محمود سلطان - جمال القصاص يأخذني برويةٍ إلى "ما لا أعرفه"!!

أعترفُ أنَّ لي مشكلة مع ما تُسمى "قصيدةُ" النثر.. اسمحوا لي أن أقول "تُسمى".. لأنني ـ بصراحةٍ ـ لستُ مُتأكدًا ما إذا كانت قد نالت شرعيتها أم لا! فهي حتى الآن ـ كما يبدو لي ـ ما نفكت تناضل لتحجز لنفسها "بطاقةَ حضورٍ" على خارطة الشعر العربي.
لكن تجاهلها، ليس مفيدًا، وإنما عدالة مجروحة، لأن ثمة ما لا يمكن بحال، المرور عليه مرور غيمة غير ممطرة. بل إنني أحيانا أراها أفضل عشرات المرات مما يُكتب من شعر عمودي، لا يتجاوز الرصَّ الخرساني: جثمانٌ مُسجَّى على الورق، لم تُنفخ فيه روح، وكنت قد حذرت ـ في مناسبات لا أذكرها ـ من أنّ السائدَ من شعر "الصوبات" يمكن إسالته ـ كمبررٍ ـ إلى "صك" اعترافٍ بشرعية النصِ النثري، بوصفه مساحةً محررةً من "الرِّق" الخليلي، إذا جاز التعبير.. وهو مصطلح مني قد يُسعد النثريين بطبيعة الحال! بيد أنني أقوله من قبيل "التحذير" وليس "التقرير" بصحته في المُطلق.
أنا بطبيعتي مهمومٌ بمفهوم "الهوية"، ولي ستةُ كتب في "الدين والتراث والهوية"، ودخلت أثناء إشرافي على "الملف الطائفي" في الجريدة التي كنت أعمل بها في مواجهات خشنة، خوفا على هوية مصر المعمارية "كدولة مسلمة".. وفي ذات السياق أُدرج الشعر بهيئته التي تركها لنا الآباءُ المؤسسون.. أدرجه من بين مكونات هويتنا العربية، وأن المساسَ به، يعتبر مساسًا مستفزًا قد يهدد الهوية الوطنية للدولة ذاتها.
غير أنَّ ذلك لا يتعين أن نجعله تحريضًا على مصادرة حرية الإبداع أيًا كانت صورته ومن بينها النص النثري: قد نختلف في تسميته وقد نرفض إدراجه بوصفه "شعرًا".. ولكنه في نهاية المطاف نمط ٌفني لا يخلو من إبداع وتجديد في الصور والمجاز والتراكيب الجمالية وغرائبها، وأحيانًا يكونُ مصدرَ متعة حقيقي للمتلقي.
غيرتُ ـ موقفي نسبيًا من هذه النبتة الغريبة ـ بعدما قرأتُ نصوصًا من نوعها، تغري أيَّ محبٍ للأدب أن لا يغمض حقها من الإعجاب.
في مصر ـ على سبيل المثال ـ أسماء بلغت تقريبا طبقة "الكمال" في هذه المنطقة، على رأسهم الأستاذ جمال القصاص ود. عيد صالح ود. أمجد ريان.. بيد أنه في تونس، ظاهرة مفارقة بشكل لافت جدا في منطقة المغرب العربي، تكاد تتماس أو تتنافس مع الفحوى الإنساني لشعراء الحداثة في أوروبا والأمريكيتين، اسمها "فتحي مهذب" قد نتحدث عنها في وقت لاحق. فيما تنشط حركة واسعة في المملكة العربية السعودية، خصمت ـ فيما يبدو لي ـ كثيرا من وهج القصيدة الخليلية.
في الآونة الأخيرة قرأت كثيرا للشاعر الأستاذ والزميل الصحفي جمال القصاص
(أحد مؤسسي جماعة إضاءة 77) لفت انتباهي بعده عن النزعة "الاحتفالية"، وصخب المفردات الزاعقة، ويبدو لي وكأنه درويشٌ تأملي، يغيب عن الوجود، ليخرج من أصداف الخيال درره في الغرائبية والمجاز الصادم والذي على غير مثال، وعند اكتمال قمر النص، يقدمه لنا القصاص ملفوفا في ورق سوليفان إنساني وحميمي ناعم... وقصائده تغري بإلحاح على الترجمة، لأنها ـ تقريبا ـ كتفٌ بكتفٍ وكعبٌ بكعبٍ مع قصائد "الهم الإنساني" عابر الحدود.
قرأتُ له ـ منذ أيام ـ نصًا "شجيا ودافئا" بعنوان :" أنا ابن شيخوختى".. يقول فيه :

أنا ابن شيخوختي
كلَّ يوم
نتبادل الحياةَ بمحبّة خالصة
نتظاهر بأننا عاشقان
هذا موعدنا الأوَّل
قبلتنا الأولي ..
شهوتنا النيِّئةُ الغضّة
دائما تسبقنا
ترتِّب لنا الفراش
ترشُّه بعطر سماويِّ
يخطف الروحَ
يهدهدها
كأنها بلبلةُ الفردوس
فراشةٌ في فم الهواء
قصيدةٌ تنتظر العُرس .
أنا ابن شيخوختي
كلَّ يوم نسندَ الجدارَ
نعلِّمه مراهقةَ الصورة
نسأله:
هل مرَّ الغرباءُ من هنا
أخذوا حفنةً من النّوم
من ثرثرة النّدى ؟
تضحك وأنا أنظِّف أظافرَها
: خذني للأوبرا
أحبُّ غوايةَ الطَّيف
أعشق رفّة الكمان
تحت جناحي عصفور.
سنذهب
اطمئني
فقط أفرغ من ديوانكِ الجديد
أعلِّمه كيف يقرع الأجراسَ
كيف يقرصكِ بحبّ .
أنا ابن شيخوختي
أحرص أن تظلَّ أنيقةً
تبدو أصغرَ من سِنِّها
تتباهي بشعرها الأبيض
بأنها طفلةٌ
لا تزال في أول الصَّف

انتهى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى