(11)
استقبلتني ندى بلهفة كبيرة عند عودتي من الأراضي المحتلة، كان اتصالي بها قد انقطع تقريبا خلال فترة تواجدي هناك، رغم أنها لم تغادر قط قلبي وعقلي، إلا أن الحالة العامة التي كنت أعيشها هناك جعلت اتصالي بها يتدنى إلى درجة لم نعهدها منذ أفضى كلانا بمشاعره إلى الآخر، كان ترحيبها بي قويا ودافئا إلى درجة جعلتني أشعر بالخجل الشديد من نفسي، تواعدنا على اللقاء ليلاً وسرنا في سعادة جنبا إلى جنب، كانت المرة الأولى التي نخرج فيها سويا منذ خروجنا الأخير بعد عودتي من أفغانستان وما شاب هذا اللقاء من بعض التوتر، وما خلفه علي وعلى علاقتنا من آثار سلبية، أخذت أحكي لها بحماس شديد عما عايشته من وقائع يصعب على أي إنسان ذي مشاعر نسيانها أو المرور عليها مر الكرام، حكيت لها عن مواجهاتى المتكررة مع جنود الاحتلال في الضفة وغزة، كانت تشهق بشدة ويبدو عليها الفزع الشديد كما لو كنت لا أزال هناك أتعرض إلى هذه المخاطر، وللمرة الأولى منذ لقائنا الأول تعلقت بذراعي ثم وضعت يدها على فمي كي توقفني عن الكلام، سرت في جسدي رعشة مباغتة، لثمت دون تفكير راحة يدها التي كانت لا تزال ساكنة على شفتيَّ، سحبت يدها في تراخ وتوقفت فجأة عن السير، توقفت وأمعنت النظر إليها، كانت عيناها مغمضتين وعلى وجهها تعبير فاتن لم يسبق لي أن رأيت مثله من قبل.
******
كلفني عبد الرحمن بالعمل فى إعداد سلسلة جديدة من الحلقات عن "العراق واحتمالات المستقبل"، ما أدهشني حقا هو اختياره زميلنا تامر ليشاركني العمل فى هذه المهمة، بعد تفكير سريع وجدت أنها قد تكون فرصة طيبة لإشاعة الدفء في العلاقة الباردة بيننا، كعادته كان تامر فاترا ولم يبد أي مشاعر خاصة تعبيرا عن هذا الاختيار، بدأنا العمل سويا في جمع المواد الخاصة بالحلقات والاتصال بالشخصيات التي سيتم استضافتها، تطلب الأمر منا مجهودا كبيرا نظرا للتصاعد السريع في مسار الأزمة العراقية التي عادت لتطفو مجددا على سطح الأحداث بعد تراجع مؤقت، حشدنا أراء مجموعة كبيرة ومتنوعة من الشخصيات ذات الصلة، مسئولون عراقيون، معارضون يعيشون في الخارج، أكراد وشيعة وسنة، شخصيات عربية ودولية متنوعة الاتجاهات، سياسيون وعسكريون واقتصاديون، حاولت الاقتراب من تامر مستغلا فرصة العمل المكثف الذي يجمعنا سويا، كنا نقضي ساعات طويلة في إعداد التقارير والأسئلة ومسارات الحوار المتوقعة، دراسة الشخصيات التي يتم استضافتها، التحقق من الإحصائيات والبيانات والتصريحات المختلفة، ولدهشتي كان تامر متعاونا بدرجة كبيرة للغاية، كما أظهر كفاءة عالية أثارت إعجابي، على العكس من ذلك كلما حاولت الاقتراب منه بصورة شخصية وبناء علاقة إنسانية حميمة بيننا يتحول إلى إنسان بارد يصد في وضوح أي محاولة للاقتراب منه والتواصل الإنساني معه، أصابني الأمر باليأس والإحباط وتوقفت عن ذلك بعد عدة محاولات وركزت جهودي على إنجاز العمل المطلوب منا، بدت لي الصورة بشأن العراق قاتمة وسلبية للغاية، كانت مواقف الأطراف المختلفة متنافرة إلى درجة لم أر لها مثيلا حتى فيما يخص القضية الفلسطينية، خلصت إلى استنتاج واضح أن الحالة العراقية هي تجسيد صارخ للأزمة الحقيقية التي يعيشها العالم العربي، أزمة مع الذات وأزمة مع الغير ... عدوا كان أو صديقا، لم يكن هناك أي عنصر من عناصر الحالة العراقية يوحى بالأمل، نظام ديكتاتوري فاسد، شعب مغلوب على أمره يئن تحت وطأة قمع داخلي وحصار خارجي، معارضة ذليلة خاضعة لسطوة الغرب، أنظمة عربية عاجزة عن فعل أي شيء حقيقي للخروج من المأزق الراهن، قطب أوحد يدفع الأمور باتجاه التصعيد لقطف الثمرة العراقية كمقدمة لغيرها من ثمرات.
******
حزمت أمتعتي استعداداً للسفر إلى نيويورك للعمل بمكتبنا هناك، طالبني عبد الرحمن منذ يومين أن أجهز نفسي لتغطية المعركة الدبلوماسية التي بدأت معالمها تلوح في الأفق بشأن العراق من داخل أروقة وقاعات الأمم المتحدة، يفاجئني عبد الرحمن دائما بما لا أتوقعه، فبعد إرسالي إلى أفغانستان وإعادتي منها، ثم مهمتي في الأراضي المحتلة، كانت هذه مفاجأة جديدة لم أحسب لها حسابا ولم أتوقعها، بل لقد فوجئ بها زملائي ربما أكثر من مفاجأتهم بذهابي إلى أفغانستان أو فلسطين، ورغم ترحيبهم باختياري لهذه المهمة وتشجيعهم لي، إلا أنني قرأت سؤالا حائرا في عيون بعضهم: "لماذا أنت دائما؟"، أنا نفسي لم أتمكن من إيجاد إجابة تريحني عن هذا السؤال، فزملائي لا يقلون عني كفاءة، بل معظمهم يمتلك من الخبرة ما لا أمتلكه، كان تفسير ندى أن نجاح تجاربي السابقة هو الذي شجع عبد الرحمن على إعادة اختياري، لم يقنعني هذا التفسير على الإطلاق لكنني حاولت الاكتفاء به مؤقتا، كالعادة كان حسن أكثر الزملاء سعادة باختياري، رغم فتوره المعتاد كان تامر أكثرهم تأثرا، كنا قد انتهينا لتونا من العمل في سلسلة الحلقات الخاصة بالعراق وتوفر لدى كلانا خلفية جيدة عن الأمر، لعله يرى أنه الأحق والأجدر بهذه المهمة، داهمني إحساس طاغ بالذنب ولم أدر كيف أتصرف حياله، قال لي عبد الرحمن وهو يودعني قبل سفري مباشرة:
ـ الشهور القليلة القادمة ستكون حاسمة وستحدد مصير العراق والمنطقة ... بل والعالم بأسره.
سألته:
ـ هل ترجح نشوب الحرب؟
ـ أرجح ذلك وإن كنت لا أتمناها.
ـ ومن يتمنى الحرب؟
ـ الكثيرون يتمنون ذلك ... وللأسف بعضهم هنا في العالم العربي.
لأول مرة منذ قدومي إلى دبي تبدو في نبرات صوت عبد الرحمن رنة حزن واضحة لم ينجح في إخفائها، وقفت لمصافحته ... ثم سألته في تردد:
ـ لماذا اخترتني أنا بالذات؟
استعاد بسرعة طابعه الرسمي الجاف وقال:
ـ الأمر يرتبط بعمل يجب علينا جميعا إنجازه وليس بشخص بعينه.