ما تبنيه الإنسانية جمعاء يدمّره رجلٌ واحدٌ فقط!
يكفي كتابٌ واحدٌ لتدمير مكتبةٍ بأكملها! نظرياً، وحتّى عملياً، الأمر بسيطٌ جداً ويمكن التّدليل عليه دون مشقّة: احتراقُ كتابٍ واحدٍ قد يجرّ معه احتراق المكتبة بأكملها؛ دسُّ كتابٍ واحدٍ موبوءٍ بالأرَضة قد يؤدّي إلى إتلاف الكتب جميعها.
على أنّ الحرائق وحشرات الأرضة، وجميع الكوارث البيّنة، ليست وحدها ما يتهدّد الكتب. لنفترض أنّ كتاباً واحداً فقط، كتاباً مختلفاً ينطوي على لعنة ما، يتمّ دسّه كتعويذة بين باقي الكتب، ويكون هدفه الخفيّ تدمير المكتبة بأكملها. سيكون الأمر أشبه بقاتل المدعوّين إلى الجزيرة في رواية أغاثا كريستي «ثمّ لم يبقَ منهم أحد!».
الرّهانُ الأكبر في الرّواية البوليسية هو إخفاء القاتل ما أمكن، إطالة أمد اختفائه، وهو الرّهان نفسه الذي يواجه من يرغب في تدمير مكتبة عبر دسّ كتابٍ: كيف أُخفي الكتاب الملعون بين باقي الكُتب؟
المثال الذي قد يقفز إلى ذهن القرّاء مباشرةً هو «اسم الوردة» لأومبيرتو إيكو، حيث عمد أحد الرّهبان إلى إخفاء الكتاب الملعون «الكوميديا» لأرسطو بين باقي كتب المكتبة. موضوع الكوميديا موضوع خطيرٌ لأنّه يرتبط بفضيلة الضحك «المكروهة»، كان من الممكن إذن التّخلّص من الكتاب ببساطة، عبر حرقه مثلاً، لكنّ المشكلة تكمن في أنّ الكتابَ نُسخةٌ فريدةٌ، وبالتّالي قد يكون في إعدامه إعدام نوعٍ بأكملِه، ولا أحد يضمن أيّ اختلالٍ قد يصيب الوجود إذا ما اختفى فجأةً نوعٌ بأكمله. لهذا ينبغي أن يتمّ في آنٍ الاحتفاظُ بالكتاب وضمان ألّا يُفصَح عن مضمونه «الشّرير». وهنا أيضاً كان بالإمكان خزن الكتاب في مكانٍ معزولٍ لا يعرفه أحد. بيد أنّ هذه المجازفة تنطوي أيضاً على معضلات كبرى: إنّ إخفاء الكتاب وحرزه سيؤدّي إلى زيادة إبرازه قياساً إلى غيره من الكتب، بالإضافة إلى أنّه سيفقد خاصيته الأساسية ككتابٍ، أي إمكان أن يُتصفَّح ويُقرأ. حلاً للمعضلات السّابقة كلّها، دسّ الرّاهب الكتاب بين باقي الكتب بعد أن ذهنَ صفحاته بالسمّ، فكان كلّ من يتصفّح الكتاب يلقى حتفه؛ فتكون ضريبةُ الضّحكِ الموتُ وأخذ سرّ الكتاب إلى القبر. بالطّبع ليس انتقام كتاب الكوميديا موجّها بشكلٍ مباشرٍ إلى باقي الكتب، فهو لا يعدمُ المكتبةَ فزيائياً، لكنّه يفعل ما هو أشنع، فمع كلّ قارئ يموت تخسر باقي الكتب إمكان أن تُقرأ، إمكان أن يمنحها قارئ فرصة الحياة واستنشاق الهواء. الجريمة المتسلسلة «في اسم الوردة» هي في الواقع جريمةٌ في حقّ الكتب.
نعثر في نصوص أخرى على موضوعات مماثلة، موضوعةُ الكتاب القاتل، الذي يقتاتُ على روح القارئ، إذ يصرفه عن قراءة ما سواه، يفرض عليه حالة من الاستلاب الكليّ. ذاك شأن كتاب الرّمل الذي قايضه بورخيس بإنجيل «ويكليف» المكتوب بالخطّ القوطي، وكتاب أحمد بوزفور العجيب في قصّة «المكتبة». كلا الكتابَين لانهائيٌّ، لأنّهما مثل نهر هيراقليطس، لا تنفتح فيهما الصّفحةُ الواحدةُ مرَّتين (وأتساءَل أليست هذه الخاصية من طبيعة الكتب جميعها!؟). وكلا الكتابيَن يعدمان ما تبقى من كتب عن طريق صرف مالِكِهما عمّا سواهما. القارئ يتعلّق بهما تعلّقاً مرضياً، الأوّل لا يستطيع إنهاء الكتاب لأنّه لا نهائي بعدد حبات الرّمل، والثاني يوقن ألّا حاجة به إلى أيّ كتاب ما دام يملك كتاب «المكتبة»، الكتابُ الذي هوَ جُماع الكتب كلّها. على أنّ الكتاب الذي يبدو في الوهلة الأولى مثل اللّقية والحظّ السّعيد، سرعان ما يكشفُ عن جانبه الآخر، عن كونه كتاباً قاتلاً.
فالواقعُ أنّ الكتاب (كلّ كتابٍ) هو من يقرأ القارئ: يتغذّى على لياليه ويعتاش على فكره وأرِقه، يسعى إلى تملّكه تماماً بحيث لا ينظر القارئ إلى ما سواه؛ وحين يتعلّق الأمر بكتابٍ مثل كتابِ الرّمل أو كتاب المكتبة، فإنّ الأمر يتعدى إخفاء باقي الكتُب إلى إخفاء العالم بأكمله. لهذا كان على القارئَين معاً التّخلّص من الكتاب. الأوّل هابَ الحرقَ، لأنّ حرق كتابٍ لا نهائيٍ قد يجرّ معه حريقاً لا نهائياً، لهذا اكتفى برميه في شارع مهملٍ، ربّما آملاً في أن تنتقل لعنته إلى قارئ آخر، فيختفي عالم آخرٌ بدلاً من عالمه هو؛ أمّا الثّاني فقد أنقذته مكتبة الحياة من مكتبة الكتاب!
لا ريب في أنّ في كلّ مكتبةٍ كتاباً ملعونا بدرجة أو بأخرى، كتاباً لا يرغب صاحب المكتبة في أن نتصفّحه، وإن كان يضعه بإهمالٍ بين باقي كتبه، كتاباً يترصّد باقي الكتب، وينتظر اللّحظة التي ينقضّ فيها على عالم القارئ لمحو ما سواه، مثل لحنٍ متعذّر النّسيان، ينشب أظافره في الذّاكرة فلا يعود اللّسان يرطن بسواه. ثمّة أناسٌ لم يقرؤوا طيلةَ حياتهم إلا كتاباً واحداً، ولم يحبّوا سوى امرأةٍ واحدة، ولا يردّدون إلا أغنية واحدةً، ومع ذلك هم لم يَخبروا تجربة الكتاب/المرأة اللّحن الواحد/الواحدة، التي هي مثل لبنة سينمار تختفي في موضع ما، كأيّ لبنةٍ أخرى لا شرفَ لها على ما سواها، لكنّها تهدّد البنيان بأكمله.
مثل لبنة المهندس سينمار، لا سبيل إلى التّخلّص من لعنة الكتاب القاتل. يبقى حلّ واحدٌ إذن: قتل القيّم على المكتبة!
فصل من كتاب «مكتباتهم» لمحمد آيت حنا
يكفي كتابٌ واحدٌ لتدمير مكتبةٍ بأكملها! نظرياً، وحتّى عملياً، الأمر بسيطٌ جداً ويمكن التّدليل عليه دون مشقّة: احتراقُ كتابٍ واحدٍ قد يجرّ معه احتراق المكتبة بأكملها؛ دسُّ كتابٍ واحدٍ موبوءٍ بالأرَضة قد يؤدّي إلى إتلاف الكتب جميعها.
على أنّ الحرائق وحشرات الأرضة، وجميع الكوارث البيّنة، ليست وحدها ما يتهدّد الكتب. لنفترض أنّ كتاباً واحداً فقط، كتاباً مختلفاً ينطوي على لعنة ما، يتمّ دسّه كتعويذة بين باقي الكتب، ويكون هدفه الخفيّ تدمير المكتبة بأكملها. سيكون الأمر أشبه بقاتل المدعوّين إلى الجزيرة في رواية أغاثا كريستي «ثمّ لم يبقَ منهم أحد!».
الرّهانُ الأكبر في الرّواية البوليسية هو إخفاء القاتل ما أمكن، إطالة أمد اختفائه، وهو الرّهان نفسه الذي يواجه من يرغب في تدمير مكتبة عبر دسّ كتابٍ: كيف أُخفي الكتاب الملعون بين باقي الكُتب؟
المثال الذي قد يقفز إلى ذهن القرّاء مباشرةً هو «اسم الوردة» لأومبيرتو إيكو، حيث عمد أحد الرّهبان إلى إخفاء الكتاب الملعون «الكوميديا» لأرسطو بين باقي كتب المكتبة. موضوع الكوميديا موضوع خطيرٌ لأنّه يرتبط بفضيلة الضحك «المكروهة»، كان من الممكن إذن التّخلّص من الكتاب ببساطة، عبر حرقه مثلاً، لكنّ المشكلة تكمن في أنّ الكتابَ نُسخةٌ فريدةٌ، وبالتّالي قد يكون في إعدامه إعدام نوعٍ بأكملِه، ولا أحد يضمن أيّ اختلالٍ قد يصيب الوجود إذا ما اختفى فجأةً نوعٌ بأكمله. لهذا ينبغي أن يتمّ في آنٍ الاحتفاظُ بالكتاب وضمان ألّا يُفصَح عن مضمونه «الشّرير». وهنا أيضاً كان بالإمكان خزن الكتاب في مكانٍ معزولٍ لا يعرفه أحد. بيد أنّ هذه المجازفة تنطوي أيضاً على معضلات كبرى: إنّ إخفاء الكتاب وحرزه سيؤدّي إلى زيادة إبرازه قياساً إلى غيره من الكتب، بالإضافة إلى أنّه سيفقد خاصيته الأساسية ككتابٍ، أي إمكان أن يُتصفَّح ويُقرأ. حلاً للمعضلات السّابقة كلّها، دسّ الرّاهب الكتاب بين باقي الكتب بعد أن ذهنَ صفحاته بالسمّ، فكان كلّ من يتصفّح الكتاب يلقى حتفه؛ فتكون ضريبةُ الضّحكِ الموتُ وأخذ سرّ الكتاب إلى القبر. بالطّبع ليس انتقام كتاب الكوميديا موجّها بشكلٍ مباشرٍ إلى باقي الكتب، فهو لا يعدمُ المكتبةَ فزيائياً، لكنّه يفعل ما هو أشنع، فمع كلّ قارئ يموت تخسر باقي الكتب إمكان أن تُقرأ، إمكان أن يمنحها قارئ فرصة الحياة واستنشاق الهواء. الجريمة المتسلسلة «في اسم الوردة» هي في الواقع جريمةٌ في حقّ الكتب.
نعثر في نصوص أخرى على موضوعات مماثلة، موضوعةُ الكتاب القاتل، الذي يقتاتُ على روح القارئ، إذ يصرفه عن قراءة ما سواه، يفرض عليه حالة من الاستلاب الكليّ. ذاك شأن كتاب الرّمل الذي قايضه بورخيس بإنجيل «ويكليف» المكتوب بالخطّ القوطي، وكتاب أحمد بوزفور العجيب في قصّة «المكتبة». كلا الكتابَين لانهائيٌّ، لأنّهما مثل نهر هيراقليطس، لا تنفتح فيهما الصّفحةُ الواحدةُ مرَّتين (وأتساءَل أليست هذه الخاصية من طبيعة الكتب جميعها!؟). وكلا الكتابيَن يعدمان ما تبقى من كتب عن طريق صرف مالِكِهما عمّا سواهما. القارئ يتعلّق بهما تعلّقاً مرضياً، الأوّل لا يستطيع إنهاء الكتاب لأنّه لا نهائي بعدد حبات الرّمل، والثاني يوقن ألّا حاجة به إلى أيّ كتاب ما دام يملك كتاب «المكتبة»، الكتابُ الذي هوَ جُماع الكتب كلّها. على أنّ الكتاب الذي يبدو في الوهلة الأولى مثل اللّقية والحظّ السّعيد، سرعان ما يكشفُ عن جانبه الآخر، عن كونه كتاباً قاتلاً.
فالواقعُ أنّ الكتاب (كلّ كتابٍ) هو من يقرأ القارئ: يتغذّى على لياليه ويعتاش على فكره وأرِقه، يسعى إلى تملّكه تماماً بحيث لا ينظر القارئ إلى ما سواه؛ وحين يتعلّق الأمر بكتابٍ مثل كتابِ الرّمل أو كتاب المكتبة، فإنّ الأمر يتعدى إخفاء باقي الكتُب إلى إخفاء العالم بأكمله. لهذا كان على القارئَين معاً التّخلّص من الكتاب. الأوّل هابَ الحرقَ، لأنّ حرق كتابٍ لا نهائيٍ قد يجرّ معه حريقاً لا نهائياً، لهذا اكتفى برميه في شارع مهملٍ، ربّما آملاً في أن تنتقل لعنته إلى قارئ آخر، فيختفي عالم آخرٌ بدلاً من عالمه هو؛ أمّا الثّاني فقد أنقذته مكتبة الحياة من مكتبة الكتاب!
لا ريب في أنّ في كلّ مكتبةٍ كتاباً ملعونا بدرجة أو بأخرى، كتاباً لا يرغب صاحب المكتبة في أن نتصفّحه، وإن كان يضعه بإهمالٍ بين باقي كتبه، كتاباً يترصّد باقي الكتب، وينتظر اللّحظة التي ينقضّ فيها على عالم القارئ لمحو ما سواه، مثل لحنٍ متعذّر النّسيان، ينشب أظافره في الذّاكرة فلا يعود اللّسان يرطن بسواه. ثمّة أناسٌ لم يقرؤوا طيلةَ حياتهم إلا كتاباً واحداً، ولم يحبّوا سوى امرأةٍ واحدة، ولا يردّدون إلا أغنية واحدةً، ومع ذلك هم لم يَخبروا تجربة الكتاب/المرأة اللّحن الواحد/الواحدة، التي هي مثل لبنة سينمار تختفي في موضع ما، كأيّ لبنةٍ أخرى لا شرفَ لها على ما سواها، لكنّها تهدّد البنيان بأكمله.
مثل لبنة المهندس سينمار، لا سبيل إلى التّخلّص من لعنة الكتاب القاتل. يبقى حلّ واحدٌ إذن: قتل القيّم على المكتبة!
فصل من كتاب «مكتباتهم» لمحمد آيت حنا