(9)
وقع صدامي الأول مع جنود الاحتلال عند عبوري من الأردن إلى الأراضي المحتلة، تعامل معي حرس الحدود الإسرائيليون بصورة مستفزة للغاية، تعمدوا تعطيل إجراءات دخولي بحجة فحص أوراقي والتأكد من سلامتها، اندلعت بيني وبينهم مشادة كلامية حادة، اتهمتهم بإعاقة عملي كمراسل معتمد وهددت برفع الأمر إلى المنظمات الدولية المختصة، قابلوا تهديدي باستهزاء واضح، كاد الأمر أن يتحول إلى اشتباك بالأيدي لولا تدخل مجموعة من الصحفيين والمراسلين الغربيين الذين تصادف وجودهم عند نقطة العبور، أكدت لي هذه الواقعة المبكرة المخاوف التي انتابتني عندما أخبرني عبد الرحمن بالأمر، أثار تعاطفي التام مع الشعب الفلسطيني ومشاعري العدائية تجاه جنود الاحتلال قلقي من أن يؤثر ذلك على قدرتي على تقديم رؤية صادقة وأمينة للأحداث، وأن يؤدى إلى فشل مهمتي بدلا من نجاحها، كان عبد الرحمن قد طالبني قبل سفري مباشرة بضبط النفس والتحلي بأقصى درجات الحيطة والحذر كلما اضطرتني الظروف للتعامل مع جنود الاحتلال، لكن ... هل يمكنني ذلك؟ حقا هذه هي المرة الأولى التي تطأ فيها قدماي أرض فلسطين، ورغم تعاطفي الكبير مع المدنيين فى أفغانستان وتألمي الشديد لمعاناتهم، إلا أن الأمر هنا يختلف بدرجة لا مراء فيها، القضية هنا قضيتي، الأرض أرضى والسماء سمائي، الليل والنهار، الجبال والأنهار، الوديان والمقدسات، كلها تخصني كما تخص أصحابها من أهل فلسطين، كيف إذن يمكنني أن أمارس عملي بحياد وتجرد وأنا أذوب بكامل مشاعري وحواسي داخل القضية؟
******
بعد سلسلة من التعقيدات والتصاريح التي لم تنفذ، والمواجهات المتكررة مع جنود الاحتلال، استطعت الدخول أخيرا إلى مخيم جنين، يقال عادة ليس من سمع كمن رأى، بدت لي هذه العبارة صادقة تماما بعد ما عايشته من دمار هائل وآثار دموية داخل المخيم، كانت أعمال إزالة الأنقاض واستخراج جثث الضحايا من تحتها لا زالت جارية، استحضرت المشاهد الحزينة إلى ذهني صورا لمذابح قرأت أو سمعت عنها لكنني لم أرها قط بعيني، دير ياسين ... كفر قاسم ... صحراء سيناء ... بحر البقر ... صبرا وشاتيلا ... قانا، وبرغم حالة البؤس والحزن الشديدين التي تسيطر على الناس هنا فهم فخورون بما قدموه من شهداء، وما أبدوه من مقاومة عنيفة، كانت الأوضاع لا تزال شديدة التوتر، جنود الاحتلال منتشرون في المدينة وعلى أطراف المخيم، عشرات من الدبابات والعربات المصفحة، وتحليق دائم لطائرات الأباتشي، عمليات تخريب واقتحام وتفتيش من بيت إلى بيت، اعتقالات بالجملة لعشرات الشباب والرجال، حتى بعض النساء والشيوخ والأطفال لم يسلموا من تلك الحملات الشرسة، كانت مظاهر الحياة اليومية معطلة بشكل شبه كامل داخل المدينة ومخيمها، ومع ذلك كان الإصرار واضحا على التصدي لجنود الاحتلال ودباباته، أحاول الانتقال مع الأحداث شبرا بشبر، غير أن جنود الاحتلال كانوا يعوقون حركة الصحفيين والمراسلين بحجج مختلفة وأساليب فظة، كان واضحا أن الصحفيين والمراسلين الفلسطينيين والعرب يتعرضون لمعاملة أشد قسوة عن نظرائهم من أوروبا وأمريكا، عشت أياما شديدة التوهج والسخونة، نجحت رغم كل شيء في بث مجموعة من الرسائل المفصلة عن الأوضاع فى جنين ومخيمها والقرى المحيطة بها.
******
انتقلت إلى غزة مع مجموعة من نشطاء السلام الغربيين، كان معظمهم شبابا فى مقتبل العمر لكني لمست لديهم وعيا كبيرا بطبيعة القضية الفلسطينية، وإحاطة كاملة بأدق تفاصيل المعاناة اليومية للشعب الفلسطيني، كانوا للأسف أكثر علما بالقضية وطبيعة الصراع الدائر حولها ربما أكثر من ملايين العرب والمسلمين، بدت هذه مفارقة غريبة تثير الإعجاب من جانب والأسى من جانب آخر، الإعجاب بما يبديه هؤلاء من شجاعة حقيقية في التصدي لقوات الاحتلال وفضح صورته أمام الرأي العام العالمي رغم أن الأمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد، أما الأسى فلما وصل إليه حال العرب والمسلمين من تغييب مقصود أو غير مقصود، وجهل فاضح بطبيعة الصراع وأثره المباشر وغير المباشر على كل فرد منهم، سواء في دائرته الصغيرة أو على محيطه الأكبر، بدت غزة تماما كما وصفها الكثيرون، سجن كبير مغلق على قاطنيها من الفلسطينيين، وشوكة موجعة في جنب إسرائيل، كانت الأحوال الإنسانية أكثر سوء عما عايشناه في الضفة، وكان الفتيان والشباب يتسابقون في جمع الحجارة والتصدي لجنود ودبابات الاحتلال، كأنهم يرجمون أصناما، أعادوا إلى ذاكرتي المشهد البطولي لفارس عودة ووقفته الأسطورية وهو يتصدى بحجارته لدبابة إسرائيلية في الأيام الأولى من الانتفاضة، قال لي أحدهم وهو يجرى منفلتا ليلحق بزملائه:
ـ بدي اكسر ها الدبابات.
قالها بعزم وتصميم من يحمل في قبضة يده سلاحا فتاكا متطورا ... لا مجرد حجر صغير، انفعل نشطاء السلام الذين كانوا يرافقوني بما رأوه من بسالة وإقدام هؤلاء الأبطال الصغار، التقط كل منهم حجرا وألقاه باتجاه دبابات الاحتلال، اندفع الجنود نحونا وهم يطلقون رصاصات تحذيرية في الهواء، اشتبكوا مع الشباب وطرحوا بعضهم أرضا، كنت أتابع الموقف عن قرب، وأسجل ما يدور بالكاميرا الرقمية الصغيرة التي أحملها، انتبه أحد جنود الاحتلال إلى ما أقوم به وجرى نحوي مسرعا، ارتمت أحدى الشابات التي كانت ترافقنا عليه وطوقته وأعاقت حركته، جريت بأقصى سرعة وتمكنت من الاختفاء في إحدى الحارات الجانبية، طرقت أقرب باب تراءى لي وأنا أطلب منهم السماح لي بالدخول، أدركوا الأمر بسرعة وأدخلوني على الفور، بدأت في إخراج أجهزتي ونقل ما بحوزتي من تقارير ولقطات حية عبر الشبكة.