دكتور زياد العوف - إبراهيم عبد القادر المازنيّ ناقداً

تناولتُ في مقالي السابق المازنيَّ الأديبَ، فسلّطتُ الضوء على أدبه السّاخِر بخاصة، كما تمثّلَ في كتابه الشائق" صندوق الدنيا".
بَيْدَ أنّ ملامح هذا الكاتب الكبير لن تتضّح كما ينبغي دون تبيّنِ سماتهِ الأدبية والفكرية الأخرى، ومن أبرزها،دون ريب، سماتُهُ النقديّة.
في هذا السياق،إذاً، يأتي هذا المقال.
توزّعتْ إسهامات المازنيّ النقدية، النظرية منها والتطبيقية، في عدد كبير من المقالات والدراسات النقدية التي جُمِعتْ لاحقاً في عدد من الكتب، لعلّ من أهمّها: (حصاد الهشيم)و(شعر حافظ) وكتابه المشتَرَك مع العقّاد( الديوان في الأدب والنّقد)وكتاب( قَبْضُ الريح)* هذا..وقد وقع اختياري على الكتاب الأخير متمثِّلاً بالفصل الثالث منه والذي جاء تحت عنوان :
"نظرة أولى- في كتاب حديث الأربعاء" للوقوف على رؤية المازنيّ لبعض القضايا النقدية، وهي هنا قضيّة " الأسلوب" من خلال أسلوب الدكتور طه حسين في كتابه( حديث الأربعاء)
يستهلّ المازنيّ مقاله النقديّ بتمهيد نظريّ جاء فيه:
"لنا في الأسلوب رأيّ قديم يعرفه مَنْ يعرفنا، ذهبنا إليه في صدر حياتنا، وثبتنا عليه إلى يومنا هذا.ولسنا نتّخذ من الثبات على الرأي مفخرةً، فإنّه لا يخفى علينا أنّ هذا قد يكون مردُّهُ في بعض الأحيان إلى الإفلاس العقليّ- إنْ صحَّ هذا التعبير- أو إلى ضعف الخيال، أو غير ذلك ممّا أتركُ للقارئ استقصاءه إذا شاء.......... فنقول إنّ الغرض الأوّل من الكتابة على العموم هو الإفهام أو نقل الخاطر من رأسٍ إلى رأس، والخالجةِ، كائنةً ما كانت، من نفسٍ إلى نفس. ومعلوم أنّ الألفاظ ليست هي المعاني وإنّما هي رموز لها، تدلّ عليها وتشير إليها."(ص.٢١)
من المعلوم أنّ( علم المعاني) - وهو أحد علوم البلاغة الثلاثة، إلى جانب كلٍّ من ( علم البيان) و(علم البديع)- هو الذي كان يُعنى بدراسة الأسلوب قبل تطور هذا النوع من الدراسات، مروراً بمحاولة الأستاذ أحمد الشايب الرائدة في هذا المجال؛ حيث خصَّ الأسلوب بكتاب مستقلّ في إطار جهوده البلاغية القيِّمة لإعادة النظر في علوم البلاغة الثلاثة المشار إليها، وتقديمها بصيغة علمية ومعرفية جديدة، بُغيةَ السير بها من المعياريّة إلى الوصفيّة،كما تجلّى في كتابه الأسلوب** وصولاً إلى " الأسلوبيّة" الحديثة التي تناولتْ الأسلوب بوصفه فرعاً من فروع الدراسات اللسانية؛ فعمدتْ إلى وصف النصّ الأدبي حسب طرائق ومناهج مستقاة من اللسانيات.***
نعود إلى التمهيد النظري الذي أورده المازنيّ بين يديّ نقده لأسلوب طه حسين لنراهُ يلاحظ أنّ الكتابة الفنية لا تكتفي بمجرّد الإفهام، بل هي تطمح إلى التأثير في القارئ، فيقول:
"وما منّا إلا من يبغي أن يكون فنّه أفعلَ باللبّ وأسحر للقلب وأملأ للعين وأوقع في النفس."(ص.٢٣)
على أنّه يؤكّد أنّ بلوغ هذا الهدف لا يتأتّى للكاتب إلا بشروط معيّنة لا بدّ من توافرها، فيضيف:
"ولكنّ الكتابة لا تكون فنّية من تلقاء نفسها، وإنّما تصير كذلك بما يحدثه المرء فيها من الصور، وما يُوفَّقُ إليه من الإحسان والتجويد، ولا بدَّ لذلك فيما نظنّ! من صحة النظر وسلامة الذوق وصدق السريرة والاستعداد."(ص.٢٣)
ثمَّ نراه يشير إلى ما هو متداول لدى علماء الأسلوب من أنّ الأمر يتمثّل في طريقة اختيار الألفاظ وتأليفها للتعبير بها عن المعاني قصد الإيحاء والتأثير، فيقول:
"فإنّ الألفاظ موجودة، وهي ملقاة في طريقنا جميعاً وعلى طرف كلّ قلم ولسان، ولو أنّ العبرة في الألفاظ وحدها... ........لكان أكبر الأدباء هم جماعة اللغويين والحفّاظ، ولكان ابن منظور والفيروزباديّ مثلاً شيخَيّ أدباء العرب وشعرائهم."(ص.٢٣)
لكنّه يستدرك فيقول:
" ولا يفهم أحد من كلامنا أنّنا نقصد إلى التكلّف وإثقال الكلام بالحلي والزينة........وإنّما نعني أنّ الأدب فنّ، وأنّه لا بدّ في كلّ فنّ من الإحسان والتجويد، ولكلّ امرئ طريقة هو مؤثِرُها أو موفّق إليها لإبراز المعنى في أحسن معرِض."(ص.٢٤)
بعد هذا المهاد النظري يشرع الناقد في نقد أسلوب طه حسين، فيقول:
" والآن ما رأينا في أسلوب صديقنا الدكتور طه حسين؟! الحقّ أنّ هذا الموضوع يدِقّ فيه الكلام......ثمّ إذا بي اسألُ نفسي: مارأيي! في أسلوب الدكتور؟!"(ص.٢٥)
يتابع المازنيّ بأسلوبه الساخِر المعهود،فيقول:
"ولقد تقمّصني والله عفريت النقد! وإنّي لأُحسُّ أنّ عينيّ قد احمرّتا، ويبلغ من إحساسي أو توهّمي أنّي أهمّ بالتطلّع إلى وجهي في المرآة! ولا أكتم القرّاء أنّي صِرت أؤمن بأنّ لكلّ منّا شيطاناً، وأحسب شيطاني من أخبث الشياطين."(ص.٢٥)
ثمّ ما يلبث أنْ يبدأ بالثناء على شخص طه حسين وخصاله واجداً في ذلك مدخلاً مناسباً للولوج إلى خصائص أسلوبه، فيقول:
"الدكتور طه حسين رجل أنيس المحضَر ذكيّ الفؤاد جريء القلب،تعجبكَ منه صراحته وتقعُ من نفسكَ رجولته وأنَفَتُه،ويعلقُ بقلبكَ إخلاصُه ووفاؤه، ويثقلُ عليكَ أحياناً اعتداده بنفسه! ولمّا كان قد أَلِف أنْ يُملي كتبه ورسائله ومقالاته، فإنّ كتبه وحديثه، حين يجدّ،في مستوى واحد،كائناً ما كان ذلك المستوى.........ومن شأن الإملاء أنْ يحول دون مطّ الكلام وأنْ يجعل الجمل قصيرة،فلا تطول مسافةُ ما بين أولها وآخرها، وأنْ يُغري بالتكرير والإعادة إلى حدّ ما، كما هو الشأن في الخطابة، ومن هنا كان أسلوب الدكتور طه خطابياً.........والخطابة فنّ مختلفٌ جدّاً عن الكتابة.......إذن أنا أخرجها من عالَم الكتابة!نعم! ولا أراها إلّا خُطَباً مدوّنة.....بل أزيد على ذلك وأضيف إليه أنّها خلتْ من مزايا الفنّين جميعاً."(ص.ص٢٥-٢٦)
حكمٌ صارمٌ، ولا ريب،هذا الذي يصدره المازنيّ بحقّ أسلوب طه حسين معلِّلاً ذلك باضطرار الأخير إلى إملاء كتابه إملاءً.
ثمّ مايلبث أنْ يشرعَ في تفصيل القول في خصائص،أو عيوب، أسلوب طه حسين،فيما يرى، فيضيف:
"ولا شكَّ في أنّ أظهر عيوب مقالات الدكتور هو التكرار والحشو وما هو منهما بسبيل.وعندنا أنّ علّة ذلك ليست فقط أنّه يُملي ولا يُراجِع ما يملي، بل الأمر يرجع في اعتقادنا إلى سببين جوهريين، أوّلهما أنّ ما أُصيب به في حياته من فَقْدِ بصره كان له تأثير لا نستطيع أنْ نقدّر كلّ مداه.................وثاني هذين السببين هو أنّه أستاذ مدرّس وقد طال عهدهْ بذلك، والتعليم مهنة تعوّد المشتغل بها التّبسّط في الإيضاح والإطناب في الشرح...."(ص.٢٨)
قد يكون المازنيّ مُحقّاً فيما ذهب إليه من تأثير آفة العمى في أسلوب طه حسين، على أنّي أرى أنّه قد جانبَ الصواب في السبب الثاني؛ إذ إنِّ أستاذ الجامعة يحاضر بأسلوب تربويّ يقتضيه التدريس، ويكتب أو"يُملي" أبحاثه وفقَ أصول البحث العلميّ المعروفة لدى الباحثين! إذ إنّه؛" لكلّ مقامٍ مقالٌ"، كما هو معروف في أساسيات البلاغة!
يختتم المازنيّ مقاله النقديّ هذا بأسلوبه الساخِر المعروف،فيقول:
"قال المازنيّ: وهنا صرف الله عنّي السوء، وأذهب الشيطان، فوضعتُ القلم وأنا أحمد الله أنْ لمْ يستكتبني إلّا هذا التحليل البريء."(ص.٢٨).
مقال نقديّ حافل بالإثارة والتشويق يسعى لتقديم الرأيّ النقديّ والمعلومة الفنّية المتّصلة به بأسلوب جذّاب لا يخلو من الاستعراض والحذلقة اللفظيّة، بل والقسوة في بعض الأحيان،بما يتناسب والنقد الصحفيّ، من جهة، والمعارك الأدبية والنقديّة الشائعة آنذاك، من جهة أخرى.
أخيراً..أرجو أنْ أكون قد وِفّقت في وضع القارئ الكريم في أجواء النقد الأدبيّ، وبخاصة الصحفيّ منه، في النصف الأول من القرن العشرين، كما يتجلّى في أحد أعلامه المبرّزين إبراهيم عبد القادر المازنيّ،فقد كان ذلك أحدَ أبرز الأسباب لكتابة هذا المقال.
*- إبراهيم عبد القادر المازنيّ، قَبْضُ الريح،دار الشعب، القاهرة،١٩٧١.
**- أحمد الشايب، الأسلوب، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة،ط٥،د.ت.
***-د.صلاح فضل، علم الأسلوب، دار الآفاق الجديدة، بيروت،١٩٨٥.
- د.عبد السلام المسدّي، الأسلوبية والأسلوب، الدار العربية للكتاب، طرابلس- تونس،ط٣،د.ت.

دكتور زياد العوف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى