نجاتي صدقي - كاتب العرائض..

تذكر جميل العكرماوي بعد مضي خمس وثلاثين سنة من عمره، أن والدته كانت تقول له في حداثته: والله يا بني لأزوجنك متى كبرت من فتاة شامية، جسمها أبيض مثل الثلج، وشعرها أشقر مثل الذهب، وخداها أحمران مثل التفاح، وكان هو يسمع كلام أمه هذا وعلى ثغره ابتسامة الحداثة البريئة.

وماتت أم جميل، وتعاقبت السنين، فكبر جميل، وتخطى العقد الثالث، وأناخ الدهر عليه بأثقاله وهمومه، فكان من البائسين المعدمين، يضطر إلى ممارسة كتابة العرائض كوسيلة للمعاش. . .

ورأس ماله في هذه المهنة: صندوق خشبي صغير، وكرسي أصغر، ومحفظة كرتونية، وقلم حبر، وداوة، والقليل من الأوراق، ونسخة من قانون العقوبات الجديد الذي نسخ قانون الجزاء العثماني القديم.

وبعد أن عمل في هذا الحق عشر سنوات، تمكن من ادخار بعض المال بفضل صفقات خاصة عقدها مع السذج من الفلاحين، وكان يخفي هذا المال في حزام لا ينفك يطوق خصره ليلا ونهارا. . . وذات يوم راح يخاطب نفسه: أنت وحيد يا جميل، وعليك أن تجد سبيلا قويما لتتدبر فيه أمر ما ادخرته من مال. . . هيا افتح لنفسك مكتبا يرفع من مكانتك بين الناس. . . كلا. كلا. . . لا هذا ولا ذاك. . . عليك أن تتزوج من امرأة غنية تستفيد من ثروتها واذكر ما كانت تقوله له المرحومة أمك: (والله لأزوجنك من فتاة شامية) وسرعان ما سافر إلى دمشق في طلب العروس.

حل جميل أفندي في فندق (أمية) في دمشق، وهو من اشهر فنادق العاصمة السورية، وسجل في دفتره اسمه: (جميل بك العكرماوي محام من القدس). . . وكان يضع على عينيه نظارة بسلسة ذهبية، ويلبس لباسا انيقا، ويثبت في ياقته دبوسا ثمينا، ويحلى أصابعه بخواتم ذهبية، وأشاع في الفندق بأنه أتى إلى دمشق يطلب زوجة.

وإذ علم سماسرة الزواج في دمشق أن في فندق (أمية) وجيها فلسطينيا يود الزواج من فتاة مثرية، هرعوا إليه، وطرحوا خدماتهم عند قدميه.

وكان بطل قصتنا بحكم عمله ككاتب عرائض خبيرا بضروب الدجل والمخاتلة. فكان يستقبل سماسرة العرائس، ويكرم وفادتهم ويساومهم، ويستفهم عن الأسر القديمة الغنية، ويجمع عنها المعلومات المفصلة إلى أن قرر راية على خطبة بنت (. . .) باشا، وهي تنحدر من أسرة تركية عريقة استوطنت دمشق منذ أيام عبد الحميد، ثم أثرت، واستعربت.

وبعد مداولات مع أهل العروس، وهدايا متواصلة حملها جميل بك لابنة الباشا، وحديث مطول ألقاه على مسامعهم عن أملاكه في فلسطين في عين كارم والخليل. . . وبياراته في يافا واللد. . . وعن مكتبه الرئيسي في القدس، وفروعه المنتشرة في جميع أنحاء البلاد المقدسة. . . اقتنعت أسرة الباشا بمكانة جميل بك السامية، وكان له شريك في القدس يرسل إليه برقيات عن سير (القضايا) في دور المحاكم!. . .

وهكذا تم عقد قران ابنة الباشا على جميل بك العكرماوي في حفلة اقتصرت فيها الدعوة على الأقارب والأصدقاء، ثم رحل العروسان إلى لبنان ليقضيا شهر العسل في فندق (القاصوف) في ضهور الشوير. . . وطالما كان يحدث العريس عروسه وهما في مصيفهما الجميل هذا، عن أشهر مرافعاته في المحاكم محركا يديه، وملوحا بأكمام (الروب. . . دي شامبر)، ومتنقلا في الغرفة ذهابا وايابا، وكانت عروسه تستمع إلى طربة، وهي مستلقية على مقعد وثير طويل وقد عقدت يديها تحت رأسها.

وقالت له مرة: حدثتني كثيرا عن قضاياك. . . لكنك لم تحدثني قط عن حياتنا الزوجية في بلدك وكيف ستكون؟

قال: دعي الحديث عن حياتنا المقبلة، فقد صرنا الآن روحين في جسم واحد، أو جسمين تختلج فيها روح واحدة!. . . وثقي بأنني سأوفر لك جميع أسباب الرفاهية والسعادة في منزلي الجديد الذي ابنيه في حي القطمون في القدس. والآن أرجوك ترك هذا الموضوع الجاف، وهيا بنا إلى البستان لنأكل ما طاب لنا من الفاكهة.

وبعد انقضاء شهر العسل سافر العروسان إلى القدس، ونزلا في بيت حقير شبه قذر يعق في محلة (وادي الجوز). . . ولما وطئت قدما ابنة الباشا هذا البيت ارتدت إلى الخلف مذعورة وقالت: ما هذا الذي أراه يا ابن عمي؟! قال: لا تضطربي. . . إنني متخاصم مع أهلي، وقد انفصلت عنهم مؤخرا، واضطررت إلى استئجار هذا البيت المفروش مؤقتا إلى ان يتم بناء بيتي الجديد في حي القطمو. . . وبيتي الجديد. . . عفوا. . . بيتنا الجديد، هو عبارة عن طابقين مبنيين من الحجر الأحمر المعرق، وله حديقة غناء مزروعة بأطيب الزهور والرياحين، وله أربع شرفات في جوانبه الأربعة، تطل إحداها على المدينة المقدسة، وتطل على هضاب بيت لحم، وتطل الثالثة على قرية المالحة، أما الرابعة فتطل على أحياء القدس العصرية، وسأفرشه بأفخر الأثاث المصنوع من خشب الزيتون.

ومر الأسبوع الأول، ثم تلاه الثاني والثالث، ثم اكتمل الشهر. . . وكل شيء باق على ما هو عليه ضمن الوعود المتواصلة وكانت سيارة تأتى إلى البيت في كل صباح لتقل جميل بك إلى عمله ثم تعيده مساء. . .

ويبدو أن إبنة الباشا قد خامرها بعض الشك في سلوك زوجها، فعقدت النية على أن تزوره في مكتبه وان تلح عليه بالذهاب معا لرؤية البيت الذي لم يكتمل بناؤه بعد. وراحت في أحد الأيام تبحث عنه وعن مكتبه بجوار المحاكم. . .

وهناك سالت أحد سعاة البريد عن مكتب المحامي جميل بك العكرماوي، فقال لها انه لم يسمع بهذا الاسم قط. . . ثم سالت غيره فتقلت منه الجواب ذاته. . . ثم سالت عنه أحد كتاب العرائض. . . فقهقه هذا وظنها عميلة جديدة وقعت في فخ زميله جميل. . . إنني لا أعرف جميل بك العكرماوي، لكنني اعرف جميل العكرماوي كاتب العرائض، وهذا هو ذا يجلس في تلك الزاوية من العمارة. . . وأنصحك بالا تكتبي عنده شيئا فهو شخص يغرر بالسذج من الناس وإنني لعلى استعداد بأن أتقاضي منك الأجر نصف ما يتقاضاه هو. . . يضاف إلى ذلك إنني اخذ على عاتقي ملاحقة قضيتك في جميع الدوائر، هلا أطلعتني أيتها السيدة على ما هية قضيتك هل هي جزائية. . . أو حقوقية. . .؟

وتركته المرأة مسرعة إلى حيث أشار، فرأت زوجها يضع ورقة على ركبته، والعرق يتصبب من جبينه، وهو يكتب رسالة لرجل فقير كسيح. . .

فصرخت... وخرت على الأرض مغمي عليها.

نجاتي صدقي



مجلة الرسالة - العدد 698
بتاريخ: 18 - 11 - 1946








================


1.jpg

محمد نجاتي بن بكر صدقي ألاي أميني(1905-1979) كاتب وناشط وطني فلسطيني، وأحد أهم ناشطي الحركة الشيوعية في العالم العربي في بدايتها. اشتهر نجاتي صدقي بأسفاره المتعددة في خدمة الكومنترن وبنفاشاته مع خالد بكداش، الزعيم التاريخي للحزب الشيوعي السوري. ترجم نجاتي صدقي عدداً من عيون الأدب الروسي إلى اللغة العربية، كما ألّف عددأً من الكتب المتعلقة بنقده الأدبي وبتجربته السياسيَة.

ولد محمد نجاتي صدقي في الفدس في الخامس عشر من أيّار 1905. والده بكر صدقي كان مدرساً للغة التركية ومحباً للمسرح والموسيقى، والدته نظيرة مراد مقدسية. تعلم في المدرسة الصالحية ثم في الرشيدية والمأمونية فالمكتب السلطاني في القدس. بدأت أسفاره في سن الرابعة عشرة حيث رافق والده إلى الحجاز مع قوات الأمير فيصل الذاهبة لمحاربة الوهابيين. عاد مع أبيه بعد ذلك إلى سوريا ومنها إلى القاهرة ثم عاد إلى فلسطين حيث عمل في دائرة البريد والبرق (التيليغراف) حتى أواخر عام 1924. أثناء عمله هذا تعرف نجاتي صدقي إلى الحركة الشيوعية وانتسب إليها.

نشاطه السياسي والحركة الشيوعية

أرسل الحزب الشيوعي الفلسطيني نجاتي صدقي إلى موسكو للدراسة في جامعة كوتف. وقد غادر من يافا في السادس عشر من أيلول 1925 ومكث هناك ثلاثة أعوام انقضت بتقديمه أطروحة عن "الحركة الوطنية العربية من ألانقلاب الإتحادي حتى عهد الكتلة الوطنية. وعاد إلى فلسطين في عام 1929 ليشارك بنشاط في حياة الحزب.

أوفد في عام 1931,برفقة عضوٍ يهودي من الحزب، لحضور مؤتمر النقابات الدولية، في موسكو. ولدى عودته ألقت الاستخبارات البريطانية القبض عليه، حيث سجن في قلعة عكا حتى عام 1932. في عام 1933 انتقل إلى حيفا، ومنها انتقل إلى باريس بتعليماتٍ من الكومنترن. في أيلول عام 1933 بدأ صدقي بإصدار صحيفة "الشرق العربي" الشهرية والتي كانت نوزع سرّاً في البلدان العربية. اتخذ صدقي في هذه الفترة اسماً مستعاراً هو "مصطفى العمري". وقد استمرت هذه الصحيفة بالصدور حتى عطلها رئيس الحكومة الفرنسي لافال في عام 1936.

إاستدعي بعد ذلك إلى موسكو حيث قابل خاد بكداش وبرزت بينهما مجموعة من الخلافات فيما يتعلق بموضوع الوحدة العربية، إذ كان نجاتي صدقي (ممثلاًعن الفرع الفلسطيني للحزب) يعتقد بضرورة أن يكون العمل الثوري موجهاً، إضافةً إلى مسعى تحقيق العدالة الاجتماعية، إلى تحقيق الوحدة العربية، في حين أنّ خالد بكداش كان يعتقد بضرورة تحقيق الاشتراكية في كلَ قطر على حدة، قبل تحقيق الوحدة العربية.

سافر في عام 1936 إلى إسبانيا ليشارك في جهود الدعاية والبوباغندا الجمهورية ضد فرانكو. وقد كان مسؤولاً عن تحرير المنشورات الموجهة للجنود المغاربة المحاربين مع فرانكو. وقد ذهب إلى ساحات القتال لمخاطبة الجنود. وقد كان من المفترض أن ينشئ إذاعةً في الجزائر ناطقة بالعربية باسم الحزب الشيوعي الإسباني، لتبُث في المغرب العربي. إلّا أنّ أسباباً فنية حالت دون ذلك.

انتفل نجاتي في عام 1937 إلى لبنان ومنه إلى دمشق حيث أسندت إليه منظمة دمشق الحزبية. وبدأت علاقاته تسوؤ مع خالد بكداش. وهناك بدأ ينشر في الصحف مسلسلاً بعنوان "عربي حارب في إسبانيا"، من دون ذكر اسمه. إلّا أن المسلسل جمع لاحقاً ونشر في كتاب باسم خاد بكداش. وقد جمدت عضويته في الحزب في تلك الفترة. وفصل منه نهائياً عام 1939 بعد أن شنَّ هجوماً على اتفاقية عدم الاعتداء الموقعة بين هتلر وستالين في الحادي والعشرين من آب عام 1939.

نشاطه الأدبي والسنوات اللاحقة

عاد نجاتي إلى القدس عام 1940 وبدأ العمل في محطة إذاعة "الشرق الأدنى" وبقي فيها حتى حدوث النكبة سنة 1948. انتقلت الإذاعة إلى قبرص وانتقل معها إلى مدينة ليماسول وبقي فيها إلى عام 1950. حيث انتقل بعدها لبيروت وعمل في الصحافة والأدب وكتابة النصوص الأدبية.

تميزت هذه الفترة بإنتاجه الأدبي حيث أنه نشر، إضافةً إلى عمله كصحفي في الصحافة المرئية والمسموعة، عدداً من الكتب نذكر منها: بوشكين (1945) وتشيخوف (1947). كما وفام بترجمة عددٍ من الأعمال الروسية إلى العربية (قصص مختارة من الأدب الروسي بيروت1950). وكان نجاتي صدقي قد أصدر كتيباً في عام 1940 بعنوان " النازية والتقاليد الإسلامية" في مساهمة ٍمنه في دحض الدعاية النازية.

ألّف نجاتي صدقي عدداً من القصص القصيرة، نشر بعضها في مجلتي الرسالة والكتاب (منذ عام 1946) وأشهر هذه القصص قصة " الأخوات الحزينات".

حياته الشخصية

تزوج نجاتي صدقي من سيدة أوكرانية اسمها لوتكا (1905 - 2000) ورزق ببنتين وولد: دولت وسعيد وهند. انتقل نجاتي صدقي إلى أثينا حيث كانت تعيش ابنته في عام 1976. وهناك وافته المنية في السابع عشر من تشرين الثاني عام 1979 وبذلك أسدل الستار على حباةٍ ملأى بالترحال والإنتاج الفكري.

و قد تم نشر مذكرات نجاتي صدقي عام 2000 بعد أن حققها حنا أبو حنا ونشرتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى