دراسة فريدة لمنطقة ثقافية بكر، نهض بعبئها الثقيل الباحث المصري الجاد والشاعر - أيضا - الأستاذ (مسعود شومان) الذي أنفق ربع قرن من الجهد الدءوب حتى صدرت هذه الدراسة القيمة عام 2022 عن (الهيئة المصرية العامة للكتاب)، في 219 صفحة من القطع المتوسط، واشتملت على تصدير وإهداء وتقديم، ثم فصل أول عن الأطر النظرية والمنهجية، يليه فصل ثان دار حول مجتمع البجا، ثم الفصل الأكبر عن الشعر الشعبي وأنواعه. بعد ذلك ينهي الباحث دراسته بكلمة ختامية، ثم مسرد بأسماء الرواة والإخباريين، أتبعه بختام لطيف اشتمل على بعض الصور الميدانية.
اختار الباحث لدراسته عنوانا رئيسيا هو: "الشعر الشعبي في مجتمع البجا"، وتحته عنوان يفصّل هذا المجتمع: "حلايب – أبو رماد – الشلاتين". ثم يضيف محددات دقيقة أخرى: "دراسة ميدانية في الأنثروبولوجيا الثقافية". وإذا لوحظ امتداد العنوان وتعدد مصطلحاته؛ فإن الباحث يعلل ذلك بأنه جعله "حدا من الحدود التي تحكمنا، وندرك أن كل مفردة/ اصطلاح في جملة العنوان لا تأتي مستقلة عن قرينتها، لكن كل واحدة تشع على كل مكوّنات الجملة".
تدور الدراسة حول/ في أحد المجتمعات المصرية الهامشية التي تشغل حيزًا جغرافيا متميزًا وثقافة خاصة؛ فمجال الدراسة الجغرافي هو "أقصى منطقة في الجنوب الشرقي لمصر"، ويحدّد الباحث منها "الشلاتين – أبو رماد – حلايب"، ومجالها الثقافي هو "مجتمع البِجَا بما يضم من قبائل البشارية والعبابدة"، وهو مجتمع يمثل "منطقة ثقافية شديدة التميز، بل تدلنا الدراسات الميدانية على وجود نمط ثقافي متجذر في دورة الحياة من بداية الحياة وليس انتهاء بالموت".
ويبدو الباحث متعاطفًا ومنصفًا حين لا يطمئن إلى وصف هذا المجتمع بالمنطقة (الهامشية)، وحين يرفض وصفه بـ(الإثنية)؛ بل يثير (شومان) نقطة سلبية في غاية الخطورة لعلها هي سبب هذا التهميش، وذلك حين يشير إلى "دأب البعض على وصفها بأنها جماعات إثنية – ليس لوصفها فحسب – [بل] لإبعادها وتجنيبها في عمليات الفرز الفوقية التي تقوم بها السلطات المركزية في بعض الأزمنة السابقة". وهذه (الإثنية) ينفيها الدرس العلمي مؤكدا على "عمق مصرية القبائل هناك وارتباطها بسراديب الثقافة المصرية"، والدليل على ذلك بعض "مفرداتهم التي تنتمي إلى المصرية القديمة وتتردد على الألسنة"، ودليل آخر هو "أسماء أماكنهم [التي] لا زالت هي الأسماء التي أطلقها المصريون القدماء".
تنطلق الدراسة من دافع قوي، ومن ملاحظة عميقة هي "ندرة الدراسات الميدانية والنظرية التي تمّت على الإبداع الشفاهي في منطقة البحث" التي "هُمّشت طويلا لأسباب سياسية – جيوبوليتيكية – جغرافية". صحيح أن هناك دراسات دارت حول تاريخ قبيلة البجا وعاداتها وتقاليدها وقيمها و.... كما يشير الباحث، لكن هناك "ندرة في دراسة أنواع الأدب الشعبي من شعر وحكاية وألغاز وأمثال... إلخ"، وهي الفنون التي قامت عليها هذه الدراسة الرائدة، واتّخذت من الشعر خاصة موضوعها الأهم الذي شغل حيزا أكبر في الدراسة، من صفحة 99 إلى 198.
وإذا ذهبنا مع الباحث من أنه "لا يمكن إغفال الميل الشخصي في اختيار الدراسة؛ فإننا نقترب كثيرا من سبب اختياره؛ فالباحث شاعر اختار "الشعر الشعبي بوصفه أحد الفنون الأثيرة التي أبدعتها الجماعة الشعبية". وليس معنى هذا الاختيار أن الدراسة تنأى عن سائر الشئون الثقافية لمجتمع البجا؛ فإن الشعر فن "يتسق مع قيم منظومة جماعته وعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها". وهذه الأشعار الشعبية "مرتبطة بالممارسات اليومية... إذ لا تخلو مناسبة أو ممارسة من أشعار مؤدّاة – مغنّاة". ومن خلال دراسة هذا الشعر، والأدب الشفاهي عامة، يمكن التوصل إلى الخصائص الثقافية المميزة لهذا المجتمع، ذلك أن الإبداع الشفاهي – يقول (شومان) "يقوم بدور جمالي، لكنه لا يتخلّى عن دوره الاجتماعي في توثيق تاريخ القبائل وحركتها، وهو ترجمة عميقة للمزيج العبقري بين واقع الجماعة الشعبية وخيالاتها التي تستقيها من حياتها اليومية وتاريخها غير المكتوب". ومن هنا نرى الباحث "يحاول مكاشفة الاشتباك بين مجموعة العادات والتقاليد والمعتقدات في علاقتها بالفنون وضمنها الشعر، حيث تتداخل مشكّلة منظومة متماسكة تحكم قبائل المنطقة".
ولما كان الشعر لا ينفصل عن اللغة؛ فإن الدراسة لم تغفل عن العناية الخاصة باللغات المستخدمة في هذا المجتمع (التوبيداويت – البداويت – الرطانة/ العربية بلهجة العبابدة) التي تؤدَّى بها هذه الأشعار، وأولت عناية خاصة بما حدث لها "من تغيّرات نتيجة الاتصال الثقافي عبر آليات الترحال والاستقرار"، وهذه التغيّرات أمر طبيعي بل ربما يكون (حتمية جغرافية) في هذه المناطق التي "تتعرض لتغيّرات حادة بوصفها مناطق عبور ثقافات من المتن/المركز إلى الهامش/الحدود، والعكس".
وقد حدّد الباحث لدراسته أهدافا كثيرة ودقيقة وشاملة، ثم جعل هذه الأهداف في ثلاث مجموعات: الأهمية النظرية، والأهمية التطبيقية، والأهمية المنهجية.
فمن أهدافه النظرية: "محاولة قراءة هذه العناصر [الثقافية] وما حدث لها من تغيّرات، عبر مكاشفة أثر الاتصال الثقافي على بعض أنواع الإبداع (الشعر – الحكي – اللغة)"، ثم يمتد هذا الهدف إلى "الكشف عن العناصر الإبداعية المائزة التي تعبّر عن قدرة هذه القبائل على الإبداع المتسق مع دورة حياتها".
ومنها أيضا: "محاولة إضاءة وإثراء الدرس العلمي لهذه المناطق التي غاب عنها العلم كثيرًا"، و"إتاحة الفرصة لتعريف القارئ بمنظومة الثقافة في هذه المناطق"، من طريق "إزاحة ركام الغيوم المتواترة عن ثقافة بعض الجماعات أو المناطق" وهو يقصد الثقافات الهامشية التي يتحدث عنها البعض "بشكل لا يستند إلى أي دراسات ميدانية" تهيئ لإصدار حكم منصف ودقيق.
ومن أهداف الدراسة التطبيقية: "تقديم إضافة في مجال الأنثروبولوجيا الثقافية من خلال تحليل بعض الأنواع الأدبية الشفاهية التي لم يقترب الدرس العلمي منها".
ومن أهداف الدراسة ايضا أن "يتعمق العلم من خلال الدرس الميداني، ويصبح مقدمة ضرورية لتنمية المجتمعات الحدودية على أسس دقيقة"، وصولا إلى توطينها واستقرارها. وهذه الأسس التي صاغتها الدراسة تصادف هوى وقبولًا في نفس كاتب هذه السطور الذي نشأ وعاش في بيئة حدودية، فمن هذه الأسس أن "تراعي الأبعاد الثقافية قبل وأثناء وبَعد عمليات التنمية". ويتصل بهذا الهدف الإنساني الوطني هدف أخر نبيل هو أهم ما يكون، ويتبلور في "تأكيد الانتماء المكاني" لبقعة من الوطن تقع على "حدود محافظتين أو دولتين أو قارتين"، ثم تنمو هموم الباحث المشروعة والضرورية لتشمل "ربط هذه المناطق وثقافتها بالثقافة [المصرية] الأم وتعميق الصلات – واقعيا – بين أفراد الجماعة المحلية التي تعيش في المناطق الحدودية وبقية مناطق المعمور المصري".
والدراسة تقوم "بالدرجة الأولى على العمل الميداني" الذي لا يُعدّ "نوعا من الجدل العقلي أو الرفاهية العلمية"، بل هو عمل ينهض على أسس علمية "حتى يتسنّى لأي دارس القيام بمهمته بشكل علمي". ومن هذه الأسس التي اعتمدتها الدراسة: "إعداد دليل عمل ميداني يعتمد على ما تم إنجازه من جمع ميداني"، كما تعتمد الدراسة على ""الكتابات التي كُتبت عن المناطق المدروسة (جغرافية – تاريخية – كتب رحلات)، إضافة إلى "أدوات البحث الميداني التي خبرها علماء الفولكلور والأنثروبولوجيا"، ومن هذه الأدوات: "الدراسة الاستطلاعية – الاستعانة ببعض الأدلة من أبناء المنطقة – مقابلة الرواة والإخباريين – الملاحظة – الملاحظة بالمشاركة – المعايشة".
إن ما تجشّمه الباحث، ونجح فيه، هو عمل رائد بلا شك. وللريادة ثمنها الباهظ ودروبها الشاقة ومسالكها الوعرة، و"إنه من العصي على باحث فرد، وعبر دراسة مفردة، أن يقوم بمعاينة الحدود وثقافتها معاينة ميدانية". والأستاذ (شومان) هنا يضع يده على قضية عانى منها كاتب هذه السطور من خلال عمله الميداني في منطقة حدودية أخرى هي (سيناء). على أن (شومان) لا يتوقف عند عرض الإشكال، بل يقدّم الحلول العملية الممكنة للقيام بهذه الدراسات العلمية الموسّعة، إذ "ينبغي على المؤسسات العلمية والبحثية تبنّيها"، أي تبنّي هذه الدراسات الميدانية الحدودية.
لذلك لا يزعم الباحث (المُحتاط، الحذِر) بأن دراسته "محيطة"، لكن الجهد الهائل الذي بذله واستغرق ربع قرن من الزمان بين الترحال والإقامة والجمع والتسجيل والتصنيف – هذا الجهد يقنعنا إقناعا بأن هذه الدراسة "ستحتاط من فخ الوقوع في البانورامية أو الإطلالات السطحية التي تقتطف ملمحا ثقافيا من كل حدب لتكون [يقصد: لتدّعي أنها] متّسمة بالإحاطة". والحقيقة أن هذا هو منهج الباحثين الجادين ومن ضمنهم الأستاذ (شومان)، ولئن كان هؤلاء مختلفين في دوافعهم؛ فإن دافع الباحث هنا يضمن له إخراج دراسة قيمة بعيدة عن التسطيح والتعميم المُخلّ؛ ذلك أنه من الفريق الذي وصفه هو بقوله: "يختارها الباحث عن وعي... من هنا يتحمّل وحده تبعات هذا الاختبار؛ (فكل اختيار مدفوع الثمن)".
وإكمالا لهذا المحور الأخير، يلفتنا الباحث لفتة ذكية بارعة؛ فبعض الباحثين يدّعي التميز لدراسته هو أو للثقافة التي يدرسها لا بفضل جهد بذله، ولا بفضل نتائج استنتجها، وإنما اعتمادا على الجغرافيا الحدودية للثقافة التي يدرسها، لذلك كان الأستاذ (شومان) حريصا ومتواضعا حين قرر أنه "لا يجري وراء المسكوكات الجاهزة التي يمكن أن نعثر عليها في بعض الكتابات، أو الوقوف على حد من الحدود والجماعات التي تعيش بجواره؛ لتحدّثنا عن التميّز والأصالة والعراقة"!
وقارئ الدراسة لا تخفى عليه أبدا الروح الموضوعية والدقة العلمية والمنهجية المنظمّة واللغة المحددة الدلالات، لكن الباحث الشاعر لم ينس نصيبه – ونصيبنا – من التعبير الأدبي البليغ، يقول في حالة من الحب والحميمية والحماسة: "ولا بد للباحث في متون هذه المنطقة الهامشية أن يستمع لهدير الصمت، حيث تتحدث الآن آثار الأقدام على الرمال وفي الوديان. هذه فضيلة لا بد من اصطحابها، حيث ستكون تحت السماء بشبر، وما أنت بممسكها، ستصبح جزءا منك....".
وختاما لهذه المقالة القصيرة غير المحيطة.. الكتاب ممتع وثري، وزاخر بالعلم والمعرفة والإثارة، ومُغرٍ بالقراءة مرة ومرات.
مسعد بدر – شمال سيناء
اختار الباحث لدراسته عنوانا رئيسيا هو: "الشعر الشعبي في مجتمع البجا"، وتحته عنوان يفصّل هذا المجتمع: "حلايب – أبو رماد – الشلاتين". ثم يضيف محددات دقيقة أخرى: "دراسة ميدانية في الأنثروبولوجيا الثقافية". وإذا لوحظ امتداد العنوان وتعدد مصطلحاته؛ فإن الباحث يعلل ذلك بأنه جعله "حدا من الحدود التي تحكمنا، وندرك أن كل مفردة/ اصطلاح في جملة العنوان لا تأتي مستقلة عن قرينتها، لكن كل واحدة تشع على كل مكوّنات الجملة".
تدور الدراسة حول/ في أحد المجتمعات المصرية الهامشية التي تشغل حيزًا جغرافيا متميزًا وثقافة خاصة؛ فمجال الدراسة الجغرافي هو "أقصى منطقة في الجنوب الشرقي لمصر"، ويحدّد الباحث منها "الشلاتين – أبو رماد – حلايب"، ومجالها الثقافي هو "مجتمع البِجَا بما يضم من قبائل البشارية والعبابدة"، وهو مجتمع يمثل "منطقة ثقافية شديدة التميز، بل تدلنا الدراسات الميدانية على وجود نمط ثقافي متجذر في دورة الحياة من بداية الحياة وليس انتهاء بالموت".
ويبدو الباحث متعاطفًا ومنصفًا حين لا يطمئن إلى وصف هذا المجتمع بالمنطقة (الهامشية)، وحين يرفض وصفه بـ(الإثنية)؛ بل يثير (شومان) نقطة سلبية في غاية الخطورة لعلها هي سبب هذا التهميش، وذلك حين يشير إلى "دأب البعض على وصفها بأنها جماعات إثنية – ليس لوصفها فحسب – [بل] لإبعادها وتجنيبها في عمليات الفرز الفوقية التي تقوم بها السلطات المركزية في بعض الأزمنة السابقة". وهذه (الإثنية) ينفيها الدرس العلمي مؤكدا على "عمق مصرية القبائل هناك وارتباطها بسراديب الثقافة المصرية"، والدليل على ذلك بعض "مفرداتهم التي تنتمي إلى المصرية القديمة وتتردد على الألسنة"، ودليل آخر هو "أسماء أماكنهم [التي] لا زالت هي الأسماء التي أطلقها المصريون القدماء".
تنطلق الدراسة من دافع قوي، ومن ملاحظة عميقة هي "ندرة الدراسات الميدانية والنظرية التي تمّت على الإبداع الشفاهي في منطقة البحث" التي "هُمّشت طويلا لأسباب سياسية – جيوبوليتيكية – جغرافية". صحيح أن هناك دراسات دارت حول تاريخ قبيلة البجا وعاداتها وتقاليدها وقيمها و.... كما يشير الباحث، لكن هناك "ندرة في دراسة أنواع الأدب الشعبي من شعر وحكاية وألغاز وأمثال... إلخ"، وهي الفنون التي قامت عليها هذه الدراسة الرائدة، واتّخذت من الشعر خاصة موضوعها الأهم الذي شغل حيزا أكبر في الدراسة، من صفحة 99 إلى 198.
وإذا ذهبنا مع الباحث من أنه "لا يمكن إغفال الميل الشخصي في اختيار الدراسة؛ فإننا نقترب كثيرا من سبب اختياره؛ فالباحث شاعر اختار "الشعر الشعبي بوصفه أحد الفنون الأثيرة التي أبدعتها الجماعة الشعبية". وليس معنى هذا الاختيار أن الدراسة تنأى عن سائر الشئون الثقافية لمجتمع البجا؛ فإن الشعر فن "يتسق مع قيم منظومة جماعته وعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها". وهذه الأشعار الشعبية "مرتبطة بالممارسات اليومية... إذ لا تخلو مناسبة أو ممارسة من أشعار مؤدّاة – مغنّاة". ومن خلال دراسة هذا الشعر، والأدب الشفاهي عامة، يمكن التوصل إلى الخصائص الثقافية المميزة لهذا المجتمع، ذلك أن الإبداع الشفاهي – يقول (شومان) "يقوم بدور جمالي، لكنه لا يتخلّى عن دوره الاجتماعي في توثيق تاريخ القبائل وحركتها، وهو ترجمة عميقة للمزيج العبقري بين واقع الجماعة الشعبية وخيالاتها التي تستقيها من حياتها اليومية وتاريخها غير المكتوب". ومن هنا نرى الباحث "يحاول مكاشفة الاشتباك بين مجموعة العادات والتقاليد والمعتقدات في علاقتها بالفنون وضمنها الشعر، حيث تتداخل مشكّلة منظومة متماسكة تحكم قبائل المنطقة".
ولما كان الشعر لا ينفصل عن اللغة؛ فإن الدراسة لم تغفل عن العناية الخاصة باللغات المستخدمة في هذا المجتمع (التوبيداويت – البداويت – الرطانة/ العربية بلهجة العبابدة) التي تؤدَّى بها هذه الأشعار، وأولت عناية خاصة بما حدث لها "من تغيّرات نتيجة الاتصال الثقافي عبر آليات الترحال والاستقرار"، وهذه التغيّرات أمر طبيعي بل ربما يكون (حتمية جغرافية) في هذه المناطق التي "تتعرض لتغيّرات حادة بوصفها مناطق عبور ثقافات من المتن/المركز إلى الهامش/الحدود، والعكس".
وقد حدّد الباحث لدراسته أهدافا كثيرة ودقيقة وشاملة، ثم جعل هذه الأهداف في ثلاث مجموعات: الأهمية النظرية، والأهمية التطبيقية، والأهمية المنهجية.
فمن أهدافه النظرية: "محاولة قراءة هذه العناصر [الثقافية] وما حدث لها من تغيّرات، عبر مكاشفة أثر الاتصال الثقافي على بعض أنواع الإبداع (الشعر – الحكي – اللغة)"، ثم يمتد هذا الهدف إلى "الكشف عن العناصر الإبداعية المائزة التي تعبّر عن قدرة هذه القبائل على الإبداع المتسق مع دورة حياتها".
ومنها أيضا: "محاولة إضاءة وإثراء الدرس العلمي لهذه المناطق التي غاب عنها العلم كثيرًا"، و"إتاحة الفرصة لتعريف القارئ بمنظومة الثقافة في هذه المناطق"، من طريق "إزاحة ركام الغيوم المتواترة عن ثقافة بعض الجماعات أو المناطق" وهو يقصد الثقافات الهامشية التي يتحدث عنها البعض "بشكل لا يستند إلى أي دراسات ميدانية" تهيئ لإصدار حكم منصف ودقيق.
ومن أهداف الدراسة التطبيقية: "تقديم إضافة في مجال الأنثروبولوجيا الثقافية من خلال تحليل بعض الأنواع الأدبية الشفاهية التي لم يقترب الدرس العلمي منها".
ومن أهداف الدراسة ايضا أن "يتعمق العلم من خلال الدرس الميداني، ويصبح مقدمة ضرورية لتنمية المجتمعات الحدودية على أسس دقيقة"، وصولا إلى توطينها واستقرارها. وهذه الأسس التي صاغتها الدراسة تصادف هوى وقبولًا في نفس كاتب هذه السطور الذي نشأ وعاش في بيئة حدودية، فمن هذه الأسس أن "تراعي الأبعاد الثقافية قبل وأثناء وبَعد عمليات التنمية". ويتصل بهذا الهدف الإنساني الوطني هدف أخر نبيل هو أهم ما يكون، ويتبلور في "تأكيد الانتماء المكاني" لبقعة من الوطن تقع على "حدود محافظتين أو دولتين أو قارتين"، ثم تنمو هموم الباحث المشروعة والضرورية لتشمل "ربط هذه المناطق وثقافتها بالثقافة [المصرية] الأم وتعميق الصلات – واقعيا – بين أفراد الجماعة المحلية التي تعيش في المناطق الحدودية وبقية مناطق المعمور المصري".
والدراسة تقوم "بالدرجة الأولى على العمل الميداني" الذي لا يُعدّ "نوعا من الجدل العقلي أو الرفاهية العلمية"، بل هو عمل ينهض على أسس علمية "حتى يتسنّى لأي دارس القيام بمهمته بشكل علمي". ومن هذه الأسس التي اعتمدتها الدراسة: "إعداد دليل عمل ميداني يعتمد على ما تم إنجازه من جمع ميداني"، كما تعتمد الدراسة على ""الكتابات التي كُتبت عن المناطق المدروسة (جغرافية – تاريخية – كتب رحلات)، إضافة إلى "أدوات البحث الميداني التي خبرها علماء الفولكلور والأنثروبولوجيا"، ومن هذه الأدوات: "الدراسة الاستطلاعية – الاستعانة ببعض الأدلة من أبناء المنطقة – مقابلة الرواة والإخباريين – الملاحظة – الملاحظة بالمشاركة – المعايشة".
إن ما تجشّمه الباحث، ونجح فيه، هو عمل رائد بلا شك. وللريادة ثمنها الباهظ ودروبها الشاقة ومسالكها الوعرة، و"إنه من العصي على باحث فرد، وعبر دراسة مفردة، أن يقوم بمعاينة الحدود وثقافتها معاينة ميدانية". والأستاذ (شومان) هنا يضع يده على قضية عانى منها كاتب هذه السطور من خلال عمله الميداني في منطقة حدودية أخرى هي (سيناء). على أن (شومان) لا يتوقف عند عرض الإشكال، بل يقدّم الحلول العملية الممكنة للقيام بهذه الدراسات العلمية الموسّعة، إذ "ينبغي على المؤسسات العلمية والبحثية تبنّيها"، أي تبنّي هذه الدراسات الميدانية الحدودية.
لذلك لا يزعم الباحث (المُحتاط، الحذِر) بأن دراسته "محيطة"، لكن الجهد الهائل الذي بذله واستغرق ربع قرن من الزمان بين الترحال والإقامة والجمع والتسجيل والتصنيف – هذا الجهد يقنعنا إقناعا بأن هذه الدراسة "ستحتاط من فخ الوقوع في البانورامية أو الإطلالات السطحية التي تقتطف ملمحا ثقافيا من كل حدب لتكون [يقصد: لتدّعي أنها] متّسمة بالإحاطة". والحقيقة أن هذا هو منهج الباحثين الجادين ومن ضمنهم الأستاذ (شومان)، ولئن كان هؤلاء مختلفين في دوافعهم؛ فإن دافع الباحث هنا يضمن له إخراج دراسة قيمة بعيدة عن التسطيح والتعميم المُخلّ؛ ذلك أنه من الفريق الذي وصفه هو بقوله: "يختارها الباحث عن وعي... من هنا يتحمّل وحده تبعات هذا الاختبار؛ (فكل اختيار مدفوع الثمن)".
وإكمالا لهذا المحور الأخير، يلفتنا الباحث لفتة ذكية بارعة؛ فبعض الباحثين يدّعي التميز لدراسته هو أو للثقافة التي يدرسها لا بفضل جهد بذله، ولا بفضل نتائج استنتجها، وإنما اعتمادا على الجغرافيا الحدودية للثقافة التي يدرسها، لذلك كان الأستاذ (شومان) حريصا ومتواضعا حين قرر أنه "لا يجري وراء المسكوكات الجاهزة التي يمكن أن نعثر عليها في بعض الكتابات، أو الوقوف على حد من الحدود والجماعات التي تعيش بجواره؛ لتحدّثنا عن التميّز والأصالة والعراقة"!
وقارئ الدراسة لا تخفى عليه أبدا الروح الموضوعية والدقة العلمية والمنهجية المنظمّة واللغة المحددة الدلالات، لكن الباحث الشاعر لم ينس نصيبه – ونصيبنا – من التعبير الأدبي البليغ، يقول في حالة من الحب والحميمية والحماسة: "ولا بد للباحث في متون هذه المنطقة الهامشية أن يستمع لهدير الصمت، حيث تتحدث الآن آثار الأقدام على الرمال وفي الوديان. هذه فضيلة لا بد من اصطحابها، حيث ستكون تحت السماء بشبر، وما أنت بممسكها، ستصبح جزءا منك....".
وختاما لهذه المقالة القصيرة غير المحيطة.. الكتاب ممتع وثري، وزاخر بالعلم والمعرفة والإثارة، ومُغرٍ بالقراءة مرة ومرات.
مسعد بدر – شمال سيناء