في ليلة مُكفهرّة السحنة، ضريرة النجم وفي طريق كئيبة مريبة موحشة كضمير المجرم المروّع، سرت وحيداً متوجساً خلف الدليل أتبعه إلى حيث لا أدري. لم يكن الدليل ليثنيني، ولم يكن الدليل ليغريني، ولكنه كان يتقدمني متين البنية، ركين الخطا، وأنا أتبعه إلى حيث لا أدري. أين أمضي خلف هذا الدليل الغريب المريب لا أدري، ولمَ أتبعه وأنا وحيد غريب؟ لا أدري.‏

ومن خلفي أصوات صديقة وأخرى عدوة، وأصوات معروفة وأخرى مجهولة، وأصوات من هنا وأصوات من هناك وأصوات شتى كلها تهتف بي متوسلة، وتناشدني العودة قائلة:‏

-هذا الأفّاق الخالد، هذا الغويّ الضال المُضل، إياك أن تأمنه، إياك أن تتبعه.. إنه لا يدري أين يمضي فتمضي ولا أين يستقر فتستقر.‏

وصرخ أحدهم: عد، ستندم! وصرخ آخر: عد إلينا، فنحن الذين نهديك ونوصلك! وهتف ثالث: ذاك الضياع، دعوه... إنه لن يكون أول النادمين! ولكنني كنت أتبعه وما أزال إلى حيث لا أدري...‏

وبُحت الأصوات تباعاً، ثم ماتت تباعاً. هل ماتت الأصوات؟ كلا، سمعي هو الذي مات، وأنا أتبع الدليل، دليلي إلى حيث لا أدري...‏

وسرت وأوغلت يعصف بي خوف جارف لا يصمد له عزم، وعزم راسخ لا يستجيب لداع ولا تلين له قناة.. وطال الليل حتى لكأنه أبدي، وأرهقني السُرى حتى لأكاد أهوي أرضاً، ولكنني تماسكت وتشددت، وهتف بي هاتف يقول:‏

-تنشد لنفسك العظمة، هيهات... العظيم من يخرج من الدنيا وقد ترك فيها أجمل وأنبل مما أخذ منها، فهل فعلت أنت ذلك؟ فأتساءل مشدوهاً:‏

-وهل العظمة في الثبات؟‏

-فيرد عليَّ الصوت في يقين قائلاً:‏

-بلى، على أن تخلص النية وتصدق العزم وتستبين الطريق من أولها، ثم تتقدم فلا تتردد ولا تنكص.‏

فأذعنت وتجلّدت وتقدمت ولكنني –وبعد خطى يسيرة –هويت إلى الأرض وهناً وعجزاً.‏

وعاد الصوت يهتف في يقين هو أقوى من كل ريب:‏

-أي خير يبقى للأرض على الأرض لو أن كل الذين كانوا قد تقدموا قبلك كانوا قد وهنوا وعجزوا، ثم عادوا أدراجهم من بعض الطريق؟‏

فنهضت وتشددت وتجلّدت، ورحت أتقدم وأنا أتعثر وأكاد أهوي من جديد لولا أني شِمتُ نوراً ينبثق من الشرق.. إنه نور أنيس كريم رحيم واعد، فأفرحني وأنعشني وأمدني بإيمان وليد وعزم جديد، ورحت أتبع الدليل.. دليلي، ولم يعد يهمني إلى أين أتبعه وسأتبعه إلى حيث لا أدري.‏

وشاع النور الواعد في السماء والأرض وما بينهما.. ونظرت حولي فإذا أنا في أجواء وأرجاء لا عهد للحقيقة ولا للخيال بمثل جمالها وجلالها وصفاتها وبهائها! دنيا جديدة فريدة لم يدن منها السوء ولم يدخلها الجشع، فأحسست بأني أستعيد أكثر من قواي وصحت من أعماقي الشكر لك يا إلهي فقد أوصلتني وقد منحتني غاية عمري فالحمد والشكر لك.‏

ولما انثنيت إلى الدليل أبحث عنه لأتوجه إليه بكلمة عرفان وشكر على ما دلني عليه وأوصلني إليه، لم أجد أحداً سواي.‏





======================
علي مظفر سلطان
ولد في عام 1911 (المصابن) حلب
تلقى تعليمه في مدينة حلب حتى نهاية المرحلة الابتدائية ثم التحق بجامعة القاهرة ونال الليسانس في الآداب عام 1941 ثم الماجستير عام 1950
عمل في تدريس اللغة وتفتيشها في مدينة حلب كما عمل مديراً للتربية في محافظة درعا ودرّس في الجزائر (1965- 1967).
عضو جمعية القصة والرواية.

* مؤلفاته:

1- ضمير الذئب- قصص- بيروت 1980.
2- في انتظار المصير- قصص- دمشق 1976.
3- المفتاح - رواية - حلب 1984.
4- رجع الصدى - قصص- دمشق 1985.
5- العماد الأصفهاني- دراسة- 1952.
توفي سنة 1991.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى