(5)
من قندهار إلى كابول ... ها أنا ذا في العاصمة الأفغانية، أحظى أخيرا ببعض مظاهر الراحة والرفاهية، تحولت من شخص مجهول يعمل بصورة سرية دون أي غطاء أو حماية إلى مراسل رسمي ومعتمد يحظى بقدر معقول نسبيا من الأمان، لم يكن هذا التحول سهلا على الإطلاق، كدت أن أُطرد أنا ورشيد نهائيا من أفغانستان، سبب دخولنا غير الشرعي وعدم وجود أوراق رسمية معنا أزمة كبيرة، تم احتجازنا لبضع ساعات تمهيدا لترحيلنا إلى باكستان، بذلت جهودا يائسة ولعب رشيد دورا كبيرا في إقناع محتجزينا بتعديل وضعنا ومُنحنا أخيرا تصريحا مؤقتا بالعمل داخل الأراضي الأفغانية لحين تسوية أوضاعنا، التواجد العسكري الغربي يبدو لافتا للنظر، وبينما تحتفل الفصائل الأفغانية المختلفة بالحكومة الانتقالية الجديدة، تبدو عناصر التحالف الشمالي أكثر ابتهاجا عن غيرها، أما عن مواطني كابول العاديين فمازال القلق والتوتر يسيطر عليهم، أُتيح لي أخيرا التواصل مع ندى بصورة حميمة، كان كلانا في شوق بالغ لذلك، كادت المسكينة تطير من فرط سعادتها لابتعادي نسبيا عن مناطق الخطر والقتال العنيف، لم أشأ أن أبدد سعادتها بأخبارها اعتزامي التوجه سريعا إلى منطقة تورا بورا حيث تدور المعارك الأخيرة مع من تبقى من أعضاء القاعدة، فضلت أن أتركها تنعم قليلا بحالة من الاطمئنان حتى وإن كان لفترة قصيرة، التقيت بأحد كبار الضباط الأمريكيين، كان مبتهجا للغاية بالسرعة غير المتوقعة في إنهاء الحملة، قال وهو يضحك:
ـ طالما أن الأمر بمثل هذه البساطة فأنا على استعداد للذهاب إلى العراق أو إيران من الغد.
باغته بالسؤال:
ـ هل هذا تصريحا رسميا أنقله عنك؟
تغيرت ملامح وجهه وقال على الفور:
ـ بالطبع لا ... لقد كنت أمزح.
عندما التقيت بأحد الدبلوماسيين الأمريكيين كان أكثر حذرا وبدا لي نموذجا مثاليا للدبلوماسي الماهر الذي يزن كلماته بدقة، بعد عدة إجابات غير واضحة المعالم، وجهت إليه سؤالا مباشرا:
ـ هناك أقاويل تتردد أنكم تنون توسيع الحرب لتشمل دولا في منطقة الشرق الأوسط، ما تعليقك على ذلك؟
ابتسم في هدوء ثم قال متمسكا بحذره الشديد:
ـ لقد أعلن الرئيس بوش بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر أننا سنلاحق الإرهاب في كل مكان، وأعتقد أن كل دول العالم تشاركنا هذا التوجه، أما بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط فقد قال الرئيس أيضا أن لديه رؤية تتضمن دولة فلسطينية مسالمة مع الالتزام بأمن إسرائيل.
ـ ولماذا التزامن بين هذه الرؤية وما يسمى بالحرب على الإرهاب؟
ـ إن الإدارات الأمريكية المتعاقبة حاولت دوما تحقيق السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، وما أعلن عنه الرئيس بوش هو خطوة جديدة على طريق طويل بدأناه منذ زمن بعيد.
ـ ألا يتناقض ذلك مع محاولة تهميش دور عرفات؟
ـ نحن نحاول التغلب على مشاعر الإحباط لدى الفلسطينيين والخوف لدى الإسرائيليين، ونأمل في توفر قيادات على كلا الجانبين تشجع ذلك وتسعى إليه.
ـ وهل سيتم اعتماد القرارات الدولية مثل 242 و 338 وغيرهما أساسا للحل الذي تسعون إليه؟
ـ كل هذه الأمور تُدرس بعناية، وستتضح الرؤية قريبا.
******
رغم مظاهر الإغراء التي وفرتها لي الإقامة في كابول، إلا أني تركتها سريعا معتزما الذهاب إلى تورا بورا، أصبحت غالبية أراضي أفغانستان تحت سيطرة القوات الغربية وحلفائها الأفغان ولم ألاق الترحيب الذي كان من المحتمل أن يلاقيه صحفيا أمريكيا أو بريطانيا، بل يمكن القول أنني واجهت بالفعل مضايقات وتحرشات فظة خلال قفزاتي ورشيد من منطقة لأخرى، على الجانب الآخر فإن من تبقى من فلول طالبان والقاعدة كانوا يعيشون أوضاعا صعبة للغاية تجعلهم في شك دائم من أي غريب حتى وإن كان صحفيا عربيا، وحدهم الأفغان البسطاء في القرى العديدة التي استضافتنا خلال تحركنا المستمر كانوا هم أكثر من رحب بنا وتعامل معنا بلطف وكرم أصيلين، ورغم ما يعانيه هؤلاء من فقر مدقع ودمار هائل طال قراهم المتواضعة، إلا أنهم وفروا لنا قدر استطاعتهم دعما ماديا ومعنويا مؤثرا، لم يخلو الأمر من تعرضنا لبعض اللحظات الحرجة على أيدي قطاع الطرق وفقدنا تقريبا كل ما نملك من أموال وبعض الأجهزة الثمينة التي كانت بحوزتنا، كانت منطقة تورا بورا تتعرض لقصف يومي مكثف، كان واضحا أن هناك رغبة أمريكية في زعزعة الروح المعنوية للمئات من مقاتلي القاعدة المتحصنين داخل شبكة هائلة من الكهوف والأنفاق الجبلية، كما أن هذا القصف كان يوفر دعما كبيرا للفصائل الأفغانية التي تحاصر المنطقة وتحاول الاستيلاء عليها، كانت الوحدات الأمريكية القليلة المتواجدة في هذه المنطقة بعيدة تماما عن جبهات القتال الأمامية ومتمركزة في الخلف، إنها بالفعل أصعب الفترات التي أعيشها ورشيد منذ دخولنا أفغانستان، أعاقتنا الوعورة الشديدة للمنطقة وأحوال جوية بالغة القسوة ... فضلا عن شكوك عميقة من كافة الأطراف عن التغطية الدقيقة للأحداث، وللمرة الأولى منذ تحملي مسئولية هذه المهمة الشاقة أشعر بالتقصير وعدم الرضا عما أقوم به من عمل، استمرت هذه الفترة عدة أيام مرت علينا كشهور عديدة، ثم جاءت النهاية سريعا واستسلم العشرات من مقاتلي القاعدة لمحاصريهم وترددت أنباء عن فرار العديد منهم وعلى رأسهم أسامة بن لادن.
******
مع تولى حميد قرضاي للسلطة كان قد مضى على وصولي إلى أفغانستان ما يقارب الثلاثة أشهر أو يزيد، بلغ العناء منى ورشيد مبلغا كبيرا من جراء جولاتنا المتواصلة والمضنية من موقع لآخر، فضلا عن تعرضنا لمخاطر يومية ومعيشة غير مستقرة وخالية من أي مظهر من مظاهر الرفاهية حتى وإن كان بدائيا، كنت أشعر بالفعل بحالة من الإنهاك الشديد لا يجدي معها سوى الحصول على قدر معقول من الراحة التامة بعيدا عن أي توتر، كانت المعارك قد خفت حدتها وتوارى ما تبقى من مناوشات خفيفة هنا وهناك بعيدا عن دائرة الضوء، وبرز إلى الأمام ما يطلق عليه "إعادة الإعمار"، شجعني ذلك على أن أبعث للمسئولين بالقناة طالبا الحصول على أجازة للاطمئنان على أمي وإخوتي بمصر والاستجمام قليلا قبل العودة لمزاولة عملي، جاءتني الموافقة بأسرع مما كنت أتوقع كما تم الموافقة لرشيد على السفر إلى باكستان لنفس الغرض، كان شديد القلق للزيادة الحادة في التوتر بين الهند وباكستان والتلويح بحرب جديدة بين الجارتين النوويتين، شكل وداعي لرشيد صعوبة كبيرة على نفسي، ففي خلال هذه الفترة القصيرة نسبيا لعملنا سويا لم يدخر جهدا لإنجاح مهمتنا الصعبة، كما كان سببا مباشرا في نجاتنا معا من العديد من المواقف الحرجة بحكم معرفته الجيدة بطبيعة الناس والمكان هنا.
******
مررت على زملائي السابقين بإذاعة القاهرة قبل أن أتوجه إلى مدينتي الإقليمية الصغيرة بدلتا مصر، كان لقائي بهم حميما للغاية، أثنوا جميعهم على أدائي خلال فترة عملي القصيرة في كل من دبي وأفغانستان، تركتهم سريعا وتوجهت لرؤية أمي وإخوتي، استقبلتني أمي بدموع صامتة واحتضنتني كثيرا وهى تحمد الله على رؤيتها لي سالما، كانوا جميعا في انتظاري، إخوتي وأطفالهم الصغار، خجلت كثيرا من نفسي لقلة الهدايا التي أحضرتها لهم، كنت قد اشتريتها في الواقع من القاهرة، قالت أمي بعد أن انصرفوا جميعا فيما عدا أختي الصغيرة التي لا تزال تقيم مع أمي:
ـ حكى لي الجيران عما تفعله هناك، رغم خوفي الشديد كنت فخورة بك جدا، ليس عندي طبق استقبال لأراك بنفسي.
شعرت بالخجل للمرة الثانية من نفسي ووعدتها:
ـ سأشتري لك يا أمي طبقا من الغد.
ضربتني في صدري برفق وقالت في غضب أعرفه تماما:
ـ وهل أقول لك ذلك لتشترى لي شيئا.
ـ أعرف يا أمي لكن سيمكنك الاطمئنان عليَّ بسهولة من خلال الشاشة.
كانت الحجة مقنعة فصمتت ولم تجب، اختليت بنفسي بعد تناول العشاء الحافل الذي أعدته لي أمي وكنت في شوق بالغ إليه، عادت صورة ندى لتسيطر مرة أخرى على تفكيري ومشاعري، حاولت الاتصال بها عن طريق التليفون المحمول فلم تنجح المحاولة، خطر على ذهني فجأة أن أفاتح أمي بشأنها، طردت الفكرة سريعا وقلت في نفسي: "لم يحن الوقت بعد"، قضيت عدة أيام مع أمي وإخوتي نعمت فيها بقدر كبير من الراحة، بدأت أشعر بالملل والرغبة في العودة لمزاولة عملي مرة أخرى، كنت قد نجحت في الاتصال بندى عن طريق الإنترنت والتليفون المحمول، أخبرتني أنها في انتظاري وطلبت أن أبلغ أمي وإخوتي تحياتها، لم استطع أن ألبي طلبها، انقضت أجازتي سريعا ووصلني استدعاء من عبد الرحمن للعودة إلى دبي، جلست مع أمي قبل سفري بيوم واحد، قالت وهي تبتسم:
ـ ألم يحن الوقت لكي تتزوج وأفرح بك؟
ـ وهل عندك عروسا لي يا أمي؟
ـ لم نفرض عليك أنا أو أبيك الراحل شيئا، كنا نتركك دائما تختار ما تريد.
هززت رأسي مؤيدا كلامها ثم قبلت يدها وقلت لها:
ـ أدع لي يا أمي.
أجابت والدموع تفر من عينيها:
ـ يعلم الله ... أدعو لك في كل صلاة.