رولان بارت - مقتطفات من كتاب شذرات من خطاب في العشق

هذا الصباح ( في الريف ) يخيم طقس رمادي و دافئ , اتألم ( لست أدري ما السبب ) , تراودني فكرة الانتحار , دون غيظ أو ابتزاز , الفكرة باهتة , لا تقطع شيئاً , لا تسكر شيئاً , تتناسب و لون هذا الصباح ( صمت و هجران ) . في يوم آخر تحت المطر , وفيما نحن ننتظر المركب على ضفة بحيرة , انتابتني نفحة الاضمحلال نفسها , هذه المرة سعادة , هكذا يأتيني الفرح او التعاسة احيانا دون اي يتبعهما اي ضوضاء , و دون اثارة , اذوب في جلدي , اتساقط , اغرق و اتحلل , يمكن أن تعاودني دون مراسم , هذه الفكرة التي انتابتني و اغرتني وتلمستها كما نتلمس الماء بطرف القدم , هذه هي الرقة بالتحديد

***

الغياب هو غياب الآخر فقط , الآخر هو الذي يرحل وانا الذي ابقى , الآخر هو حالة ترحال ابدية , في سفر , هو مرصود للهجرة و للهرب , اما انا العاشق , المرصود بالمقابل للسكون و الثبات و الترقب , فإنني اتكوم في مكاني كرزمة في احدى زوايا محطة ما , ينحو الغياب في العشق نحو اتجاه واحد فقط , ولا يمكنه ان يفهم الا من خلال الذي يبقى وليس من خلال المسافر , لا تتألف الأنا الحاضرة دائما الا مقابل الأنت التي لا تكف عن الغياب , و يعني التعبير عن الغياب افتراض عدم استبدال موقع الذات بموقع الآخر , اي بمعنى : أحب اكثر مما أحب ( بفتح الحاء )

***

تاريخيا , رعت المرأة خطاب الغياب , لان المرأة من الحضر و الرجل صياد متنقل , المرأة وفية تنتظر , بينما الرجل متسول ينتقل و يتحرش , المرأة هي التي تعطي شكلا للغياب و تعد منه الخيال , لان لديها متسعا من الوقت , تنسج و تغني , نجم عن ذلك ان ثمة انوثة في كل رجل يروي غياب الآخر , انوثة تعلن نفسها , لأن هذا الرجل الذي ينتظر ويتألم من الانتظار يتأنث بفعل معجزة , ليس الرجل متأنثاً لأنه مثلي , بل لأنه عاشق

-***

ليس هذا الغياب المحتمل شيئا آخر سوى النسيان , ولست دائما وفياً , ان الغياب شرط لبقائي , لأنه لو لم أنس لفقدت الحياة , و العاشق الذي لا ينسى احيانا يموت من الافراط و التعب و توتر الذاكرة

***

أليست الرغبة هي دائما ذاتها مع غياب المحبوب أو حضوره ؟ أو ليس المحبوب غائبا دائماً

***

أوجه للغائب خطاب غيابه حتى اللانهاية , انه واقع لا مثيل له , فالآخر غائب كمرجع , لكنه حاضر كمخاطب , ينشأ من هذا التفاوت المنفرد نوع من الحاضر غير المحتمل , يحاصرني زمنان : زمن الارجاع و زمن المخاطبة , انت انصرفت و هذا ما اشكو منه , انت هنا بما انني اخاطبك , ادرك حينئذ معنى الحاضر , انه الزمن الشاق , قطعة صافية من القلق

***--

أحمل الآخر مسؤولية علاقاتي الاجتماعية المزيفة , و اطلب حمايته و عودته , اتمنى ظهوره ليستلني من هذا المأزق , كأم تأتي لتستعيد ولدها , من هذا البريق الزائف و من هذا التبجح الاجتماعي , ليعيد الي الالفة الدينية و اهمية عالم العشق

***

أصادف في حياتي ملايين الاجساد , ويمكنني اشتهاء مئات من هذه الملايين , الا انني لا احب من هذه المئات سوى كائن واحد , يحدد لي الآخر الذي اعشق خاصية رغبتي

***

لزمتني صدف جمة ومفاجآت عديدة وربما مساع كثيرة كي اجد الصورة الملائمة لرغبتي بين آلاف الصور , وهنا عقدة لا امتلك حلها , لماذا ارغب في فلان ؟ و لماذا ارغبه لأجل طويل و بفتور ؟ هل ما ارغبه هو كليته شكل و هيئة ؟ ام قطعة واحدة من جسده ؟ و في هذه الحالة اي قطعة تمثل لي تعويذة الرغبة ؟ و اي قطعة يمكن لها ان تصمد امام حادث ما ؟ اقصاصة ظفر , ام سن مكسور بشكل مائل , ام خصلة شعر , ام حركة فصل الاصابع اثناء الحديث او التدخين ؟ اود ان اقول عن طيات الجسد تلك : إنها رائعة , فالروعة تعني : هذه رغبتي لأنها فريدة : هوذا , هوذا بالضبط ما أحب

***

على الرغم من صعوبات حكايتي , على الرغم من الانزعاج و الشك واليأس , و على الرغم من الشوق للخلاص , لا اكف عن التأكيد لنفسي ان للحب قيمة , اصغي الى كل الحجج التي تستعملها شتى الانظمة لتبديد الاوهام , ولحصر الحب و محوه , يعني باختصار للتقليل من قيمة الحب , و مع ذلك اتشبث و أقول : انني اعرف الامر .. و مع ذلك .. , و أرجع التقليل من قيمة الحب الى نوع من الاخلاق الظلامية , او الى واقعة هزلية , و اواجه في المقابل بحقيقة قيمة الحب , اواجه كل ما هو معطل في مسار الحب مؤكدا على ما يساويه الحب في ذاته , هذا التشبث هو احتجاج العشق , ينبعث من بين مجموع الاسباب الموجبة لحب مختلف , لحب افضل , لحب دون مقابل , صوت عنيد يتمادى , هو صوت العاشق المتشبث

***

اتخلى بكل سرور عن مهام كئيبة , او عن وساوس معقولة , و عن تصرفات أو ردات فعل , يفرضها الناس لصالح عمل غير مفيد , يأتيني من واجب فاقع هو اجب الحب , اقوم خلسة بأعمال جنونية واكون الشاهد الوحيد على جنوني , يستنهض الحب طاقتي , ان كل ما اقوم به له معنى , إذا يمكنني ان اعيش دون أنين , بيد ان لهذا المعنى غاية لا تدرك , إنه المعنى التي تمتاز به قوتي

***

ثمة تأكيدان في الحب , في البداية , عندما يلتقي العاشق بالآخر , يتم التأكيد في الحال ( من الناحية النفسية : ثمة انبهار و حماس و تمجيد و تصور جنوني لمستقبل ممتلئ : تنهشني الرغبة و الدافع بأن اكون سعيداً ) اقول نعم لكل شيء و بشكل اعمى , ثم يلي ذلك نفق طويل تلتهم نعم الاولى الشكوك , ولا تكف قيمة الحب عن التعرض للهبوط , انها لحظة الوجد الحزين و صعود الغيظ والاثارة , بإمكاني الخروج من هذا النفق , وبإمكاني التغلب دون حسم على ما أكدته في المرة الأولى , و اعادة التأكيد دون تكرار , لأنني الآن اؤكد التأكيد وليس الواقعة , اؤكد اللقاء الاول في تميزه , او استعادته و ليس تكراره , اقول للآخر القديم او الجديد : لنبدأ من جديد

***

يكفي ان ارى الآخر برهة على شاكلة شيء لا حياة فيه , مصبراً , لأنقل رغبتي من هذا الشيء الملغي الى رغبتي ذاتها , انني ارغب برغبتي , ولم يعد الحبيب سوى خادم لها , اتحمس لفكرة قضية كبيرة تخلف وراءها الشخص الذي جعلت منه ذريعتها , هذا ما اقوله على الاقل , اسعد بارتقائي مقهقرا الآخر , اضحي بالصورة لحساب المتصور نفسه , ولو جاء يوم واضطررت فيه لاتخاذ قرار التخلي عن الآخر , سيكون الحديد العنيف الذي يلفني حدادا على المتصور ذاته , كانت بنية عزيزة و ابكي ضياع الحب لذاته , ليس حب هذا او ذاك !

***

يأتي الآخر الى حيث انتظر و الى حيث اخترعته , واذا لم يأت أهذي به , الانتظار هذيان

***

استل السماعة على عجل كلما رن الجرس معتقدا ان الحبيب يطلبني لان من واجبه مكالمتي , اتعرف الى الصوت بعد قليل من الجهد و أبدأ الحديث , و قد اغضب ممن ايقظني من هذياني

***

هل أنا عاشق ؟ نعم لأنني أنتظر , بينما الآخر لا ينتظر , احيانا اود تمثيل دور من لا ينتظر و احاول الانشغال في مكان آخر , و الوصل متأخرا , لكنني اخسر دائما في لعبة التمثيل هذه , مهما فعلت , اجد نفسي غير منشغل و دقيقاً بل اصل قبل الموعد , ليست هوية العاشق الحتمية سوى : انا من ينتظر

***

أقول في نفسي : قد تؤدي علامات هذا العشق الى خنق الآخر , ألا يلزم عندئذ اخفاء مقدار حبي له , تحديدا لأني احبه ؟ ارى الاخر بنظرة مزدوجة , اراه تارة عاشقاً و طوراً معشوقاً , أتردد بين الظلم و القربان , فأبتز نفسي , اذا كنت محبا للآخر فعلي ان اريد له الخير , اذن , اسيء لنفسي , محكوم علي بأن اكون قديسا او متوحشاً , لا استطيع ان اكون قديسا ولا اريد ان اكون متوحشا , أوارب إذن و أبين بعض عشقي

***

لا يمكن تناسي اي شيء من الصورة , ان ذاكرة منهكة تمنعنا من الخروج من دائرة الحب متى نشاء , اي باختصار بالسكن فيه بتعقل و حكمة , يمكنني تصور طرائق للإحاطة بملذاتي ( تحويل قلة اللقاءات الى علاقة متميزة , او اعتبار الاخر مفقودا و التمتع بمتعة القيامة في كل مرة يعود فيها ) , انه جهد لا جدوى منه , فالنحس في العشق لا يتحلل , و يجب تحمل الامر او الرحيل , لان التدبير مستحيل ( فالحب ليس جدليا و لا اصلاحيا )

***

بسبب الفرح , احيانا يختزل الانسان الى لا شيء , و هذا ما اسميه الانتشاء , الانتشاء هو الفرح الذي لا يمكننا الحديث عنه

***

طالما ان الآخر يتألم من دوني , فلماذا أتألم مكانه ؟ تحمله تعاسته بعيدا عني و ليس باستطاعتي الا ان الهث وراءه دون امل باللحاق به او بمصادفته , فلنفترق قليلا عن بعضنا ولنتعلم بعض الابتعاد , فلتخرج الكلمة المكبوتة التي تبلغ شفاه اي عاشق , اذا تمكن من تمثل العيش بعد موت الآخر : فلنعش حياتنا !

***

خرجت من السينما و أنا اجتر مشكلتي الغرامية التي لم يتمكن الفيلم من حملي على نسيانها , و في داخلي هذه الصرخة الغريبة و ليست : فلينته هذا الامر ! بل : أريد أن افهم ما يحدث لي

***

تافه ما ليس منه نتيجة في الظاهر , لكن بالنسبة لي كعاشق اتلقى كل جديد و كل ما يزعج كحدث او كعلامة يلزمني تفسيرها , من وجهة نظر العشق , تحمل الحادثة تبعة لأنها تتحول مباشرة الى علامة , العلامة وليست الحادثة هي التي تحمل تبعات الامر من خلال وقعها

***

لا يوجد في حقل العشق سلوك مخالف , لا غريزة جنسية و ربما حتى لا لذة , ليس سوى علامات فقط , ونشاط لفظي ولهان , يتمثل في كل مناسبة خفية بوضع نظام الطلب و الاستجابة

***

يتم البحث عن هدية الحبيب و اختيارها و شرائها في قمة الاضطراب – اضطراب يبدو من مصاف المتعة , انهمك في حسابات مفكرا ان كان هذا الغرض يبعث على السرور , او يخيب الظن , او بالعكس , يبدو مهما جدا بحيث يكشف بذاته حالة الهذيان او الخديعة التي كنت ضمنها , لهدية الحبيب طابع رسمي , تقودني الكناية الفتاكة التي تنظم الحياة الخيالية , فانتقل بكاملي عبر الهدية , اعطيك بهذا الشيء كليتي , ولذلك تراني في قمة الاثارة , اتنقل من حانوت لآخر , و اصر على ايجاد التعويذة البراقة و المناسبة التي تحظى برغبتك تماما

***

الحب عاجز عن التعبير عن الذات , و عن النطق , و مع ذلك فإنه يود الجهر و الصراخ و الاعلان في كل مكان , و ما ان يبدع العاشق او يصنع شيئا ما , يتملكه اندفاع اهدائه , و يود في الحال , تقديم ما ينتجه و حتى بشكل مسبق لمن يحب , ولمن اجله عمل او سيعمل , و لا تكون كتابة الاسم سوى تعبير عن العطاء

***

لا يمكنني ان اعطيك ما اعتقد اني كتبته لك , اذا لا بد لي من الخضوع لهذا الامر , الاهداء في الحب مستحيل و لن اكتفي بكتابة الاسم بلياقة اجتماعية متصنعا اهداءك عملا يتفلت منا نحن الاثنين , ليس الفعل الذي يجد الآخر نفسه فيه هو مجرد عبارة استهلالية , بل لأعمق من ذلك , انه في باطن الفعل , الاخر مسجل في داخله , سجل نفسه في النص و خلف فيه اثرا متعمدا , لو كنت في هذا الكتاب المهدي اليه فقط , لما خرجت من واقعك الصعب كشيء معشوق , لكن حضورك في النص دون تعريف ليس حضور صورة قياسية ولا تعويذة انما هو قوة لا تعرف الراحة , لا يهمني شعورك بالصمت المستمر و بانكفاء خطابك الذاتي تحت خطاب العشق الموحش , الاخر لا يتلكم , بل يدون شيئا ما في كل من يشتهيه , يؤدي ما يسميه علماء الرياضيات كارثة , ازعاج نظام بنظام آخر , نعم ان هذا الصامت ملاك

***

تتطلب آلية التبعية العاشقة سطحية دون عمق , لأنه يلزمها لكي تظهر نقية , ان تنفجر في ظروف اكثر سخرية و تصبح مكتومة لإفراطها في الجبن , ان انتظار مكالمة هاتفية هو بشكل او بآخر افراط في التبعية , يلزمني لجمها , لا احتمل ثرثراتهن في الصيدلية التي تؤخر عودتي لملازمة هذا الجهاز الذي يستعبدني , بما ان هذه المكالمة التي اخشى خسارتها ستحمل لي فرصا جديدة للخضوع , يمكن القول اني اعمل حثيثا للحفاظ على حيز التبيعة ذاتها , لإيجاد المجال لها في الممارسة , ترعبني التبعية و اكثر من ذلك , فان هذا الرعب يذلني

***

انتظر مكالمة هاتفية و اضطرب بسبب هذا الانتظار اكثر من العادة , احاول القيام بعمل ما و لا اتمكن من ذلك , اروح و اجيء في غرفتي , كل الاشياء التي تسليني عادة , الاسطح الرمادية , وضجيج المدينة , تبدو لي كلها جامعة و منفصلة و مصعوقة ككوب خاو و كطبيعة لم يسكنها انسان

***

لا يمكنني ان اكتب ذاتي , و من هي هذه الذات التي تكتب ذاتها , وكلما توغلت الذات في الكتابة حجمتها الكتابة و جعلتها في حالة عبثية

***

يجب ان يعلمني احدهم ان ليس باستطاعتنا الكتابة دون اعلان الحداد على صدقنا

***

ان ادرك بانني لا اكتب للآخر , وبان هذه الاشياء التي سأكتبها لا تجعل من احب يحبني , وبان الكتابة لا تعوض شيئا و لا تمجد شيئا , وانها تحديدا في مكان لست فيه , تلك هي بداية الكتابة

***

على الرغم من ان كل حب يعاش يعتبر حبا فريداً , وان العاشق يطرد فكرة تكراره فيما بعد و في مكان آخر , يفاجأ احيانا في ذاته بنوع من انتشار الرغبة في العشق , و حينئذ , يدرك انه مرصود للتيه حتى الموت , من حب إلى حب آخر

***

حكم على الهولندي الملعون ان يتوه في البحر طالما لم يجد امرأة وفية الى الابد , انا ذاك الهولندي الطائر , لا يمكنني ان اكف عن التشرد و عن الحب , وذلك بموجب علامة قديمة رصدتني منذ طفولتي الاولى لغله خيالي , فارضة علي كلمات , قادتني الى قول احبك , من محطة الى محطة , الى ان يتمكن احدهم من التقاط هذه الكلمة و اعادتها الي , لكن ليس باستطاعة احد ان يتحمل الجواب المستحيل , ويتواصل التشرد

***

يقرر العاشق التخلي عن حالة العشق فيجد نفسه بشكل حزين منفيا من مخيلته

***

أفلا يمثل لك شيئا ان تكون عيداً لشخص ما

***

نظن العاشق مجنونا , ولكن هل يمكننا ان نتخيل مجنونا عاشقاً ؟ كلا ! فليس لي الحق الا في جنون واحد , جنون هزيل و ناقص و مجازي , هو الحب يجعلني كالمجنون دون ان يمكنني من التواصل مع ما يفوق الطبيعة ,فليس لدي شيء مقدس , ان جنوني هو مجرد غباء , انه سطحي و خفي , جيرته الثقافة , لا يخيف , اكتشف بعض الاشخاص الرزينين فجأة , ان الجنون قائم و ممكن وقريب في حالة العشق نفسها , جنون يغرق فيه العشق نفسه

***

الاحظ مثلاً , انني امثل بالنسبة لفلان , ما يمثله فلان آخر لغيره , كل ما يمكن ان يقال لي عن الفلان الآخر يصيبني في الصميم , على الرغم من عدم اكتراثي بشخصه و حتى عدم معرفتي , فأنا اسير مرآة متنقلة تلتقطني حيتما توجد بنية مزدوجة . ثمة ما هو اكثر سوءا : اذ من الممكن ان يعشقني من لا اعشق , وبدلا من ان تساعدني هذه الحالة بما تتضمنه من تشجيع او ما يمكن ان تشكله من تعويض , فإنها تؤلمني , ارى نفسي في الاخر الذي يعشق دون ان يكون معشوقاً , من خلاله اتبين دلالات شقائي نفسها , لكني هذه المرة عامل الشقاء النشط , اجد ذاتي ضحية و جلادا في آن

***

اجد نفسي اسير التناقض التالي : فمن جهة اعتقد بأنني اعرف الاخر اكثر من معرفتي لأي كان , واؤكد له ذلك مزهوا , انا اعرفك ولا احد يعرفك اكثر مني , و من جهة ثانية تسيطر علي مسلمة مفادها : ان الاخر عصي على الفهم لا يمكن معاينته او الامساك به , لا يمكنني كشف كنهه , او التوغل في اصوله و فك رموزه , من اين اتى ؟ من هو ؟ ارهق نفسي دون ان اعرف ذلك ابداً

***

ليس صحيحا انه اذا احببنا الاخر اكثر فهمناه بشكل افضل , ما يحصل عليه الحب مني فقط هذه الحكمة

***

ان ما اريده هو كون صغير بزمنه و منطقه الخاص نسكنه نحن الاثنين , يشكل كل ما يتأتى من الخارج تهديدا , اما بشكل ممل اذا ما كنت مضطرا للعيش في مكان يغيب عنه الاخر , او بشكل جرح اذا نقل الناس من حولي كلاما يفشي سرا عن الآخر

***

كغيور تراني اتألم مرات اربع , اولا لأنني غيور , وثانيا لأنني الوم نفسي على كوني هكذا , وثالثا لأنني اخشى ان تجرح غيرتي الاخر , و رابعا لأنني استسلم لأمر تافه , أتألم لأنني مستبعد و عدائي و مجنون و عادي

***

لعبارة احبك استعمالات مختلفة , لا تخضع هذه العبارة ككلمة طفل لأي ضغوطات اجتماعية , يمكنها ان تكون كلمة سامية مهيبة ورشيقة , كما يمكنها ان تكون شهوانية و خلاعية , انها عبارة متحركة اجتماعيا

****

لعبارة انا احبك اجوبة لياقة اجتماعية عديدة , انا لا احبك , لا اصدق هذا , و لماذا تقول ذلك , لكن الرفض الحقيقي هو اللاجواب , فانا مرفوض حتما , اذا ما رفضت ليس كذات طالبة فحسب , بل كذات متكلمة , فالمقصود بالرفض هو كلامي , اي آخر خبايا وجودي و ليس طلبي, فبالنسبة للطلب بإمكاني تجديده و الانتظار و تقديمه ثانية , لكن حرماني من امكانية السؤال يجعلني ميتا الى الابد

***

ماذا يعني ان نفكر في شخص ما ؟ يعني ان ننساه , لأنه لا حياة ممكنة دون نسيان و ان نستفيق فجأة من هذا النسيان , تعيدك اشياء كثيرة بتشابكها الى خطابي , لا تعني عبارة افكر فيك سوى هذا المجاز , فهي في حد ذاتها خاوية , لست مادة لتفكيري , انني استحضرك وفق ايقاع نسيانك , اسمي هذا الشكل فكرة , لا شيء عندي اقوله لك سوى ان هذا الشيء لا اقوله الا لك !

***

لماذا أعود ثانية للكتابة ؟ عزيزتي , يجب ان لا تطرحي اسئلة بمثل هذا الوضوح , لأنني في الحقيقة ليس لدي شيء اقوله لك غير ان يديك العزيزتين ستتلقيان هذه الورقة

***

لا يتحمل العاشق ان يكون احد اهم منه , او مساويا له في نظر المعشوق , ويسعى الى الحط من شأن كل غريم , يبقى المعشوق بعيدا عن علاقات عديدة , ويجهد نفسه بآلاف من الخدع الفظة لإبقائه في حالة من الجهالة , بحيث لا يعرف الا ما يأتيه عبر المعشوق , يتمنى سرا ان يخسر المعشوق اعز ما لديه , اباه و امه و اهله و اصدقائه , ولا يريد العاشق ان يكون للمعشوق بيت او اولاد , فحضور العاشق اليومي مرهق , ولا يقبل بان يبتعد عنه المعشوق ليلا او نهارا , على الرغم من كون العاشق مسنا و هذا ما هو مزعج في حد ذاته , فانه يتصرف كشرطي مستبد و يخضع المعشوق بخبث طيلة الوقت لعمليات تجسس مشككة ولا يتورع عن ان يكون جاحدا و خائنا فيما بعد و مهما كان راي العاشق بهذه الامور , تطغى على قلبه المشاعر السيئة , لا يتصف عشقه بالشهامة

***

عندما ابكي اريد ان اؤثر على احد ما , و ان اضغط عليه , انظر ماذا فعلت بي , لعل و هذا ما يحصل عادة , نريد ان نرغم الاخر على اظهار عطفه و عدم حساسيته بوضوح , و لكن لعلي ايضا ارغم نفسي , اجعل نفسي تبكي لأبرهن لها على ان المي ليس وهما , فالدموع علامات وليست عبارات , من خلال دموعي اقص رواية , اصوغ اسطورة الالم , وعندما اتكيف , استطيع ان اعيش معها , لأنني عندما ابكي اعطي لنفسي فرصة مخاطبة شخص عظيم يستقبل اصدق الرسائل , رسائل جسدي , وليست رسالة لساني , ما اهمية الكلمات امام دمعة واحدة اكثر تعبيراً ؟

****

بالنسبة لي هناك قيمة عليا , انها عشقي , لا اقول ابدا في نفسي ما جدوى ذلك , فلست عدميا , لا اتساءل عن الغايات , ولا يوجد في خطابي الرتيب سوى لماذا واحدة وهي نفسها دائما , لماذا لا تحبني ؟ و كيف يمكن الا نعشق هذا الانا الذي يحوله العشق الى كائن كامل كثير العطاء و يسعد ؟ سؤال ملح يطرح نفسه حتى بعد انتهاء المغامرة العشقية , لماذا لم تحبني ؟ او أيضاً : آه , قل لي يا حبيب قلبي , لماذا هجرتني ؟

***

ماذا نسمي هذا الشخص الذي يتشبث بالخطأ مقابل العالم كله ؟ وكان امامه الابدية ليخطئ ؟ نسميه مرتدا ؟ فمن عشق لآخر او في العشق نفسه , لا اكف عن السقوط في عقيدة داخلية لا احد يتقاسمها معي

***

كنا اصدقاء و اصبحنا غرباء , الواحد منا عن الاخر , انه امر جيد , لا نسعى لحجبه عن انفسنا , ولا لإخفائه كما لو كنا نخجل منه , كسفينتين تتبع كل منهما طريقها و هدفها الخاص بها , هكذا و من دون شك بإمكاننا الالتقاء و المشاركة في احتفالات الاعياد , كما كنا نفعل آنفا و عندما تكون السفن راسية جنبا الى جنب في المرفأ نفسه , تحت الشمس هادئة و كأنها بلغت الهدف , وكانت الوجهة نفسها لكليهما , لكننا فيما بعد , نجد انفسنا من جديد مدفوعين بنداء المهمة الذي لا يقاوم , لا يكون واحدنا بعيدا عن الاخر , في بحار و في اتجاهات مختلفة و تحت شموس مختلفة , ربما كي لا نلتقي ابدا او ربما لنلتقي مرة اخرى و دون ان يتعرف واحدنا على الاخر , لعل غيرتنا تكون بحارا و شموسا مختلفة



* منقول


.
صورة مفقودة

Theodoros Rallis, Interior church

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى