفرح في قلوبهنَّ، ونَيْلِ ثقتهنَّ. ولم يجد أفضل من ذبحِ بَعيره، وإطعامهنَّ من لحمه، وذلك تعبيراً عن حُبِّه لهنَّ، وسعادته بوجودهنَّ .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس:
ويَوْمَ عَقَرْتُ للعَذارى مَطِيَّتي فيا عَجَباً مِن كُورِها المُتَحَمَّلِ
ما زالت تلك الحادثةُ عالقةً بذهن الشاعر رغم مرور الوقت. وما زالَ ذلك اليومُ الذي عقرَ فيه بَعيره للعَذارى عَصِيَّاً على النسيان. لقد ذَبَحَ البعيرَ (المَطِيّة) من أجل عيون العذارى (الأبكار). وقد كان ذلك اليوم من أجمل أيام حياته، ففيه نالَ إعجابَ حبيباته، وكسبَ قلوبهنَّ. وهذه الذِّكرى الجميلة دَفعت الشاعرَ إلى تخليد ذلك اليوم المهم، وتمجيد ذلك الحَدَث البارز، لَيَبْقيا منارةً على طول الزمان، وتاريخاً مجيداً تتوقف عنده الأجيال، وشِعراً خالداً في قاموس العُمر . ثُمَّ تعجَّب الشاعرُ مِن حَملهنَّ رَحْل (كُور) بعيره بعد ذَبْحه، واستحواذهنَّ على متاعه وأشيائه بعد ذلك. لقد قُمْنَ باقتسام متاع الشاعر دون إعارته أي اهتمام، كأنه غير موجود معهنَّ. وهذا يشير إلى سقوط الحواجز بين العذارى والشاعر، لذلك تَجَرَّأْنَ عليه، وتَصَرَّفْنَ اعتماداً على عواطفهنَّ ودلالهنَّ، وَهُنَّ على ثقة تامة بأن الشاعر لا يَقْدر على منعهنَّ أو توبيخهنَّ، فَهُنَّ يَمْلِكْنَ سلاحاً فعَّالاً لا يَستطيع الشاعرُ مواجهته، وهو دلع الأنوثة. ولا يخفَى أن ضعفَ المرأةِ هو نقطةُ قُوَّتها. وقد قامت العذارى بتوظيف دلالهنَّ، واستغلالِ سُلطة أُنوثتهنَّ، من أجل التلاعب بالشاعر، والسيطرةِ على ممتلكاته بكل هدوء وبرودة أعصاب، وهكذا صارت الأنوثةُ الناعمةُ هي القوةَ الضاربةَ التي استسلم لها الشاعر.
ويقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس:
فظلَّ العَذارى يَرْتَمِينَ بلَحْمِهـا وشَحمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ
تستمتع العذارى بشبابهنَّ، ويَقضينَ وقتهنَّ في اللعب والمرح. يُلقي بعضُهنَّ إلى بعض لحمَ البعيرِ المشويَّ، فهو لحمٌ شهيٌّ ولذيذٌ منحهنَّ السعادةَ والنَّشوةَ والمتعةَ. إنهنَّ غارقاتٌ في التَّسلية والألعابِ الطفولية، تُلقي كلُّ واحدةٍ شواء المَطِيَّة (البعير) باتجاه رفيقتها، بهدف الاستمتاعِ والاستجمامِ، وكسرِ الملل وطردِ السآمة. يَقضينَ نهارهنَّ في ممارسة هذه اللعبة، متحرِّراتٍ من الضغوطِ الاجتماعية، وأعباءِ الحياة وتعبِ الفكر وثقلِ المسؤولية. لا شيء يُعكِّر مزاجهنَّ، ولا شيء يُكدِّر عَيْشهنَّ.
ويَفتخر الشاعرُ بِجَوْدة لحم بعيره، كما يَفتخر بالشَّحم، ويُشبِّهه بخيوط الحرير (هُدَّاب الدِّمَقْس) الذي أُتقِن فَتْلُه، فصارَ منظره يَبعث على البهجة، ويُسيل اللعابَ. وهذا يشير إلى أن المطيَّة تَمَّ شواؤها بصورة مُتقَنة فنضجَ اللحمُ وصارَ كُتلةً شهية، وذابَ الشَّحمُ وصارَ خيوطاً حريرية ناعمة مفتولة بكل جَمال وإتقان.
2 ـ كَثرة الطعام:
لا رَيْبَ أن كَثْرةَ الطعام مُؤشِّرٌ واضح على خصوبةِ المراعي، ووَفْرةِ المحصول الزراعي، والرخاءِ الاقتصادي والرفاهيةِ الاجتماعية والاستقرار السياسي، بالإضافة إلى هذا، فإن كثرة الطعام دليلٌ على قوة القبيلة وتماسكها الطبقي. والأمنُ الغذائي هو طريق السيادة الحقيقية لا الشعاراتية. وإذا استطاعت القبيلةُ أن تُطعِم نَفْسَها بنفْسها، فهذا يعني أن قرارها سيكون مستقلاً لا يَتْبع أي جهة. أمَّا إن عَجزت القبيلةُ عن إطعام نفْسها، فسوفَ تَخضع للقُوى التي تُقدِّم لها الطعامَ، وعندئذ تَخسر هَيْبتها وتَفقد مكانتها ويصبح مصيرُها لُعبةً في أيدي الآخرين.
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس:
فظلَّ طُهاةُ اللحمِ مِن بَينِ مُنْضِجٍ صَفيفَ شِواءٍ أوْ قَديرٍ مُعَجَّـلِ
إنه الرخاءُ الاجتماعي. لا مكان هنا للمجاعات، أو الصراع على الطعام، فالطعامُ يَكفي الجميعَ، كَثُرَ الصَّيْدُ وعَمَّ الخِصْبُ، واشتغل القومُ بالطبخ والشَّي. انقسمَ طُهاةُ اللحم (الأشخاص الذين يَعْملون على إنضاجه) إلى قِسْمَيْن: قِسْمٌ يُنضِجون شِواء مصفوفاً (صَفيفاً) على الحجارة في النار، وقِسْمٌ يَطْبخون اللحمَ في القِدْر. والقديرُ هو اللحم المطبوخ في القِدْر. كُلُّ فريقٍ يَعرف عَمَلَه بدقة، ويقوم بمهمَّته على أكمل وَجْهٍ. إنهما فريقان متكاملان. ولا يوجد أحدٌ بلا عمل. إنها عملية دؤوبة من أجل إعداد الطعام الفاخر الممتلئ باللذةِ والمذاقِ الطَّيب والرائحةِ الشَّهية.
3ـ إطعام الندامى:
لا بد أن يَحْضر في مجالس الأصدقاء (الندامى) في الجاهلية الطعامُ والخمرُ. وهذا أمرٌ طبيعي لأنه جزءٌ من عاداتِ الناسِ المتعلِّقةِ بالضِّيافة والكَرَم واللهو، والهادفةِ إلى تمتين الروابط الاجتماعية. يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد:
فَمَرَّتْ كَهاةٌ ذَاتُ خَيْفٍ جُلالةٌ عَقيلةُ شَيْخٍ كالوَبيلِ يَلَنْــدَدِ
تسلَّط الشاعرُ على إبل والده، ولم يعد أحدٌ قادراً على إيقافه، أو منعه من ذبح الإبل التي سيطرَ عليها الخوف، وهَيْمنَ عليها الذُّعر. وكُلما رَأت الشاعرَ أَدْركتْ أن ساعة النهاية قد حَلَّتْ. أثارَتْ مخافةُ الشاعرِ وهَيْبته هذه الإبلَ. وفي ظِل هذا الجَو الملبَّد بالرُّعب، وانعدامِ الثقة بين الطرفَيْن، مرَّت بالشاعر ناقةٌ ضخمةٌ (كَهاة/ جُلالة)، لها جِلْد الضَّرْع (ذات خَيْف) وهذه الناقةُ الضخمة السمينة مَنْظرها يُغري بذبحها، والحصولِ على لحمها، وتقديمه للندامى وَليمةً دسمة، لكنَّ المشكلة أن هذه الناقة الضخمة هي عقيلةُ أبيه الشيخِ الطاعنِ في السِّن، أي إنها أكرمُ ماله وأنْفسُ ممتلكاته. ولا شَكَّ أن ذَبْحها سَيُغضِب أباه اليلندد (الشديد الخصومة) الذي كَبُرَ سِنُّه، ويَبِسَ جِلْدُه، وشَابَ شَعْرُه، ونحل جِسْمُه حتى صارَ كالعصا الصخمة (الوبيل) يَبساً ونحولاً. ومع هذا، فقد نَحَرَ الشاعرُ كرائمَ مال أبيه لندمائه لكي يَبعث فيهم الفرح والمرح والنَّشوة، ويُوقنوا بأنه كريمٌ جواد، ونديمٌ مُخلِص، لا يُقيم وزناً للمال، ولا يَعْبأ بلوم اللائمين، حتى لو كان اللائمُ هو أباه صاحبَ المال. وبالتأكيد، إن العلاقة بين الشاعر العابث وأبيه الحريص متوتِّرة، ودليلُ ذلك هو وصفُ الابن لأبيه بأنه يلندد.
4 ـ طعام السادة وطعام الخدم:
إن السادةَ والخدمَ لا يأكلون معاً، ولا يأكلون الطعام نَفْسَه، فلا بد ـ في البيئة الجاهلية ـ من التفرقة بين الطرفَيْن، فهذه البيئة قائمة على الصراع الطبقي، والتمييز العنصري. يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد:
فظلَّ الإماءُ يَمتلِلْنَ حُوارَهــا وَيُسعى عَلَيْنا بالسَّديفِ المُسَرْهَدِ
ظَلَّ الإماءُ يَشوينَ حُوارَ الناقة (وَلَدَها) تحت الرماد الحار. وهذه العمليةُ تُسمَّى الامتلال. ويَسْعى الخدمُ على أسيادهم بالسَّنام المقطَّع (السَّديفِ المُسَرْهَدِ). لقد أكل السادةُ أَطْيَبَ الأجزاء، حيث إنهم استأثروا بقطع السَّنام، وتركوا الباقي للخدم. وذِكْرُ الحُوار يدل على أن الناقة كانت حُبلى، وهي أشْرف الإبل وأنْفس مالٍ عند العرب، وأعز ما تكون عليهم. وما ذَبْحُها إلا مؤشر على لامبالاة الشاعر، وأنه لا يُقيم وزناً لأموال عائلته، وأن هدفه هو الاستمتاع بأيَّ وسيلة، ومهما كان الثمن.
٭ كاتب من الأردن
إبراهيم أبو عواد
وهذه الأمورُ لا يمكن للشخص العادي أن يَقوم بها، وإنما يقوم بها شيوخُ القبائل ووجهاء القَوْم وأبناء العائلات «الشريفة» الثَّرية، فإعدادُ الطعام ليس عملاً مجانياً، أو شِعاراً مُفْرغاً من المعنى، بل هو عملٌ يحتاج إلى أموال طائلة ورجالٍ كثيرين. وقد بَرز الطعامُ كقيمةٍ أساسية في بعض الأشعار، واهتم بهذه القيمة شاعران من شعراء المعلَّقات هُما امرؤ القَيْس وطَرَفة بن العبد. والجدير بالذِّكر أن هذين الشاعرَيْن من أُسرتَيْن شريفتَيْن، فامرؤ القَيْس من عائلة مَلَكِية، وطَرَفة من عائلة شريفة غنية، لذلك ليس غريباً أن يتشرَّبا ثقافةَ إعداد الولائم للآخرين.
ويتَّضح الارتباطُ الوثيقُ بين المغامرات العاطفية وإعداد الطعام، فتظهر فكرةُ إطعام العذارى (النساء القريبات إلى قلب الشاعر) وبالطبع، إن المرأةَ تحب الرَّجلَ الكريمَ الذي يُنفِق عليها بلا حساب، ويقوم بتحقيق رغباتها الروحية والمادية. وأيضاً، تَظْهر مؤشِّرات شِعرية على «كثرة الطعام»، وهذا يدل على الغِنى والازدهار، ورغد العَيْش، والمنْزلة الاجتماعية الرفيعة. وتتجلى ثقافة إطعام الندامى (الأصدقاء) في النسق الشِّعري، مما يشير إلى ترابط العلاقات الاجتماعية، والحرصِ على حضور مجالس اللهو والاستمتاع، وتنظيمِ اللقاءات الحميمة بين الأصدقاء والأحبة. وأخيراً، يَبْرز الفرقُ بين طعام السادة وطعامِ الخدم، وهذا أمرٌ طبيعي في المجتمع العربي القَبَلي القديم الذي هو مجتمع طبقي إقطاعي قائم على التمييز والعنصرية.
1ـ إطعام العذارى:
يعيش الشاعرُ حُلماً سِحرياً مع حبيباته العذارى، وهو حريصٌ على خَطْبِ وُدهنَّ، وبعثِ الفرح في قلوبهنَّ، ونَيْلِ ثقتهنَّ. ولم يجد أفضل من ذبحِ بَعيره، وإطعامهنَّ من لحمه، وذلك تعبيراً عن حُبِّه لهنَّ، وسعادته بوجودهنَّ .
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس:
ويَوْمَ عَقَرْتُ للعَذارى مَطِيَّتي فيا عَجَباً مِن كُورِها المُتَحَمَّلِ
ما زالت تلك الحادثةُ عالقةً بذهن الشاعر رغم مرور الوقت. وما زالَ ذلك اليومُ الذي عقرَ فيه بَعيره للعَذارى عَصِيَّاً على النسيان. لقد ذَبَحَ البعيرَ (المَطِيّة) من أجل عيون العذارى (الأبكار). وقد كان ذلك اليوم من أجمل أيام حياته، ففيه نالَ إعجابَ حبيباته، وكسبَ قلوبهنَّ. وهذه الذِّكرى الجميلة دَفعت الشاعرَ إلى تخليد ذلك اليوم المهم، وتمجيد ذلك الحَدَث البارز، لَيَبْقيا منارةً على طول الزمان، وتاريخاً مجيداً تتوقف عنده الأجيال، وشِعراً خالداً في قاموس العُمر . ثُمَّ تعجَّب الشاعرُ مِن حَملهنَّ رَحْل (كُور) بعيره بعد ذَبْحه، واستحواذهنَّ على متاعه وأشيائه بعد ذلك. لقد قُمْنَ باقتسام متاع الشاعر دون إعارته أي اهتمام، كأنه غير موجود معهنَّ. وهذا يشير إلى سقوط الحواجز بين العذارى والشاعر، لذلك تَجَرَّأْنَ عليه، وتَصَرَّفْنَ اعتماداً على عواطفهنَّ ودلالهنَّ، وَهُنَّ على ثقة تامة بأن الشاعر لا يَقْدر على منعهنَّ أو توبيخهنَّ، فَهُنَّ يَمْلِكْنَ سلاحاً فعَّالاً لا يَستطيع الشاعرُ مواجهته، وهو دلع الأنوثة. ولا يخفَى أن ضعفَ المرأةِ هو نقطةُ قُوَّتها. وقد قامت العذارى بتوظيف دلالهنَّ، واستغلالِ سُلطة أُنوثتهنَّ، من أجل التلاعب بالشاعر، والسيطرةِ على ممتلكاته بكل هدوء وبرودة أعصاب، وهكذا صارت الأنوثةُ الناعمةُ هي القوةَ الضاربةَ التي استسلم لها الشاعر.
ويقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس:
فظلَّ العَذارى يَرْتَمِينَ بلَحْمِهـا وشَحمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ
تستمتع العذارى بشبابهنَّ، ويَقضينَ وقتهنَّ في اللعب والمرح. يُلقي بعضُهنَّ إلى بعض لحمَ البعيرِ المشويَّ، فهو لحمٌ شهيٌّ ولذيذٌ منحهنَّ السعادةَ والنَّشوةَ والمتعةَ. إنهنَّ غارقاتٌ في التَّسلية والألعابِ الطفولية، تُلقي كلُّ واحدةٍ شواء المَطِيَّة (البعير) باتجاه رفيقتها، بهدف الاستمتاعِ والاستجمامِ، وكسرِ الملل وطردِ السآمة. يَقضينَ نهارهنَّ في ممارسة هذه اللعبة، متحرِّراتٍ من الضغوطِ الاجتماعية، وأعباءِ الحياة وتعبِ الفكر وثقلِ المسؤولية. لا شيء يُعكِّر مزاجهنَّ، ولا شيء يُكدِّر عَيْشهنَّ.
ويَفتخر الشاعرُ بِجَوْدة لحم بعيره، كما يَفتخر بالشَّحم، ويُشبِّهه بخيوط الحرير (هُدَّاب الدِّمَقْس) الذي أُتقِن فَتْلُه، فصارَ منظره يَبعث على البهجة، ويُسيل اللعابَ. وهذا يشير إلى أن المطيَّة تَمَّ شواؤها بصورة مُتقَنة فنضجَ اللحمُ وصارَ كُتلةً شهية، وذابَ الشَّحمُ وصارَ خيوطاً حريرية ناعمة مفتولة بكل جَمال وإتقان.
2 ـ كَثرة الطعام:
لا رَيْبَ أن كَثْرةَ الطعام مُؤشِّرٌ واضح على خصوبةِ المراعي، ووَفْرةِ المحصول الزراعي، والرخاءِ الاقتصادي والرفاهيةِ الاجتماعية والاستقرار السياسي، بالإضافة إلى هذا، فإن كثرة الطعام دليلٌ على قوة القبيلة وتماسكها الطبقي. والأمنُ الغذائي هو طريق السيادة الحقيقية لا الشعاراتية. وإذا استطاعت القبيلةُ أن تُطعِم نَفْسَها بنفْسها، فهذا يعني أن قرارها سيكون مستقلاً لا يَتْبع أي جهة. أمَّا إن عَجزت القبيلةُ عن إطعام نفْسها، فسوفَ تَخضع للقُوى التي تُقدِّم لها الطعامَ، وعندئذ تَخسر هَيْبتها وتَفقد مكانتها ويصبح مصيرُها لُعبةً في أيدي الآخرين.
يقولُ الشاعرُ امرؤ القَيْس:
فظلَّ طُهاةُ اللحمِ مِن بَينِ مُنْضِجٍ صَفيفَ شِواءٍ أوْ قَديرٍ مُعَجَّـلِ
إنه الرخاءُ الاجتماعي. لا مكان هنا للمجاعات، أو الصراع على الطعام، فالطعامُ يَكفي الجميعَ، كَثُرَ الصَّيْدُ وعَمَّ الخِصْبُ، واشتغل القومُ بالطبخ والشَّي. انقسمَ طُهاةُ اللحم (الأشخاص الذين يَعْملون على إنضاجه) إلى قِسْمَيْن: قِسْمٌ يُنضِجون شِواء مصفوفاً (صَفيفاً) على الحجارة في النار، وقِسْمٌ يَطْبخون اللحمَ في القِدْر. والقديرُ هو اللحم المطبوخ في القِدْر. كُلُّ فريقٍ يَعرف عَمَلَه بدقة، ويقوم بمهمَّته على أكمل وَجْهٍ. إنهما فريقان متكاملان. ولا يوجد أحدٌ بلا عمل. إنها عملية دؤوبة من أجل إعداد الطعام الفاخر الممتلئ باللذةِ والمذاقِ الطَّيب والرائحةِ الشَّهية.
3ـ إطعام الندامى:
لا بد أن يَحْضر في مجالس الأصدقاء (الندامى) في الجاهلية الطعامُ والخمرُ. وهذا أمرٌ طبيعي لأنه جزءٌ من عاداتِ الناسِ المتعلِّقةِ بالضِّيافة والكَرَم واللهو، والهادفةِ إلى تمتين الروابط الاجتماعية. يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد:
فَمَرَّتْ كَهاةٌ ذَاتُ خَيْفٍ جُلالةٌ عَقيلةُ شَيْخٍ كالوَبيلِ يَلَنْــدَدِ
تسلَّط الشاعرُ على إبل والده، ولم يعد أحدٌ قادراً على إيقافه، أو منعه من ذبح الإبل التي سيطرَ عليها الخوف، وهَيْمنَ عليها الذُّعر. وكُلما رَأت الشاعرَ أَدْركتْ أن ساعة النهاية قد حَلَّتْ. أثارَتْ مخافةُ الشاعرِ وهَيْبته هذه الإبلَ. وفي ظِل هذا الجَو الملبَّد بالرُّعب، وانعدامِ الثقة بين الطرفَيْن، مرَّت بالشاعر ناقةٌ ضخمةٌ (كَهاة/ جُلالة)، لها جِلْد الضَّرْع (ذات خَيْف) وهذه الناقةُ الضخمة السمينة مَنْظرها يُغري بذبحها، والحصولِ على لحمها، وتقديمه للندامى وَليمةً دسمة، لكنَّ المشكلة أن هذه الناقة الضخمة هي عقيلةُ أبيه الشيخِ الطاعنِ في السِّن، أي إنها أكرمُ ماله وأنْفسُ ممتلكاته. ولا شَكَّ أن ذَبْحها سَيُغضِب أباه اليلندد (الشديد الخصومة) الذي كَبُرَ سِنُّه، ويَبِسَ جِلْدُه، وشَابَ شَعْرُه، ونحل جِسْمُه حتى صارَ كالعصا الصخمة (الوبيل) يَبساً ونحولاً. ومع هذا، فقد نَحَرَ الشاعرُ كرائمَ مال أبيه لندمائه لكي يَبعث فيهم الفرح والمرح والنَّشوة، ويُوقنوا بأنه كريمٌ جواد، ونديمٌ مُخلِص، لا يُقيم وزناً للمال، ولا يَعْبأ بلوم اللائمين، حتى لو كان اللائمُ هو أباه صاحبَ المال. وبالتأكيد، إن العلاقة بين الشاعر العابث وأبيه الحريص متوتِّرة، ودليلُ ذلك هو وصفُ الابن لأبيه بأنه يلندد.
4 ـ طعام السادة وطعام الخدم:
إن السادةَ والخدمَ لا يأكلون معاً، ولا يأكلون الطعام نَفْسَه، فلا بد ـ في البيئة الجاهلية ـ من التفرقة بين الطرفَيْن، فهذه البيئة قائمة على الصراع الطبقي، والتمييز العنصري. يقولُ الشاعرُ طَرَفة بن العبد:
فظلَّ الإماءُ يَمتلِلْنَ حُوارَهــا وَيُسعى عَلَيْنا بالسَّديفِ المُسَرْهَدِ
ظَلَّ الإماءُ يَشوينَ حُوارَ الناقة (وَلَدَها) تحت الرماد الحار. وهذه العمليةُ تُسمَّى الامتلال. ويَسْعى الخدمُ على أسيادهم بالسَّنام المقطَّع (السَّديفِ المُسَرْهَدِ). لقد أكل السادةُ أَطْيَبَ الأجزاء، حيث إنهم استأثروا بقطع السَّنام، وتركوا الباقي للخدم. وذِكْرُ الحُوار يدل على أن الناقة كانت حُبلى، وهي أشْرف الإبل وأنْفس مالٍ عند العرب، وأعز ما تكون عليهم. وما ذَبْحُها إلا مؤشر على لامبالاة الشاعر، وأنه لا يُقيم وزناً لأموال عائلته، وأن هدفه هو الاستمتاع بأيَّ وسيلة، ومهما كان الثمن.
٭ كاتب من الأردن
إبراهيم أبو عواد