د. نور الدين السد - التاريخ والذاكرة والإنسان

إن ما حدث ويحدث في التاريخ من عنف الحروب، وشراسة الصراع، منذ بدء الخلق، ومنذ فجر التاريخ إلى يوم الناس هذا وبعده، يجلي بوضوح روح المقاومة لدى الإنسان من أجل البقاء، ويكشف حقيقته وجوهره، ويعري المخبوء والخفي في طبائع النفس المجبولة على حب الأنا، وإثبات الذات وإلغاء الآخر المشابه خلقة، والمختلف أخلاقا وقيما وسلوكا، وما اختلافه إلا انطلاقا مما تبنى أو أنتج من منظومات عقدية أو إيديولوجية قوامها فهم لما تحمل مرجعياتها من علامات ورموز وإشارات، وما ينتج منها من معاني ودلالات...
إن خلفيات الصراع والحروب عادة ما تعود إلى تنازع المصالح والقيم واختلاف المعتقدات؛ وهي في مجموعها تستند إلى ما يؤمن به الناس من مرجعيات عقلية ونقلية، وهي تشكل عادة خلفية ما يظهر على الممارسة الإنسانية من همجية الحروب وقساوتها وتعاستها وآثارها الدامية في الذاكرة...
ولا مجال إلى تجاوز آلام التاريخ وجراحه إلا بانتصار الحق المقرون بالحرية في أسمى معانيها، ولا يمكن تجاوز فضاعة التاريخ وجرائمه إلا بتحويل أحداثه ووقائعه وحقائقه إلى سرديات وروايات وقصص وحكايات وخطابات سياسية ودينية وسواها .. وتحميلها فهوم ورؤى وقراءات وتحاليل وإنجازات منوعة أخراة، وتداولها عبر وسائل التبليغ والإيصال ليكثر حولها الجدل، وتجلى منها معاني ومضامين كل الذي كان محراضا على صناعة التاريخ وبناء الذاكرة، ومن ذا تبنى الذاكرة وتحفظ وتصان وترقى وتبلغ إلى الأجيال في كل بقاع الأرض لتكشف الحقائق مقرونة بالإدانة الأبدية للظلم والاستبداد والعدوان...
فلسطين التاريخ
أظهرت همجية الحروب المتكررة على الشعب الفلسطيني أن فلسطين تحولت من مكان ومساحة محصورة ومحاصرة على الأرض إلى تاريخ، بل تحول المكان في الذاكرة الانسانية إلى زمان ، لكثرة ما تعاقب عليه من أحداث ووقائع، فلم يعد الإنسان في فلسطين كائنا بيولوجيا وفيزيولوجيا بل تحولت كل كينونته إلى ذاكرة تاريخية مزدحمة بشرائط توثيقية راسخة في الذاكرة الجماعية، ليس للفلسطينيين فقط بل لمعظم شعوب الأرض، وحتى للمحتلين والدخلاء والمجرمين الذين يحلمون بالاستيلاء على المكان والزمان الفلسطينيين، وهيهات أن يكتب لهم البقاء فيهما، لأن إرادة القدر وإرادة الإنسان صنوان لتجذير الفلسطينيين في أرضهم مهما كانت التحديات.
ولعل تاريخ فلسطين المحتلة، ومنه غزة المقاومة بصمودها الباسل والشجاع أمام آلة التدمير والإبادة يكشف حقيقة الاحتلال الص+هي+ و ني القائم بالقوة غير الشرعية تاريخا وقانونا، وهو احتلال مرفوض ومدان بكل القوانين والمواثيق والأعراف، وما خروج أحرار العالم في معظم الدول في مسيرات تضامن مع الشعب الفلسطينيي الأعزل هذه الأيام، إلا تعبير عن إدانتهم للاحتلال وممارساته اللإنسانية لإبادة المواطنين العزل، واقترافه جرائم ضد الإنسانية لا يقبلها دين أو ضمير أو قانون، ولا يمكن أن تزول بالتقادم، إن التصفية العرقية والعنصرية هي جرائم ضد الإنسان في غزة وغيرها من المدن الفلسطينية، والعجب العجاب أن تحالفها قوى الشر في جرائمها ضد الإنسان، وتدعمها ماديا وإعلاميا في هذا العدوان، وهو ما يؤكد أن هذه الدول هي دول قائمة على النفاق بادعائها الدفاع عن الحرية والديمقراطية والكرامة وحقوق الإنسان، لكن ممارساتها في الواقع تشير إلى أنها تعمل بغير ذلك؛ بل تكيل بمكيالين من أجل فرض الهيمنة على مقدرات الشعوب بالعدوان والاستبداد والظلم وارتكاب أفضع الجرائم ضد الإنسان.
و ليعلم الطغاة في الك+يان الصه+يو+ني أنه مهما كانت قوة وشراسة وهمجية الطغيان، ومهما كانت فداحة الإجرام، ومهما طال الزمن، ففي نهاية المطاف تعود الأرض إلى أصحابها الشرعيين، وينتصر الشعب الفلسطيني المظلوم، المدافع ليس فقط حقه المشروع في سيادة شعبه على أرضه وكرامته، ولكن لدفاعه الشريف عن حرية، وحقوق، وكرامة الإنسان في كل مكان..
وسيذكر التاريخ، وستروي الذاكرة أنه مثلما دافع الجزائريون الأباة عن كرامة الإنسان، يدافع عنها اليوم الفلسطينيون الأبطال بكل تضحية وبسالة وبشجاعة وإنهم فرسان يقهرون بإيمانهم وصدقهم في الدفاع عن قضيتهم أعتى الآلات الحربية، وهم الذين يطلبون الشهادة بثبات ويقين، فالرحمة والخلود للشهداء والمجد والحرية للإنسان...

نورالدين السد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى