عبدالحليم عباسي - ظمأ الروح..

كان فتى خيالي النزعة، أغرته هذه الأفكار السوداوية، فاندفع فيها، لا يرى أن الحياة تتسع لغير هذا الشقاء يعلق بها من مفتتحها إلى حيث الحد بين الدنيا والآخرة، ومضى تعبث الكآبة بناضر شبابه، إلى أن غدا وهو في ميعة العمر. ناحل القد، حائل اللون، رطب الجفن كأنما علق به أثر من أدمع البارحة. . وإذا ما أصغيت إليه وهو يتحدث أسرتك هذه الغنة في صوته، وهذا العمق في أفكاره، ورحت تعجب كيف يستطيع هذا الظل حمل كل هذه الشجون؟.
عرفته في بلدة الجمال - الشام - فقامت بيننا صداقة موثقة العقد، متينة الأواصر، يشوبها الإجلال من جانبي، والرثاء من جانبه، فقد كنت في نظره واحداً من هذه الملايين التي تتعثر بآمالها، وتتمرمر بأمانيها، وغبرنا على هذا زمناً إلى أن فرقت بيننا دواعي الحياة، وبقي خالداً في فكري، خالداً في روحي، ومضت سنون لم نتلاق فيها، إلى أن جاءتني منه هذه الرسالة أثبتها للقارئ، ففيها قصة طريفة:
يا صديقي:
ما كنت أظن أن كلامك يكون جداً وأنت تهزل، فلقد اعترضتني هذه - الجنية - التي شد ما حدثتني عنها، واستطاعت أن تلامس حياتي بعصا سحرها، فتغير منها. . ثم تمر بأناملها الجميلة على أجفاني فأغدو أبصر وأرى أن هذا الوجود ينطوي على أشياء كثيرة جميلة.
. . . وتفصيل الخبر أني هبطت هذا البلد، وشدتني إليه ضرورات لا أستطيع الإفلات منها، ومرت الأيام والشهور متشاكلة متشابهة، وقد كنت لا أزال أسدر في كآبتي، وأتخبط في مآتي أشجاني، حتى كان يوم اللقيا بهذه الساحرة، فكأنما بعثت خلقاً جديداً، واستطاعت أن تنقي حياتي من كل هذه الأفكار الشائكة. . . فلقد كانت تكبرني بأعوام، وكانت تكبرني بهذه الأفكار نقتها التجارب وأخلصتها من كل خطل، وشاء الدهر الساخر أن يكون بين أبي وزوجها علاقة. . . وزوجها هذا - غفر الله له - ليس له ميزة من علم أو جاه.
غير هذا الجاه الرخيص الذي تبعثه المادة، وهو يجمع بعد إلى قبح الجهل، دمامة الشكل، وسمح لي أن أتردد إلى بيته، وراقه أن يجد أن زياراتي تبعث في زوجه روح الغبطة والسرور، فينضر فرعها الذابل، وتدب الحياة في روحها الرازح تحت هذا الألم الحبيس الذي يعج في صدرها. . . وكأنه كان يشعر أن بينه وبينها عدا فارق العمر، تبايناً في الروح والفكر. .
وكنت أشعر وأنا أتردد إليها أني أقاد إلى الهاوية، فهذا الصوت الهادئ المتزن، يعيد إليك ذكرى لذة غابرة، وهذه العين غرقى في صفائها تغازل النور، محال أن يقوى على ندائها روح يتعشق الجمال. . . ولقد كنت قادراً على أن أكتمها حبي، وما حاجتي إلى الإفضاء به، وأنا لا أطلب أكثر من أن أجلس إليها ساعات ترفه عن روحي، وتغذي مشاعري، غير أنا في إحدى جلساتنا، وقد تشعب بنا الحديث، وأخذت علينا الغبطة يقظات الإرادة، سمعت صرخات روحي في داخل البدن. . . أنني في حاجة إلى الامتزاج بها، إلى الفناء في ذاتها، وكأنها أحست بما أحسست به فالتحمنا بالنظر. وقالت عينها، لا حاجة إلى الثورة - إني أحبك - فأجابت روحي من عيني - وأنا أحبك - ولكن عينها عادت فقالت إني احتقر ملذات البدن، فلا تطمع بها، فقلت وأنا أحتقرها، لقد مللتها، إن روحي هي الصادية.
وفي تلك الجلسة أعلنت لها حبي، وباحت لي بمثله. . . . .
ومن ذلك الحين، أصبحت لا أقوى على فراقها، ولا أطيق الابتعاد عنها دقيقة، ولقد تعاظم أو تضاءل الوجود - لا أدري - فأصبحت هي كل شئ فيه، واستقر حبها في أعماقي ناراً، فغدوت بجانبها أحترق.
ومرت الأيام مفعمة بالهناءة، فكنا نلتقي كل يوم، لا أرتوي من هذه الكلمات تند عن هذه الشفاه الجميلة، ولاأشبع من النظر إلى هذا المحيا الذي يبعث إليك في كل لمحة فكرة تحمل معاني الرضى عن الحياة. . .
وأشهد أن جمالها أدناني كثيراً من حمى الله. . وارتفع بنفسي إلى عالم أندى من عالمنا هذا، يرى منه الإنسان مبلغ ما تتردى فيه الخلائق من سخافات، ومبلغ ما تنطوي عليه البشرية من حماقة.
وكنا نتخير من الأمكنة أهدأها، ونهرب بسعادتنا بعيدين عن الضوضاء والصخب، وكأنها وهي ترقى القمم، أو تنساب معي إلى الوادي دنيا من الفتنة تتحرك. . على أن هذه التشابيه والصور كانت تجيش بنفسي ولا أجرؤ على إسماعها إياها. . . فهي لا تسمح لي أن أصور تموجات النسائم على غدائرها، ولا كيف تفتضح الموسيقى والشعر، قبالة ضحكتها وبسمتها، ولقد سألتها مرة عن سر هذا الامتعاض، فقالت: ذلك أن الجمال ليس في الشكل، وإنما هو فيما وراءه. . على أن في كلامك غلواً، قلت: نعم ولا، الجمال في ما وراء الأشباح، وليس في كلامي غلواً، وكذا أنت ترين أن جمالك أمثل من أن نتطاول إلى وصفه، فصمتت ثم قالت: دع هذا وخذ في غيره.
قلت: فليكن فقد يجر إلى ما أخذنا على أنفسنا العهد بالابتعاد عنه. . . ثم تأخذ الحديث بلباقة وتديره على الوجه الذي تريد، مبتعدة فيه عن كل ما من شأنه أن يستثير فيك هذا الذي يطمع فيه عباد البدن. وهي إذ تحدثك لا تجهد في إقناعك، بل تلقي الفكرة موجزة واضحة، ثم تتركك تتخيل، وتقيس وتقارن، ولك أن توافقها أو تخالفها فهذا ليس بالشيء المهم، وإنما المهم أن تفكر!.
شارف العام أن ينتهي، وأنا لا أزال في غمرة حبها أضوي جسماً، وأنمو فكراً وإحساساً، أصبحت شغلي الشاغل، لقد لهوت عن العالم، ونسيت أن به خلائق يعز عليها أن ترى آلافاً تمتزج بالمحبة، وتلتحم بالروح، حتى كان اليوم الذي سحق فيه قلبي، وتحطمت كأس سعادتي، فقد جئتها في عصاراه كالعادة، لنذهب إلى نزهة اتفقنا عليها، فجلست إليها ريثما تنهي عملها، وتصلح من شأنها، ولكني أوجست خيفة، وأنا ألاحظ عليها أثر اضطراب تحاول إخفاءه، ثم رأيتها تتحفز للكلام، وبعد لأى استطاعت أن تجمع شتيت إرادتها فقالت:
أصغ إلي. . . . . . . قلت: كلي آذان. . . . .
قالت: أو لم تسمع؟. . . لقد أكلتنا الألسنة!.
قلت: لا أدري ما تقصدين؟ قالت: ستدري. إن هذه البشرية المتمرغة بالخسة، المتهفتة على الساقط من اللذة، لا ترى من الممكن أن تقوم علاقة بين متحابين، لا تمت إلى هذه الأسباب الدنيا، ولا تنبع من هذه المنابع الآسنة التي منها يستقون علاقاتهم.
قلت، وقد قام بنفسي أن أداري ألم الصدمة: ليكن هذا فخلهم وصغائرهم، فما تصاحبنا لبذل في الخلق.
فوجمت قليلاً، ثم قالت: ليس عن غباوة تتكلم، وعاجلتها دموعها، وقد والله يا صاح رأيت أنواعاً من الدمع، فما رأيت أشجى ولا أبعث للأسى من دموع هذه الحسناء البريئة المظلومة، إنها بهذه القطرات تحاول أن تستنطق العناصر وتستشهدها على طهرها وظلم الإنسان.
قلت: هوني عليك أو بلغ الأمر إلى هذا الحد؟!. . .
قالت: أجل! ومن حين وأنا أكتمك إياه، وزوجي وأقرباؤه لقد طلبوا مني أن اقطع معك هذه العلاقات، انهم يرونها خطرا على كرامة الأسرة، وغدا يسافر بي إلى بلد ناء كتم عني أسمه وإخاله لن يعود إلا متى رحلت!!. . . . .
ودارت بي الأرض الفضاء وصرخت كالمذعور:
محال هذا، إنهم يملكون منك الجسد، أما الروح فهو وقف على محبتي، لن أدعهم - وأنا قادر - يحطمون كأس حياتي. .
كيف يفصلونك عني؟! أيفرق الروح عن الجسد دون أن يتقوض؟. . . .
ثم كانت ساعة افتضح فيها جلدي، فطفقت أبكي، لقد بكيت كثيراً، وما صحوت إلا وهي تضمني، وتبللني بمدمعها، ثم طبعت على فمي قبلة، طبعت على فمها مثلها، هي أول وآخر قبلة، هي أثمن ما أمتلك من ذكرى. .
ومالي أشق عليك، لقد انتزعوها مني كما ينتزع الطفل عن ثدي أمه، لقد ذهبوا بأجمل حياتي، وموئل ذكرياتي.
لقد كانوا قساة، فلم يرحموا غرباء جاءوا دنياهم على عجل، ويمضون كما جاءوا.
لقد ذهب معها الصبر، فأصبحت هذه الدنيا في نظري كشراك الطائر ضيقة قفراء من كل ما يلهم العزاء.
وأنى لي أن أحمل كل هذه الدنيا من الأوصاب، فسقطت مريضاً خائر القوى، ولي هاهنا - بالمستشفى - شهران لا أبل إلا لأنتكس. .
وقد جاءتني بالأمس منها كلمة هي: (إلى الملتقى. .) إذن فهي تعرف أني بالمستشفى، بدليل أنها كتبت العنوان ورقم الغرفة، فخبرني أين تكون لقيا المرضى. . وأكبر ظني أنها مثلي مريضة.
إن الدنيا أضيق من أن تتسع للقيا القلوب الطاهرة.
إلى الملتقى. . حيث يتبع الحسن دون رقيب، وحيث تروى القلوب الظامئة إلى الجمال. . . إلى الملتقى. . . إلى الملتقى. . .

شرق الأردن
عبد الحليم عباسي



مجلة الرسالة - العدد 63
بتاريخ: 17 - 09 - 1934

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى