أقبلت عليه متهادية، تحمل أذيالها الجواري السود، وجلست قربه وقالت بصوتها العذب: عمْ صباحاً أيها الأمير. فقال: عمي صباحاً أيتها الأميرة. قالت: ما لي أراك طويل التأمل، عميق التفكير، مؤرق الليل، محزون النهار؟ قال: آه يا زينب! كيف لا يأرق العربي ويموت أرقاً، ويحزن وذوب حزناً، إذا استُلب الكرامة، وفقد الحرية؟؟
حنانيك يا زينب! إني أكاد أموت هماً وكمدا! إني أريد أن استقل استقلالاً تاماً! إني أريد أن أملك زمام المشرق والمغرب!
إلى متى أنا خاضع للروم؟ إني أخاف هؤلاء اللئام يا زينب، وأرهب غدرهم، فهم لا يرعون ذمة، ولا يوفون عهداً، ولا يصدقون قولاً. إني أشفق أن يمر بنا حين نذل فيه، ونساق للهوان والصغار سوق الإبل!
إن الحرية يا زينب لا تنال بمعاهدة ولا مفاوضة، بل تنال بالدم، والدم وحده. ونحن لا جيش لنا ولا عدة، فمن اين نأتي بالدم؟ أبالشجاعة وحدها؟
أفديك يا زينب! اهدني بنور وجهك المشرق، وحبك إياي، وإخلاصك لي سبل الحرية!
فقالت حييت أيها الأمير! هيئ جيشك، وحالف سابور ذا الأكتاف ملك الفرس، ولأسِر معك نحارب الروم ولا نرجع إلا ظافرين أو مقتولين. فلَلموت في سبيل الحرية خير ما يتصف به العربي!!
عاد أمير تدمر بعد أيام وقال لزينب: لقد سار ملك الروم بجيش جرار على سابور ملك الفرس، وخفت أن يظفر به، فصالحته من بعد ما اتفقت مع سابور عليه. إلا أن الفرس هزموا جمع الروم، وأسروا مليكهم، فأشفقت كثيراً أن يسير سابور إلينا يطلب الوِتر، وما أحسبه إلا قاضياً علينا القضاء الأخير!
ولقد أرسلت إليه رسول الاعتذار، وكتاب الوفاء، وإعلان السلام، وهدية المحبة والإخلاص، فعتا اللئيم عتواً كبيراً، فأهان الرسول، ومزق الكتاب، ورفض السلام، ورمى بالهدية، وتهددني أمام الوفد الذي أرسلته إليه، ثم طرده من مجلسه، وأخشى أن يحقق وعيده! فهبت زينب تقول: الساعة يلتئم المجلس الحربي، والساعة يعلن الحرب على العِلج، والعداء على لئيم العجم. . .
وفي تلك الساعة التأم المجلس الحربي التدمري، وبدا من القادة أنهم يترددون في إعلان الحرب، لأنهم يعلمون أن سابور ملك عظيم، تتصدع له الجبال خشية. وإنهم لفي ترددهم إذا زينب تبدو على المنبر متلثمة، ثم تخطب خطاباً بليغاً، تحرك به العواطف، وتلهب القلوب، وتهيج النفوس، وتهتف قائلة: العربي لا يرضى بالذل والهوان، وإنما يرضى بهما الفرس والرومان، فهو للعز يموت، وهما للذل يحيان.
وبعد أيام تكون الجيوش العربية في طريقها إلى الفرس، يتقدمها أمير تدمر (أذينة) وأميرة تدمر (زينب) الزبّاء.
تلاقى الجمعان، وكانت جولتان، ثم انهزم الفرس، وسبى أذينة من قصور سابور الحور والولدان، وأسر الأحرار والعبدان.
وأتي بسابور ترهقه ذلة، ووجهه قترة، فاعتذر واسترحم، وذل واستكان، ودفع الجزية عن يدٍ صاغراً، وأضحت تدمر جنة البادية بما نقل إليها من بلاد فارس.
امتلأت نفس أذينة بنشوة الانتصار، فعلم أن بعض الروم عصوا ملكهم وثاروا عليه، فسار إليهم ورد عصيانهم إياه طاعة، وثورتهم عليه استكانة، وعاد مع زينب إلى قاعدته بين هتاف ودعاء، وما انقضت أيام حتى أتى وفد ملك الروم (جاليانوس) يرأسه الأمير (سولفا)، ومثل بين يدي الملك العربي والملكة وشكرهما باسم الملك والإمبراطورية الرومانية، وقدم إليهما ولاءها وصداقتها. انفتحت أمام أذينة مدارج الآمال، وأمِل السيادة التامة، والحكم المطلق، فكتب إلى جاليان يسأله إياهما وأشياء أخرى تضر بملكه، فحنق ملك الروم وغضب وأرسل قائده (أورل) بجيش ليحرق تدمر ويخربها، ويزيل هذه العقبة الكأداء من طريق مطامعه في الشرق. فانتهز الفرصة سابور فزحف بجيشه إلى حاضرة البادية يريد الانتقام، وكان في حمص ابن أخٍ لأذينة يلقب بالمعنيّ، وكان يحسد عمه، ويريد سريره، فلما رأى تألب الأمتين عليه قال حان حينه. اقتله وألبس تاجه، وأرث عرشه.
فأما سابور فهزمته زينب بشجاعتها وبسالتها. وأما الروم فلم يبدأوا الحرب بعد. وأما المعني فاستأذن أذينة، ودخل عليه بوفد من أتباعه وأنصاره، فلما اشتد الهجير، وهدأ القصر، اغتاله وأعلن نفسه ملكاً على تدمر.
هاجت زينب هياجاً شديداً، وهتفت بقوادها المخلصين إلى الانتقام، وأهابت بشعبها إلى الثورة، وسارت بالجيوش إلى حمص، ثم حاربت المعني حروباً كثيرة، وصاولته بنفسها، وأخيراً أسرته، وحكمت عليه وعلى من ساعده ولاذ به بالصلب والفصد، وقالت هذا أقل ما يعاقب به خائن الوطن، وهكذا استأثرت بسرير تدمر وحدها، وما أجدر زينب بسرير تدمر، وما أليق زينب لأعظم من مثله.
كانت ميّ جميلة رائعة الجمال، حسناء بارعة الحسن، وكانت مي وفية كريمة شجاعة صبوراً، وكيف لا تكون كذلك وهي الابنة البكر لزينب ملكة العرب؟
وكان سولفا رئيس الوفد أميراً جميلاً فتاناً كريماً، اعتلقته مي اعتلاقاً شديداً، وشغفت به كثيراً، ولم يكن ما يضمر لها من الحب بأقل ما تضمر له، ولطالما اجتمعا وتشاكيا الهوى والجوى. إلا أن سولفا فارقها إلى روما ليفي عهد الرسالة، ومي تعذبت لفراقه كثيراً؛ وحنت إليه حنيناً، وبكت حتى كادت تتلف. وعلمت أمها بأمرها فعذرتها في نفسها، لأنها تعرف الحب ودلائله وأفعاله، وجنونه وفنونه. إلا أن الذي آلمها أن الروم أعداؤها وسيحاربونها، وما سولفا إلا رجل من رجالهم، بل قائد من قوادهم، فإذا خان وطنه في سبيل حبه استصغرته ولم ترض أن تصهر إليه، وإن لم يخن فابنتها مائتة غراماً ما في ذلك شك.
ولقد أقبلت عليها ذات يوم فقالت لها: أي مي! أي ابنتي العزيزة! لقد وكلت إليك ملك تدمر إلى حين، لما أعهد من حزمك ودرايتك، وأما أنا فذاهبة لأحارب الروم وأموت، أو أملك ما بين المشرق والمغرب. فتوكلت مي راضية مسرورة. إلا أنها بكت لفراق أمها كثيراً، وتجلدت لفراق سولفا وتصبرت فما ازدادت إلا حزناً ولوعة.
انقضى شهر، ثم أتى البشير يعلن انتصار مليكته على الروم، وإنها أسرت كثيراً من قادة الجيش وضباطه، فأمرت مي بسوق الأسرى إلى تدمر، وفي تدمر أطلّت عليهم من الطاق، فرأت بينهم الأمير سولفا، ففرحت كثيراً واندفعت إليهم، وحيتهم، ودعتهم إلى قصرها، وأكرمتهم كثيراً، لأن سولفا بينهم، لا لأنهم قادة، ولا لأنهم من الروم. وهؤلاء أعجبوا بها وبحنكتها وأخلاقها كثيراً، وأول من أعجب بها سولفا. وبعد حينٍ أقبلت زينب فارسة كمياً، فزغردت النساء، وهزجت الأطفال، وغردت طيور الأماني. وما انتهت إلى قصرها حتى سرّحت الأسرى، فأعظم الناس كرم خلقها، وهتف العرب والروم وكثير من الفرس: مرحى زينب الزباء! مرحى ملكة العرب!
لم تقنع زينب باستقلالها التام، بل أرسلت جيشاً فغزا ساحل البحر الأبيض الآسيوي كله، وأعدت جيشاً آخر لغزو النيل، وفتح مصر، فجعلت تدمر ملكية عظيمة يخشى بأسها القياصرة والأكاسرة. وملك الفرس الجديد (بهزاد) عقد معها معاهدة ليجعل منها ملاذاً وحمىً، وخطب مياً من زينب، فأقبلت هذه على ابنتها، وقالت بشراك يخطبك بهزاد ملك الفرس، فاعترفت لها مي بحبها سولفا وغرامها به. ولكن زينب تريد أن تزوجها ببهزاد لتأمن شره، فقد يكون له شر. فدعت سولفا إليها وقالت. أهكذا أيها الأمير تسيء إلى من أحسن إليك؟ قال ما كان لي ذلك أيتها المليكة المعظمة! قالت نمي إليّ أنك جاسوس لقائدك (أورل). قال اسمحي لي أيتها المليكة أن أقول لك، إن مثلي أرفع من أن يكون جاسوساً. إني لا أخفي أني صديق (أورل)، وصديق ملكي، وصديق الروم كلهم، كما أني أعترف أني صديق مخلص إليك، وإلى ابنتك. فوجمت زينب وقالت أيها الأمير! لقد وجدتك قائداً شجاعاً، ووطنياً مخلصاً، وصديقاً لي أميناً. وسأجعلك القائد الثاني للجيش الذي سأسيّره إلى مصر، فحارب وعد إليّ ظافراً منتصراً. فقال سأكون إياه، وكان إياه.
إلا أن مياً خافت أن يُقتل في هذه الحرب. وعلمت أن أمها لم ترسله إلا لتنجو منه.
وبعد شهور أقبل فارس يقول. إن الجيش العربي قد انتصر، وعاد إلى المعسكر غانماً، غير أن أمراً أحزن الجيش كله، هو أن الأمير سولفا الذي ناضل كثيراً، وكان سبب النصر والفوز الأكبر، اختفى بغتة.
ما وصل الخبر إلى مي حتى صاحت قائلة: آه إنها حيلة مدبرة! إن سولفا قد قتل. ثم انزوت في حجرتها، وأنشأت تبكي وتنتحب. ولبثت على حالها أياماً، لا تأكل ولا تتكلم، حتى وهنت ووقعت في سرير المرض. فعالجها الطبيب فشفيت، إلا أن وجهها الناضر الزاهي أضحى شاحباً حائلاً، لا رونق فيه ولا حياة.
أقبل رسول بعد ذلك يقول إن الأمير سولفا حي، وهو يحارب المصريين بعيداً عن المعسكر. فطار لب مي فرحاً، وكادت تهوي على يدي الرسول تلثمهما شكراً، لكنها خلعت عليه خلعة، ووصلته بالمال والحلي.
عاد القائد العربي (زبدا) بعد أيام يرافقه الأمير سولفا فاستأذنا على زينب، ومثلا بين يديها فقال (زبدا) أيتها الملكة المعظمة، إن الأمير سولفا بطل يجب أن يفتخر بمثله، فهو هو الذي هزم المصريين، وجعل العلم العربي يخفق على ربوع النيل.
ما زال الروم يسألون زينب أن تعترف بسلطانهم عليها، وأن تدفع لهم جزية الانتداب، وما زالت زينب على شممها وإبائها، لا تعترف لهم بشيء. وأرسل إليها أورل ذات مرة يقول، تعترفين بسلطاننا عليك، وتدفعين الجزية، أو أحاربك وأخلعك، وأصلبك، وأسبي ابنتك، وأتوّج على سريرك زيد بن المعنيّ. فثارت زينب ثورتها، وغضبت غضبتها، وجمعت المجلس. وقالت إلى الحرب أيها الأبطال، إلى الانتقام أيها الرجال! إن تدمر العربية لا تستكين أبداً لتطاول الروم أو البربر. . .
وهكذا اضطرمت الحرب، ورحل الروم المقيمون في تدمر إلى وطنهم، بينهم الأمير سولفا. ولاقت زينب جيش الروم ورأت أن زيد بن المعني تحت لوائهم، فقالت الويل له من عاقبة كعاقبة أبيه، وحاربت وناضلت كثيراً، وشجعت القادة، وتقدمتهم إلى الموت.
غلب الروم، وانهزم جمعهم، فتبعتهم زينب تريد التنكيل بهم والقضاء عليهم، فما أحست إلا وفرسان جيشها في مستنقعات (العُوَيق) يغالبون الموت والموت يغالبهم، وما أحست إلا والروم قد طوق المشاة من جيشها، وأعمل فيهم السيوف، فجزعت كثيراً، وخطبت في سائر جنودها الخطب الحماسية، فما أفادت، وما زالت عددها تنفد، وعددها يقل حتى أوشكت على الهلاك فاستنجدت ملك الفرس قال مي ابنتك وأعنيك. فما رأت بداً من التراجع فتراجعت ودخلت تدمر محزونة مكتئبة، وأغلقت الأسوار.
بينما كانت زينب تحارب الروم جوار (إنطاكية) كانت مي ابنتها ترسل إليها العدد، وتدير أمر المملكة، وأقبل عليها ذات يوم رسول وقال لقد وجدنا الأمير سولفا يا سيدتي قتيلاً في سهول حماه. فقالت في نفسها إذن أهلك معه. وأمرت خادماً لها أن يأتيها بثعبان تتعلم إمساكه. ففعل. فخلت الثعبان وقربت الناب القاتل من الثدي الزاهي وهتفت قائلة: نفسي فداء الأمير سولفا، وما كاد الناب يغرز في الثدي حتى هتفت وقالت: لا لا. نفسي فداء الوطن. ورمت الثعبان من النافذة. وإنها لتفعل إذا رسول بالباب يقول سيدتي هذه خوذة الأمير سولفا يرسلها إليك وهو جريح نعالجه وسيشفى عن قريب، فقالت: وا فرحتاه! ووصلت الرسول بما يستحقه.
حاصر أورل بجيشه تدمر، وطال الحصار فملّ، ونفدت مؤن المدينة، وتضاغى الناس جوعاً، فجمعت زينب المجلس الحربي، فلقيها القادة باكين، فقالت لم البكاء أيها الأبطال؟ إما الموت، وأما الحياة!
وصعدت ابنتها مي المنبر وقالت إن حفيدة السميْدع مياً لتضحي بنفسها فداء الوطن.
أخرج بكم أيها الأبطال، من السرداب الخفي الذي يصل تدمر بنهر الفرات. ثم أسير إلى ملك الفرس وأعلن له قبول خطبته إياي، ثم نرجع بجيش وعدةٍ من عنده، فنكرّ على الروم، ونمزقهم شر ممزق!
فأكبرت زينب إخلاص ابنتها، وتفاديها وتضحية حبها في سبيل الواجب، وأكبر القواد إخلاص أميرتهم وشجاعتها.
في تلك الساعة قال زيد بن المعني لأورل قائد الروم: إن بين الفرات يا سيدي وبين المدينة سرداباً خفياً، ترسل منه زينب رسولها إلى بهزاد، ليمدها بالرجال والزاد، قال إذن الليلة تمسكون الرسول، وتفتحون الأبواب، وتدخلون المدينة، وتدكون القصر دكاً دكاً وتثلون العرش ثلاً ثلاً!
وما غشي الليل واختلط، حتى كانت مي متقلدة حمائل سيفها تتقدم القواد في السرداب، وتشجعهم. وما أطلت حتى كان زيد يطوقها بجنده، فأهابت به قائلة الويل لك أيها الخائن، وأقامت تحارب وتناضل ما تقدر أن تفعل، وودت لو تقتل ولا تؤسر، إلا أن أورل أقبل بجيشه فأسرها، وفتح المدينة، وأسر زينب، لكن لم يثل العرش ثلاً، وإنما توّج على سرير تدمر زيد الخائن.
سيقت زينب وابنتها والقواد إلى منزل الذل والهوان، وحكم أورل على زينب بالصلب، وفي الساعة التي كادوا ينفذون بها الحكم، كان قائد جميل روماني يدفع الجموع بمنكبيه، ويهب بالجلاد قائلاً: رويدك أيها العِلج. ويتقدم إلى أورل، ويركع عند قدميه، ويقول: أنا صديقك سولفا أناشدك الصداقة التي بيننا أن تعفو عن زينب! إنها بطلة يا سيدي! إنها لم تحاربك إلا دفاعاً عن حريتها واستقلالها وكرامتها، فلا تلطخ جبين الدولة الرومانية الناصع بقتل البطلات اللائى يضحين أنفسهن في سبيل الحرية والكرامة والاستقلال!! فصرخت زينب قائلة: لا، لا، الموت أعذب لي من الحياة بعد الآن! إن العربية لا تعرف الحياة إلا بالعز، ولن تعرفها إلا به أبداً!!
عفا أورل عن زينب وابنتها وأمر بنقلهما معظمتين إلى قصره. وتقدم الأمير سولفا يوماً من مي يخطبها فقالت: أنا لا أخفي عليك أيها الأمير أني أحبك كثيراً، ولكن لا أقدر أن ألبّي طلبك إلا حين أبعث؛ وأنا اليوم ميتة! إن العربيات اللائى دوخن الفرس والروم، وخفقت رايات نصرهن في لبنان وربوع النيل، لا يرضين التزوج بالروم، ولا يعرفن الحياة والحب إلا مع العز والكرامة والحرية.
حماه
مهدي الجم الطرابلسي
مجلة الرسالة - العدد 56
30 - 07 - 1934
حنانيك يا زينب! إني أكاد أموت هماً وكمدا! إني أريد أن استقل استقلالاً تاماً! إني أريد أن أملك زمام المشرق والمغرب!
إلى متى أنا خاضع للروم؟ إني أخاف هؤلاء اللئام يا زينب، وأرهب غدرهم، فهم لا يرعون ذمة، ولا يوفون عهداً، ولا يصدقون قولاً. إني أشفق أن يمر بنا حين نذل فيه، ونساق للهوان والصغار سوق الإبل!
إن الحرية يا زينب لا تنال بمعاهدة ولا مفاوضة، بل تنال بالدم، والدم وحده. ونحن لا جيش لنا ولا عدة، فمن اين نأتي بالدم؟ أبالشجاعة وحدها؟
أفديك يا زينب! اهدني بنور وجهك المشرق، وحبك إياي، وإخلاصك لي سبل الحرية!
فقالت حييت أيها الأمير! هيئ جيشك، وحالف سابور ذا الأكتاف ملك الفرس، ولأسِر معك نحارب الروم ولا نرجع إلا ظافرين أو مقتولين. فلَلموت في سبيل الحرية خير ما يتصف به العربي!!
عاد أمير تدمر بعد أيام وقال لزينب: لقد سار ملك الروم بجيش جرار على سابور ملك الفرس، وخفت أن يظفر به، فصالحته من بعد ما اتفقت مع سابور عليه. إلا أن الفرس هزموا جمع الروم، وأسروا مليكهم، فأشفقت كثيراً أن يسير سابور إلينا يطلب الوِتر، وما أحسبه إلا قاضياً علينا القضاء الأخير!
ولقد أرسلت إليه رسول الاعتذار، وكتاب الوفاء، وإعلان السلام، وهدية المحبة والإخلاص، فعتا اللئيم عتواً كبيراً، فأهان الرسول، ومزق الكتاب، ورفض السلام، ورمى بالهدية، وتهددني أمام الوفد الذي أرسلته إليه، ثم طرده من مجلسه، وأخشى أن يحقق وعيده! فهبت زينب تقول: الساعة يلتئم المجلس الحربي، والساعة يعلن الحرب على العِلج، والعداء على لئيم العجم. . .
وفي تلك الساعة التأم المجلس الحربي التدمري، وبدا من القادة أنهم يترددون في إعلان الحرب، لأنهم يعلمون أن سابور ملك عظيم، تتصدع له الجبال خشية. وإنهم لفي ترددهم إذا زينب تبدو على المنبر متلثمة، ثم تخطب خطاباً بليغاً، تحرك به العواطف، وتلهب القلوب، وتهيج النفوس، وتهتف قائلة: العربي لا يرضى بالذل والهوان، وإنما يرضى بهما الفرس والرومان، فهو للعز يموت، وهما للذل يحيان.
وبعد أيام تكون الجيوش العربية في طريقها إلى الفرس، يتقدمها أمير تدمر (أذينة) وأميرة تدمر (زينب) الزبّاء.
تلاقى الجمعان، وكانت جولتان، ثم انهزم الفرس، وسبى أذينة من قصور سابور الحور والولدان، وأسر الأحرار والعبدان.
وأتي بسابور ترهقه ذلة، ووجهه قترة، فاعتذر واسترحم، وذل واستكان، ودفع الجزية عن يدٍ صاغراً، وأضحت تدمر جنة البادية بما نقل إليها من بلاد فارس.
امتلأت نفس أذينة بنشوة الانتصار، فعلم أن بعض الروم عصوا ملكهم وثاروا عليه، فسار إليهم ورد عصيانهم إياه طاعة، وثورتهم عليه استكانة، وعاد مع زينب إلى قاعدته بين هتاف ودعاء، وما انقضت أيام حتى أتى وفد ملك الروم (جاليانوس) يرأسه الأمير (سولفا)، ومثل بين يدي الملك العربي والملكة وشكرهما باسم الملك والإمبراطورية الرومانية، وقدم إليهما ولاءها وصداقتها. انفتحت أمام أذينة مدارج الآمال، وأمِل السيادة التامة، والحكم المطلق، فكتب إلى جاليان يسأله إياهما وأشياء أخرى تضر بملكه، فحنق ملك الروم وغضب وأرسل قائده (أورل) بجيش ليحرق تدمر ويخربها، ويزيل هذه العقبة الكأداء من طريق مطامعه في الشرق. فانتهز الفرصة سابور فزحف بجيشه إلى حاضرة البادية يريد الانتقام، وكان في حمص ابن أخٍ لأذينة يلقب بالمعنيّ، وكان يحسد عمه، ويريد سريره، فلما رأى تألب الأمتين عليه قال حان حينه. اقتله وألبس تاجه، وأرث عرشه.
فأما سابور فهزمته زينب بشجاعتها وبسالتها. وأما الروم فلم يبدأوا الحرب بعد. وأما المعني فاستأذن أذينة، ودخل عليه بوفد من أتباعه وأنصاره، فلما اشتد الهجير، وهدأ القصر، اغتاله وأعلن نفسه ملكاً على تدمر.
هاجت زينب هياجاً شديداً، وهتفت بقوادها المخلصين إلى الانتقام، وأهابت بشعبها إلى الثورة، وسارت بالجيوش إلى حمص، ثم حاربت المعني حروباً كثيرة، وصاولته بنفسها، وأخيراً أسرته، وحكمت عليه وعلى من ساعده ولاذ به بالصلب والفصد، وقالت هذا أقل ما يعاقب به خائن الوطن، وهكذا استأثرت بسرير تدمر وحدها، وما أجدر زينب بسرير تدمر، وما أليق زينب لأعظم من مثله.
كانت ميّ جميلة رائعة الجمال، حسناء بارعة الحسن، وكانت مي وفية كريمة شجاعة صبوراً، وكيف لا تكون كذلك وهي الابنة البكر لزينب ملكة العرب؟
وكان سولفا رئيس الوفد أميراً جميلاً فتاناً كريماً، اعتلقته مي اعتلاقاً شديداً، وشغفت به كثيراً، ولم يكن ما يضمر لها من الحب بأقل ما تضمر له، ولطالما اجتمعا وتشاكيا الهوى والجوى. إلا أن سولفا فارقها إلى روما ليفي عهد الرسالة، ومي تعذبت لفراقه كثيراً؛ وحنت إليه حنيناً، وبكت حتى كادت تتلف. وعلمت أمها بأمرها فعذرتها في نفسها، لأنها تعرف الحب ودلائله وأفعاله، وجنونه وفنونه. إلا أن الذي آلمها أن الروم أعداؤها وسيحاربونها، وما سولفا إلا رجل من رجالهم، بل قائد من قوادهم، فإذا خان وطنه في سبيل حبه استصغرته ولم ترض أن تصهر إليه، وإن لم يخن فابنتها مائتة غراماً ما في ذلك شك.
ولقد أقبلت عليها ذات يوم فقالت لها: أي مي! أي ابنتي العزيزة! لقد وكلت إليك ملك تدمر إلى حين، لما أعهد من حزمك ودرايتك، وأما أنا فذاهبة لأحارب الروم وأموت، أو أملك ما بين المشرق والمغرب. فتوكلت مي راضية مسرورة. إلا أنها بكت لفراق أمها كثيراً، وتجلدت لفراق سولفا وتصبرت فما ازدادت إلا حزناً ولوعة.
انقضى شهر، ثم أتى البشير يعلن انتصار مليكته على الروم، وإنها أسرت كثيراً من قادة الجيش وضباطه، فأمرت مي بسوق الأسرى إلى تدمر، وفي تدمر أطلّت عليهم من الطاق، فرأت بينهم الأمير سولفا، ففرحت كثيراً واندفعت إليهم، وحيتهم، ودعتهم إلى قصرها، وأكرمتهم كثيراً، لأن سولفا بينهم، لا لأنهم قادة، ولا لأنهم من الروم. وهؤلاء أعجبوا بها وبحنكتها وأخلاقها كثيراً، وأول من أعجب بها سولفا. وبعد حينٍ أقبلت زينب فارسة كمياً، فزغردت النساء، وهزجت الأطفال، وغردت طيور الأماني. وما انتهت إلى قصرها حتى سرّحت الأسرى، فأعظم الناس كرم خلقها، وهتف العرب والروم وكثير من الفرس: مرحى زينب الزباء! مرحى ملكة العرب!
لم تقنع زينب باستقلالها التام، بل أرسلت جيشاً فغزا ساحل البحر الأبيض الآسيوي كله، وأعدت جيشاً آخر لغزو النيل، وفتح مصر، فجعلت تدمر ملكية عظيمة يخشى بأسها القياصرة والأكاسرة. وملك الفرس الجديد (بهزاد) عقد معها معاهدة ليجعل منها ملاذاً وحمىً، وخطب مياً من زينب، فأقبلت هذه على ابنتها، وقالت بشراك يخطبك بهزاد ملك الفرس، فاعترفت لها مي بحبها سولفا وغرامها به. ولكن زينب تريد أن تزوجها ببهزاد لتأمن شره، فقد يكون له شر. فدعت سولفا إليها وقالت. أهكذا أيها الأمير تسيء إلى من أحسن إليك؟ قال ما كان لي ذلك أيتها المليكة المعظمة! قالت نمي إليّ أنك جاسوس لقائدك (أورل). قال اسمحي لي أيتها المليكة أن أقول لك، إن مثلي أرفع من أن يكون جاسوساً. إني لا أخفي أني صديق (أورل)، وصديق ملكي، وصديق الروم كلهم، كما أني أعترف أني صديق مخلص إليك، وإلى ابنتك. فوجمت زينب وقالت أيها الأمير! لقد وجدتك قائداً شجاعاً، ووطنياً مخلصاً، وصديقاً لي أميناً. وسأجعلك القائد الثاني للجيش الذي سأسيّره إلى مصر، فحارب وعد إليّ ظافراً منتصراً. فقال سأكون إياه، وكان إياه.
إلا أن مياً خافت أن يُقتل في هذه الحرب. وعلمت أن أمها لم ترسله إلا لتنجو منه.
وبعد شهور أقبل فارس يقول. إن الجيش العربي قد انتصر، وعاد إلى المعسكر غانماً، غير أن أمراً أحزن الجيش كله، هو أن الأمير سولفا الذي ناضل كثيراً، وكان سبب النصر والفوز الأكبر، اختفى بغتة.
ما وصل الخبر إلى مي حتى صاحت قائلة: آه إنها حيلة مدبرة! إن سولفا قد قتل. ثم انزوت في حجرتها، وأنشأت تبكي وتنتحب. ولبثت على حالها أياماً، لا تأكل ولا تتكلم، حتى وهنت ووقعت في سرير المرض. فعالجها الطبيب فشفيت، إلا أن وجهها الناضر الزاهي أضحى شاحباً حائلاً، لا رونق فيه ولا حياة.
أقبل رسول بعد ذلك يقول إن الأمير سولفا حي، وهو يحارب المصريين بعيداً عن المعسكر. فطار لب مي فرحاً، وكادت تهوي على يدي الرسول تلثمهما شكراً، لكنها خلعت عليه خلعة، ووصلته بالمال والحلي.
عاد القائد العربي (زبدا) بعد أيام يرافقه الأمير سولفا فاستأذنا على زينب، ومثلا بين يديها فقال (زبدا) أيتها الملكة المعظمة، إن الأمير سولفا بطل يجب أن يفتخر بمثله، فهو هو الذي هزم المصريين، وجعل العلم العربي يخفق على ربوع النيل.
ما زال الروم يسألون زينب أن تعترف بسلطانهم عليها، وأن تدفع لهم جزية الانتداب، وما زالت زينب على شممها وإبائها، لا تعترف لهم بشيء. وأرسل إليها أورل ذات مرة يقول، تعترفين بسلطاننا عليك، وتدفعين الجزية، أو أحاربك وأخلعك، وأصلبك، وأسبي ابنتك، وأتوّج على سريرك زيد بن المعنيّ. فثارت زينب ثورتها، وغضبت غضبتها، وجمعت المجلس. وقالت إلى الحرب أيها الأبطال، إلى الانتقام أيها الرجال! إن تدمر العربية لا تستكين أبداً لتطاول الروم أو البربر. . .
وهكذا اضطرمت الحرب، ورحل الروم المقيمون في تدمر إلى وطنهم، بينهم الأمير سولفا. ولاقت زينب جيش الروم ورأت أن زيد بن المعني تحت لوائهم، فقالت الويل له من عاقبة كعاقبة أبيه، وحاربت وناضلت كثيراً، وشجعت القادة، وتقدمتهم إلى الموت.
غلب الروم، وانهزم جمعهم، فتبعتهم زينب تريد التنكيل بهم والقضاء عليهم، فما أحست إلا وفرسان جيشها في مستنقعات (العُوَيق) يغالبون الموت والموت يغالبهم، وما أحست إلا والروم قد طوق المشاة من جيشها، وأعمل فيهم السيوف، فجزعت كثيراً، وخطبت في سائر جنودها الخطب الحماسية، فما أفادت، وما زالت عددها تنفد، وعددها يقل حتى أوشكت على الهلاك فاستنجدت ملك الفرس قال مي ابنتك وأعنيك. فما رأت بداً من التراجع فتراجعت ودخلت تدمر محزونة مكتئبة، وأغلقت الأسوار.
بينما كانت زينب تحارب الروم جوار (إنطاكية) كانت مي ابنتها ترسل إليها العدد، وتدير أمر المملكة، وأقبل عليها ذات يوم رسول وقال لقد وجدنا الأمير سولفا يا سيدتي قتيلاً في سهول حماه. فقالت في نفسها إذن أهلك معه. وأمرت خادماً لها أن يأتيها بثعبان تتعلم إمساكه. ففعل. فخلت الثعبان وقربت الناب القاتل من الثدي الزاهي وهتفت قائلة: نفسي فداء الأمير سولفا، وما كاد الناب يغرز في الثدي حتى هتفت وقالت: لا لا. نفسي فداء الوطن. ورمت الثعبان من النافذة. وإنها لتفعل إذا رسول بالباب يقول سيدتي هذه خوذة الأمير سولفا يرسلها إليك وهو جريح نعالجه وسيشفى عن قريب، فقالت: وا فرحتاه! ووصلت الرسول بما يستحقه.
حاصر أورل بجيشه تدمر، وطال الحصار فملّ، ونفدت مؤن المدينة، وتضاغى الناس جوعاً، فجمعت زينب المجلس الحربي، فلقيها القادة باكين، فقالت لم البكاء أيها الأبطال؟ إما الموت، وأما الحياة!
وصعدت ابنتها مي المنبر وقالت إن حفيدة السميْدع مياً لتضحي بنفسها فداء الوطن.
أخرج بكم أيها الأبطال، من السرداب الخفي الذي يصل تدمر بنهر الفرات. ثم أسير إلى ملك الفرس وأعلن له قبول خطبته إياي، ثم نرجع بجيش وعدةٍ من عنده، فنكرّ على الروم، ونمزقهم شر ممزق!
فأكبرت زينب إخلاص ابنتها، وتفاديها وتضحية حبها في سبيل الواجب، وأكبر القواد إخلاص أميرتهم وشجاعتها.
في تلك الساعة قال زيد بن المعني لأورل قائد الروم: إن بين الفرات يا سيدي وبين المدينة سرداباً خفياً، ترسل منه زينب رسولها إلى بهزاد، ليمدها بالرجال والزاد، قال إذن الليلة تمسكون الرسول، وتفتحون الأبواب، وتدخلون المدينة، وتدكون القصر دكاً دكاً وتثلون العرش ثلاً ثلاً!
وما غشي الليل واختلط، حتى كانت مي متقلدة حمائل سيفها تتقدم القواد في السرداب، وتشجعهم. وما أطلت حتى كان زيد يطوقها بجنده، فأهابت به قائلة الويل لك أيها الخائن، وأقامت تحارب وتناضل ما تقدر أن تفعل، وودت لو تقتل ولا تؤسر، إلا أن أورل أقبل بجيشه فأسرها، وفتح المدينة، وأسر زينب، لكن لم يثل العرش ثلاً، وإنما توّج على سرير تدمر زيد الخائن.
سيقت زينب وابنتها والقواد إلى منزل الذل والهوان، وحكم أورل على زينب بالصلب، وفي الساعة التي كادوا ينفذون بها الحكم، كان قائد جميل روماني يدفع الجموع بمنكبيه، ويهب بالجلاد قائلاً: رويدك أيها العِلج. ويتقدم إلى أورل، ويركع عند قدميه، ويقول: أنا صديقك سولفا أناشدك الصداقة التي بيننا أن تعفو عن زينب! إنها بطلة يا سيدي! إنها لم تحاربك إلا دفاعاً عن حريتها واستقلالها وكرامتها، فلا تلطخ جبين الدولة الرومانية الناصع بقتل البطلات اللائى يضحين أنفسهن في سبيل الحرية والكرامة والاستقلال!! فصرخت زينب قائلة: لا، لا، الموت أعذب لي من الحياة بعد الآن! إن العربية لا تعرف الحياة إلا بالعز، ولن تعرفها إلا به أبداً!!
عفا أورل عن زينب وابنتها وأمر بنقلهما معظمتين إلى قصره. وتقدم الأمير سولفا يوماً من مي يخطبها فقالت: أنا لا أخفي عليك أيها الأمير أني أحبك كثيراً، ولكن لا أقدر أن ألبّي طلبك إلا حين أبعث؛ وأنا اليوم ميتة! إن العربيات اللائى دوخن الفرس والروم، وخفقت رايات نصرهن في لبنان وربوع النيل، لا يرضين التزوج بالروم، ولا يعرفن الحياة والحب إلا مع العز والكرامة والحرية.
حماه
مهدي الجم الطرابلسي
مجلة الرسالة - العدد 56
30 - 07 - 1934