قالت ربة المنزل، وقد حف بها أولادها وأحفادها، وجلسنا نحن على مقعدين نصبوهما لنا في صدر الغرفة:
قالت أصغوا ألي فأني قاصة عليكم الليلة قصة واقعة. شاهدت حوادثها بعيني رأسي. ولا يزال أشخاصها أحياء يرزقون، وليس كل ما تمتاز به أنها واقعة، ففي الواقع كثير من التوافه، ولكنها تمتاز بأنها مؤثرة وان فيها عبرة.
كنت صغيرة لا أكاد أدرك. . .
إذن فالقصة منذ ستين سنة على الأقل!
فرمت المرأة صديقي بنظرة تأنيب على هذه الإهانة التي تلقاها بها، واستمرت في حديثها:
. . . كنت بنت سبع سنين يوم دخل (رظا) أفندي البلد. وأني لا ذكر ذلك بوضوح على الرغم طفولتي وقدم العهد. . . لان بلدنا كان يومئذ معتزل العالم، وكان مرور الجند في البلد. أو زيارة غريب أو سفر أحد الفلاحين إلى دمشق، يعد حادثا تاريخيا يلهج به الفلاحون شهورا. ويتخذون منه مادة لأحاديثهم في أسمارهم، وكان اليوم جمعة فلم يرع الناس وهم منصرمون من الصلاة إلا شبح شخص يلوح في الحرة المحيطة بالبلد، ثم يبدو واضحاً وإذا هو رجل طوال منحن يمسك بيمناه عصا طويلة قد علق بها صرة كبيرة، ويجر بيسراه طفلة له، وكانا يجدان عناء في تسلق هذه الصخور والقفز على هذه الأحجار السوداء الحديدة الجوانب، حتى أن الطفلة سقطت اكثر من مرة. فكان الرجل يقبلها، ويصب في أذنها كلمات حلوة معسولة، ويشير لها إلى البلد، فتعاود المسير يحفزها أمل بارق، في ظلام من اليأس تجمع الناس في رحبة البلد، ينظرون إليهما، وتطوع فريق منهم للأخذ بأيديهما ومساعدتهما، واخذ رجل حماره ليركبهما، وعمد آخر إلى شئ من الخبز والجبن وقمر الدين فأخذه إليهما زاعما إنما قد حطمهما الجوع، وحملت امرأة جرة ماء مؤكدة أن ليس بهما جوع ولا تعب. ولكن الضرب في هذه الحرة المحرقة ثلاث ساعات من الكسوة إلى زاكية، ثلاث ساعات في هذه الظهيرة اللاذعة قد قتلهما عطشا.
ولم تشأ المحدثة أن تثبت هذه المناسبة دون أن تعظ أولادها وتصف لهم جلال الأخلاق الماضية وجمالها فقطعت قصتها وقالت:
أرأيتم؟ هكذا كان الناس: يساعدون الغريب يواسونه بنفوسهم، لا كما تصنعون انتم اليوم.
فقلت: ولكن الرجل؟ هل أكل ما حملوا إليه من طعام؟
قالت: كلا، كان مريضا فلم يأكل شيئا. أما البنت فقد كانت سابغة لاغبة. فأكلت وشربت ثم نامت مكانها من التعب.
حملوا الرجل وابنته إلى دار الشيخ، وكان المرض والضعف قد بلغا بالرجل. فأرادوه على الطعام ليشتد أزره فأبى. فعرضوا عليه الدواء الذي يتخذونه لمثل علته فرفض أيضا: - لا أريد. لا أريد شيئا. لا تفكروا في. أني ميت. قد انتهيت، ولكني موصيكم بهذه الطفلة فهي أمانة في أعناقكم. . لقد غالبت الموت حتى بلغت بها هذه القرية، قد حملتها فوق ما يطيقه إنسان، لقد جابت معي البلاد كلها من القسطنطينية إلى هنا، من القسطنطينية إلى زاكية في ست سنين لم نذق فيها ليلة هناء واحدة.
وأطبق عينيه وفمه. وسكت، وحاولوا أن يفهموا منه شيئا آخر فلم ينبس. واعترته حال غريبة لم اكن اعرف يومئذ ما هي، ولكني فهمت منها، ومن صوت الرجل الذي خرج خافتا رهيبا كأنه خارج من قبر، ومن وجهه الشاحب المخيف، وأنفاسه المتقطعة ولهجته الغريبة، انه ليس كمن أرى من رجال، وان له شأنا. . . ولكني لم استطع البقاء اكثر مما بقيت فعدت إلى الدار كيلا تضربني أمي.
وفي الصباح سمعت إن الغريب قد مات - مات ليلة قدومه كأنما قد طوف في بلاد الله هذا التطوف لينام إلى الأبد على هذه الحجارة السوداء، ويستمتع بحلم طويل اثر رحلة شاقة!
بقيت الطفلة وحيدة فكفلتها زوجة شتيوي، وكان شتيوي من شيوخ البدو المقيمين في هذا البلد. وكان غنيا موسرا، ولكن زوجه عاقر لم تأته بولد طيب صالح يعلمه الفروسية والرمي، ويستخلفه في أهله وماله، على الرغم من أنها راجعت الأطباء والمنجمين والمشايخ والمشعوذين في دمشق وفي قطنا، واصطنعت عشرات الأدوية والتمائم فلم ينفعها ذلك كله فتيلا. فيئست. . . ولما كفلوها هذه الطفلة تلقتها بسرور. واتخذتها ابنة لها. . .
كانت الطفلة في التاسعة من عمرها يوم مات أبوها. فلم تلبت في بيت شتيوي سنين حتى نمت واكتملت، وغدت اجمل فتاة في البلد، ولكنها كانت غريبة عن نساء البلدة فهي شقراء، لها عينان زرقاوان، وجسم متناسق جميل، كأنما هي إحدى الفتيات اليونانيات اللاتي عرفناهن في حي المهاجرين في دمشق.
بل كأنما هي ديان، غادية إلى الصيد!
وكانت تجول كل يوم في هذه الصخور؛ لا كما يجول نساء دمشق إذ يمشين متباطئات متكاسلات نصف ساعة في طريق المنشية، أو في شارع بغداد، ثم يعدن في عربة، بل كما يجول الراعي النشيط ساعتين أو ثلاث تقفز فيها كما تقفز الغزال الشارد، كأن لها خفته وملاحته.
وكانت غريبة في طباعها وأخلاقها، كما كانت غريبة في شكلها، وصورتها، فلما اكتملت أنوثتها وتفتحت زهرة الحب في قلبها، لم نجد لها قاطفا، إذ لم يكن في الناس من يجرؤ على الزواج بفتاة لقيطة لا تعرف أسرتها ولا يعلم نسبها، فضلا عن إنها تقرأ، وإنها قد قرأت كل ما كان مع أبيها من كتب وحفظت ما فيها من كفر وترهات.
كانت الفتاة تعود إلى البيت حينما تعود الشمس إلى خدرها، فتملأ البيت طربا ومرحا، فلما كان ذلك اليوم الذي قلب عليها حياتها، لم تعد إلا في ظلمة الليل، وكانت تهبط الصخر بحذر تحمل شيئا ثقيلا حتى بلغت الدار فولجتها وقد أنهكها التعب، ولكنها كانت هاشة باشة ككل فتاة في السابع عشرة من عمرها، فوضعت حملها برفق على إحدى الأرائك، وقالت لامها في سذاجة:
هاك زوجي، وجدته طريحا عند الصخرة الشرقية. وقد أغمى عليه من هذا الجرح، ستعنين به اجمل عناية حتى إذا ما شفي تزوج بي. . . أليس كذلك؟
فهزت المرة رأسها وقد حدثها قلبها وقلب المرأة (ترمومتر) الحياة - بكارثة، ولكنها لم تجد مجالا للقول فانصرفت إلى العناية بالجريح - وكان ضابطاً ألمانيا جميلا قد خرقت صخرة قذاله وشجته شجا عميقا. ودعت المرأة زوجها فشرع يعالجه بالبلسم والحراقة وما إليها من الطرق البدوية التي قلما تخطيء في مثل هذه الحالات. والفتاة متعلقة به تسأله عن مبلغ الأمل في شفائه، وترجوه ألا يدخر وسعا في معالجته، لأنها تود شفاءه ليكون لها زوجا، ولما تمت العملية ألقت المريض على سريرها. وألحت على الرجل وزوجه أن يدعا خدمته لها. ففعلا.
جثت أمام السرير كما يجثو العابد في صلاته. وراحت تتأمل وجهه وعينيه المغمضتين في ذهول عميق ونشوة غريبة. وتجرؤ أحيانا على مس شعره الأشقر المتهدل على العصابة مسا رقيقاً، كما يمس المرء شيئا يقدسه ويخشاه ثم تقبض يدها في سرعة. . .
نديدة! نديدة!
نعم يا بابا
ألم تنامي بعد؛ دعي المريض فانه لن يفيق من غيبوبته قبل الصباح
نعم سأنام
ولكنها لبثت جاثية أمام السرير
لبث الرجل وزوجه ينصحانها. يحاولان أن ينزعا غرس الحب من قلبها قبل أن يقوى ويشتد، فكانت تعرض عنهما وتعيد أبداً كلمتها الأولى: هذا هو زوجي.
مر على هذه الأمسية عشرون يوما لم تفارق فيها الفتاة الضابط ولم تعد تجول كما كانت ولم تعد تفكر في شئ. . . وكان الناس يتساءلون عن صلة هذا الإفرنجي الكافر بأسرة شتيوي، فإذا قيل لهم انه مريض وانهم يعالجونه. انصرفوا إلى أعمالهم ساخرين.
وصحا الضابط وذكر كيف خرج يتصيد فجره الصيد إلى هذه القرية، وكيف زلت قدمه فوقع من ذروة الصخرة، وأحس بالدم الحار يسيل على عنقه، ثم لم يعد يذكر شيئا. . . إلا انه فتح عينيه فوقعتا على عيني فتاة جميلة، حسبهما في الوهلة الأولى، عيني زوجته الفاتنتين الزرقاوين، وانه وجد نفسه على سرير نظيف محاطا بالعناية والعطف، وانه لبث ينظر إلى الفتاة في صمت وخشوع وشكران نظرات طويلة، ثم مد يده إلى يدها الرخصة اللينة فأخذها إلى فمه، ليخط عليها أول كلمة من القصيدة التي تضطرم بها نفسه، قصيدة الشكر للجميل، والشوق للجمال، وان الفتاة لازمته بعد ذلك ملازمة الظل، وحرصت على سروره وهنائه، فكانت تحدثه أطيب الأحاديث البدوية وألذها، فكان يجيبها بعناء ومشقة، لضيق العربية عليه، ويعجز ان يأتي بالكلمة المناسبة فيأتي بها بالألمانية فتفهمها الفتاة وهي لا تعرف من الألمانية كلمة، كأنما هي في قلبه، أو كأنما هو - وذلك اصح - في قلبها، ولكن شيئا من ذاك لم يتجاوز في رأيه صلة المجاملة والمتعة بالجمال.
أما الفتاة المتفتحة للحب فقد كانت ترى في هذا كله علامة على الحب الصادق الذي كانت تتوق إليه وتحلم به. وقد ابتغى لها الضابط شتى المعاذير في هذا الموقف حينما اخبره به الشيخ شتيوي، وأعطاها كل الحق في أن تحب. أما أن تصر على اتخاذه زوجاً لها وهو الرجل الألماني المتزوج، وهو الموظف الذي لم يبق من إجازته غير أسبوعين. فأمر مضحك لم يستطع برغم احترامه لشتيوي وشكره إياه إلا أن يتلقاه بقهقهة طويلة مجلجلة.
ما هي جريرتي إذا هي قد أحبتني؟ لم أني أشجعها على هذا الحب. ولم اقطع لها أي وعد بالزواج. وما وقفت منها إلا موقف الرجل المهذب الشاكر. ففسرت ذلك بأنه الحب.
ولكنه تألم إذ يحمل إلى الفتاة التي حملت إليه البرء والحب الألم واليأس. وجرب الإعراض والإساءة إليها علها تنساه. وتنقطع هذه الصلة بينهما من غير أن تخلف وراءها قلبا داميا. فلم يفده ذلك شيئا، وازداد حب الفتاة اضطراما. فأزمع السفر مضطراً وأزف الوداع فتعلقت به وأبت أن تفارقه. وأعرضت عن كل نصيحة، ولم تنفع فيها موعظة ولا زجر. فاقتربت زوجة شتيوي من الضابط وهمست في أذنه كلاما فعاد طلقا مستبشراً. فامسك بيدي الفتاة بحنو وقال لها:
ساعود لأتزوجك. فدعيني اذهب لأعد عدة الزواج. سأعود. . . فتركته الفتاة مصدقة ووقفت على الصخرة التي لقيته عندها تبكي وتشير إليه بمنديلها حتى اختفى. فعادت إلى البيت تقول لامها:
لقد وعدني ان سيعود. سيتزوجني!
نعم سيعود!
مر شهران تصرّم فيهما صبر الفتاة. فكانت تمضي نهارها حيال خريطة قديمة كانت بين كتب أبيها تنظر فيها. وتحاول أن تعرف أين تقع ألمانيا من وجه الأرض، وكم هي المسافة إليها. ولكنها لم تكن تعرف شيئا عن البحار ولاعن الوسائط النقلية. فكانت تصوراتها لا تعدو أن تكون أحلاما مبهمة.
وكانت تبكي بكاء خافتا وهي مكبة على الخريطة. وتستعيد في نفسها صورة الضابط وصوته وحركاته. ثم تعاود البكاء والنشيج، أما هو فقد نسيها. ولم يذكر اسمها إلا مرة واحدة. في كتاب أخرجه عن الشرق.
وقطعت المرأة حديثها لان الباب قد انفرج عن عجوز منحنية على عصا طويلة تصرخ صراخا مزعجا. وتهذي بكلمات مبهمة. ووراءها سرب من الصبيان يقرعون بأيديهم الحجارة ويصيحون مج. . مج. . مجنونة! مج. . مج. . مجنونة!
فلما نجت منهم، ألقت بنفسها على عتبة الباب، وجلست تبكي بكاء أليما. . .
فهمست في أذن ربة الدار:
من هذه المجنونة؟
إنها صاحبة القصة يا سيدي. .!
دمشق
علي الطنطاوي
=========
قالت أصغوا ألي فأني قاصة عليكم الليلة قصة واقعة. شاهدت حوادثها بعيني رأسي. ولا يزال أشخاصها أحياء يرزقون، وليس كل ما تمتاز به أنها واقعة، ففي الواقع كثير من التوافه، ولكنها تمتاز بأنها مؤثرة وان فيها عبرة.
كنت صغيرة لا أكاد أدرك. . .
إذن فالقصة منذ ستين سنة على الأقل!
فرمت المرأة صديقي بنظرة تأنيب على هذه الإهانة التي تلقاها بها، واستمرت في حديثها:
. . . كنت بنت سبع سنين يوم دخل (رظا) أفندي البلد. وأني لا ذكر ذلك بوضوح على الرغم طفولتي وقدم العهد. . . لان بلدنا كان يومئذ معتزل العالم، وكان مرور الجند في البلد. أو زيارة غريب أو سفر أحد الفلاحين إلى دمشق، يعد حادثا تاريخيا يلهج به الفلاحون شهورا. ويتخذون منه مادة لأحاديثهم في أسمارهم، وكان اليوم جمعة فلم يرع الناس وهم منصرمون من الصلاة إلا شبح شخص يلوح في الحرة المحيطة بالبلد، ثم يبدو واضحاً وإذا هو رجل طوال منحن يمسك بيمناه عصا طويلة قد علق بها صرة كبيرة، ويجر بيسراه طفلة له، وكانا يجدان عناء في تسلق هذه الصخور والقفز على هذه الأحجار السوداء الحديدة الجوانب، حتى أن الطفلة سقطت اكثر من مرة. فكان الرجل يقبلها، ويصب في أذنها كلمات حلوة معسولة، ويشير لها إلى البلد، فتعاود المسير يحفزها أمل بارق، في ظلام من اليأس تجمع الناس في رحبة البلد، ينظرون إليهما، وتطوع فريق منهم للأخذ بأيديهما ومساعدتهما، واخذ رجل حماره ليركبهما، وعمد آخر إلى شئ من الخبز والجبن وقمر الدين فأخذه إليهما زاعما إنما قد حطمهما الجوع، وحملت امرأة جرة ماء مؤكدة أن ليس بهما جوع ولا تعب. ولكن الضرب في هذه الحرة المحرقة ثلاث ساعات من الكسوة إلى زاكية، ثلاث ساعات في هذه الظهيرة اللاذعة قد قتلهما عطشا.
ولم تشأ المحدثة أن تثبت هذه المناسبة دون أن تعظ أولادها وتصف لهم جلال الأخلاق الماضية وجمالها فقطعت قصتها وقالت:
أرأيتم؟ هكذا كان الناس: يساعدون الغريب يواسونه بنفوسهم، لا كما تصنعون انتم اليوم.
فقلت: ولكن الرجل؟ هل أكل ما حملوا إليه من طعام؟
قالت: كلا، كان مريضا فلم يأكل شيئا. أما البنت فقد كانت سابغة لاغبة. فأكلت وشربت ثم نامت مكانها من التعب.
حملوا الرجل وابنته إلى دار الشيخ، وكان المرض والضعف قد بلغا بالرجل. فأرادوه على الطعام ليشتد أزره فأبى. فعرضوا عليه الدواء الذي يتخذونه لمثل علته فرفض أيضا: - لا أريد. لا أريد شيئا. لا تفكروا في. أني ميت. قد انتهيت، ولكني موصيكم بهذه الطفلة فهي أمانة في أعناقكم. . لقد غالبت الموت حتى بلغت بها هذه القرية، قد حملتها فوق ما يطيقه إنسان، لقد جابت معي البلاد كلها من القسطنطينية إلى هنا، من القسطنطينية إلى زاكية في ست سنين لم نذق فيها ليلة هناء واحدة.
وأطبق عينيه وفمه. وسكت، وحاولوا أن يفهموا منه شيئا آخر فلم ينبس. واعترته حال غريبة لم اكن اعرف يومئذ ما هي، ولكني فهمت منها، ومن صوت الرجل الذي خرج خافتا رهيبا كأنه خارج من قبر، ومن وجهه الشاحب المخيف، وأنفاسه المتقطعة ولهجته الغريبة، انه ليس كمن أرى من رجال، وان له شأنا. . . ولكني لم استطع البقاء اكثر مما بقيت فعدت إلى الدار كيلا تضربني أمي.
وفي الصباح سمعت إن الغريب قد مات - مات ليلة قدومه كأنما قد طوف في بلاد الله هذا التطوف لينام إلى الأبد على هذه الحجارة السوداء، ويستمتع بحلم طويل اثر رحلة شاقة!
بقيت الطفلة وحيدة فكفلتها زوجة شتيوي، وكان شتيوي من شيوخ البدو المقيمين في هذا البلد. وكان غنيا موسرا، ولكن زوجه عاقر لم تأته بولد طيب صالح يعلمه الفروسية والرمي، ويستخلفه في أهله وماله، على الرغم من أنها راجعت الأطباء والمنجمين والمشايخ والمشعوذين في دمشق وفي قطنا، واصطنعت عشرات الأدوية والتمائم فلم ينفعها ذلك كله فتيلا. فيئست. . . ولما كفلوها هذه الطفلة تلقتها بسرور. واتخذتها ابنة لها. . .
كانت الطفلة في التاسعة من عمرها يوم مات أبوها. فلم تلبت في بيت شتيوي سنين حتى نمت واكتملت، وغدت اجمل فتاة في البلد، ولكنها كانت غريبة عن نساء البلدة فهي شقراء، لها عينان زرقاوان، وجسم متناسق جميل، كأنما هي إحدى الفتيات اليونانيات اللاتي عرفناهن في حي المهاجرين في دمشق.
بل كأنما هي ديان، غادية إلى الصيد!
وكانت تجول كل يوم في هذه الصخور؛ لا كما يجول نساء دمشق إذ يمشين متباطئات متكاسلات نصف ساعة في طريق المنشية، أو في شارع بغداد، ثم يعدن في عربة، بل كما يجول الراعي النشيط ساعتين أو ثلاث تقفز فيها كما تقفز الغزال الشارد، كأن لها خفته وملاحته.
وكانت غريبة في طباعها وأخلاقها، كما كانت غريبة في شكلها، وصورتها، فلما اكتملت أنوثتها وتفتحت زهرة الحب في قلبها، لم نجد لها قاطفا، إذ لم يكن في الناس من يجرؤ على الزواج بفتاة لقيطة لا تعرف أسرتها ولا يعلم نسبها، فضلا عن إنها تقرأ، وإنها قد قرأت كل ما كان مع أبيها من كتب وحفظت ما فيها من كفر وترهات.
كانت الفتاة تعود إلى البيت حينما تعود الشمس إلى خدرها، فتملأ البيت طربا ومرحا، فلما كان ذلك اليوم الذي قلب عليها حياتها، لم تعد إلا في ظلمة الليل، وكانت تهبط الصخر بحذر تحمل شيئا ثقيلا حتى بلغت الدار فولجتها وقد أنهكها التعب، ولكنها كانت هاشة باشة ككل فتاة في السابع عشرة من عمرها، فوضعت حملها برفق على إحدى الأرائك، وقالت لامها في سذاجة:
هاك زوجي، وجدته طريحا عند الصخرة الشرقية. وقد أغمى عليه من هذا الجرح، ستعنين به اجمل عناية حتى إذا ما شفي تزوج بي. . . أليس كذلك؟
فهزت المرة رأسها وقد حدثها قلبها وقلب المرأة (ترمومتر) الحياة - بكارثة، ولكنها لم تجد مجالا للقول فانصرفت إلى العناية بالجريح - وكان ضابطاً ألمانيا جميلا قد خرقت صخرة قذاله وشجته شجا عميقا. ودعت المرأة زوجها فشرع يعالجه بالبلسم والحراقة وما إليها من الطرق البدوية التي قلما تخطيء في مثل هذه الحالات. والفتاة متعلقة به تسأله عن مبلغ الأمل في شفائه، وترجوه ألا يدخر وسعا في معالجته، لأنها تود شفاءه ليكون لها زوجا، ولما تمت العملية ألقت المريض على سريرها. وألحت على الرجل وزوجه أن يدعا خدمته لها. ففعلا.
جثت أمام السرير كما يجثو العابد في صلاته. وراحت تتأمل وجهه وعينيه المغمضتين في ذهول عميق ونشوة غريبة. وتجرؤ أحيانا على مس شعره الأشقر المتهدل على العصابة مسا رقيقاً، كما يمس المرء شيئا يقدسه ويخشاه ثم تقبض يدها في سرعة. . .
نديدة! نديدة!
نعم يا بابا
ألم تنامي بعد؛ دعي المريض فانه لن يفيق من غيبوبته قبل الصباح
نعم سأنام
ولكنها لبثت جاثية أمام السرير
لبث الرجل وزوجه ينصحانها. يحاولان أن ينزعا غرس الحب من قلبها قبل أن يقوى ويشتد، فكانت تعرض عنهما وتعيد أبداً كلمتها الأولى: هذا هو زوجي.
مر على هذه الأمسية عشرون يوما لم تفارق فيها الفتاة الضابط ولم تعد تجول كما كانت ولم تعد تفكر في شئ. . . وكان الناس يتساءلون عن صلة هذا الإفرنجي الكافر بأسرة شتيوي، فإذا قيل لهم انه مريض وانهم يعالجونه. انصرفوا إلى أعمالهم ساخرين.
وصحا الضابط وذكر كيف خرج يتصيد فجره الصيد إلى هذه القرية، وكيف زلت قدمه فوقع من ذروة الصخرة، وأحس بالدم الحار يسيل على عنقه، ثم لم يعد يذكر شيئا. . . إلا انه فتح عينيه فوقعتا على عيني فتاة جميلة، حسبهما في الوهلة الأولى، عيني زوجته الفاتنتين الزرقاوين، وانه وجد نفسه على سرير نظيف محاطا بالعناية والعطف، وانه لبث ينظر إلى الفتاة في صمت وخشوع وشكران نظرات طويلة، ثم مد يده إلى يدها الرخصة اللينة فأخذها إلى فمه، ليخط عليها أول كلمة من القصيدة التي تضطرم بها نفسه، قصيدة الشكر للجميل، والشوق للجمال، وان الفتاة لازمته بعد ذلك ملازمة الظل، وحرصت على سروره وهنائه، فكانت تحدثه أطيب الأحاديث البدوية وألذها، فكان يجيبها بعناء ومشقة، لضيق العربية عليه، ويعجز ان يأتي بالكلمة المناسبة فيأتي بها بالألمانية فتفهمها الفتاة وهي لا تعرف من الألمانية كلمة، كأنما هي في قلبه، أو كأنما هو - وذلك اصح - في قلبها، ولكن شيئا من ذاك لم يتجاوز في رأيه صلة المجاملة والمتعة بالجمال.
أما الفتاة المتفتحة للحب فقد كانت ترى في هذا كله علامة على الحب الصادق الذي كانت تتوق إليه وتحلم به. وقد ابتغى لها الضابط شتى المعاذير في هذا الموقف حينما اخبره به الشيخ شتيوي، وأعطاها كل الحق في أن تحب. أما أن تصر على اتخاذه زوجاً لها وهو الرجل الألماني المتزوج، وهو الموظف الذي لم يبق من إجازته غير أسبوعين. فأمر مضحك لم يستطع برغم احترامه لشتيوي وشكره إياه إلا أن يتلقاه بقهقهة طويلة مجلجلة.
ما هي جريرتي إذا هي قد أحبتني؟ لم أني أشجعها على هذا الحب. ولم اقطع لها أي وعد بالزواج. وما وقفت منها إلا موقف الرجل المهذب الشاكر. ففسرت ذلك بأنه الحب.
ولكنه تألم إذ يحمل إلى الفتاة التي حملت إليه البرء والحب الألم واليأس. وجرب الإعراض والإساءة إليها علها تنساه. وتنقطع هذه الصلة بينهما من غير أن تخلف وراءها قلبا داميا. فلم يفده ذلك شيئا، وازداد حب الفتاة اضطراما. فأزمع السفر مضطراً وأزف الوداع فتعلقت به وأبت أن تفارقه. وأعرضت عن كل نصيحة، ولم تنفع فيها موعظة ولا زجر. فاقتربت زوجة شتيوي من الضابط وهمست في أذنه كلاما فعاد طلقا مستبشراً. فامسك بيدي الفتاة بحنو وقال لها:
ساعود لأتزوجك. فدعيني اذهب لأعد عدة الزواج. سأعود. . . فتركته الفتاة مصدقة ووقفت على الصخرة التي لقيته عندها تبكي وتشير إليه بمنديلها حتى اختفى. فعادت إلى البيت تقول لامها:
لقد وعدني ان سيعود. سيتزوجني!
نعم سيعود!
مر شهران تصرّم فيهما صبر الفتاة. فكانت تمضي نهارها حيال خريطة قديمة كانت بين كتب أبيها تنظر فيها. وتحاول أن تعرف أين تقع ألمانيا من وجه الأرض، وكم هي المسافة إليها. ولكنها لم تكن تعرف شيئا عن البحار ولاعن الوسائط النقلية. فكانت تصوراتها لا تعدو أن تكون أحلاما مبهمة.
وكانت تبكي بكاء خافتا وهي مكبة على الخريطة. وتستعيد في نفسها صورة الضابط وصوته وحركاته. ثم تعاود البكاء والنشيج، أما هو فقد نسيها. ولم يذكر اسمها إلا مرة واحدة. في كتاب أخرجه عن الشرق.
وقطعت المرأة حديثها لان الباب قد انفرج عن عجوز منحنية على عصا طويلة تصرخ صراخا مزعجا. وتهذي بكلمات مبهمة. ووراءها سرب من الصبيان يقرعون بأيديهم الحجارة ويصيحون مج. . مج. . مجنونة! مج. . مج. . مجنونة!
فلما نجت منهم، ألقت بنفسها على عتبة الباب، وجلست تبكي بكاء أليما. . .
فهمست في أذن ربة الدار:
من هذه المجنونة؟
إنها صاحبة القصة يا سيدي. .!
دمشق
علي الطنطاوي
=========