محمد الراوي - وردة راعية الغنم

(1) ولما ابتسمت لي نبتت في جرحى وردة

كنت أحاول أن أتجنب الألم ..
لكن الألم لم يحاول مرة واحدة أن يتجاهلني .
تمنيت في لحظات الشدة أن أحيا وأعيش متخليا عن جسدي..
ولكن كيف أعيش شفافا بين الناس وهم لا يرون إلا كل متجسد؟

في يوم من أيام الألم ، كنت أنتظر طلوع الشمس من وراء زجاج النافذة. في الحقيقة كنت أنتظر منذ وقت طويل، وأنا أزحف واقفا داخل حجرتي وفقرات ظهري تشدني إلى أسفل حتى الركوع، فأشعر بالحريق وهو يلتهم أعصابي فأعلق ساقي في الهواء فيما أنا أحاول أن أبحث عن أقرب جدار أستند إليه، كاتما صرخة الألم التي لا أود أن يسمعها أي إنسان قريبا منى .
السماء سوداء ونجومها مطفأة، فعيناي تعجزان عن رؤية الضوء في كل مرة تهاجمني فيها الآلام الأعصاب حينما تضغط عليها فقرات ظهري. لا الليل يريد أن يذهب ولا الشمس تريد أن تطلع .
هل الشمس تطلع عندما يستيقظ الناس ؟
أم أن الناس تستيقظ عندما تطلع الشمس ؟

في يوم من أيام الألم نمت، لكنى استيقظت قبل حلول الفجر ورأيت أمامي أفكاري مكتوبة على ظلام حجرتي. كانت أفكارا رائعة مكتوبة بلغة رهيفة وجميلة ، تسطع كأنها نور، وان كانت حزينة . وددت لو كان بقربي قلم وورقة حتى أسجل هذه اللحظة، في نفس الوقت كنت عاجزا عن الحركة بعيدا عن فراشي فآثرت الانتظار حتى الصباح محتفظا بهذه الأفكار بين جفوني .
في الصباح تذكرت آلامي التي استيقظت معي، أما أفكاري فقد أصبحت ذكرى نسيت معظمها وان كان أثرها ما يزال يملأ وجداني كما تملأ الدموع عيني . لم تكن دموع الألم ولكنها دموع الشعور بالعجز،فالألم النفسي هو الذي يدفعني أكثر إلى البكاء . ولم اكتشف خلال رحلتي في الحياة أن هناك كثيرا من المواقف والمشاهد تجعل عيني تدمع ، أحيانا ما أجهش بالبكاء، ولم أعرف حتى الآن أسباب ذلك . كنت أشعر بالخجل في المرات الأولى التي كان يباغتني فيها البكاء، لكنى تعودت فيما بعد أن أتحكم في شعوري بالخجل وأن أطلق لعيني البكاء ..هكذا .
قال الجراح: كنت ستفقد السيطرة على البول لو تأخرت أسبوعا واحدا عن إجراء العملية.
بعد ساعات..أصبح في جسدي جرح.
ـ الألم الجسدي لا يقتل حتى لو فقدت بعض أعضائك..قال الجراح.
ـ الألم النفسي يقتل لأنه يقضى على كل أعضائك..جسدك..قال الجراح.
أصبحت محصورا داخل جسدي وداخل حجرتي، ولم تستطع كتبي التي تحيطني من كل جانب أن تخرجني من شعوري المؤلم بهذا الحصار ، وهو في نفس الوقت شعور بالعجز . كانت كتبي تناديني من مكانها فوق الرفوف ومن فوق المكتب، لكن بلا جدوى فالحصار الشامل أذى كنت أعيش فيه أيامي امتص قواي الروحية والجسدية وكاد يقتل رغبتي في الحياة..فما بالك بالكتب والكتابة رغم أنى أتمنى ألا أموت وهناك ما أرغب في قراءته.


خرجت إلى الشارع بخطوات متعثرة. كنت أسير ببطء ثم أتوقف ناظرا حولي وأنا أتساءل مع نفسي هل سأعود إليك واثق الخطوة..أم ؟ عندما هممت بالصعود فوق الرصيف وجدته مرتفعا أو هكذا خيل إلىّ. لي مواقف مع الأرصفة..ففي أوج محنتي جلست مرارا على الأرصفة عندما كانت تخونني قدرتي على السير، ومن قبل تعثرت في رصيف فانكفأت على وجهي وسمعت من يقول ( اسم الله عليك) فبكيت ولم أعتدل إلا بعد فترة . لم أشعر من قبل أن الرصيف يشكل عقبة بالنسبة إلى تحركاتي في أي مكان..فما بالك بأرصفة هذه الأيام .
انتظرت طويلا أمام الرصيف، سرت أمامه جيئة وذهابا لعلني أجد ثغرة أصعد منها إليه لكن بلا جدوى، ولأول مرة في حياتي مددت يدي لأحد المارة أطلب منه أن يعينني على صعود الرصيف . شعرت في البداية بالخجل والعجز والرغبة في البكاء، لكن بعد صعودي إلى الرصيف فرحت وابتسمت..فها أنا فعلت شيئا بمعاونة إنسان آخر، إنسان لا أعرفه ، إنسان ما كان يلفت نظري وأنا أسابقه لأرتقى الرصيف والوصول إلى غرضي .
خرجت صباحا إلى الشمس، تدثرت بسترة ثقيلة وخرجت إلى الشمس في فناء البيت. لم يكن هناك أي أحد لذلك خرجت إلى الشمس وتحركت ذهابا وجيئة في الأمتار القليلة الممتدة أمامي محاولا أن أتغلب على صلابة ساقي وآلامها .
فيما أنا أحاول كتم إحساسي بالألم ، مرت من أمام مدخل البيت فتاة سمراء ذات عنق ملفوف طويل، كان ظهورها في حد ذاته حدثا كبيرا إذ لا أحد يعبر من هذا المكان في هذا الوقت المبكر . التفتت نحوى فاعتبرت أن هذه الالتفاتة نوع من التحية العفوية. وفيما أنا انتظر أن تواصل سيرها البطيء مبتعدة عن مكاني إذ بي أفاجأ بها تدخل فناء البيت وتتجه نحوى .
تجمدت في مكاني منتصبا دون حركة اللهم إلا عينان شرهتان تركزت فيهما حب الحياة رغم الانكسار. ولما تفرست الفتاة في ملامحي المعذبة ابتسمت ولوحت لي بالسلام، فكتمت آهة ألم كادت تخرج من فمي لأرد لها التحية وأنا أحاول الابتسام .
قالت : هل أنت مريض ؟
قلت : إنني في طريقي للشفاء..تفضلي ..من أنت؟
ـ لم أرك منذ زمن طويل، كنت أراك عند خروجك في مواعيد تكاد تكون محددة..
ـ كنت تريني! إن وجهك ليس غريبا عنى، لكن لم يسبق لي التعرف بك ..تفضلي .
ـ إنك لم تر وجهي .. هذا لا يهم ..الست الأستاذ محمد الراوى؟
ـ ومن أين عرفت اسمي؟
ـ إن الذي يتكلم أمامي هو الكاتب محمد الراوى ..لقد عرفت اسمك لما رأيتك ، أقصد صورتك المنشورة في الجريدة التي تكتب فيها .
ـ هل أنت تقرئين هذه الجريدة؟
ـ كل شهر ..ولما رأيتك عرفت اسمك ..
ـ هل أنت تسكنين قريبا من هنا ؟
ـ لا..إنما آتى إلى هنا صباحا في الوقت الذي تكون أنت فيه خارجا من البيت.
ـ لكنني لم أرك من قبل ..على الأقل كنت ستلفتين نظري بوجودك في الشارع .
ـ كنت الفت نظرك، وكنت أنظر إليك دون أن تشعر بي .
ـ كيف لا أشعر بنظراتك وليس في طريقي أحد إلا أنت ..غير معقول ..تفضلي .
قالت وهى تبتسم : يا أستاذ محمد ما الذي يلفت نظرك يوميا عند خروجك؟
ـ لا أحد ..لا شئ سوى البيوت والبحر.
ـ أليس هناك أي شئ آخر ؟
ـ أي شئ آخر ..لا شئ سوى قطيع من الغنم وراعية ترتدى جلبابا أسود وتغطى وجهها بلثام لا أرى منه سوى عينيها ..
قالت : أنا تلك الراعية .
قلت صائحا : معقول ..أنت راعية الغنم ..أين رداؤك الأسود وأين هذا اللثام الذي يغطى رأسك ووجهك..وأين قطيع الغنم ؟
ـ أنا اليوم في أجازة، وعندما أكون في أجازه لا أرتدي تلك الملابس كما ترى، ولا أصحب قطيع الماعز معي ..لقد أتيت هذا الصباح وحدي عسى أن ألقاك فقد ساورتني الشكوك بأنك في محنة أو مرض وجئت لأتحقق من ظنوني .
ـ وماذا وجدت؟
ـ لقد تحقق إحساسي فأنت فعلا مريض وهذا سبب كاف لاختفائك طوال الفترة الماضية رغم أنك لم تنقطع عن الكتابة في الجريدة .
ـ أنا آسف لأني لم أتعرف عليك من البداية ..
ـ كيف حالك الآن وما الذي كان يؤلمك ؟
ـ قبل أن أحكي لك أود أن أقول لك أن الذي يراك في تلك الملابس لن يتخيل أنك أنت التي تقفين أمامي بملابس أنيقة ووجه مريح وشعر أسود ناعم ..اسمحي لي يعنى ..
ـ وماذا أيضا ؟
ـ ثم إنك تقرئين..
ـ يا أستاذ محمد أنا معي ثانوية عامة وفضلت أن أرعى الغنم مع أسرتي، أنا لا أعمل في وظيفة هذا إذا كانت هناك وظيفة موجودة..هيا أحكي لي ما كنت تشكو منه..
ـ كنت أعاني من غضروف لعين في ظهري ، أجريت عملية وعانيت كثيرا من الألم الجسدي والشعور بالعجز، لكن هذا لم يعد مهما الآن فالألم الجسدي لا يقتل إلا إذا استولت مشاعر العجز على الروح ..الألم النفسي هو الذي يقضى على الروح ويخرجها من الجسد..
ـ أية آلام نفسية يا أستاذ محمد؟
ـ هل تريدين أن تعرفي كل شئ عنى من أول لقاء؟
ـ رغم أنى أتحدث معك للمرة الأولى إلا أنه ليس اللقاء الأول ..
ـ محنة قديمة مضى عليها الزمن وأخشى أن تعود هذه الأيام ..نحن الكتاب عندنا مرض يصل لحد أن يأكل المريض لحم أخيه نيئا ..أكاد أكف عن الكتابة ..
قالت تقاطعني : إنك تبكى يا أستاذ محمد..
ـ لم يعد البكاء يخجلني ..هل أنا أبكى ؟
اقتربت منى قائلة : هل تسمح لي يا أستاذ ..
وفيما أنا أنظر إليها متسائلا اقتربت منى وقبلتني في خدي قبلة رقيقة سريعة..
ـ أتركك الآن وسأراك مرة أخرى .
ناديت عليها وهى تعطيني ظهرها، وحينما التفتت نحوى صحت : لكن ما اسمك أنا لا أعرفه ؟
ـ أسمي وردة .
عدت إلى حجرتي واستلقيت في فراشي دون ألم ، ولما أفقت من نومي رأيت وردة تنبت في جرحى .


( 2) دخلت وردة مكتبتي..فتعطرت الكتب برائحة العشب

في صباح يوم من الأيام تناولت فطوري ثم دخلت إلى المكتبة ومعي فنجان من القهوة المضبوطة صنعتها على نار هادئة. فتحت باب الشرفة الأرضية التي تطل على الحديقة الخلفية. كان الجو جميلا ، أحسست بالانتعاش بعد أن شعرت بالهواء البارد يتسلل إلى حجرة المكتبة .
قلت في نفسي لا بد أن أنجز شيئا من أعمالي الكثيرة التي تراكمت على مكتبي خلال مرضى وإجراء عملية الغضروف . أمامي كتاب قرأت نصفه يجب أن أنتهي منه وأكتب عنه مقالا، وبعض الموضوعات الأخرى التي في حاجة إلى مراجعة .
وفيما أنا مستغرق في الكتابة ، تسللت إلى أذني أصوات أعرفها جيدا..إنها حوافر المعيز على إسفلت الطريق وقد أخذت في الاقتراب من حديقة بيتي ..إذن فوردة هنا. لم أرها منذ الزيارة الأولى التي مضى عليها أسبوعان تقريبا.
يبدو أن القافلة توقفت أمام باب الحديقة ، فلم أسمع إلا مأمآت المعيز في الخارج. قمت وفتحت الباب فرأيت وردة في رداء الرعاة وعينيها من خلف لثامها الأسود تبتسم لي، فأيقنت أن مهما كانت ملابسنا نحن البشر مختلفة فان للابتسامة المعنى نفسه. أشرت لها بذراعي بأن تدخل إلى الحديقة فهزت رأسها متسائلة، فقلت لها بصوت تسمعه: تعالى يا وردة أدخلي .
فتحت وردة باب الحديقة ودخلت ولكنها لم تدخل وحدها فقد تبعتها قافلة المعيز مندفعة نحو العشب الذي يكسو أرض الحديقة . أشارت بيدها ووجهت كلمة إلى القطيع لم أفهم معناها ثم اقتربت من باب البيت فدعوتها للدخول. ترددت برهة ثم وكأنها قررت فتبعتني إلى الصالة ومنها إلى حجرة المكتبة .
بدخول وردة إلى المكتبة تغير المشهد تماما واتخذ أبعادا غريبة ومدهشة لم أكن أتوقعها . وقفت وردة وسط الحجرة وهى تتطلع إلى رفوف الكتب التي وصلت إلى سقف السقف، وقفت بردائها الرعوي الأسود المزين بمربعات سوداء محاطة بخطوط بيضاء وتتناثر على الثوب ورود ضاربة إلى الحمرة ، فيما بدت عيناها الواسعتان مكحلتين من فوق طرف اللثام الذي يلتف حول رأسها .
بدخول وردة إلى المكتبة تغير كل شئ في عيني وامتص كيانها الطبيعي كل ما تحتفظ به الكتب من بريق المعرفة المحفوظة بداخلها وانتشرت رائحة العشب الطازج المندى المنبعث من ملابسها وجسدها فيعطر الجو برائحة جميلة نقية. اختلط علىّ الأمر، وفيما هي تدور ببطء شديد حول الجدران المحملة بالرفوف المثقلة بالكتب ، تساءلت عما إذا كانت وردة شخصية حقيقية أم هي من نسيج الخيال ، شخصية روائية تفرض نفسها لأكتب عنها. يبدو أنى أنا الذي أصبحت سجين خيالي فأحول كل ما أعيشه من واقع إلى خيال ، وكان للواقع هذه المرة ثقل يفرض نفسه حتى على أعظم الأفكار والتخيلات .
عندما انتهت وردة وهى صامتة من تفحص المكتبة واجهتني قائلة ..
ـ لم أر في حياتي مكتبة بهذا الحجم .
لاحظت شفتيها من خلف اللثام وهى تكلمني وعيناها مثبتتان في عيني، يبدو أنها أدركت ذلك فمدت يدها وأنزلت اللثام إلى صدرها فظهر وجه وردة الذي أعرفه ورأيته أول مرة في الشرفة .
قالت وردة ـ عندي بعض الكتب والمجلات ..أقصد كان عندي منها أعدادا غير قليلة..
قلت لها ـ تقولين كان فأين ذهبت الكتب والمجلات ؟
ـ التهمتها المعيز..أقوم في الصباح لأطعمها فأجدها منهمكة في أكل الكتب والمجلات ، حتى لو أخفيتها فإنها تشم رائحتها فتبحث عنها حتى تعثر عليها.
ـ كان يجب أن تحتفظي بالكتب في حجرتك، في أي مكان أمين.
ـ يا أستاذ إن المعيز تكاد تعيش معنا وانتقالها من الحوش إلى الغرفة التي أنام فيها يعتبر شيئا عاديا لا مشكلة فيه.
صمتت قليلا ثم واصلت: كيف حالك الآن؟ أراك في حال أحسن..
ـ الحمد لله لقد انتهت الأزمة وأمارس نشاطي بشكل طبيعي..لماذا لا تجلسين؟
ـ لأنك واقف ..
ـ لنجلس معا على هذين المقعدين..

تواجهنا، تذكرت لوحات محمود سعيد التي أعلق بعضها في مكتبتي خاصة لوحة “ذات الهفهاف” أو ” ذات الرداء الأزرق” ، لكنهن كن نساء بلديات ولسن بدويات أو رعاة غنم كوردة التي تجلس أمامي رغم أنه ليس من المعتاد أن نرى بدوية تجلس على مقعد . فاجأتني وهى تقول لي: أنت تتفحصني يا أستاذ محمد..
قلت مضطربا : إنني مأخوذ بوجودك في مكتبتي، في عالمي الخاص جدا يا وردة .
ـ لا تتضايق منى..
ـ بالعكس يا وردة أنا سعيد جدا,,لكنى كنت أقارن بين وردة التي زارتني أول مرة بثوب عادى ووردة التي أمامي بثوبها الذي يعطيها طابعها الخاص .
قلت لها بعد لحظة صمت قصيرة : لم يسعني الوقت لأتعرف جيدا على وردة الأولى فإذا بوردة الثانية تظهر لي .
ـ هل تحب أن تتعرف أكثر على وردة الأولى.. إذا رغبت في ذلك فسأحقق رغبتك الآن..
ـ الوردتان عندي سيان فلكل وردة رائحتها وهيئتها ولكن كيف ستحققين رغبتي الآن إذا أردت أن أرى وردة الأولى ؟
ـ لو سمحت أغمض عينيك ومن الأفضل أن تستدير إلى الناحية الأخرى للحظة وسأريك وردة الأولى حسب رغبتك .
ولما فعلت وأعطيتها ظهري سمعت حفيف ثوبها واحتكاك خفها في قدميها على السجادة وحبات الخرز في عقدها الملتف حول رقبتها الطويلة وأساورها العاجية في ذراعيها وهى تتلاطم ببعضها البعض، ثم صوت ضربات من يديها على أجزاء من جسمها. سمعت صوتها يقول لي : استدر ..لقد انتهيت .
ولما واجهتها وجدت أمامي وردة التي رأيتها في حديقة البيت بجلبابها الذي كانت ترتديه أول مرة فيما عدا شعرها الذي التصق برأسها وغير مهيأ للاستقبال من تأثير اللثام الذي كان يلتف حول رأسها ويغطى وجهها وينسدل على صدرها .
قالت لي وأنا أنظر إلى هيئتها الجديدة: الآن أصبحت حريصة عند خروجي أن أرتدي هذا الثوب من أجلك..أقصد لربما ألقاك صدفة .
رأيت حمرة الخجل تسرى في وجنتيها فقطعت عليها الإحساس بالحرج وقلت لها ـ هذا جميل..لكن ما أدراك بأني أريد دوما رؤية هذا الثوب..إن ثوب الرعي الذي تحت قدميك أحبه أيضا فهو يشعرني بأني مع وردة راعية الغنم كما هي في ذهني .
ارتسمت ملامح الحزن على وجهها فخشيت أن أكون غير موفق في كلامي معها
قالت ـ إنك تفضل ثوب الرعي ..سألبسه ثانية من أجلك .
قمت من مقعدي واقتربت منها قائلاـ لا تكوني حساسة إلى هذا الحد..إنك موجودة أمامي وهذا يكفيني سواء كنت بهذا الثوب الذي عليك أو هذا الثوب المخلوع ..أرجوك يا وردة .
فابتسمت وفوجئت بكفها يلمس كفى لمسة سريعة .
قالت ـ لا تعتب علىّ يا أستاذ.. محمد..فأنا إذا أردت شيئا أقول أريد وإذا أردت أن أفعل شيئا أفعله دون تردد.
وردة تحدثني عن نفسها :
إحنا ناس بسطاء وهذا لا يعنى أننا فقراء فليس كل بسيط فقير هل توافقني على هذا يا أستاذ..محمد؟ ممكن تقول إن حياتنا بسيطة نكتفي بالضروري الذي يناسب حياتنا في كثير من الظروف مثلا ليس عندنا حجرة لكل واحد في العيلة إنت عندك حجرة مخصصة للكتب وحجرة نوم أو اثنين وحجرة صالون وأنتريه إنني أعيش في بيت من حجرتين ممكن تقول حجرة للبنات وواحدة للصبيان والأم والأب يناموا في الحجرتين حسب الأحوال وهذا لا يتوفر إلا للناس البسطاء المستريحين لأن فيه ناس غيرنا يعيشون في حجرة واحدة في الحوش تعيش معنا أكثر من عشرة معزات وخروف غير الحمار وعشة الفراخ والبط كلهم في الحوش .
لا تزعل منى يا أستاذ ..محمد أنا محظوظة لأن معي الثانوية العامة معظم الأولاد في الكفر عندنا لا يكملون تعليمهم بعض الناس بيقولوا علينا لصوص وخائنين وبعضهم بيقولوا علينا ناس نوَر ونور يعنى حرامية لسنا رقاصين ولا مغنيين مثل بقية الغوازي والغجر إحنا بدو أصلنا عرب لكننا مصريين كان لازم يا أستاذ محمد تعرف كيف نعيش الكاتب الذي يكتب في كل شئ لازم يعرف كل الحياة يمكن إحنا لا فأنتم لا تعرفون كثيرا عن حياتنا ولا كيف نعيش تعرفون المظاهر فقط إحنا نعيش قريب منكم قل يا أستاذ..محمد كم مرة ذهبت إلى كفرنا لترى وتعرف ما لا تراه ولا تعرفه تعجبك وردة راعية الغنم لكنك لا تدرى كيف تعيش لا تزعل منى البدو لما يتكلموا لا يعرفون اللف ولا الدوران وأنا عارفة إن كلامي لن يزعلك .

أخذت أستمع إلى وردة منجذبا أكثر إلى كلامها ورنته المحببة في أذني التي تمتزج فيها اللهجة البدوية باللهجة البلدية والصعيدية. توقفت وردة عن الكلام وأخذت تتنصت وهى تقترب من باب الشرفة التي تطل على الحديقة الخلفية ..
قالت ـ ألا تسمع؟
ولفتت انتباهي وهى تشير إلى الخارج. رأيت المعيز في الحديقة الخلفية منكسي الرؤوس يلتهمون ما يجدونه في الأرض من حشائش وغيرها من الفضلات.
قالت ـ إن نوسة تناديني .
ـ نوسة..من هي نوسة التي تناديك يا وردة؟
ـ نوسة ألا تعرفها..إنها معزتي المحببة والتي لا تفترق عنى أبدا..إنها قلقة لغيابي وتناديني.ألا تسمعها ؟
كنت أسمع من حين لآخر صوت مأمأة المعيز في الخارج لكنى لم ألحظ شيئا غير عادى. اقتربت وردة من باب الشرفة ورفعت ذراعها فإذا بمعزة صغيرة تصعد الدرج وتقف على الجانب الآخر من الباب وأخذت تمأمىء بصوت رفيع حاد. التفتت وردة إلى قائلة : هل تسمح لي بإدخالها إلى المكتبة ؟
ـ هل تريدين إدخال هذه المعزة إلى هنا ؟
هزت رأسها بدلال مبتسمة .
ـ إذا كانت هذه رغبتك فإنني أحققها لك مثلما فعلت معي منذ قليل وأشرت إلى ثوبها الأسود الذي ما زال ملقيا على الأرض بجوار المقعد الذي كانت تجلس عليه.
أشارت وردة إلى المعزة نوسة وأفسحت لها لتدخلها إلى المكتبة فكفت نوسة عن المأمأة وهى ترفع رأسها الصغير وترمقني وتهز ذيلها القصير هزات سريعة ، وعندما عادت وردة للجلوس رقدت المعزة نوسة عند قدميها محملقة في ألوان السجادة المفروشة على الأرض .
رأت وردة ديوان لنزار قباني فوق المكتب فتناولته وقلبت في صفحاته وهى تقول
ـ إن قصيدة بلقيس لنزار قباني هي أول قصيدة أقرأها لنزار والتي نشرتها في الجريدة..أعرف نزار من أغاني نجاة الصغيرة ..كنت صغيرة في ذلك الوقت وكانت الأغاني العاطفية تثير أحاسيسي في داخلي..لا أعرف ما هي لكنى كنت أحلم بها كثيرا وكنت أحتفظ بهذه الأحلام لنفسي لكنى بعد ذلك بسنوات تعرفت على قصائد نزار بصوت كاظم الساهر وهو يغنيها فتلقيتها بأحاسيس مختلفة أكثر فهما ونضجا.
ـ وقصيدة بلقيس ..بلقيس الراوى ..هل أعجبتك ؟
ـ تأثرت جدا بقصيدة بلقيس رغم أن بالقصيدة كلاما عن العرب وهذا لا يصح في قصيدة عاطفية أقصد يا أستاذ رومانسية .
ثم أضافت : هل هي أختك ؟
ـ من ؟
ـ بلقيس الراوى ..
ـ كنت أتمنى..اسم الراوى منتشر في الجنوب العراقي وفى جنوب مصر ..والمفروض أن تكون قصيدة بلقيس رومانسية ، لكن ظروف مقتل بلقيس زوجة نزار جعلت من القصيدة شيئا آخر غير الرومانسية التي تتعلق بمشاعر الرجل نحو المرأة التي يحبها .. حقيقة أن نزار كتب كثيرا من الأشعار العاطفية والخاصة بالمرأة بالتحديد لكن الأحداث الكبرى في وطننا العربي وما يفعله الصهاينة بالفلسطينيين جعله يخاطب العرب بأشعار غاضبة مؤلمة، كان شاعرا غيورا على وطنه..أنت لم تقرأى قصائده ..أليس كذلك؟
قالت وردة ـ أنا قرأت قصيدة بلقيس كاملة في الجريدة أما قصائده عن المرأة فلا أعرف منها إلا التي تحولت إلى أغاني
ـ سأعطيك بعض دواوين نزار التي تكلم فيها عن المرأة والعرب أيضا، وخلال الشهور القادمة سوف انشر لنزار قصيدته الثانية التي كتبها عن بلقيس واسمها 25 وردة في شعر بلقيس .
قالت وهى تشير إلى نفسها ضاحكة : لماذا لا تكون قصيدته 26 وردة في شعر بلقيس ؟
أضافت وردة : هذا ما كنت أريده منك..ليس بالنسبة إلى نزار فقط بل للشعراء والأدباء الآخرين..أنا لم أشتر كتبا منذ فترة طويلة، فقط المجلات وبعض الصحف .
ـ بشرط أن تحرصي عليها بعيدا عن معيزك
ملأت وردة المكتبة بضحكتها فظهرت أسنانها بيضاء كالفل .
وردة تكشف لي سرا :
قالت لي وردة: منذ سنوات كنت تلميذة في الأولى ثانوي، وفى المدرسة قالوا لنا ذات يوم أن أديبا سوف يزور المدرسة ليحدثنا عن الأدب والمجتمع أو الواقع لست أذكر تماما . انضم عدد كبير منا في قاعة اللقاءات بالمدرسة وكان الأديب يجلس على منصة صغيرة ومعه ناظرة المدرسة ومدرس اللغة العربية، حدثنا الأديب عن الأدب وأنواعه والدور الذي يقوم به في المجتمع ثم تكلم عن أشهر الروايات التي كان أبطالها نماذج إنسانية لها مواقف تدعو إلى الحب والخير بين البشر وكيف تحولت بعض هذه الروايات إلى أفلام ناجحة في السينما .
واصلت وردة حديثها قائلة : قامت تلميذة ووجهت إلى الأديب سؤالا عن بطلات الأفلام الرومانسية أقصد العاطفية سألته التلميذة لماذا تكون بطلات الأفلام من الجميلات دائما، الفتاة غير الجميلة لا تظهر أبدا كبطلة، لماذا تتجنب السينما ظهور فتيات لا يتمتعن بالجمال في قصص الحب مثلا؟ أليس هن إناثا؟ أليس لهن نفس المشاعر والأحاسيس؟
قلت لوردة مقاطعا : وبماذا أجاب الأديب على سؤال هذه التلميذة؟
ـ قال الأديب أن السينما فن وصناعة واستثمار في نفس الوقت وأن السينما بقدر ما تهتم بالفن تهتم بالربح أو بإيراد شباك التذاكر، وقال أن الجمال نسبى ولم نكن نعرف ما هو النسبي في ذلك الوقت لكننا فهمنا معنى الكلمة عندما قال أن جمال المظهر ليس هو كل شئ لأن التآلف والعشرة والشخصية الإنسانية لها دور كبير في ظهور جوهر الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة ، وان الأعمال الأدبية تراعى وتهتم بهذا الجانب في الإنسان من ناحية القيم ، وفرق لنا الأديب بين الشكل والجوهر رغم أن معظم البنات كانوا لا يقرؤون إلا قصص الحب والمغامرات .. هل وجعت دماغك ؟
ـ لا أبدا ..وشئ جميل أن تتذكري كل هذه التفاصيل وكأنها حدثت في هذه الأيام ..
ـ ما هو رأيك يا أستاذ..محمد إذا سألتك هذه التلميذة هذا السؤال بعد هذه السنين بطريقة أخرى ..هل توافق؟
ـ أوافق يا وردة..يبدو أن هذه التلميذة ذكية جدا ونبيهة .قولي سؤالك..
ـ هل تكون الفتاة محبوبة من الرجل لأنها جميلة أم تكون جميلة لأن رجلا يحبها ؟ أرجو أن أعرف رأيك ..
ـ أنا مع الرأي الثاني، فالفتاة تكتسي بالجمال إذا كانت في حالة حب..مهما كانت
قالت وهى تبتسم: رأيك قريب جدا من رأى الأديب ورغم هذا فإن التلفزيون والسينما يفعلان العكس .
ـ دعي التلفزيون والسينما جانبا وضعي نفسك مكان أي فتاة في نفس الحالة ثم اسألي مشاعرك واكتشفي حقيقة أحاسيسك.. ستجدين أن كل شئ جميل من حولك..حتى أنت..أقصد الفتاة .
ـ أستاذ محمد ..دعني هذه المرة أقول لك محمد دون لقب..إني أكشف لك سرا..إن التلميذة التي سألت هذا السؤال كانت أنا ..
قلت وأنا أبتلع المفاجأة : إنك زكيه جدا ..وشجاعة .. كنت أسأل نفسي كيف تحتفظين بهذه التفاصيل حية في ذاكرتك ..
ـ المهم أنى حظيت بتقديرك لهذه الفتاة التي سألت الأديب ..
ـ ولم يتغير تقديري بعد أن عرفت أن هذه الفتاة هي أنت ..
ـ هل تسمح لي بكشف سر آخر ؟
ـ هل هناك سر آخر ؟ إنه يوم الأسرار .. هيا قولي ..
ـ والأديب كان هو أنت ..
وقفت مذهولا ولم أستطع الكلام لفترة طويلة كنت خلالها أحاول أن أسيطر على نفسى، وكانت هي قد نكست رأسها إلى قدميها التي ترقد بجوارها معزتها نوسة .
قلت لها ـ هل معنى هذا أنك كنت تعرفين من أنا قبل أن تريني لأول مرة والتي لم تكن المرة الأولى ؟
هزت رأسها المنكس بنعم دون أن تنظر إلىّ ..
ـ وهل معنى هذا أنك تتبعتني طوال هذه السنوات منذ كنت تلميذة في أولى ثانوي ؟
هزت رأسها المنكس بنعم دون أن تنظر إلىّ وسمعت كلمة نعم هامسة من شفتيها ..
ـ وهل معنى ذلك أنك ..ولم أكمل لأنها هزت رأسها بنعم وقالتها خافتة ..
قامت فجأة من مقعدها وأمسكت بإذن المعزة نوسة وطلبت منى أن أسمح لها بالرحيل . كان علىّ أن التزم الصمت وأن أنفذ رغبتها. تقدمت خطوة نحو باب المكتبة فأشرت لها ناحية ثوب الرعي الملقى على الأرض والذي كادت تنساه في مكانه علامة على وجودها.
طلبت منى أن أستدير فاستدرت وسمعت نفس الأصوات التي سمعتها عندما كانت تخلع ثوبها ، وعندما انتهت من ارتدائه قالت وهى تمسك المعزة نوسة من أذنها: هيا.رأيتها وهى تعيد لثامها فوق وجهها ناظرة في عيني نظرة عميقة . أفسحت لها الطريق وقدتها إلى باب البيت فخرجت مسرعة دون أن تلتفت تجاهي وقافلة المعيز تهرول في إثرها .

(3) الجمال هو أن تصفح عن كل شئ لأن الشمس تسطع

رأيت وردة مشنوقة على فرع شجرة وجسدها مدلى إلى أسفل والهواء يعبث بثوبها الرعوي وقد طار لثامها وشعرها في الجو ،ورأسها منكس مفتوحة العينين ، والمعزة نوسة أسفل الشجرة تتطلع إلى وردة وتبكى .
ـ من الذي شنقك يا وردة ؟
قالت ـ أنـا ..
ـ ولماذا شنقت نفسك يا وردة ؟
قالت ـ بعد أن عرفت بأني غير جديرة بك ..
ـ هل هذا كان شعورك يا وردة ؟
قالت ـ هو شعوري عندما انصرفت من عندك في المرة الأخيرة.
ـ لكنه لم يكن شعوري ..
قالت ـ إذن لماذا لم تقلها لي بعد أن حكيت لك حكاية الأديب والتلميذة..أنت لم تقلها .
ـ أقولها لك الآن يا وردة ..
قالت ـ قل ..ها أنا معلقة أمامك ..
ـ أحبك ..هيا تخلصي من الحبل واهبطي .
قالت ـ يا محمد.. أنا مشنوقة .. يعنى ميتة .
قمت من النوم مفزوعا . كانت الشمس لم تطلع بعد. أخذت أحملق في الظلمة الخفيفة التي تملأ حجرتي،وأنفاسي تتلاحق وقلبي يدق كأني كنت أجرى لمسافات طويلة.لم أستطع النوم وانتظرت قلقا حتى ظهرت شمس الصباح ساطعة فقمت وأعددت سيارتي عازما على البحث عن بيت وردة في الكفر الذي تقطن فيه . هذا المكان ليس بعيدا ، فهو يقع على أطراف الجانب الآخر ، لكن ذهابي إليه يعتبر عبورا من عالم إلى عالم آخر . إذن فإلى العالم الآخر الذي اجتازت السيارة شارعه الوحيد الممهد، لتدخل فى متاهة من الطرق المدكوكة ،أو التي دكتها أقدام البشر سواء كانت حافية أو بأحذية .
رغم أن المكان يبدو لي طبيعيا ، وهو موجود في أمكنة كثيرة في أي مكان في العالم ،إلا أنه يبدو غريبا.والغرابة تنبع من تشابه هذه الأمكنة على شكل معين وصورة لا تختلف هنا أو هناك. بيوت قصيرة متلاصقة تشترك في الأسطح،سواء كانت هذه البيوت من الطوب الأحمر أو الحجارة أو الطوب اللبن أو الصفيح والجريد..تواجد أعداد من الحمير والمواشي والمعيز والتي مهما ابتعدت فهي تعرف بيوتها وزرائبها ، نخيلات قليلة لا يعلم أحد من زرعها في هذا المكان ، عجلات مركونة إلى الجدران وسيارتان قديمتان لكنهما تعملان،كشك صغير من الخشب يبيع الحلويات للأطفال وعلب السجائر والمعسل وبواكى صابون الغسيل ، حبال ممتدة من جدار إلى جدار عليها ثياب متنوعة مغسولة منذ قليل ، أسلاك كهرباء تدخل البيوت من أي مكان أو معلقة في الأسطح ..أصوات أكثر من راديو ..عالية ، وبعض أجهزة التلفزيون يستدل عليها من الإريال المزروع فوق الأسطح وأصوات ناس تختلط ببعضها البعض فلا تصل إلى الأذن إلا طنطنة هي مزيج من لهجة أبناء الصعيد وأبناء البلد ولكنها مصطبغة بلهجة بدوية واضحة .
دخلت بسيارتي حتى نهاية الكفر ولم يتبق أمامي إلا بيتان أو ثلاثة فتوقفت قريبا منها وأنا أتأمل المكان من وراء زجاج السيارة حتى رأيت امرأة ترتدى وتتلفح بعباءة وطرحة سوداء كانت تتجه ناحيتي ولما اقتربت منى سمعتها تقول لي ..
ـ أهلا بالأستاذ محمد ..زارنا النبي .
نزلت من السيارة وسلمت عليها وأنا أسأل نفسي كيف عرفتني بهذه السرعة وهى لم ترني من قبل ؟ لا بد أن وردة تتكلم عنى كثيرا مع أمها . انفتح أحد الأبواب الخشبية في سور البيت الأخير وخرج منه ثلاثة أولاد وبنت ،فالتفتت الأم ناحيتهم وقالت ..
ـ هؤلاء أخوات وردة . فابتسمت لهم .
قالت الأم ـ وردة موجودة خلف البيت أترك السيارة هنا واذهب إليها ، سأجهز لك الشاي حالا .
عندما أصبحت خلف البيت فوجئت بشجرة تشبه تماما الشجرة التي ظهرت في الحلم ووردة مدلاة من عنقها في أحد فروعها . كنت أتطلع إلى أعلى الشجرة بفروعها المورقة الكثيفة لكنى عندما هبطت بنظري إلى جذعها رأيت وردة هناك . في البداية لم أعرفها ، كل ما رأيته فتاة تجلس على الأرض وتسند ظهرها إلى جذع الشجرة ، وكانت تترنم بكلمات أغنية لا أعرف ما هي،وسرعان ما اكتشفت فيها وردة.
أحست بوجود إنسان قريبا منها فنظرت تجاهي ولما عرفتني ابتعدت بظهرها عن جذع الشجرة وكادت تهم بالوقوف لولا إشارة منى بأن تبقى كما هي وتقدمت خطوات نحوها . كانت ترتدى سروالا طويلا ملونا يصل حتى قدميها وطرفاه مزينان بكرانيش من نفس القماش ،وترتدى من أعلى سترة من لون آخر شبه سوداء وقد بدا رأسها عاريا إلا من شريط أصفر اللون لا يحجب شعرها مربوط اسفل عنقها من الخلف . كانت إنسان آخر ،بل بدت لي شخصية أخرى غير وردة التي ترتدى الثوب العادي،وغير وردة التي ترتدى عباءة الرعاة. كتمت ملاحظتي في نفسي حتى لا أتسبب في إزعاجها أو توترها وحتى لا تقع في حيرة أيهن أفضل !
حاولت وردة للمرة الثانية أن تقف وهى تبتسم خجلة،فلم تكن تتوقع أن آتى إلى هنا أو أن أبحث عن بيتها في الكفر الذي تعيش فيه ..ولولا وجود البيت على أطراف أراض بور تلتصق بصحراء واسعة وغير آهلة بالسكان لقامت خجلة وجرت من أمامي .
لكن إلى أين تذهب ؟وها أنا أرى المعزة نوسة تظهر من خلف جدار البيت وقد رأتنا وأخوتها الأربعة مختلفي الأطوال والأحجام يرقبوننا من خلف الحائط وهو يبتسمون .
لم يكن هناك كلام بيننا فقد اكتفت بتوجيه نظراتها إلى عيني مباشرة ،تلكما العينان السوداوان الواسعتان ، ثم تعود لتخفضهما إلى حجرها،ثم ترفعهما بعد لحظات قصيرة مما جعلني أقرر أن أجلس بجوارها تحت الشجرة وأسند ظهري على جذعها مثلها
قالت ـ لا تجلس على الأرض ستتسخ ملابسك .
ـ ولماذا أنت لا ؟
قالت ـ لقد تعودت على ذلك ..
ـ كيف حالك ؟ كنت قلقا على غيابك
قالت وهى تنظر في عيني ـ صحيح ..صحيح يا محمد ؟
ـ صحيح.. بالأمس قمت مفزوعا من النوم ، لقد رأيتك معلقة على هذه الشجرة .
قالت ـ معلقة ..في أي شجرة ؟
ـ هذه الشجرة التي نجلس تحتها .. لقد رأيتها في الحلم كما هي الآن ..ورأيتك مشنوقة على فروعها .
قالت ـ لذلك جئت تبحث عنى ..هل هذا حقيقي ؟
ـ كنت أنتظر طلوع الشمس بفارغ الصبر خاصة إنك اختفيت أياما كثيرة .
قالت ـ والله يا محمد أنا مبسوطة لأنك تقول هذا الكلام ولأنك أتيت إلى هنا من أجلى قم معي لأريك أمي وأخوتي .
ـ لقد قابلتها جاءت وسلمت على قبل أن أنزل من سيارتي وهى التي عرفتني بمكانك هنا
قالت ـ إنها تعرفك لقد وصفتك لها ورأت صورتك في الصحيفة ثم إنها تعرف لون سيارتك .
ـ ماذا كنت تقولين لها ؟
قالت ـ أنت تريد أن تعرف كل شئ ..
ـ يهمني ذلك ..
وقفت وأخذت تنظف ملابسها من الخلف تزيل تراب الأرض العالق بها . والشمس في الصباح تتسلق سطح الأرض فتتعلق أشعتها الذهبية بأغصان الشجرة فنشعر بدفء محبب فوق وجهينا . أقبلت أمها تحمل في يدها صينية عليها كوبان من الشاي ، تتحرك وراءها قافلة الغنم متجهة إلينا .
قالت الأم ـ أريد أن تشرفنا بزيارة البيت
قاطعتها وردة قائلة ـ البيت من الداخل لا يليق بالأستاذ محمد
ـ لماذا تقولين هذا الكلام ؟ البيت هو البيت مهما كان يا وردة .
عرفت من نظرة الأم أنها تبتسم من وراء طرحتها .أعطتنا ظهرها وابتعدت عنا .
ـ ماذا تقول أمك عنى ؟
قالت وردة ـ إنها تقدرك جدا فقد حكيت عنك الكثير..اطمئن فهي فرحانة بزيارتك لنا .
ـ تقصدين زيارتي لك ..
قالت وهى تهز رأسها ـ يعنى !
سألتها ونحن نشرب الشاي: لماذا تغيبت في الأيام الماضية ، ألم يعد عندنا عشب لغذاء الغنم ؟!
قالت ـ سافر أبى إلى مرسى مطروح فبقيت أرعى الغنم بجوار البيت ..أحيانا أمي وأخوتي يحتاجونني .
ابتعدنا عن الشجرة فقالت : هل تريد أن تذهب إلى البيت أم إلى..وأشارت ناحية الأرض البراح التي تلتصق بالصحراء
قلت لها : نمشى في هذه الأرض الواسعة فقد زهقت من البيوت .

(4) صباح ساطع وقبلة في الشمس

أعطينا ظهورنا إلى البيت والشجرة والبيوت الأخرى واتجهنا إلى الخلاء وقافلة الغنم معنا . كانت الرمال الرخوة تجعل خطواتنا قصيرة ، وكنا أحيانا نجد أنفسنا نرتفع مع التلال العالية ثم نهبط إلى اسفل مع انحدارها حتى تكاد تخفى عنا كل شئ إلا السماء.
هنا توقفت وقلت لها : ما رأيك يا وردة نقعد هنا فلا نرى إلا الشمس والسماء فوقنا . قالت :نقعد ..فقرفصت على بقعة من الرمال المتماسكة وجلست بجوارها وتوقفت المعيز بجوارنا وهى تنظر حولها وتمأمىء فلا أعشاب في الأرض ولا خضرة في الأفق . فقط كانت المعزة نوسة هي التي اقتربت وأقعت بجوار وردة . خفتت الأصوات ،بل ابتعدت إلا من أصوات السيارات التي تعبر الطريق الرئيسي الذي لا يبعد كثيراعن مكان جلوسنا .
كانت الشمس ساطعة مفروشة على الرمال دون أن تؤذينا رغم أنى لاحظت بثورا ملتمعة من العرق فوق جبهتها وعلى عنقها وهذا دليل على توترها رغم أنها تبدو بتصرفاتها أمامي طبيعية جدا،بل اكثر من طبيعية تثير دهشتي :
ـ تبدين اليوم جميلة يا وردة أكثر من أي يوم آخر .
قالت ـ الشمس هي الجميلة اليوم ..يا محمد . وأدارت وجهها خجلة .
أقول في نفسي إن وردة ليست إنسانة عادية وأتذكر قولها لي بأنها إذا أرادت أن تفعل شيئا فإنها تفعله دون تردد ، وأحيانا اسأل نفسي السؤال القديم: ماذا يحدث يا محمد لقد اختلط الخيال بالواقع وضيعت حياتك فوق الخط الذي يفصل بينهما . أنت لا تعيش كما يعيش الناس ، وإذا ما أتيحت لك الفرصة لأن تعيش تسحب نفسك إلى الداخل وتقول أنا روائي ..أهلا وسهلا بالروائي ..هل تظل طول حياتك تنخع من خيالك ومن حياة الناس قصصا وروايات وأنت فاضي مخوخ ..ياما هنا وياما هناك .. وإذا ما أتاك الواقع حيا دافئا لا يرفضه إنسان تظن نفسك تحلم أو تتخيل ..يا أخىعش أو روح فىداهية ومت.
وجدت نفسي أقول لها وأنا أتكئ على جانبي بجوارها : تكونت صورة في ذهني لهذا المشهد الذي نحن فيه الآن أريد أن أكتبه في رواية اسمها قبلة في الشمس، يعنى المشهد به قبلة
قالت ـ لك أن تتخيلها
قلت ـ في الواقع أشياء لا ينفع فيها التخيل
قالت ـ حاول أن تكتبه من خيالك..أنت تستطيع ذلك
قلت : إنه مشهد بلا رواية يعنى صورة فقط وهى في حاجة إلى حكاية أو قصة .
قالت : اعمل لها حكاية ..أنا أساعدك وأحكى لك ..لكن قل لي ما هو هذا المشهد ؟
قالت بعد فترة تأمل :أنا خيالية يا محمد ..وممكن أساعدك ليس في الكتابة لكن في الحكايات ..
كان في كلامها عفوية وأحسست بأنها تتكلم بحماس دون أن تدرك طبيعة العقبات التي من الممكن أن تواجه روائي مثلى .
قلت : الخيال وحده لا يكفى .. الكتابة يا وردة بدون الواقع لا تسوى شيئا .
قالت : أنت تحيا كما أي إنسان .. لكنك تستطيع الكتابة..لقد قرأت لك..إنك تستطيع أن تكتب عن أي شئ .
قلت : لكنني يا وردة لا أستطيع في كل مرة أن أعيش الواقع الذي أكتب عنه ..إن الواقع أكبر من حياتي وما يحدث في الواقع قد لا يحدث لي كله .
قالت: احكي لي عن المشهد وسترى .
قلت: في المشهد فتى وفتاة يستلقيان في مكان ما يشبه هذا المكان لا ناس ولا حركة ولا سيارات ، فقط هما والشمس فوقهما ، يميل الفتى برأسه على الفتاة المستلقية بجواره ويقبلها في فمها .
قالت بصوت خافت متردد: هل هذا هو المشهد؟ ألم يكن بين الفتى والفتاة ارتباط و إحساس بالحب مثلا ؟
قلت: طبعا يوجد ، لكنه ارتباط عاطفي ، وقد سميت هذا المشهد ب [ قبلة في الشمس ]
قالت: وهل هذا المشهد الذي في ذهنك من الواقع؟
قلت: قد يكون من الواقع ولكنى لم أجرب أو أر هذا الواقع .
قالت: واقعك أنت مثلا ..
قلت: لا.. لم يحدث لي هذا في الواقع ..لكن من الممكن تخيله ..ومن الممكن أن يحدث .
قالت بعفوية : كيف .. يعنى ؟
وضعت يدي على كتفها القريب منى ودفعتها برفق على الرمال ، مدت ذراعها تحاول أن تمسك بيدي لكنها لم تكمل المحاولة، ارتخت واستراح رأسها فوق الرمال . لم تكن هادئة تماما كما كنت أعتقد ، فقد رأيت عرقا ينتفض في رقبتها الطويلة وثمة رعشة في فخذيها . عندما انحنيت فوقها شممت رائحة العشب البرية فيما كانت عيناها تومضان في عيني مترقبة فقد كانت الشمس في عينيها المفتوحتين . وقبل أن تمس شفتي فوق شفتيها أمالت رأسها فجأة فذهبت قبلتها للشمس *

(5) رغم كل ماكتبته عنك ياوردة..فمازال الذي بيننا سرُ!





===========
محمد الراوي

ولد يوم 22 مارس عام 1941 بحي الأربعين بمحافظة السويس
بدأ مسيرته التعليمية بتلقي مبادئ النحو والصرف في الكتاب الملحق بالمسجد المجاور لمنزله.

اشتهر "الراوي" منذ سن مبكر بحفظه للحكايات الأسطورية القديمة، وكان يسجل كل ما يسمعه، كما عرف بين زملائه بلقب "العجوز"، حيث كان يتمتع بالقدرة على سرد الحكايات رغم صغر سنه.

يعد الراوي أحد الكتاب الكبار من جيل الستينات، وأبرز مؤسسي مؤتمر أدباء مصر في الأقاليم، على الرغم من إصراره على البقاء في السويس، وعدم الانتقال إلى القاهرة، إلا أنه استطاع أن يحفر اسمه ضمن أشهر الروائيين العرب، فكان خير مثال لمقولة "خير خلف لخير سلف"، حيث كان أحد تلاميذ الكاتب الكبير "نجيب محفوظ".

واجتاز "العجوز" مراحل التعليم الأولى من دراسته بمدارس السويس، وأرسله والده إلى القاهرة عام 1958 لاستكمال دراسته بكلية التجارة جامعة عين شمس، وإرضاءً لوالده استمر بدراسة التجارة وتخرج فيها 1964.

أعماله وجائزة "التميز"

وبدأت المسيرة الأدبية للراوي للأعمال الأدبية التاريخية العالمية، منها مسرحيات "شيكسبير" التي نقلها عن الكاتب الأسكتلندي "هوليتشد"، وبعد تخرجه اتجه نحو الكتابة الأدبية، التي وجد فيها متنفسه بعيدًا عن جمود الرياضيات، وكتب العديد من القصص القصيرة، وكانت كتابته دائمًا تعبر عن أهل السويس وحياتهم، وكانت قصة "الحياة" أول قصة تنشر للراوي بمجلة "القصة"، المجلة الوحيدة التي تهتم بإبداعات الشباب آنذاك.

وترك ابن السويس حصيلة من الأعمال الأدبية العظيمة، حيث انتج ما يقرب من 100 قصة ورواية من أهمها "سحابه سوداء" مايو 1969، وقصة " الاتجاه نحو الظل" التي نشرت في مجلة الموقف السوري يوليو 1974، بالإضافة إلى و"دائرة الدم" والطيور الشاحبة" سبتمبر 1974، كما كتب الراوي قصص "السرير" و"والمطر" و"الشمع".

كما نشر له بعض القصص والروايات على حلقات منها "التحولات" و"الدهليز"، في عدد من الصحف العربية، بالإضافة إلى "للفرح عمر قصير"، و"الرجل والموت".

وحصد الراوي العديد من الجوائز والأوسمة الإبداعية من أهمها جائزة " التميز" من اتحاد الكتاب العرب عام 2009 عن مجمل إعماله في مصر والعالم العربي.

وأشاد النقاد بآخر روايات محمد الراوي وهما "حارس البحر" و"تل القلزم"، مؤكدين أنهما حملتا دقة السرد القصصي الذي يقودك إلى عضوية الحكواتي، فهو ماهر وماكن في الميثولوجيا الأسطورية والشعبية.

وفاته
رحل الروائي محمد الراوي ظهر أمس الخميس، عن عمر يناهز 76 عامًا، وشيعت جنازته اليوم من مسجد المحروسة بمدينة الملاحة السكنية عقب صلاة الجمعة.






تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى