لا نعرفُ بالتحديد أوّلَ من فضَّ بكارةَ الكلمة ، ولم تسجّل الرقُم الطينية وجلود الوحوش أوّل من دخل غابة المغامرة ليُحدِثَ ذلك الإختلال الأول الذي أصاب اللغة لتحلّقَ في سمٰوات غير مألوفةٍ ولتحقّق ذلك التوازن الفريد بين وحشة الذات وشغفها بالبعيد اللامتناهي عبر خروجها عن مألوفية تداولها الذي يزول سريعا بدون أثرٍ يُذكر ، فكان الشعرُ ، من اجمل ما اكتشف كنوزه الإنسانُ الأول في أعماق ذاته التي شبّت عن الطوق فأمسكت بتلاليب الرغبة في معرفة مايمورُ ويعتمل في داخلها .
لعلّ التوق الىٰ معرفة أوّل من اتّبع ضوء مشاعره الدفينة يتهافت أمام ماسنعرفه لاحقاً من فيض التراتيل والأغاني والأناشيد والملاحم التي أبت إلّا أن تُغنّىٰ لتردّدها قمم وسفوح جبال الألب ولتحملها جدران معابد سومر وزقوراتها ، حتىٰ كأن هنالك انسان واحد قد أنجز كلّ تلك الأغاني التي ستمتدُّ شعراً وملاحماً ودراما ، وإذ شهدت صيرورة الحياة انفصال الملحمة لتنجب الرواية وانفصال الدراما لتنجب المسرح لتنزل لغتهما من عرش الشعر إلى النثر علىٰ يد (ابسن)النرويجي الذي وجد أن مشاكل اوربا لم يعد الشعر وعاءً مناسباً لها ، فيما ظلّ الشعر غنائياً يمجّدُ الوجدان والذات التي وجدت فيه روحها انعتاقاً من الجفاف والإعتيادية والإستهلاك ، وظهرت قدرة الشعر وقوته في النفاذ إلى أعماق الذات الإنسانية ليعبّر عن نجاحها واخفاقاتها في مواجهة فواعل الدهر ، ولئن كانت الملاحم القديمة وقصائد الرثاء والفروسية والفخر والحب قد خلّدت الأبطال والمواقف الإنسانية فإن التحولات اللاحقة في المجتمعات البشرية قد وجدت في الشعر قدرةً على استيعاب المنظومات الأخلاقية والجمالية عبر الأشكال الشعرية الجديدة التي استجابت لصيرورات رفدت بحر الشعر بمياه جديدة ، وليس ادلّ على ذلك من الدور الذي نهض به الشعر العربي منذ عصر ماقبل الإسلام في أن يكون الفن الذي مثّل حياة الفرد والمجتمع العربي وليكون (ديوان العرب) والمعبّر عن الذات والمجموع وعلى كافة المستويات النفسية والأخلاقية والإجتماعية وسواها ، وتأسيساً على ما تقدم من عرض سريع لمكانة ودور الشعر في حياة الفرد والجماعة فإن قوّة الشعر قد تكشفت في قابليته وقدرته على المغايرة وتخليقه لحساسية تلك المغايرة التي كانت ولاتزال سبباً في ديمومته كفن رافق الإنسان منذ بداية المجتمعات الاولى وسيظل مرافقا له مادامت هنالك مشاعر داخلية مسكوت عنها بحاجة إلى من يظهرها .
إذاً فمغايرة من سبق وتجاوز ما أنجز مرتهن بالاستجابة إلى صيرورة جديدة يمر بها المجتمع تستدعي خطاباً جديدا أقلّ مايقال عنه أنه مستوعب لهذا الجديد في العلاقات البنيوية التي يفرزها واقع الصيرورة الجديدة ، وإذا كان تحوّل المضامين من مرحلة إلى أخرى يُعدُّ تحصيلاً نتيجة لإغتناء الواقع بمضامين جديدة فإن المعوّل عليه في تحقيق تلك المغايرة هو الخطاب في مستواه البنائي ، أي في تلك الطريقة والكيفية التي تُقدّمُ بها رسالة النص ، ولعلّ حيثيات حركات التجديد والتحديث الشعرية تحتفظ لنا بالأدلة علىٰ ذلك ، ولنا في مشروع قصيدة التفعيلة العربية وقصيدة النثر بعدّها شكلا مستعاراً من بيئة الٱخ خير أمثلة علىٰ أن ظهورهما في بنية الحركة الشعرية العربية كان استجابة لصيرورات اجتماعية تقاطعت مع الأشكال والخطاب القديم فاستدعت الحاجة الاجتماعية والنفسية للتعبير عن الفواعل الداخلية والخارجية لشخصية الفرد العربي والجمعي على حد سواء ، أما الحساسية التي سيخلقها الشكل المغاير هي احداث اهتزاز في المسلمات المألوفة في ذهن واستجابة المتلقي .لذا فإن معيارية المغايرة هي تلك الحساسية التي تفعل فعلها التنويري في ذائقة المتلقي الشعرية ، وسنعتمد ثلاث مقولات كمدخل أو البوّابة المشرعة لتحقيق هذه المعادلة لتأكيد الخصيصة الشعرية المغايرة للنص .
1-- يُعرّفُ الجاحظ الشعرَ بأنه (جنسٌ من التصوير) وتذهب إلى ذلك اغلب النظريات الشعرية قديمها وحديثها ، اي ان تحقيق الشعرية مرهون بالقدرة علىٰ رسم صورة جديدة سواء كان على مستوىٰ الجملة الشعرية أو على مستوىٰ رسم صورة مشهدية متكاملة تتظافر الجمل الشعرية لتخليقها كما في القصيدة اليومية أو سائر الأشكال الشعرية الوجيزة ، وبذلك فإن مقولة الجاحظ وماذهبت إليه النظريات الحديثة تُغلقُ باب الشعرية على تخليق الصورة جزئيةً كانت أم كلّية ، ويكون ذلك عبر ايجاد علائق جديدة بين المفردات المكونة للصورة وكذلك علائق جديدة بين الجمل المكوّنة للنص .
2-- أن تخليق الصورة التي نوّهنا عنها أعلاه يتطلب توفر واحد من أمّا عناصر شعرية النص واعني به عنصر التخييل الذي أشار اليه القول العربي المأثور (أعذبُ الشعر أكذبه) فالكذب المقصود في القول الٱنف الذكر إنما هو ما ابتعد عن الواقع والذي لا يمكن تصديقه عبر استخدام فنون القول البلاغية من مجاز واستعارة وتشبيه وما إلى ذلك ، فإن هذه التقنيات البلاغية واللغوية تخضع لقدرة تخييلية عالية الدقّة وغير مألوفة لترتفع بذائقة المتلقي الىٰ مستوىٰ العذوبة وإدراك الثاوي في حركة النفس البشرية .
3-- سؤال ياكبسون الذي طرحه في كتابه المهم (الشعرية) في عشرينات القرن الماضي ولايزال يتمتع بقوة الجهد التنظيري لتأكيد معيارية الشعرية( مالذي يجعل من النص قطعة أدبية؟) مؤكدا على قوة الانزياح في مستوى اللغة من الاستهلاكي الى الايحائي او الانشائي / اغلاق الشعرية على النص المحقق قدرا كبيرا من انتقال اللغة -- عبر التخييل والفنون البلاغية -- من مستوى اليومي المشاع والمألوف الى مستوى الايحاء والانزياح اللغوي المنتج للصورة المتخيلة ..
ومن هذه المقولات الآنفة نستنتج أن جميع الاجراءات البلاغية التي يتوسل بها النص لتحقيق شعريته انما تنتج في الوقت ذاته حساسية لدى المتلقي بقوة رد الفعل المدهش الذي لم يألفه المتلقي سابقا ..لذا فإن كل نص يحقق هذا القدر من الحساسية الجديدة يعد شعرا .. أن استعارة مصطلح الحساسية من منظومة المصطلح الطبي لاستثماره في امكانية مطابقة تأثير النص الشعري كتأثير او رد فعل الجسم ازاء المواد الغريبة الداخلة فيه وهو من مصطلحات مابعد الحداثة المستفيدة من العلوم الانسانية ، وأجده مناسبا جدا لاعتماده كمعيار لفاعلية وتأثير شعرية النص .
-------------------
لعلّ التوق الىٰ معرفة أوّل من اتّبع ضوء مشاعره الدفينة يتهافت أمام ماسنعرفه لاحقاً من فيض التراتيل والأغاني والأناشيد والملاحم التي أبت إلّا أن تُغنّىٰ لتردّدها قمم وسفوح جبال الألب ولتحملها جدران معابد سومر وزقوراتها ، حتىٰ كأن هنالك انسان واحد قد أنجز كلّ تلك الأغاني التي ستمتدُّ شعراً وملاحماً ودراما ، وإذ شهدت صيرورة الحياة انفصال الملحمة لتنجب الرواية وانفصال الدراما لتنجب المسرح لتنزل لغتهما من عرش الشعر إلى النثر علىٰ يد (ابسن)النرويجي الذي وجد أن مشاكل اوربا لم يعد الشعر وعاءً مناسباً لها ، فيما ظلّ الشعر غنائياً يمجّدُ الوجدان والذات التي وجدت فيه روحها انعتاقاً من الجفاف والإعتيادية والإستهلاك ، وظهرت قدرة الشعر وقوته في النفاذ إلى أعماق الذات الإنسانية ليعبّر عن نجاحها واخفاقاتها في مواجهة فواعل الدهر ، ولئن كانت الملاحم القديمة وقصائد الرثاء والفروسية والفخر والحب قد خلّدت الأبطال والمواقف الإنسانية فإن التحولات اللاحقة في المجتمعات البشرية قد وجدت في الشعر قدرةً على استيعاب المنظومات الأخلاقية والجمالية عبر الأشكال الشعرية الجديدة التي استجابت لصيرورات رفدت بحر الشعر بمياه جديدة ، وليس ادلّ على ذلك من الدور الذي نهض به الشعر العربي منذ عصر ماقبل الإسلام في أن يكون الفن الذي مثّل حياة الفرد والمجتمع العربي وليكون (ديوان العرب) والمعبّر عن الذات والمجموع وعلى كافة المستويات النفسية والأخلاقية والإجتماعية وسواها ، وتأسيساً على ما تقدم من عرض سريع لمكانة ودور الشعر في حياة الفرد والجماعة فإن قوّة الشعر قد تكشفت في قابليته وقدرته على المغايرة وتخليقه لحساسية تلك المغايرة التي كانت ولاتزال سبباً في ديمومته كفن رافق الإنسان منذ بداية المجتمعات الاولى وسيظل مرافقا له مادامت هنالك مشاعر داخلية مسكوت عنها بحاجة إلى من يظهرها .
إذاً فمغايرة من سبق وتجاوز ما أنجز مرتهن بالاستجابة إلى صيرورة جديدة يمر بها المجتمع تستدعي خطاباً جديدا أقلّ مايقال عنه أنه مستوعب لهذا الجديد في العلاقات البنيوية التي يفرزها واقع الصيرورة الجديدة ، وإذا كان تحوّل المضامين من مرحلة إلى أخرى يُعدُّ تحصيلاً نتيجة لإغتناء الواقع بمضامين جديدة فإن المعوّل عليه في تحقيق تلك المغايرة هو الخطاب في مستواه البنائي ، أي في تلك الطريقة والكيفية التي تُقدّمُ بها رسالة النص ، ولعلّ حيثيات حركات التجديد والتحديث الشعرية تحتفظ لنا بالأدلة علىٰ ذلك ، ولنا في مشروع قصيدة التفعيلة العربية وقصيدة النثر بعدّها شكلا مستعاراً من بيئة الٱخ خير أمثلة علىٰ أن ظهورهما في بنية الحركة الشعرية العربية كان استجابة لصيرورات اجتماعية تقاطعت مع الأشكال والخطاب القديم فاستدعت الحاجة الاجتماعية والنفسية للتعبير عن الفواعل الداخلية والخارجية لشخصية الفرد العربي والجمعي على حد سواء ، أما الحساسية التي سيخلقها الشكل المغاير هي احداث اهتزاز في المسلمات المألوفة في ذهن واستجابة المتلقي .لذا فإن معيارية المغايرة هي تلك الحساسية التي تفعل فعلها التنويري في ذائقة المتلقي الشعرية ، وسنعتمد ثلاث مقولات كمدخل أو البوّابة المشرعة لتحقيق هذه المعادلة لتأكيد الخصيصة الشعرية المغايرة للنص .
1-- يُعرّفُ الجاحظ الشعرَ بأنه (جنسٌ من التصوير) وتذهب إلى ذلك اغلب النظريات الشعرية قديمها وحديثها ، اي ان تحقيق الشعرية مرهون بالقدرة علىٰ رسم صورة جديدة سواء كان على مستوىٰ الجملة الشعرية أو على مستوىٰ رسم صورة مشهدية متكاملة تتظافر الجمل الشعرية لتخليقها كما في القصيدة اليومية أو سائر الأشكال الشعرية الوجيزة ، وبذلك فإن مقولة الجاحظ وماذهبت إليه النظريات الحديثة تُغلقُ باب الشعرية على تخليق الصورة جزئيةً كانت أم كلّية ، ويكون ذلك عبر ايجاد علائق جديدة بين المفردات المكونة للصورة وكذلك علائق جديدة بين الجمل المكوّنة للنص .
2-- أن تخليق الصورة التي نوّهنا عنها أعلاه يتطلب توفر واحد من أمّا عناصر شعرية النص واعني به عنصر التخييل الذي أشار اليه القول العربي المأثور (أعذبُ الشعر أكذبه) فالكذب المقصود في القول الٱنف الذكر إنما هو ما ابتعد عن الواقع والذي لا يمكن تصديقه عبر استخدام فنون القول البلاغية من مجاز واستعارة وتشبيه وما إلى ذلك ، فإن هذه التقنيات البلاغية واللغوية تخضع لقدرة تخييلية عالية الدقّة وغير مألوفة لترتفع بذائقة المتلقي الىٰ مستوىٰ العذوبة وإدراك الثاوي في حركة النفس البشرية .
3-- سؤال ياكبسون الذي طرحه في كتابه المهم (الشعرية) في عشرينات القرن الماضي ولايزال يتمتع بقوة الجهد التنظيري لتأكيد معيارية الشعرية( مالذي يجعل من النص قطعة أدبية؟) مؤكدا على قوة الانزياح في مستوى اللغة من الاستهلاكي الى الايحائي او الانشائي / اغلاق الشعرية على النص المحقق قدرا كبيرا من انتقال اللغة -- عبر التخييل والفنون البلاغية -- من مستوى اليومي المشاع والمألوف الى مستوى الايحاء والانزياح اللغوي المنتج للصورة المتخيلة ..
ومن هذه المقولات الآنفة نستنتج أن جميع الاجراءات البلاغية التي يتوسل بها النص لتحقيق شعريته انما تنتج في الوقت ذاته حساسية لدى المتلقي بقوة رد الفعل المدهش الذي لم يألفه المتلقي سابقا ..لذا فإن كل نص يحقق هذا القدر من الحساسية الجديدة يعد شعرا .. أن استعارة مصطلح الحساسية من منظومة المصطلح الطبي لاستثماره في امكانية مطابقة تأثير النص الشعري كتأثير او رد فعل الجسم ازاء المواد الغريبة الداخلة فيه وهو من مصطلحات مابعد الحداثة المستفيدة من العلوم الانسانية ، وأجده مناسبا جدا لاعتماده كمعيار لفاعلية وتأثير شعرية النص .
-------------------