كتب إسماعيل؛
في هذا الوقت من السنة تبوح الأرض بالأسرار بعد طول كتمان، تلفظ مافي جوفها من سحر وجمال، تتملكها غريزة الرسم والألوان.
تبزغ الشمس كالعادة من صدر السهول ومن خلف أكتاف الربى الخضراء مع خيوطها البنفسجية لتصافح النوار الأصفر وما قدمه الربيع تشريفاً لفخامتها! كان كل شيء مختلفاً عما اعتدت رؤيته في باقي فصول العام.
من لحظة خروجي من باب قصرنا الحديدي (القُلبة)الذي تطلق مفاصله صريراً وكأنه نداء فريسة مخنوقة بأنياب قاتلها كقط يمؤ يتربص بفريسته. وأذكر تلك الالواح التي غزاها صدأ الشتاء والماءالمنساب من سطوحها في رحلة ملحمية وهو يشق طريقه في أدغال أشجار اللوز والخوخ النابت بين شقوق الطين المحمي من عنجهية الريح وأزهار الأشجار المنتشية من غبار التخصيب وهي تنتظر امتلاء أزهارها بالمستوطنين الجدد دون أن تفتك بها أنياب الريح؛ ليخرج قطيع الأرانب فيفسد علي النوار الأصفر احتساء الشراب من الثرى ويفسد عليه رقصته مع خيوط الشمس مستعيناً بمداعبة النسمات الغربية. كم كانت تغزوني غريزة اللهو مع الأرانب بالانقضاض عليها لأفسد عليها تعكير صفو النوار!
وتلك جدران التين الشوكي (الصبر)الضيقة التي يحكمها ملل أحذية التلاميذ والمارة ذهاباً وإياباً، وحراسها نبات (الباصول) المُقدس منذُ حظيت بشرف التنصِيب من قِبل الاسلاف. وسيول الأمطار.. الماء الراكد في سهل طين وقد حد طول انتظاره واستقرار مياهه من عربدة وصلابة الطين إلا من مداعبة بعض النسمات لها تسكن صفيحة وجهه بعض بقايا أوراق تالفة وأوراق استبدلتها الأشجار بأخري، وكنت أتحرش به أنا ومن معي من الأشقياء لنغضب صفوه فيبدل جلده بلون الطين كالحرباء (أبو بخوت)! نعود إلى البيت لندخل قفص المحكمة بما اقترفناه في السيل متلبسين بالشاهد البلل والطين، والحكم المعتاد لهذه الجريمة هو وضعي بجانب الموقد لأدفأ وأجف، والجانب الآخر اُقابل الجلد بنعال كلوح خشب صُقلت كفهُ بجيوش من شوك السعدان لتحرق الجلد كأنها لسعة عشب (الحريقي) وواجب المدرسة الذي جعلت من بساطها الأخضر مكتباً تحت أشعة الشمس الدافئة لأداء الواجب المدرسي، والأغنام تجول حولي، تارة أطاردها وتارة أعود للكتاب، والعجوز تصرخ حينما أطارد (زليط) وأعود. أذكر تلك الرطوبة المتبخرة التي أعتقها التراب المفلوح وفك أسرها بتمرد دفء الشمس وأعمدة ضوئها التي تخلق نوراً وتخلق دفئاً في تناغم بين الولادة والحياة لأنطلق لولادة يوم جديد مع شروق شمس جديدا!
وكتب:
يوم جديد.. الغيوم تعانق جدائل الشمس الذهبية مع لحظات الإشراق الأولى. أستيقظ على نسمة شرقية باردة أرسلتها لي السهول والدروب مع إطلالة الشمس.. وصياح الديك يجمع قومه.. وأصوات (الدويريات) التي تحاول اختلاس ماتبقى من وجبات الماعز.. وحمامات برية على شجرة تنتظر أن يغادر الحمار الطماع لعمله (كلما اقتربت منه نفر فأزعجها)، تنتظر لتحصل على بقايا من حبات شعير غفل الحمار عنها.
أنطلق أنا كالعادة لأطلق سراح (بوق) تنقيط (البزر) لألهو به.. وثمن اللهو.. عقاب من الوالد شديد، آخره النعال على ظهري وأنا أجري هربا! كان البوق جاثما في باطن (صيرة) الحطب مشنوقا برقبته الجلدية التي سطت عليها ديدان (العثة) فأحدثت فيه بعض ثقوب لا تعطله عن ممارسة هوايته ووظيفته: تنقيط البزر في (البرص) عندما يلتحم بـ (الفرد) الآتي من رحلة حرث شتوية، وعظامه من سند خشبي يسند الجلد ليقف على قواه فيبتلع البزر ويدفنه من قلب سن (الفرد).
يذهب أبي بعد العصر.. بعد تنقيط البزر.. إلي الديوان (الشق) حيث بعض الشياب.. ومنهم شايب أحدق به كثيرا.. أشنابه (شواربه) بيضاء كبيرة غزاها الاصفرار من عبث الكيف.. حين كان في مبتدأ هوسه برجولته هدته غفلة الشباب إلى هذا الغليون المدمر المغري، أنظر إلى الدخان العربي وقداحة تعمل بــ (الكاز).. كان غطاؤها يُحشرج كصدره.. كفرع شجرة يتحرش بلوح (زينكه) في ليلة شتاء. أبحلق في أسنانه التي لم يبق منها الا اثنتان طويلتان تحرسان فمه.. كأنهما (المسحانة) تعاقب القهوة في الهون فاسودّ رأسها من طحن السنين. وكان بجانبه أبريق فخار صغير (بِلبِل) ملك خاص لاتستطيع الاقتراب منه.. يرفع (البلبل) ليشرب.. ويده وشفتاه ترجفان و(البلبل) كغراب على فمه يعبث بالماء فيتطاير على صدره وركبتيه.. من عدم ثبات فمه.. إثر استيطان السنين المتعجرف لفمه!
وأفر إلى البيت.. والشايب وأشنابه وأسنانه تنخر في مُخيلتي.. فأصارع أحلام الليل أنا واللحاف.. فيعلن اللحاف انسحابه عني خوفا وهربا من أحلامي السوداء..أصحو مبكرا مع الشمس فأجده منطويا على نفسه عند أقدامي.. فأتركه يكتوي بعقاب الريح والرمل يمضغانه طوال اليوم!
**تفسير: بوق تنقيط البزر قطعة مستقلة عن فرد الحرث. ويتكون من بوق يصنعونه قديما من الجلد، ويسنده من الداخل سند خشبي ودائرة خشبية من الأعلي، وتمتد به ماسورة. حين تنقيط البطيخ يركبونه مع فرد الحرث، وللماسورة ثقب في ظهر سن الفرد الحديدية ويربطون رقبة البوق بيد الفرد.
وكتب؛
الشمس تلتحف بالغيوم، لم تفرد جدائلها بعد، وكأن برودة الصباح أثقلت مفاصلها فلا تستطيع النهوض، وكأن أوراق اللوز وزهر الأقحوان، المكتنزة بالندى والعبق، لم تستفزها لترسم قوس قزح، على صفحات السيول الراكدة، وكأن الليل مازال يستـقبل ضوء القمر، يمضغه ويلوكه، قبل أن ينبلج فجر جديد.
كأنه تناطح للأكباش، بين نور يئن تحت مخاض الولادة، ونور يلفظ أنفاس الزوال، أيهما سيصمد، أيهما سيغري الدقائق والثواني بالمكوث؟ أيهما سينتقيه فصل الأوراق الساقطة حليفاً؟
وهل لسرب الحمام المهاجر أن يكون نصيرا؟ لكنه مازال على أغصان اللوز منكمشاً، يشعر بالبرد منتظراً جلاء الصورة.
هل لنار الموقد التي تلتهم الأغصان اليابسة، أن تكون عوناً لأحدهما؟ لكنها استحالت جمراً، وخبا وهجها.
هل لصياح الديك الفصل بينهما؟ بل ينتظر من ينتصر، ليبحش عن رزقه.
هل (البنانير) المضطجعة في جيب الصبي، طوال الليل تـتطاقش على موعد معه في يوم عطلة مدرسية؟ لكنه ينتظر انتصار النهار على الليل، ويفل القمر، ليرى لمعان (البنور) وهي بين أصابعه... تـتدحرج.. رنين إيقاعها.. تـتطاقش.. على خيوط شروق جديد!
وكتب:
في يوم صحوٍ مُشرقٍ، الشمس تلقي بدفئها على الأقحوان الأصفر (النويري) على صرح بهيّ شامخ من الربيع؛ لتوقظ قطرات الندى الغافية على أهدابها.
كانت البيوت تذكرني ببيوت الخراريف، التي كانت تقصها علينا جدتي كل مساء، فأسقط كل مفردات جدتي وتعابيرها على هيئة تلك البيوت، بل وأزيد على ذلك في مخيلتي متوقعاً أن جدتي كانت شاهدة على أحداث حكايتها، وأنها أحد أبطالها، وكان بإمكانها تغيير مجرياتها لو أرادت.
كان في أحد السهول بيت قديم، قد زاد عليه الأبناء بيوتهم الحديثة الإسمنتية، تاركين هذا البيت في سباته وغفوته، ومن المؤكد أنه يستيقظ كل صباح على صوت مفتاح ثقيل، تآكلت أسنانه وتهشمت وباتت كليلة، وكأنها تدفع ثمن السنين كتقاسيم جذع شجرة لوز، زرعت بجانب الباب -(تشهد على مرور حامليه)!
كانت تخرج منه عجوز مرّ على قسمات وجهها تاريخ ذلك البيت.
تأخذ فراشها كيسا من القش، تضعه بجانب الباب، لتجلس وتـتمتم بكلمات بينها وبين نفسها، أظنها (تَشعَر) او تهجو به ما يعكر صفوها من طيور أو زليط مناكف.
كنت خلال عبوري ذلك المدق الضيق، الذي حفظته عن ظهر قلب، وفككت طلاسمه وأسراره، وحفظت كل تضاريسه ، أتقصّد المرور من أمام تلك العجوز، لينتابني الفضول للانتظار برهة قليلة، لأسمع ترانيمها وكلامها، الذي ينساب إلى رأسي قبل أن يعرج على أذني، واضعاً عقلة من أصبعي في فكي (مُرنباً) مستغرباً العجوز.
ثم ألفت انتباهها أنني أتعجب ممن بلغت من العمر عتيا، فتفتح ثغرها لي مبتسمة ، ضاربة طفولتي في عرض البراءة، وكأن أسنانها أهلكتها السنينُ بصُحفها - بكتابة تاريخ تلك البيوت -؛ فأفر حرجاً وأنا منطلق أشدو تواشيحها، بصوت عال، وقميصي أعضه بأسناني مسرعاً، ولا أعرف ماذا أقول..
مسعد بدر - شمال سيناء
في هذا الوقت من السنة تبوح الأرض بالأسرار بعد طول كتمان، تلفظ مافي جوفها من سحر وجمال، تتملكها غريزة الرسم والألوان.
تبزغ الشمس كالعادة من صدر السهول ومن خلف أكتاف الربى الخضراء مع خيوطها البنفسجية لتصافح النوار الأصفر وما قدمه الربيع تشريفاً لفخامتها! كان كل شيء مختلفاً عما اعتدت رؤيته في باقي فصول العام.
من لحظة خروجي من باب قصرنا الحديدي (القُلبة)الذي تطلق مفاصله صريراً وكأنه نداء فريسة مخنوقة بأنياب قاتلها كقط يمؤ يتربص بفريسته. وأذكر تلك الالواح التي غزاها صدأ الشتاء والماءالمنساب من سطوحها في رحلة ملحمية وهو يشق طريقه في أدغال أشجار اللوز والخوخ النابت بين شقوق الطين المحمي من عنجهية الريح وأزهار الأشجار المنتشية من غبار التخصيب وهي تنتظر امتلاء أزهارها بالمستوطنين الجدد دون أن تفتك بها أنياب الريح؛ ليخرج قطيع الأرانب فيفسد علي النوار الأصفر احتساء الشراب من الثرى ويفسد عليه رقصته مع خيوط الشمس مستعيناً بمداعبة النسمات الغربية. كم كانت تغزوني غريزة اللهو مع الأرانب بالانقضاض عليها لأفسد عليها تعكير صفو النوار!
وتلك جدران التين الشوكي (الصبر)الضيقة التي يحكمها ملل أحذية التلاميذ والمارة ذهاباً وإياباً، وحراسها نبات (الباصول) المُقدس منذُ حظيت بشرف التنصِيب من قِبل الاسلاف. وسيول الأمطار.. الماء الراكد في سهل طين وقد حد طول انتظاره واستقرار مياهه من عربدة وصلابة الطين إلا من مداعبة بعض النسمات لها تسكن صفيحة وجهه بعض بقايا أوراق تالفة وأوراق استبدلتها الأشجار بأخري، وكنت أتحرش به أنا ومن معي من الأشقياء لنغضب صفوه فيبدل جلده بلون الطين كالحرباء (أبو بخوت)! نعود إلى البيت لندخل قفص المحكمة بما اقترفناه في السيل متلبسين بالشاهد البلل والطين، والحكم المعتاد لهذه الجريمة هو وضعي بجانب الموقد لأدفأ وأجف، والجانب الآخر اُقابل الجلد بنعال كلوح خشب صُقلت كفهُ بجيوش من شوك السعدان لتحرق الجلد كأنها لسعة عشب (الحريقي) وواجب المدرسة الذي جعلت من بساطها الأخضر مكتباً تحت أشعة الشمس الدافئة لأداء الواجب المدرسي، والأغنام تجول حولي، تارة أطاردها وتارة أعود للكتاب، والعجوز تصرخ حينما أطارد (زليط) وأعود. أذكر تلك الرطوبة المتبخرة التي أعتقها التراب المفلوح وفك أسرها بتمرد دفء الشمس وأعمدة ضوئها التي تخلق نوراً وتخلق دفئاً في تناغم بين الولادة والحياة لأنطلق لولادة يوم جديد مع شروق شمس جديدا!
وكتب:
يوم جديد.. الغيوم تعانق جدائل الشمس الذهبية مع لحظات الإشراق الأولى. أستيقظ على نسمة شرقية باردة أرسلتها لي السهول والدروب مع إطلالة الشمس.. وصياح الديك يجمع قومه.. وأصوات (الدويريات) التي تحاول اختلاس ماتبقى من وجبات الماعز.. وحمامات برية على شجرة تنتظر أن يغادر الحمار الطماع لعمله (كلما اقتربت منه نفر فأزعجها)، تنتظر لتحصل على بقايا من حبات شعير غفل الحمار عنها.
أنطلق أنا كالعادة لأطلق سراح (بوق) تنقيط (البزر) لألهو به.. وثمن اللهو.. عقاب من الوالد شديد، آخره النعال على ظهري وأنا أجري هربا! كان البوق جاثما في باطن (صيرة) الحطب مشنوقا برقبته الجلدية التي سطت عليها ديدان (العثة) فأحدثت فيه بعض ثقوب لا تعطله عن ممارسة هوايته ووظيفته: تنقيط البزر في (البرص) عندما يلتحم بـ (الفرد) الآتي من رحلة حرث شتوية، وعظامه من سند خشبي يسند الجلد ليقف على قواه فيبتلع البزر ويدفنه من قلب سن (الفرد).
يذهب أبي بعد العصر.. بعد تنقيط البزر.. إلي الديوان (الشق) حيث بعض الشياب.. ومنهم شايب أحدق به كثيرا.. أشنابه (شواربه) بيضاء كبيرة غزاها الاصفرار من عبث الكيف.. حين كان في مبتدأ هوسه برجولته هدته غفلة الشباب إلى هذا الغليون المدمر المغري، أنظر إلى الدخان العربي وقداحة تعمل بــ (الكاز).. كان غطاؤها يُحشرج كصدره.. كفرع شجرة يتحرش بلوح (زينكه) في ليلة شتاء. أبحلق في أسنانه التي لم يبق منها الا اثنتان طويلتان تحرسان فمه.. كأنهما (المسحانة) تعاقب القهوة في الهون فاسودّ رأسها من طحن السنين. وكان بجانبه أبريق فخار صغير (بِلبِل) ملك خاص لاتستطيع الاقتراب منه.. يرفع (البلبل) ليشرب.. ويده وشفتاه ترجفان و(البلبل) كغراب على فمه يعبث بالماء فيتطاير على صدره وركبتيه.. من عدم ثبات فمه.. إثر استيطان السنين المتعجرف لفمه!
وأفر إلى البيت.. والشايب وأشنابه وأسنانه تنخر في مُخيلتي.. فأصارع أحلام الليل أنا واللحاف.. فيعلن اللحاف انسحابه عني خوفا وهربا من أحلامي السوداء..أصحو مبكرا مع الشمس فأجده منطويا على نفسه عند أقدامي.. فأتركه يكتوي بعقاب الريح والرمل يمضغانه طوال اليوم!
**تفسير: بوق تنقيط البزر قطعة مستقلة عن فرد الحرث. ويتكون من بوق يصنعونه قديما من الجلد، ويسنده من الداخل سند خشبي ودائرة خشبية من الأعلي، وتمتد به ماسورة. حين تنقيط البطيخ يركبونه مع فرد الحرث، وللماسورة ثقب في ظهر سن الفرد الحديدية ويربطون رقبة البوق بيد الفرد.
وكتب؛
الشمس تلتحف بالغيوم، لم تفرد جدائلها بعد، وكأن برودة الصباح أثقلت مفاصلها فلا تستطيع النهوض، وكأن أوراق اللوز وزهر الأقحوان، المكتنزة بالندى والعبق، لم تستفزها لترسم قوس قزح، على صفحات السيول الراكدة، وكأن الليل مازال يستـقبل ضوء القمر، يمضغه ويلوكه، قبل أن ينبلج فجر جديد.
كأنه تناطح للأكباش، بين نور يئن تحت مخاض الولادة، ونور يلفظ أنفاس الزوال، أيهما سيصمد، أيهما سيغري الدقائق والثواني بالمكوث؟ أيهما سينتقيه فصل الأوراق الساقطة حليفاً؟
وهل لسرب الحمام المهاجر أن يكون نصيرا؟ لكنه مازال على أغصان اللوز منكمشاً، يشعر بالبرد منتظراً جلاء الصورة.
هل لنار الموقد التي تلتهم الأغصان اليابسة، أن تكون عوناً لأحدهما؟ لكنها استحالت جمراً، وخبا وهجها.
هل لصياح الديك الفصل بينهما؟ بل ينتظر من ينتصر، ليبحش عن رزقه.
هل (البنانير) المضطجعة في جيب الصبي، طوال الليل تـتطاقش على موعد معه في يوم عطلة مدرسية؟ لكنه ينتظر انتصار النهار على الليل، ويفل القمر، ليرى لمعان (البنور) وهي بين أصابعه... تـتدحرج.. رنين إيقاعها.. تـتطاقش.. على خيوط شروق جديد!
وكتب:
في يوم صحوٍ مُشرقٍ، الشمس تلقي بدفئها على الأقحوان الأصفر (النويري) على صرح بهيّ شامخ من الربيع؛ لتوقظ قطرات الندى الغافية على أهدابها.
كانت البيوت تذكرني ببيوت الخراريف، التي كانت تقصها علينا جدتي كل مساء، فأسقط كل مفردات جدتي وتعابيرها على هيئة تلك البيوت، بل وأزيد على ذلك في مخيلتي متوقعاً أن جدتي كانت شاهدة على أحداث حكايتها، وأنها أحد أبطالها، وكان بإمكانها تغيير مجرياتها لو أرادت.
كان في أحد السهول بيت قديم، قد زاد عليه الأبناء بيوتهم الحديثة الإسمنتية، تاركين هذا البيت في سباته وغفوته، ومن المؤكد أنه يستيقظ كل صباح على صوت مفتاح ثقيل، تآكلت أسنانه وتهشمت وباتت كليلة، وكأنها تدفع ثمن السنين كتقاسيم جذع شجرة لوز، زرعت بجانب الباب -(تشهد على مرور حامليه)!
كانت تخرج منه عجوز مرّ على قسمات وجهها تاريخ ذلك البيت.
تأخذ فراشها كيسا من القش، تضعه بجانب الباب، لتجلس وتـتمتم بكلمات بينها وبين نفسها، أظنها (تَشعَر) او تهجو به ما يعكر صفوها من طيور أو زليط مناكف.
كنت خلال عبوري ذلك المدق الضيق، الذي حفظته عن ظهر قلب، وفككت طلاسمه وأسراره، وحفظت كل تضاريسه ، أتقصّد المرور من أمام تلك العجوز، لينتابني الفضول للانتظار برهة قليلة، لأسمع ترانيمها وكلامها، الذي ينساب إلى رأسي قبل أن يعرج على أذني، واضعاً عقلة من أصبعي في فكي (مُرنباً) مستغرباً العجوز.
ثم ألفت انتباهها أنني أتعجب ممن بلغت من العمر عتيا، فتفتح ثغرها لي مبتسمة ، ضاربة طفولتي في عرض البراءة، وكأن أسنانها أهلكتها السنينُ بصُحفها - بكتابة تاريخ تلك البيوت -؛ فأفر حرجاً وأنا منطلق أشدو تواشيحها، بصوت عال، وقميصي أعضه بأسناني مسرعاً، ولا أعرف ماذا أقول..
مسعد بدر - شمال سيناء