د. نور الدين السد - الواقع والخيال في رواية (الوساوس الغريبة) للروائي محمد مفلاح

بمثابة التقديم:

يعيش محمد مفلاح على الفطرة في كتاباته وطرائق تشكيله الأسلوبي، وله جماليات سردية تنفذ بسحر بيانها إلى أعماق المشاعر، تتقاطع فيما يكتب الأزمنة، تظهر حتى تجلو فتصبح تاريخا صرفا، وتتستر بفعل التخييل والتحجيب حتى تنأى عن القبض والتحديد، وبين الشفافية والتكثيف تكتسي طقسا خاصا، يختلط فيه الواقع بالمتخيل، وفي ذلك ما فيه من آراء الباحثين والفلاسفة والنقاد المنظرين، موضوع التاريخ والفن ومدى إفادة الفن من التاريخ، الحقيقية والمجاز، الواقع والخيال، وإلى أي مدى يمكن أن ينعكس الواقع في الفن، ووراء هذا التساؤل إجابات تختلف باختلاف الآراء والمرجعيات، وإن كنتُ من المناصرين لوضع الحدود بين مختلف الحقول المعرفية في زمن ليس بعيدا فإني بدأت أجنح إلى منظور تداخل المعارف لأن حقائق الواقع تدل في كل آن عن هذا التداخل، بل يكاد الجزم يهيمن بأنه ليس فيما ينتج البشر من أعمال أدبية وفنية انقطاع عن الواقع الذي أنتجت فيه، يبقى الآن كيف يصل الناقد إلى إدراك أوجه الاتصال وأوجه الانفصال عن هذا الواقع أو ذاك، وما هي الأدوات الإجرائية أو المنظومة التحليلية والمنهجية التي تمكنه من الوصول إلى هذه الخصائص وما تحمل من دلالات، ومن المؤكد من يُعمل النظر يدرك المراد.
وأما رواية (الوساوس الغريبة) ذات العنوان الفرعي (على هامش مقتل الأرملة الثرية) فبقدر ما هي طامحة إلى التنصل من صور الواقع بما فيه من تجليات وخصوصية بيئية وأحداث شاهدة على تاريخية مشاهدها ووقائعها؛ مشاهد ووقائع وأحداث مصاغة بلغة صريحة عارية، شفافة تؤرخ بالأرقام أحيانا، وتذكر بموضوعية ممزوجة بذاتية الانفعال والتفاعل، قضايا أصبحت في عداد المباحث المتعارفة في إنجازات المؤرخين، قد يدفعنا ذلك إلى التساؤل هل يضير هذا الأمر جماليات الخطاب الروائي في شيء؟ قولنا بالنفي! لأن أساليب القص وطرق التناول ودروب السرد والرواية هي التي تعطي بعدا جماليا وفنيا للخطاب الروائي، وهذا ما توافر بشكل ساحر وفني في رواية (الوساوس الغريبة- على هامش مقتل الأرملة الثرية-) فهي لا تؤرخ لسيرة بطل يعيش الاغتراب بكل أبعاده، لأنه يحمل أفكارا، ومتمسك بمبادئ، ويعتقد بمرجعيات، يناضل من أجلها، بل يعاني في سبيل تبليغها، فهو يملك وعيا متقدما في دوامة مجتمع يعيش مخاض التحولات، ويخوض صراعا مريرا من أجل الحفاظ على هويته، وانسجامه مع الذات، صراعا َتمثُل فيه الموت والنهايات والفناء، كما يمثل فيه حب البقاء وفرض الذات، وتحقيق الوجود، فهي ثنائيات ضدية فرضتها طبيعة الخطاب الروائي، وما اشتمل عليه من رؤى، تتصارع في كينونتها تصارع حقائق الوجود...
أقول إن الرواية غنية بما حوت من أفكار وقيم و مثل جاءت على ألسنة شخصياتها وساردها في كثير من المقامات، كما أن بنيتها الجمالية والأسلوبية، وأبعادها الوظيفية تنبئ بإمكانات فنية مهمة من السارد - الخارج نصي- أي السارد خارج الخطاب وهو الكاتب، وتعلن عن قدرة متميزة في تطويع لغة القص، والتحكم في ملكتها، وتحميلها طاقات دلالية عميقة الرؤية، بعيدة التصور. فهل بقولي ذا أصادر عن قراءات أخرى أكثر عمقا، ونفاذا إلى محمول الخطاب دلاليا؟ لا أعتقد أني قدمت قراءة تفكيكية شاملة للبنية والوظيفية في رواية (الوساوس الغريبة) بقدر ما صغت انطباعا سريعا اقتضاه المقام، ولكني أدعو قراء هذا الإنجاز الروائي إلى إمعان النظر، وإدراك ما وراء السطور والكلمات من رؤى وأفكار، فكثيرا ما كان التلميح مهيمنا على التصريح، وكثيرا ما كان التحريض والاستفزاز متصدرا ملفوظات بعض شخصيات الرواية، ويسعى التبئير، وتكثيف منظور الرؤية الفنية إلى مكاشفة الحقيقة في عسر مخاض التحول، والخلاص من حال الانتكاس والإحباط والتأزم والعسر إلى حال أكثر يسرا وسكينة، ولعل حراك المجتمع من حال إلى حال هو مدار اهتمام هذا الخطاب الروائي الذي نقدم، ومأمول السعد في إنجاز أعمال أخرى تغني المكتبة العربية وتثري التجربة الروائية.


--------------------------------------------
بمثابة تقديم لرواية (الوساوس الغريبة) الصادرة سنة 2005 عن دار الحكمة.





** كتبت تقديم هذه الرواية قبل صدورها سنة 2005، ومرت الأيام وها أنا أصادف الرواية بتقديمها في Google وللتذكير أعيد نشرها في صفحتي، تقديرا لصديقي الروائي الأصيل محمد مفلاح.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى