هذه حكاية أخرى من شاطئ الغيب، يحكيها رواد (مقهى الزريرق) المتكئة على السور البرتغالي العتيق، والمواجهة للمحيط الأطلسي، يحكونها للغرباء وهم نشاوى بسحائب دخان كيف (كتامة) وغرقى في كؤوس التواكل يستمرئون أحلام النهار، ويحتسون كؤوس الشاي الأخضر المنعنع يقاسمهم حلاوتها النحل...
حكاية (الميّاح) ليست كحكايات (الهيشات)، وحيتان البحر الضخمة التي صادفها هؤلاء في مغامرات صيدهم بقواربهم الصغيرة، ولا كغيلان الشواطئ، وجنيات أودية ضواحي المدينة وغيرانها، وأرواح مساجدها، وأشباح مقابرها... بل هي حكاية من صميم واقعهم، عاشوا أحداثها، وشاهدوا أهوالها بأعينهم، سمعوا تفاصيلها الخفية من زميلهم (الهاشمي) أحد بطليها.
وتبدأ الحكاية في يوم صيف جميل، والبحر هادئ مرحب بركابه من الصيادين، وطلاب الرزق من أعماقه.
خرج (الهاشمي) وزميله المعروف بـ (الجبل) لضخامة جسده، وقوته، وشدة بأسه، خرجا في قارب (الهاشمي) للصيد مع الفجر.. وما كاد ينتصف النهار حتى رجعا بالزورق مثقلا بالسمك لا يكاد يتحرك، وهما يجذفان بنشاط في اتجاه الشاطئ، على مرأى من رواد (مقهى الزريرق).
وعلى البر سارع إليهما بعض التجار الوسطاء لشراء السمك منهما وبيعه في السوق، ولكن (الجبل) أبى بيعه للتجار رغم ميل زميله (الهاشمي) إلى ذلك، كان (الهاشمي) يؤمن بفكرة «كل وأكل»، وكان دائما يرددها إلى جانب أن بيع السمك على الشاطئ سيريحهما من تعب بيعه والوقوف عليه في السوق إلى آخر النهار.
ولكن (الجبل) كان جشعا شديد الحرص على المال لا يفهم الخير أو الإحسان! وانصاع (الهاشمي) لرغبته تفاديا للخلاف واللجاج مع زميله، فقد كان يحتاج إلى قوة عضلاته للتجذيف، وخفة يديه في صيد الأسماك.
وحملا صناديق السمك على عربة حمال إلى السوق حيث نصبا ميزانا وجلسا يبيعانه.. تحولا في يوم واحد من صيادي سمك إلى تجاره، كما يتحولان وبقية الصيادين من (خرازين) - صناع أحذية - و(درازين) - حائكي أقمشة صوفية- إلى حواتين - صيادين مع مطلع كل صيف.
ومع العصر كان كل ما صاداه من سمك قد بيع، ولم يبق إلا بضع سمكات صغيرة لم يقبل عليها أحد.
وكانت عادة الفقراء من أهل المدينة الوقوف بعيدا في مواجهة بائعي السمك في انتظار نهاية البيع ليوزعوا عليهم ما تبقى من السمك الصغير على سبيل الصدقة.
وانحنى (الهاشمي) على السمكات الصغيرة، وجمعها من قعر الصندوق الخشبي، وأشار إلى أحد العاطلين والكثيري العيال، فأسرع هذا نحوه داعيا له بالحفظ والبركة وفيض الرزق.
ولكن(الهاشمي) فوجئ بزميله (الجبل) الأجلف ينبح فيه بصوت أمر.
- ضع السمكات في «الميّاح»، أنا في حاجة إليها.
و«الميّاح» هو مجرفة خشبية يغرف بها ماء البحر من بين ضلوع الزورق إذا تسرب من شقوقه، أو قذف به الموج إلى داخله.
وانعقد لسان (الهاشمي) واحمر وجهه خجلا وحرجا أمام الرجل الفقير الذي يدعو له، وبقي مسمرا في مكانه والسمكات الصغيرة في يديه، وانحلت عقدة لسانه فقال:
- اتركها لهذا المسكين.. إنه أحوج منك إليها.
- قلت لك ضعها في الميّاح:
فوضعها (الهاشمي) طائعا، وأشار إلى المسكين الذي هم بالانصراف خائبا أن ينتظر، ومسح يديه في خرقة وأخرج من جيب سرواله درهمين أعطاهما للرجل الذي أمسك بهما داعيا له.
- نجاك الله من كل بلاء.
وذهب وهو يردد «الصدقة تنجي، والعبد لا يدري!».
وفي صباح اليوم التالي، خرج الزميلان مرة أخرى إلى البحر، وكان أهدأ وأرق من بحر الأمس، وما كادا يلقيان ببعض (المراغة) وهي معجون من السردين والرمل لاجتذاب السمك، حتى فاض حولهما البحر بالأسماك، فأخذا يغرفانه باليمين والشمال حتى ملآ الزورق في أقل من ساعتين، وبصعوبة استطاع (الهاشمي) أن يوقف زميله عن الصيد حتى لا يغرق بهما الزورق تحت ثقل السمك، فقد أصيب (الجبل) الجشع بنوبة هيستيرية...
وقفل الزورق راجعا بحمولته الثقيلة إلى الشاطئ..
وما كاد يواجه (مقهى الزريرق ) حتى تحرك البحر من تحته وبدأ الموج يكبر فجأة ودون سابق إنذار.. كانت السماء صافية والهواء رخاء.. ورغم ذلك هاج البحر من حولهما، وأخذ يهز بهما الزورق الثقيل على رؤوس أمواج كقمم الجبال، ويلقي به في أودية عميقة زرقاء رهيبة.
وأحس الرجلان بالخطر يحيط بهما من كل جانب.. وأيقنا بالهلاك، فأخذ (الهاشمي) يشهد ويتضرع إلى الله بصوت عال، ويقرأ ما يتذكره من أيام الكتاب من آيات القرآن، بينما استولى الرعب والذعر على زميله (الجبل) فاصفر وجهه حتى بانت عليه زرقة الموت، وجحظت عيناه، وبانت أسنانه كلها، وكأنه تحول إلى هيكل عظمي، وهو ما يزال حيا.
وجاءت موجة من خلفهما، فملأت المركب ماء.. وبحث (الجبل) حواليه كالمجنون وأخذ يصيح:
- الميّاح! الميّاح! أين الميّاح، ونظر بعينيه الجاحظتين على (الهاشمي) وصرخ فيه:
- أين المياح ! أين وضعته أيها الحمار؟!
وأجابه الهاشمي؟! أنت الذي أخذت فيه السمكات التي رفضت إعطاءها للمسكين بالأمس.
وهنا تذكر (الجبل) فَعْلتَه، فضرب على جبينه بكفه ندما...
وجاءت موجة أضخم من الأولى من خلف الزورق فرفعته وقلبته على وجهه فوق سلسلة الصخور المتبقية في ميناء قديم.
وخرج (الجبل) من تحت الزورق إلى سطح الماء، وتوجه نحو الشاطئ دون أن يلتفت إلى زميله. هنا ارتفع الزورق وهوى على رأسه فشدخها، وابتلعه اليمُّ...
وفقد (الهاشمي) وعيه في تلك اللحظة موقنا أنه انتقل إلى العالم الآخر..
وحين عاد إليه وعيه، وجد نفسه ملقى على رمل الشاطئ والناس يحيطون به متسائلين هل هو حي أم ميت، وفتح عينيه وتنفس بعمق رئتيه، وحمد الله، فهلل الجميع من حوله فرحا بنجاته...
ووقف دون مساعدة، وكأنه استيقظ من نوم عميق مريح... ولم يحس بأدنى ألم في أعضائه، أو كسور في عظامه، أو رضوض في بدنه، وكأن يدا ربانية خفية حملته من داخل الزورق ووضعته على الشاطئ.
وسأل عن رفيقه فتحركت الرؤوس أسفا وحسرة.. (الجبل) لم «يبزقه» البحر بعد...
وسأل عن الزورق فجاؤوه به إلى حيث خرج، فوجده سليما لم يصب بشيء، ووجد أغلب السمك فيه، فقد جمعه رواد المقهى من الشاطئ.
وحمد (الهاشمي) الله على بقاء الزورق وإفلاته من الصخور، فقد كان مصدر رزقه الوحيد..
أما رفيقه (الجبل) فقد وجدوه عند الجزر حبيسا بين صخرتين، وقد تهشم كل عظم في جسده وأكلت الأسماك والسراطين عينيه وبقي مكانهما حفرتين فارغتين، وبات يحلم بمنظرهما المرعب كل من رأى وجه (الجبل) الغريق ليالي عديدة.
ولم تعرف قصة بخل( الجبل) بالسمكات الصغيرة على المسكين الجائع إلا حين حكاها هذا لإمام مسجد الجامع الكبير، فجعل منها موضوعا لخطبته لتلك الجمعة، وبدأها بالآية الكريمة،(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَواتِكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ) [التوبة: 103].
ومنذ غرق (الجبل) حرص جميع الصيادين على العادة القديمة في جعل نصيب من أسماكهم للسائل والمحروم.
=======
أحمد عبد السلام البقالي ولد بمدينة أصيلا بشمال المغرب عام 1932، وتوفي يوم 30 يوليو 2010، شاعر وأديب مغربي من أشهر الكتاب للأطفال كما يعتبر من رواد الخيال العلمي، والقصة البوليسية في بلاده.
ينحدر أحمد عبد السلام البقالي من إحدى العائلات العريقة بشمال المغرب. وقد اتجه البقالي مثل عدد آخر من معاصريه إلى مصر ليدخل إحدى المدارس الثانوية ويحصل منها عام 1955 على الشهادة التي تخول له الدخول إلى التعليم العالي وبالفعل التحق بجامعة القاهرة ومنها حصل على شهادة الليسانس (Licence) في علم الاجتماع عام 1959. ثم التحق بجامعة كولومبيا في نيويورك، وحصل منها على شهادة الماستر في علم الاجتماع. عمل البقالي في ميداني الدبلوماسية والثقافة، ففي عام 1962، عيّن ملحقاً ثقافياً في سفارة المغرب في واشنطن، وفي عام 1965 سمي قنصلاً عاماً ومستشاراً صحافياً في السفارة المغربية في لندن، ليعود عام 1967 إلى واشنطن مستشارا ثقافياً. وفي عام 1971 التحق بالديوان الملكي في الرباط وكان عضواً في لجنتي اختيار النصوص المسرحية والغنائية في الإذاعة المغربية، وعضواً في هيئة تحرير مجلة الثقافة المغربية التي تصدرها وزارة الشؤون الثقافية في الرباط. بدأ البقالي الكتابة الشعرية في سن مبكرة وقد فاز بجائزة المغرب للقصة عامي 1952، و1955. كما فاز بجائزة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لأدب الطفل.
كتب أحمد عبد السلام البقالي عدداً تااتنتاعتن كبيراً من العناوين في مواضيع مختلفة: الخيال العلمي والمغامرات الجريئة والقصة البوليسية، كما كتب الرواية والقصة والشعر، ومن بين مؤلفاته:
قصص من المغرب، وهي أول مجموعاته القصصية وقد أصدرها عندما كان يدرس في القاهرة
الفجر،
يد المحبة،
المومياء.
الرواية
صدرت له العناوين التالية:
الطوفان الأزرق،
العنف الثوري،
سأبكي يوم ترجعين،
أماندا وبعدها الموت.
صدر لأحمد عبد السلام البقالي 23 عنواناً تتوزع على السلاسل الأربع التالية:
السلسلة الأولى: تتكون من عشرة كتب، منها:رواد المجهول، المدخل السري إلى كهف الحمام، السلسلة الذهبية، نادية الصغيرة في فم الوحش، بطل دون أن يدري، صابر المغفل الماكر، زياد ولصوص البحر... وقد وظف البقالي في هذه القصص البيئة المغربية، حيث أن أغلبها تدور أحداثها في مدينتي أصيلا والرباط بالإضافة إلى الريف المغربي (ريف مدينة أصيلا)، واستخدم مكونات الثقافة الشعبية المغربية من كلمات وتعابير محلية ومعتقدات وأساطير شعبية (أسطورة عيشة قنديشة).
السلسلة الثانية: تتكون من ستة كتب
السلسلة الثالثة: تتكون من خمسة كتب
السلسلة الرابعة: تتكون من كتابين
كتب البقالي أربع مسرحيات:
مولاي إدريس،
نار المخيم
لن تقف المسيرة
مصرع الخلخالي
كما كتب عدة مسرحيات للإذاعة والتلفزيون، وتحولت بعضها إلى أفلام أو مسلسلات تلفزيونية، منها: الرقاص الأسود، عزيزة...
قام أحمد عبد السلام البقالي بتعريب رواية أكلة الأموات من اللغة الإنكليزية للكاتب والمخرج السينمائي الأمريكي مايكل كريتشتون، وقد نُشرت لأول مرة عام 1976، تحت عنوان مغامرات سفير عربي في إسكاندنافيا منذ ألف عام، وقد حُوّلت هذه الرواية إلى أكثر من فيلم سينمائي. وتستند هذه الرواية إلى واقعة تاريخية حقيقية مفادها أنَّ الخليفة العباسي المقتدر بالله أرسل في آخر القرن الثالث الهجري / 921م عالماً عربياً اسمه أحمد بن فضلان إلى ملك الصقالبة (بلغار الفولغا)، بناء على طلب الأخير لتعليمهم العقيدة الإسلامية وأساليب الحضارة كتأسيس المدارس والمستشفيات، غير أن الفايكنغ اختطفوا هذا السفير ونقلوه معهم إلى إسكندنافيا وبقي هناك إلى عام 942م، ليتمكن من الفرار والرجوع إلى بغداد، وتقديم تقريره إلى الخليفة. وقد وقع تحقيق أجزاء من ذلك التقرير من قبل سامي الدهان في حين فقدت أجزاء أخرى. وتم نشر ما تحقق من قبل مجمع اللغة العربية في دمشق عام 1959. وقد اعتمد المؤلف على ما ترجم من المخطوطة إلى اللغة الإسكندنافية.
نشر أحمد عبد السلام البقالي أول قصيدة وعمره لم يتجاوز 15 سنة وذلك بمجلة أنيس الصادرة بتطوان. وقد نشر مجموعة شعرية تحت عنوان أيامنا الخضراء، وهي تحتوي على قصائد عمودية وأخرى في الشعر الحر.
أحمد عبد السلام البقالي - ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
حكاية (الميّاح) ليست كحكايات (الهيشات)، وحيتان البحر الضخمة التي صادفها هؤلاء في مغامرات صيدهم بقواربهم الصغيرة، ولا كغيلان الشواطئ، وجنيات أودية ضواحي المدينة وغيرانها، وأرواح مساجدها، وأشباح مقابرها... بل هي حكاية من صميم واقعهم، عاشوا أحداثها، وشاهدوا أهوالها بأعينهم، سمعوا تفاصيلها الخفية من زميلهم (الهاشمي) أحد بطليها.
وتبدأ الحكاية في يوم صيف جميل، والبحر هادئ مرحب بركابه من الصيادين، وطلاب الرزق من أعماقه.
خرج (الهاشمي) وزميله المعروف بـ (الجبل) لضخامة جسده، وقوته، وشدة بأسه، خرجا في قارب (الهاشمي) للصيد مع الفجر.. وما كاد ينتصف النهار حتى رجعا بالزورق مثقلا بالسمك لا يكاد يتحرك، وهما يجذفان بنشاط في اتجاه الشاطئ، على مرأى من رواد (مقهى الزريرق).
وعلى البر سارع إليهما بعض التجار الوسطاء لشراء السمك منهما وبيعه في السوق، ولكن (الجبل) أبى بيعه للتجار رغم ميل زميله (الهاشمي) إلى ذلك، كان (الهاشمي) يؤمن بفكرة «كل وأكل»، وكان دائما يرددها إلى جانب أن بيع السمك على الشاطئ سيريحهما من تعب بيعه والوقوف عليه في السوق إلى آخر النهار.
ولكن (الجبل) كان جشعا شديد الحرص على المال لا يفهم الخير أو الإحسان! وانصاع (الهاشمي) لرغبته تفاديا للخلاف واللجاج مع زميله، فقد كان يحتاج إلى قوة عضلاته للتجذيف، وخفة يديه في صيد الأسماك.
وحملا صناديق السمك على عربة حمال إلى السوق حيث نصبا ميزانا وجلسا يبيعانه.. تحولا في يوم واحد من صيادي سمك إلى تجاره، كما يتحولان وبقية الصيادين من (خرازين) - صناع أحذية - و(درازين) - حائكي أقمشة صوفية- إلى حواتين - صيادين مع مطلع كل صيف.
ومع العصر كان كل ما صاداه من سمك قد بيع، ولم يبق إلا بضع سمكات صغيرة لم يقبل عليها أحد.
وكانت عادة الفقراء من أهل المدينة الوقوف بعيدا في مواجهة بائعي السمك في انتظار نهاية البيع ليوزعوا عليهم ما تبقى من السمك الصغير على سبيل الصدقة.
وانحنى (الهاشمي) على السمكات الصغيرة، وجمعها من قعر الصندوق الخشبي، وأشار إلى أحد العاطلين والكثيري العيال، فأسرع هذا نحوه داعيا له بالحفظ والبركة وفيض الرزق.
ولكن(الهاشمي) فوجئ بزميله (الجبل) الأجلف ينبح فيه بصوت أمر.
- ضع السمكات في «الميّاح»، أنا في حاجة إليها.
و«الميّاح» هو مجرفة خشبية يغرف بها ماء البحر من بين ضلوع الزورق إذا تسرب من شقوقه، أو قذف به الموج إلى داخله.
وانعقد لسان (الهاشمي) واحمر وجهه خجلا وحرجا أمام الرجل الفقير الذي يدعو له، وبقي مسمرا في مكانه والسمكات الصغيرة في يديه، وانحلت عقدة لسانه فقال:
- اتركها لهذا المسكين.. إنه أحوج منك إليها.
- قلت لك ضعها في الميّاح:
فوضعها (الهاشمي) طائعا، وأشار إلى المسكين الذي هم بالانصراف خائبا أن ينتظر، ومسح يديه في خرقة وأخرج من جيب سرواله درهمين أعطاهما للرجل الذي أمسك بهما داعيا له.
- نجاك الله من كل بلاء.
وذهب وهو يردد «الصدقة تنجي، والعبد لا يدري!».
وفي صباح اليوم التالي، خرج الزميلان مرة أخرى إلى البحر، وكان أهدأ وأرق من بحر الأمس، وما كادا يلقيان ببعض (المراغة) وهي معجون من السردين والرمل لاجتذاب السمك، حتى فاض حولهما البحر بالأسماك، فأخذا يغرفانه باليمين والشمال حتى ملآ الزورق في أقل من ساعتين، وبصعوبة استطاع (الهاشمي) أن يوقف زميله عن الصيد حتى لا يغرق بهما الزورق تحت ثقل السمك، فقد أصيب (الجبل) الجشع بنوبة هيستيرية...
وقفل الزورق راجعا بحمولته الثقيلة إلى الشاطئ..
وما كاد يواجه (مقهى الزريرق ) حتى تحرك البحر من تحته وبدأ الموج يكبر فجأة ودون سابق إنذار.. كانت السماء صافية والهواء رخاء.. ورغم ذلك هاج البحر من حولهما، وأخذ يهز بهما الزورق الثقيل على رؤوس أمواج كقمم الجبال، ويلقي به في أودية عميقة زرقاء رهيبة.
وأحس الرجلان بالخطر يحيط بهما من كل جانب.. وأيقنا بالهلاك، فأخذ (الهاشمي) يشهد ويتضرع إلى الله بصوت عال، ويقرأ ما يتذكره من أيام الكتاب من آيات القرآن، بينما استولى الرعب والذعر على زميله (الجبل) فاصفر وجهه حتى بانت عليه زرقة الموت، وجحظت عيناه، وبانت أسنانه كلها، وكأنه تحول إلى هيكل عظمي، وهو ما يزال حيا.
وجاءت موجة من خلفهما، فملأت المركب ماء.. وبحث (الجبل) حواليه كالمجنون وأخذ يصيح:
- الميّاح! الميّاح! أين الميّاح، ونظر بعينيه الجاحظتين على (الهاشمي) وصرخ فيه:
- أين المياح ! أين وضعته أيها الحمار؟!
وأجابه الهاشمي؟! أنت الذي أخذت فيه السمكات التي رفضت إعطاءها للمسكين بالأمس.
وهنا تذكر (الجبل) فَعْلتَه، فضرب على جبينه بكفه ندما...
وجاءت موجة أضخم من الأولى من خلف الزورق فرفعته وقلبته على وجهه فوق سلسلة الصخور المتبقية في ميناء قديم.
وخرج (الجبل) من تحت الزورق إلى سطح الماء، وتوجه نحو الشاطئ دون أن يلتفت إلى زميله. هنا ارتفع الزورق وهوى على رأسه فشدخها، وابتلعه اليمُّ...
وفقد (الهاشمي) وعيه في تلك اللحظة موقنا أنه انتقل إلى العالم الآخر..
وحين عاد إليه وعيه، وجد نفسه ملقى على رمل الشاطئ والناس يحيطون به متسائلين هل هو حي أم ميت، وفتح عينيه وتنفس بعمق رئتيه، وحمد الله، فهلل الجميع من حوله فرحا بنجاته...
ووقف دون مساعدة، وكأنه استيقظ من نوم عميق مريح... ولم يحس بأدنى ألم في أعضائه، أو كسور في عظامه، أو رضوض في بدنه، وكأن يدا ربانية خفية حملته من داخل الزورق ووضعته على الشاطئ.
وسأل عن رفيقه فتحركت الرؤوس أسفا وحسرة.. (الجبل) لم «يبزقه» البحر بعد...
وسأل عن الزورق فجاؤوه به إلى حيث خرج، فوجده سليما لم يصب بشيء، ووجد أغلب السمك فيه، فقد جمعه رواد المقهى من الشاطئ.
وحمد (الهاشمي) الله على بقاء الزورق وإفلاته من الصخور، فقد كان مصدر رزقه الوحيد..
أما رفيقه (الجبل) فقد وجدوه عند الجزر حبيسا بين صخرتين، وقد تهشم كل عظم في جسده وأكلت الأسماك والسراطين عينيه وبقي مكانهما حفرتين فارغتين، وبات يحلم بمنظرهما المرعب كل من رأى وجه (الجبل) الغريق ليالي عديدة.
ولم تعرف قصة بخل( الجبل) بالسمكات الصغيرة على المسكين الجائع إلا حين حكاها هذا لإمام مسجد الجامع الكبير، فجعل منها موضوعا لخطبته لتلك الجمعة، وبدأها بالآية الكريمة،(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَواتِكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ) [التوبة: 103].
ومنذ غرق (الجبل) حرص جميع الصيادين على العادة القديمة في جعل نصيب من أسماكهم للسائل والمحروم.
=======
أحمد عبد السلام البقالي ولد بمدينة أصيلا بشمال المغرب عام 1932، وتوفي يوم 30 يوليو 2010، شاعر وأديب مغربي من أشهر الكتاب للأطفال كما يعتبر من رواد الخيال العلمي، والقصة البوليسية في بلاده.
حياته
ينحدر أحمد عبد السلام البقالي من إحدى العائلات العريقة بشمال المغرب. وقد اتجه البقالي مثل عدد آخر من معاصريه إلى مصر ليدخل إحدى المدارس الثانوية ويحصل منها عام 1955 على الشهادة التي تخول له الدخول إلى التعليم العالي وبالفعل التحق بجامعة القاهرة ومنها حصل على شهادة الليسانس (Licence) في علم الاجتماع عام 1959. ثم التحق بجامعة كولومبيا في نيويورك، وحصل منها على شهادة الماستر في علم الاجتماع. عمل البقالي في ميداني الدبلوماسية والثقافة، ففي عام 1962، عيّن ملحقاً ثقافياً في سفارة المغرب في واشنطن، وفي عام 1965 سمي قنصلاً عاماً ومستشاراً صحافياً في السفارة المغربية في لندن، ليعود عام 1967 إلى واشنطن مستشارا ثقافياً. وفي عام 1971 التحق بالديوان الملكي في الرباط وكان عضواً في لجنتي اختيار النصوص المسرحية والغنائية في الإذاعة المغربية، وعضواً في هيئة تحرير مجلة الثقافة المغربية التي تصدرها وزارة الشؤون الثقافية في الرباط. بدأ البقالي الكتابة الشعرية في سن مبكرة وقد فاز بجائزة المغرب للقصة عامي 1952، و1955. كما فاز بجائزة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لأدب الطفل.
أعماله
كتب أحمد عبد السلام البقالي عدداً تااتنتاعتن كبيراً من العناوين في مواضيع مختلفة: الخيال العلمي والمغامرات الجريئة والقصة البوليسية، كما كتب الرواية والقصة والشعر، ومن بين مؤلفاته:
المجموعات القصصية
قصص من المغرب، وهي أول مجموعاته القصصية وقد أصدرها عندما كان يدرس في القاهرة
الفجر،
يد المحبة،
المومياء.
الرواية
صدرت له العناوين التالية:
الطوفان الأزرق،
العنف الثوري،
سأبكي يوم ترجعين،
أماندا وبعدها الموت.
كتب للأطفال
صدر لأحمد عبد السلام البقالي 23 عنواناً تتوزع على السلاسل الأربع التالية:
السلسلة الأولى: تتكون من عشرة كتب، منها:رواد المجهول، المدخل السري إلى كهف الحمام، السلسلة الذهبية، نادية الصغيرة في فم الوحش، بطل دون أن يدري، صابر المغفل الماكر، زياد ولصوص البحر... وقد وظف البقالي في هذه القصص البيئة المغربية، حيث أن أغلبها تدور أحداثها في مدينتي أصيلا والرباط بالإضافة إلى الريف المغربي (ريف مدينة أصيلا)، واستخدم مكونات الثقافة الشعبية المغربية من كلمات وتعابير محلية ومعتقدات وأساطير شعبية (أسطورة عيشة قنديشة).
السلسلة الثانية: تتكون من ستة كتب
السلسلة الثالثة: تتكون من خمسة كتب
السلسلة الرابعة: تتكون من كتابين
المسرح
كتب البقالي أربع مسرحيات:
مولاي إدريس،
نار المخيم
لن تقف المسيرة
مصرع الخلخالي
كما كتب عدة مسرحيات للإذاعة والتلفزيون، وتحولت بعضها إلى أفلام أو مسلسلات تلفزيونية، منها: الرقاص الأسود، عزيزة...
ترجمات
قام أحمد عبد السلام البقالي بتعريب رواية أكلة الأموات من اللغة الإنكليزية للكاتب والمخرج السينمائي الأمريكي مايكل كريتشتون، وقد نُشرت لأول مرة عام 1976، تحت عنوان مغامرات سفير عربي في إسكاندنافيا منذ ألف عام، وقد حُوّلت هذه الرواية إلى أكثر من فيلم سينمائي. وتستند هذه الرواية إلى واقعة تاريخية حقيقية مفادها أنَّ الخليفة العباسي المقتدر بالله أرسل في آخر القرن الثالث الهجري / 921م عالماً عربياً اسمه أحمد بن فضلان إلى ملك الصقالبة (بلغار الفولغا)، بناء على طلب الأخير لتعليمهم العقيدة الإسلامية وأساليب الحضارة كتأسيس المدارس والمستشفيات، غير أن الفايكنغ اختطفوا هذا السفير ونقلوه معهم إلى إسكندنافيا وبقي هناك إلى عام 942م، ليتمكن من الفرار والرجوع إلى بغداد، وتقديم تقريره إلى الخليفة. وقد وقع تحقيق أجزاء من ذلك التقرير من قبل سامي الدهان في حين فقدت أجزاء أخرى. وتم نشر ما تحقق من قبل مجمع اللغة العربية في دمشق عام 1959. وقد اعتمد المؤلف على ما ترجم من المخطوطة إلى اللغة الإسكندنافية.
الشعر
نشر أحمد عبد السلام البقالي أول قصيدة وعمره لم يتجاوز 15 سنة وذلك بمجلة أنيس الصادرة بتطوان. وقد نشر مجموعة شعرية تحت عنوان أيامنا الخضراء، وهي تحتوي على قصائد عمودية وأخرى في الشعر الحر.
مصادر
أحمد عبد السلام البقالي - ويكيبيديا، الموسوعة الحرة