(7)
بالتزامن مع تصعيد عنيف ومتواصل للأحداث على الجبهة الفلسطينية – الإسرائيلية، وأحاديث عن خطة سعودية للسلام، بدأنا العمل في سلسلة جديدة من الحلقات مخصصة لمناقشة حاضر الانتفاضة الفلسطينية ومستقبلها، تم طرح عدة محاور للنقاش شارك فيها نخبة من الشخصيات العربية والأجنبية وثيقة الصلة بالموضوع، كما تم عرض آراء قطاعات متعددة داخل المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي، أحد تلك المحاور الهامة التي تم طرحها وأثار جدلا كبيرا هو ما يراه البعض من أن الانتفاضة خرجت عن مسارها الصحيح، وبالغت في رد الفعل المتمثل في سلسلة من العمليات الفدائية الناجحة ردا على العدوان الإسرائيلي المستمر، يطالب هؤلاء ومن بينهم فلسطينيون يعيشون في الداخل والخارج باللجوء إلى أساليب المقاومة السلمية والعصيان المدني، والحد بقدر الإمكان من العمليات الفدائية، أصر بعضهم على أن الخيار العسكري يؤدى إلى حدوث مواجهة غير متكافئة يكـون الفلسطينيون أكثر ضحاياها، على الجانب المقابل كانت هناك أغلبية ترى أن طبيعة الاحتلال الإسرائيلي وممارساته لن تجدي معها المقاومة السلمية، وأنه لا يمكن مثلا مقارنة وضع الهند في العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين في ظل شخصية غاندي المتسامحة بالوضع الآن في الأراضي المحتلة في ظل جحيم شارون، يضيف هؤلاء أن الفلسطينيين قد جربوا شتى أنواع المفاوضات والحلول السلمية بداية من مدريد وحتى الآن ولم يتحقق لهم أي شيء ملموس على الأرض، ويؤكدون أنه لا يمكن استبعاد الحل التفاوضي ولكن لن يمكن فرض هذا الحل إلا من خلال تكثيف عمليات المقاومة وإيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر المادية والمعنوية في الطرف الإسرائيلي تجبره على الانخراط في مفاوضات جادة وحقيقية بدلا من ترحيل المشكلة ومحاولة إذابتها جيلا بعد جيل، في مقابل هذين الفريقين كان هناك فريق ثالث يؤمن أنه لابد من التمسك بالخيارين معا، بل وبأي خيار آخر متاح لتحقيق الأهداف الفلسطينية المشروعة، وأنه لا يوجد أي داع لاستبعاد أي خيار مقدما دون وجود مبررات منطقية وحاسمة تتطلب هذا الاستبعاد سواء كان ذلك مرحليا أو بصورة دائمة، وأنه يجب استخدام جميع الخيارات المتاحة بأكبر قدر ممكن من المهارة والاحتراف، علق حسن بعد عدة عمليات فدائية متتالية وناجحة أوقعت خسائر غير مسبوقة في الجانب الإسرائيلي:
ـ ستدعم هذه العمليات من حجج أنصار تغليب الحل العسكري.
أجبته وأنا أتابع ما يرد من أنباء عن الردود الإسرائيلية بالغة العنف والقسوة:
ـ أظن أن أصحاب نظرية عدم التكافؤ سيردون بعرض نماذج من هذه المعاناة والخسائر اليومية في الأرواح والممتلكات الفلسطينية وسيقولون أن الفارق في الخسائر بين الجانبين كبير جدا وأنه في غير صالح الجانب الفلسطيني.
ـ فى أي حرب تحرير جرت عبر التاريخ كله لا يوجد استثناء من أن الطرف الذي يقاوم لدفع العدوان وتحرير أرضه وكرامته يدفع ثمنا غاليا مقارنة بالمحتل، ولمَّ نذهب بعيدا تذكر الجزائر وفيتنام.
تدخل على قائلا:
ـ هذا صحيح ولكن هل يتحمل الشعب الفلسطيني بموارده المحدودة وعدد أفراده القليل كل هذه التضحيات؟
أجبته وأنا أفكر:
ـ أعتقد ذلك يا علي.
أضاف حسن:
ـ ثم أن هناك توازنا عدديا حتى بحساب الفلسطينيين في الخارج واليهود المحتمل أن يهاجروا إلى إسرائيل، إن معدلات الولادة لدى الطرفين تشير إلى تجاوز عدد الفلسطينيين لعدد الإسرائيليين خلال فترة زمنية غير بعيدة.
هز علي رأسه ثم قال:
ـ أنت تعلم أن المشكلة ليست في الأعداد هنا أو هناك، المشكلة الحقيقية أن إسرائيل تتلقى دعما أمريكيا هائلا وحماية لم تحظ بها قط أي قوة احتلال عبر التاريخ.
أجبته في أسى:
ـ هذا للأسف هو أكثر الأمور إثارة للإحباط، لكن يجب ألا نعفي أنفسنا من مسئولية مقاومة هذا الوضع المغلوط، بل يجب أن نبذل أقصى ما في وسعنا لتغييره.
قال علي:
ـ إنها مهمة مستحيلة.
رد حسن بسرعة:
ـ ليست كذلك أبدا، قد تكون صعبة لكنها ليست مستحيلة.
هززت رأسي موافقا ثم قلت:
ـ الأمر يتوقف علينا نحن في أن تكون سهلة أو صعبة أو مستحيلة.
استمرت هذه السلسلة من الحلقات على مدار عدة أسابيع تصاعد خلالها العدوان الإسرائيلي ووصل إلى ذروته باجتياح شامل للضفة الغربية مدنا وقرى ومخيمات وتوج بمذبحة بشعة في جنين.
******
مرت أسابيع لم ألتق فيها بندى لقاءً خاصاً، كان كل منا يرى الآخر داخل مبنى القناة للحظات خاطفة مصحوبة بأكبر قدر ممكن من التحفظ وضبط النفس، كانت علاقتنا قد أصبحت واقعا حيا يعرف عنه معظم العاملين في القناة تقريبا، ومع ذلك كنا نتصرف كما لو كان الأمر سرا دفينا لا يعرفه أحد سوانا، كان سلوكا عجيبا مارسه كلانا دون أن يجد له تفسيرا مقنعا، ورغم أن المشاعر التي تربط بيننا لم تعد أمرا مطروحا للنقاش، إلا أن العلاقة بيننا شابتها بعض الشوائب في الآونة الأخيرة، اشتعلت بداخلي رغبة شديدة في الخروج معها وتناول العشاء سويا كسابق عهدنا، إلا أنى لم أجرؤ على أن أطلب منها ذلك لعدة أسابيع، الغريب أنها هي أيضا لم تفاتحني في هذا الأمر ولم تلمح إليه قط، انتابني شعور مبهم بأن الخاتم الذهبي الصغير الذي سبق وأن اشتريته لندى بعد عودتي من أفغانستان وعجزت عن تقديمه إليها قد تحول إلى سد منيع يقف حائلا بيننا، انفردت بنفسي ذات ليلة وأخذت في تأمله، تزاحمت أصوات ومشاعر متناقضة داخل رأسي وصدري، أخذت في تقليب الخاتم بين يديَّ وأنا أنظر إليه من جميع الزوايا كأنني أراه للمرة الأولى، شردت مع العديد من الخيوط والتساؤلات، تلميح أمي برغبتها في أن تراني متزوجا في أقرب وقت، لقائي المفاجئ بأسرة ندى، إخبارها لهم بأمر علاقتنا، الحوار الغريب الذي دار بيننا بعد هذا اللقاء، هذا الخاتم الذي عجزت عن تقديمه إليها وبات يؤرقني وجوده معي، سألتني نفسي:
ـ هل حقا تحب ندى؟
طردت السؤال سريعا وأنا أتعجب لمجرد طرحه، عادت نفسي لتسألني في إصرار:
ـ لماذا إذن لم تعطها الخاتم؟
أعدت النظر إلى الخاتم وأنا أفكر في إجابة عن هذا السؤال المنطقي، هل حقا أخشى أن أعطيها الخاتم؟ هل أخشى الارتباط الرسمي بها؟ هل أخشى تبعات هذا الارتباط؟ سألتني نفسي في خبث:
ـ هل تخشى الارتباط بشكل عام أم تخشى الارتباط بندى خاصة؟
عجبت لتوارد مثل هذه الأسئلة على ذهني وإلحاحها عليَّ، قفز سؤال آخر فجأة:
ـ أتظن أنك غير كفء لندى، هل هذا هو سبب ترددك؟
استحضرت صورة ندى وأنا أعترف لها بأنها أكثر مني شجاعة، استرجعت تساؤلها: "هل تخجل من علاقتك بي؟"، وجدتني أجيب عليها وعلى نفسي معا بصوت عال:
ـ لا يا ندى لا أخجل من علاقتي بك بل أنا فخور بها، فخور بأنني أحبك، فخور بأنك تحبينني، وسيأتي الوقت المناسب لكي أعلن هذا الحب وأرتبط بك رسميا.
وضعت الخاتم في علبته بعناية شديدة، أغلقتها وأنا أبتسم، نمت سعيدا.