مصطفى حمدي القوني - الخبز الرخيص

. . . وفتح الفتى عينيه - وكان يغمضهما كأنه يحلم - وألقى نظرة أخرى على ورقة من ورق الرسائل الأزرق منشورة أمامه.

ولم يكن يدري كم من الوقت مر عليه وهو - على حالته هذه - أمام مكتبه، والقلم في يده، وعيناه مغمضتان، ورأسه يحس انه يوازن كرة الأرض ويدور دورانها.

واعتمد بجبينه على راحة يده اليسرى، وأرسلها نظرة تائهة إلى الفضاء الذي يمتد أمام نافذته، وأخذ يستعيد ذكريات ساعات قريبة:

تذكر انه كان جالسا يقطع ساعة من ساعات الفراغ والوحدة المملة بالقراءة والتفكير، فسمع الجرس يدق خمس دقات - تتصل ثلاثتها الأولى وتقفوها دقتان منفصلتان - فأسرع إلى الباب يفتحه، وقد افترت شفتاه عن ابتسامة للوجه الذي سيطالعه، إذ كانت هذه الدقات سراً بينه وبين فتاته اصطلحا عليها، رفقا بأعصابه التي لم تكن تتحمل، حين يكون في انتظارها، أن يدق الجرس ثم لا تكون هي الطارقة.

دق الجرس دقاته الخمس، ولكنه حين فتح الباب تقدمت إليه فتاة أخرى - لا عهد له بها - تبتسم ابتسامة ناقصة، فحار في تعليل هذا ولم يكد يبدأ التفكير حتى تقدمت إليه صاحبته - وكانت تختفي وراء مصراع الباب المقف - وهي تقول ضاحكة: (أقدم لم صديقتي فتحية) فمد لها يده يحييها، ونظر لفتاته عاتبا وهو يقول: (يا شقية! متى تدعين هذا العبث؟)

وجلسوا ثلاثتهم وجعل الفتى يضحك ويتحدث كما هي عادته مع صديقته وصاحبتها، إلا انه كان يخيم على مجلسهم شيء من الفتور لم يكن يدري له سببا. وكان يبدو على وجه الفتاتين كثير من التردد والانتظار، ففترت رغبته في الحديث وودلو يعلم ماذا تكون النهاية

وكانت كلمات تحار على شفتي فتاته أمضها كتمانها، فقامت وخطت خطوتين إلى النافذة، وأطلت منها وعادت إلى حيث كان جالسا وعلى محياها دلائل العزم والتصميم وقالت:

- حقي! (وهذا اسم الفتى) هات ورقة وقلما!

- ماذا تصنعين بهم - لا تسألني!

وألقت نظرة إلى صديقتها وقدم لها هو ورقة من ورق الرسائل الأزرق وقلما فقالت:

- اجلس هنا.

وأشارت إلى المكتب فجلس وهو لا يدري ماذا يراد به. فقالت:

- أكتب ما أملي عليك (وأخذت تملي)

2. 5 متر كريب ستان أسود، 5 أمتار كريب جورجيت أسود. حذاء أسود رقم 37 (أنيسيال) حرف (ل) وقالت كأنما تحدث نفسها:

- يكفي حرف واحد باسمي أنا (وكان اسمها ليلى!)

والتفتت إلى صديقتها قائلة: ماذا غير هذا؟

وقبل أن تجيبها قالت وكأنما تحدث نفسها مرة أخرى. . . كفى!

فرفع إليها (حقي) عينين حائرتين يسائلها ماذا تعني فقالت:

- سوف آتي يوم الثلاثاء القادم فأجدك اشتريت هذه الأشياء. إني اترك الاختيار لذوقك - ثم قالت:

- سوف ترى كيف أبدو في هذه الملابس.

فحاول أن يبتسم، ولكن شفتيه لم تنفرجا، وحاول أن يعلل مسلكها فلم يهتد إلى تعليل. ترى ما الذي دعاها لان تطلب منه هذا، وقد كانت ترفض أن يهدي إليها شيئا مخافة أن يسألها ذووها عن مصدره؟ ثم هذه الطريقة التي طلبت بها ما طلبت. إنها لم تعجبه بل ومالنا لا نقول إنها ساءته وأمضته أيما مضض.

وحاول أن يستبقيها حين همت بالرحيل ولكن الأعذار تسابقت إلى شفتيها. . . وساءل نفسه - وهو يسير معها إلى الباب يودعها وصديقتها - بماذا تراها تعلل مسلكها إن سألها عنه؟ ولم يجد جوابا، وانتهى إلى أنها وضعت نفسها في مأزق سوف لا تدري كيف تخرج منه.

ووقف في أعلى الدرج يتابعها بنظراته وهي تهبط، وطافت برأسه حكاية الغزال والثعلب فهم ان يصيح بها. لم لم تفكري في الطلوع قبل ورود الماء؟ ولكن ارتد عن هذا وعاد إلى مكتبه يفكر وهذا هو بعد فترة - لم يكن يدري مداها - قضاها شبه حالم في تأمل لم يخرج منه بطائل، ثم إنه حين فتح عينيه وعاد بعض الشيء إلى حالته الطبيعية تبين أنه كتب في غير وعي على الورقة الزرقاء - التي لا تزال منشورة أمامه - باللغات التي يعرفها (أبدا. . . ابدأ. هذا لن يكون. .!) ذلك بأنه كان قد انتهى إلى ما يشبه التصميم على إلا يلبي طلب الفتاة، وعلى أن يقطع علاقته بها وان لم يكن يدري سبب هذا على التحقيق.

وجاء المساء فتوفر الفتى صدر ليلته على التفكير في فتاته وكأنما زايلته نفسه وقفزت إلى كتفه، وصارت تسائله وتحاوره وتضحك منه ساخرة. قالت له نفسه:

- تريد أن تهجرها؟ أتراك تعني ما تقول؟ أتراك تستطيع أن تنسى؟ فمط شفتيه وهز رأسه وأقفل عينيه وهو يقول:

- النسيان؟ لقد جربته في الماضي ونجحت التجربة فمالي لا أحاول مرة أخرى؟

- أية مغالطة! انك لم تنس أبدا. لقد كنت تخدعني وتتناسى. ومع ذلك حاول هذه المرة أن تنسى: العينين الباسمتين دائما، العميقتين اللتين لم تكن تمل أن تحدق فيهما، والشفتين اللتين كانتا نفتران عن بسمات تسير على ضوئها أياما. . والقبلات التي كنت تقول إنها تعوض كل مفقود وتأسو كل جرح، وتعزى عن كل مصاب!

- كفى! كفى! دعينا من هذا!

- هي! لقد كنت ظننتك نسيت! وفي الحق مالنا ولهذا! أنت تريد أن تهجرها فهل بحثت عن سبب أطمئن إليه)

- كأنك لا تعرفينني! إن اقتل قلبي، ولا أجرح كبريائي.

- كبرياؤك؟ ماذا مسها؟

- لم أكن أظن أن فتاتي - كمن سبقنها - تريد أن تتقاضاني ثمن العاطفة كأن حناني لم يكن ثمنا كافيا!

- أي سبب؟! إنك لتتجنى عليها. لعلك تفيء إلى الحق فتعترف أنها نزوة تلك التي أصابتك.

- وما يهمني؟ أليست النزوة مع عطلها عن الأسباب سببا في حد ذاتها؟ وللنزوات أحيانا أسباب نتجاهلها. قل لي ألم تكن تحب صاحبتك؟ - لست أدري. وإنما كل الذي أدريه أني كنت أكون سعيداً بجانبها، وان نظراتها كانت تسحرني، وأن بسماتها كانت تضيء ظلمات وجداني.

- ولم لم تصل حياتك بحياتها؟ ألم يكن هذا يكفي؟

- كان ينقصني أن أعلم اليقين أنها تريدني إرادة قوية جارفة تطغى في نفسها على كل ما عداها.

- إنها تريدك. وإلا فما الذي دعاها أن تبقى على علاقتها معك؟

- هيه، كثيرات يبعن أنفسهن أو يعرضنها سلعة يتقاضين في مقابلها خبزاً. ويا ما أرخصه من ثمن!

أنت تشك إذن؟

- وأريد أن يمحى الشك بأن أراها تهزأ بكل شيء وتستبيح كل شيء في سبيل ان تبقى على أنا

- أية أنانية! وماذا يغريها بهذا؟

- وماذا يضيرها؟

- ماذا يضيرها؟ إنها فتاة. ومن حقها أن تشك وأن تظن انك تريد أن تلهو بها وأن تلعب.

- إذن أنفض يدي منها!

- وتبقى هكذا فارغ القلب دائما؟

- ذلك أجدى من أن املأه عاطفة قد تكون مسمومة فتقتله. . . وقلب فارغ خير من لا قلب!

وعاد إلى نفسه أو عادت إليه، فخفف كثيرا من ثورته على فتاته وعزم على أن يجيبها إلى ما طلبت، وان يتخلى عنها في رفق، وأن تكون هكذا نهايته معها

ومرت سنتان. . .

وذات ليلة بينما كان يقفل نافذته لينام، راعه السكون المخيم على الطريق، وما هي إلا لحظة حتى خرقت حجب الصمت دقات ساعة في منزل قريب. . . تن. تن، حتى أكملت إحدى عشرة دقة وهو في مكانه ذاهل واجم. وان صوت الجرس في الظلام والسكون ليدخل على النفس شيئا كثيرا من الرهبة والكآبة، وهكذا أنسته هذه الدقات برنينها المكتوم نفسه لحظة أو بضع لحظات فوقف في مكانه يفكر على هذا النحو

هذه الساعة ألقت بحلقات من سلسلة الزمن إلى ظلام الماضي وعمقه، وهذا هو مبعث الكابة التي تدخلها على النفس دقاتها في السكون والظلام.

أهكذا تمر الساعات والأيام؟ هذا عام ثان يكاد ينتهي ولما تعد فتاتي، ترى ماذا صنع الله بها؟ اني لأتمثلها الآن وهي تهبط الدرج لآخر مرة في خطوات غير متزنة. إنها لم ترفع عينيها. أترى لم تكن تفكر في (الطلوع) مرة أخرى؟ أم ان القدر الأعمى لم يكن انبأها، وإنما سارت واضعة ذراعها تحت ذراعه إلى حيث لم تكن تدري؟

من كان يدري؟. . حين ألقت بها المصادفة في طريقي، شعرت إني وجدت فيها الإجابة على نداء نفسي الذي كانت تهتف به منذ فجر الشباب. لقد وجدت فيها ريا أطفأ ذلك اليهام إلى المجهول الذي كان يجعل العالم أمامي كوادي التيه أسير فيه على غير هدى.

وغابت عني فعدت إلى عالمي القديم صفر اليدين إلا من ميت الآمال!

ومرت سنون ثلاث. . وذات يوم كان (حقي) يسير في شارع فؤاد فلمح اسم صديقه إبراهيم. . . المحامي، على لوحته النحاسية - بين لوحات أخرى تحمل أسماء كثيرين اغلبهم أطباء - معلقة على باب العمارة، وفجأة خطر له أن يزور هذا الصديق في مكتبه.

ولم يكد يتخطى الباب الكبير حتى وجد فتاته. . . ليلى! نعم هي كما كانت دائما. . . وجدها واقفة تتسلى بقراءة البطاقات الموضوعة على صناديق البرد في مدخل العمارة، وكأنما كانت تنتظر أحداً.

والتقت نظراتهما، وحار فيما هو فاعل، ولكنه لم يدر إلا وقد تقدم إليها وهو يقول:

ليلى -! لم لم تأت يوم الثلاثاء الماضي؟ كنت مريضة؟ هذا هو عذرك الدائم.

وكان يوم الثلاثاء الذي يعنيه قد مرت عليه سنون خمسة! ولكنه حين أخذ يدها بين يديه يشد عليها نسى أنه لم يرها طوال هذه المدة وهكذا شعرت هي الأخرى، وكأنما هذه السنين قضياها كأهل الكهف نياما!

وأغمضت عينيها وكأنما أرادت أن تكر بالذاكرة إلى هذا الماضي البعيد وقالت وهي تبتسم:

- كلا لم أكن مريضة ولكن حدث أن أمي خرجت معي ولم يكن في إمكاني أن أستصحبها في زياراتي لك. قال: - حاجاتك لا تزال في درج مكتبي. كنت انتظر دائما دقات الجرس الخمس، فأذهب لأقابلك بها على الباب.

لقد اشتريتها إذن! لم أكن أحسب أنك تعتقد أني كنت جادة فيما طلبت. . . هي صديقتي التي أغرتني. . . تجربة لعاطفتك نحوي. ولكني أخطأت في السماع اليها، وخفت ان أنا عدت إليك أن تعتقد اني إنما أعود لأسألك ما طلبت

ودارت الدنيا أمام عينيه، وقال لنفسه (ما أكثر ما يخطئ الإنسان التقدير!)

وفجأة رآها تتركه - وقد عراه ارتباك ظاهر - وتنظر إلى الباب حيث وقفت عربة، نزل منها شاب ناداها باسمها فهزت رأسها تجيبه، ودارت بنظرها إلى يمين المدخل منادية يا حقي!

وأصابته رجفة إذ سمعها تلفظ اسمه، ولكنها كانت تنادي طفلا - في نحو الرابعة من عمره - لم يكن القي بباله إليه. وأجابها الطفل متسائل - ماما؟

فمدت يدها إلى الطفل ورفعت نظرها إلى الفتى كأنما تسأله أن كان قد فهم شيئاً.

وركبت الفتاة والشاب والطفل العربة، وانطلقت بهم ووقف (حقي) يتبعها بنظره ويصغي لوقع أقدام جيادها على الأرض، ويسمعه دون كل ما عداه من ضجة الطريق الصاخبة، حتى لم يبق منه غير صدى يرن في الأذن رنينا.

وحينئذ أحس كأنما بدأت الأرض تميد. . .

مصطفى حمدي القوني




مجلة الرسالة - العدد 35
بتاريخ: 05 - 03 - 1934

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى