كان لباسه قد دل عليه، فعرفت للحال أنه فلاح فقير، من أولئك الفلاحين الفقراء، الذين تضطرهم قسوة الملاكين، لهجر الريف إلى المدينة.

شاهدته من وراء زجاج المقهى، في يوم بارد ممطر، يستوقف المارين، يعرض عليهم «بضاعته» فمنهم مَن يقف لينظر إليها، ومنهم مَن يهز رأسه ويتابع المسير.

كانت هذه «البضاعة» طفلة في الثالثة عشرة من العمر تقريبًا، هزيلة البنية، سمراء البشرة، ناعمة الملامح، حافية القدمين. ولم يكن هو بخير من طفلته، فقد كان حافيًا، رث الثياب، تبدو على سيمائه سورة ألم ممض هو - ولاشك - وليد فقره الشديد الأسود.

اقتربت منه، وكان لايزال ينادي بصوته الواهي الكسير:

- طفلة... للبيع!

طفلة للبيع؟ ياله من إجرام في ذات الإنسانية وفي ذات الحضارة!

اقتربت منه، فنظر إلي نظرات مسكينة، فيها كثير من التوسل والرجاء.

- طفلة... للبيع.

أعاد نداءه، ثم تقدم نحوي وأشار إلى طفلته قائلاً:

- إنها شاطرة.... يا أفندي... وأمينه، والله.

فقاطعته بقسوة:

- ولكنها صغيرة... صغيرة جدًا.

وحرام أن تعمل، هذه الطفلة، في مثل هذه السن، وأحرم منه، أن يباع الأطفال يا رجل. أليس لك قلب؟

فما راعني إلا هلع غريب يستولي عليه، وبسمة ساخرة، مرة، يفتر عنها ثغره:

- بلى... يا أفندي... لي قلب (أجابني بهدوء. كالذي يسبق العاصفة).

ولكن ألا ترى بيعها - لعدة سنين - أفضل من موتها جوعًا وبردًا؟!

قلت: نعم! أرى، في مثل هذه الحال، بيعها أفضل ولكن...

- ماذا؟

- لم لا تعمل حتى تعيلها، وتكفيها شر الجوع والبرد؟! أنت فلاح، فماذا كنت تفعل في الصيف؟!

- في الصيف؟!

- أجل.

- أوتظن أنني كنت ألعب؟

- هذا ما يبدو لي! (وتذكرت للتو حكاية لافونتين عن الصرصور والنملة).

- أنت واهم! (أجابني بنبرة تأكيدية) في الصيف! كنت أجمع ما بذرته في الشتاء.

- وأين الغلال التي جمعتها إذن؟

فنظر إلي، كمن تنبه لشيء، ثم راح يتمتم:

- صحيح... أين الغلال التي جمعتها!؟

ثم قال: والله... لا أدري! ولكنني أقسم، على أنني ما تقاعست قط.

وسحب طفلته ومضى... فبقيت لوحدي أفكر بــ«الجراد» الذي أتى على غلة هذا «الصرصور»!



* أول قصة نشرت لحنا مينه في مجلة «الطريق» اللبنانية


1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى