محمد المويلحي - المعجزة الثامنة.. ( حديث عيسى بن هشام)

قال عيسى بن هشام: ووقفنا نشاهد ذلك البرج المنيع، والعماد الرفيع، فهالتنا رفعته، وأدهشتنا صنعته، فهو في باب المشاهدة الفريدةُ العصماء، والغرة الشهباء، والهضبة العلياء، والقُلة الشماء، أعجوبة الصنائع وضعًا وإتقانا، وبكر هذا المعرض وإن كان فيه عوانا،١ تنحني أمامه الآطام والآكام،٢ وتخر له الرُّبا والأعلام، فأين من ارتفاعه الهرمان، ومن علوه صرح هامان، لما أمره فرعون بقوله في كفره وعناده، وجحوده وإلحاده: يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا.
ولو رآه فرعون لهدم ما شاد وأعلى، ولم يقل: أنا ربكم الأعلى، ولأنحى على هامانه فَجَلَدَه ألفًا، وعلَّقه على الجذع شنفا،٣ وأين «برج بابل» من برج يشافه بروج السماء، ويشارف الشِّعرى الغُميصاء، إذا حوم عليه نسر الجو صار ثالث النَّسرين، واتخذ وكره في منازل الفرقدين، وأنَّى لخيال الشاعر أن يعلو في وصفه علوَّه، ويسمو سموَّه، لا جرم أنه يضيق عليه نطاق الوصف، فيلجأ إلى تشبيه الأكبر بالأصغر، والأعظم بالأحقر، كما شبَّهوا شمس النهار بكأس العقار، والثريا بعنقود، والجوزاء بعود، ودراريَّ النجوم بالودع المنظوم، والليل الدجوجي بالعبد الزنجي، والأشفاق بالدم المهراق، فلعله يقول إذًا: إنه ألف الهجاء، في كتاب التقدم والارتقاء، همزتُهُ رايته التي تخفق في صفحة الأفق، أو أول العدد المرقوم، في جدول الفنون والعلوم، أو الإبرة التي تُغرَز في خريطة الكرة الأرضية، لتعيين مواضع المدنية، أو هو القلم الذي يخط في أديم البدر، ما بلغتهُ أمم الغرب من علوّ الشأن والقدر، أو هو قرن الثور في زعم البعض، نفذ إلى ظهر الأرض.
ولما فرغنا من الطواف حوله مرارًا، وامتلأت له نفوسنا إعظامًا وإكبارًا، سمعنا «الصديق» يتنهد ويصعِّد، ويعيد في قوله ويردد:

الصديق : هذه سنة الدهر منذ القدم وعادة الزمن في أبنائه، كلما ترقت أمة من الأمم في معارج المدنية شيدت لها أثرًا يفوق سواه من بديع الصنعة، يقوم لها شاهدًا بين الورى على ما بلغته من السمو والقدرة في زمنها، ثم لا يلبث أن يمحوه الدهر من صحيفته ليقوم مقامه آخر ينتهي إلى مثل نهايته، لا يزال الدهر هكذا في محو وإثبات، ولا يزال ابن آدم عن العبر في غفلة وسُبات، اللهم إنه عمل باطل، وظل زائل.
الحكيم : لا تعلُ بنا في أفكارك علوّ البرج قبل أن نصعد فيه، ولا تشغلنا بأقوال الحكمة عن مشاهدته، وهلمَّ بنا إلى الارتقاء.
قال عيسى بن هشام: ودخلنا من أحد جوانبه في غرفة للصعود، فارتفعت بنا من سطح الأرض إلى عنان السماء في لحظة كلمح بالبصر، فرست بنا في الدور الثاني منه وإذا هو سوق من أكبر الأسواق اصفطت فيه حوانيت التجار بأنواع البضائع، والحانات بأصناف الخمور، وفي وسطه مطعم فخم يزري بمطاعم الأرض، فأخذنا مجلسنا في بعض حافاته، وجعل «الباشا» يسأل «الحكيم» إجمالًا وتفصيلًا:

الحكيم : يرتفع هذا البرج عن سطح الأرض بثلثمائة متر، وهو من الحديد الخالص، ويبلغ وزنه تسعة ملايين كيلوجرام، وعددُ قطعه التي يتركب منها اثنا عشر ألف قطعة، والخطاطيف فيه مليونان ونصف، وله من العمر عدة سنوات، وبلغ دخله من الصاعدين فيه في أثناء المعرض الماضي سبعة ملايين فرنك، ولو تم لأهل العصور الماضية بناء مثله لكان الثامن للآيات السبع.
الباشا : وما الآيات السبع؟
الحكيم : إن ذكرها ليطول.
الصديق : نحن في مجلسنا هذا، وفي علونا عن الأرض، وتفرغنا عن العالم ما يبعثنا على جولان الفكر في تاريخ البشر للمطابقة بين أعمال الإنسان في ماضيه وحاضره، وإن اختلاف العصور ومرور الدهور لم يُغير شيئًا من جبلَّته، فهو هو على عهده في غرامه بالمعجب المدهش، يبيع نعيم الدنيا بشقائها في سبيل ذلك، ويشتغل بما لا تقضي به الحاجة لمجرد الزَّهو والعُجْب والتباهي والتفاخر.
الحكيم : نعم يحق لك هنا أن تذهب مذاهبك الحكيمة في تعليل أعمال البشر وطباع الخلق، وأنت تنظر إلى أهل العالم السُّفلي من هذا العالم العُلوي، كأنهم جموع النمل تغدو وتروح في سُبُل أرزاقها، ولكن الفرق بين الجنسين أن النمل في تآزر وتعاون، والناس في تَضَارُب وتقاتل، والمصير واحد والفناء شامل، وعمل النمل حق وعمل الإنسان باطل.
وإن أبيتم إلا أن أحدثكم حديث المعجزات من أعمال البشر فهي: الأهرام، والحدائق المعلَّقة، وسور بابل، وتمثال جوبيتير، وصنم رودس، وهيكل إيفيز، ومدفن الملك مُوزُول.
أما أهرام مصر فأمره مشاهد معلوم.
وأما «الحدائق المعلَّقة» في أرض العراق فقد أقامها «بختنصر» فوق الربوة التي تُعرف الآن بربوة «عمران بن علي»، وهي في اتساع أربعين فدانًا شُيدت بالبناء على أشكال الجبال، وعقدت فيها القباب على عمد وأساطين أفرغوها وملأوها بالطين وغرسوا فيها الأشجار تنساق جذورها في أصولها، وتورق في رءوسها، ووضعوا فيها الدَّرَج يصعد منها الصاعد إلى مثل رءوس الجبال؛ حيث تثمر الأثمار، وتزهر الأزهار، وتعشب الأعشاب، وتدور الدواليب لرفع الماء من مجرى الفرات إلى أعلى القباب، ويقال: إن السبب في إقامتها على هذا الشكل أن امرأة الملك كانت تحنُّ دائمًا إلى مناظر بلادها التي نشأت فيها، فأنشأ لها الملك بالصناعة ما يعوضها به عن الطبيعة.
وأما «سور بابل» فهو عدة أسوار متداخلة بعضها في بعض يتسع محيطها للإحاطة بسبع مدائن مثل مدينة باريس، وكان ارتفاعه ثمانية وأربعين مترًا، وعرضه سبعة وعشرين مترًا، ومن حوله خندق عميق، وعليه أبراج متعددة، وله مائة باب من حديد.
وأما «تمثال جوبيتير» الإله الأكبر عند اليونانيين، فقد صنعه لهم «فيدياس» النَّحات الشهير، وطول قامته أربعة عشر مترًا وهو جالس على العرش، مكلل بورق الغار وفي يمناه تمثال «إله النصر» مصنوع من الذهب الخالص وسن الفيل، وفي يسراه الصولجان منضَّد بكرائم الأحجار، وفي طرفه نسر من الذهب، والطيلسان والحذاء من الذهب أيضًا، أما العرش فكان من الرخام وسن الفيل والأبنوس، وكان موطئ قدميه من العرش أسدين من الذهب، وقد أجاد صانعه وأتقن في تناسب الأعضاء في هذا الحجم العظيم حتى عدَّه القدماء أنفس ما في الوجود من الصنع، وكان كل يوناني يعدُّ نفسه ناقص الإيمان إن مات ولم يحجج إليه.
وأما «صنم رودس» فهو تمثال «أبُو لُونْ» إله الفنون عند اليونانيين أيضًا أقاموه تجاه المرفأ، وكان ارتفاعه اثنين وثلاثين مترًا وهو أكبر ارتفاع بلغته تماثيل القدماء، وانتهى بأن أسقطته الزلازل وهشمته، ونقلت العرب كثيرًا من بقاياه في القرن السابع.
وأما «هيكل إيفيز» (وهي مدينة من مدن اليونان)، فهو معبد «ديَان» إلهة الصيد والقنص، ولم يكن له مثيل في البناء والنقش والزخرف والتصوير بين معابد القدماء على الإطلاق، ومما يُذكر للدلالة على أنه أعظم أثر عندهم أن أحد أهل الشقاوة من المولعين بحب الشهرة، على كل حال، واسمه «إيروسطراط» بحث عن أكبر عمل يمتاز به في الوجود، ويخلد ذكره على مدى الدهور، فاحتال لإحراق المعبد، فأكله النار، وأعلن الجاني عن نفسه أنه هو الفاعل لتلك الفعلة الشنعاء، فحكم عليه القضاة بالتعذيب حتى يموت، وأدركوا غرضه من إحراقه، فأمروا أن يلحق به كل من ذكر اسمه، فكان ذلك داعية انتشاره؛ لأن الناس أخذوا يهمسون به بينهم حتى اشتهر وخلد ذكره بسوء فعلته إلى اليوم، وكان حرقه في الليلة التي ولد فيها الإسكندر، فلما بلغ من الملك ما بلغه، عرض على أهل «إيفيز» أن يعيد لهم بناءه من ماله بشرط أن ينقشوا عليه اسمه، فأبوا ذلك حتى لا يكون لأجنبي عنهم فضل عليهم في معبدهم، وباشروا هم أنفسهم تجديد بنائه وزخرفته حتى تم لهم في مائتين وعشرين عامًا، وما زال قائمًا حتى جاء «نيرون» القيصر الروماني، فنهب ما فيه من الذخائر والكنوز، ونقل الفسيفساء من أرضه فوضعها في قصوره بمدينة «رومية»، ثم انتهى الأمر بأن خرَّبه «الجرمانيون» في حروبهم.
وأما «مدفن الملك موزول» فهو مدفن أقامته له امرأته (كانت أخته) بعد موته جمعت له مهرة الصناع من سائر البقاع، وخصت كل طائفة منهم بجانب من العمل، وكان ارتفاعه اثنين وأربعين مترًا وأساطينه من المرمر النقيِّ، نقشت عليها صور الحوادث التاريخية، وكان غطاؤه صخرة من المرمر صُوِّرت فيه وقائعه الحربية، وبقي هذا المدفن سليمًا إلى القرن الرابع عشر، ثم اندثر أثره في القرون الوسطى، ونقل جانب من أجزائه قريبًا منه لبناء قلعة «بودرون» بالأناضول في القرن السادس عشر، وبقي منه قطع من الرخام المنقوش لاصقة بأرضه إلى أواسط هذا القرن، فاشترتها إنكلترا ووضعتها في متحف لوندره.
الصديق : ما أشبه الليلة بالبارحة! وما أبعد ابن آدم من العبرة والتذكرة!
تراكمت القرون وشاب فود الدهر، وتغيرت الأرض واندثرت المعالم في كل زمان ومكان، والإنسان هو هو لا يزال على غيه يعتقد لأعماله البقاء ولآثاره الخلود، لا فرق في هذا الاعتقاد بين الآشوري عند برج بابل، والفرنسيّ اليوم تحت «برج إيفيل»، كلاهما يتعب ويشقى، وكلا العملين لا يدوم ولا يبقى، وما تبقى إلا الأحاديث والذكر.
كلُّ بيت إلى الهدم ما تَبْتَني الـ ورقاء والسيد الرفيع العماد
والفتى ظاعنٌ ويكفيه ظلٌّ السد ر ضرب الأطناب والأوتاد
الحكيم : نعم صدقت ويحضرني في هذا الباب محاورة ابتكرها أحد قدماء العلماء، وأجراها في عالم الأموات على لسان «ديوجين» الفيلسوف الزاهد القديم والملك «موزول» صاحب ذلك المدفن الشهير، وأذكر منها:
دوجين : ما لي أراك أيها الرجل الآسيوي مختالًا تياهًا في أكفانك! كأنك تريد أن تنزل هنا أيضًا بين الأموات منزلةً أشرف منزلتهم، وتحل تحت طبقات الأرض فوقهم مكانًا عليًّا.
الملك : وهل من شك في ذلك أو ارتياب! ومتى تساوت الملوك بالسُّوقة! وأنا أكبر الملوك ملكًا وسلطانًا، وأحسن الخلق بهاءً وجمالًا، وأعظم الفاتحين نصرةً وجلالًا، وقد كنت في الحياة أرفع ذوي التيجان عرشًا وقدرًا، وأنا اليوم في الممات أعظمهم مدفنًا وقبرًا، وإن افترى مفترٍ منهم أنه كان يساويني في فخامة الملك، فقد انقطعت ألسنتهم أن يكون لهم مثل هذا القبر، فهو معجزة البشر في النقش والحفر، وآية الدهر في المجد والفخر، فما ترى بعد ذلك أيها المتقشف في الدنيا والمندثر في الآخرة أن ليس من حقي التخايل والترفع!
ديوجين : ولكني أراك أيها الملك العظيم الجليل لم يبق لك من سلطانك وجلالك أكثر مما بقي لي، وهذه جمجمتك لا تمتاز عن جمجمتي بشيء، فكلتاهما مثقوبتا العينين، مفحورتا الأنف، بارزة الأسنان، وأما ذلك المدفن الفخم والصخور المزخرفة فوق رأسك، فلا فائدة لك اليوم منها بعد أن تساويت فيه بمن دفن في بلقع من الأرض، وإنما أصبحت فائدته للأحياء من أهل بلدكم يتباهون به على الوافدين إليه من الأقطار حينًا من الدهر، ثم لا يلبث أن تندك أحجاره، وتزول آثاره.
الملك : ما هذا الذي أسمعه، يا ربَّ الصواعق والرواعد! أيذهب كل ما أوتيته من أسباب العز والمجد متاعًا باطلًا، وأصبح مساويًا لديوجين فيوسعني تأنيبًا وتبكيتًا؟
ديوجين : لا تقل أيها المخلوق: إنك أصبحت مساويًا لي، فشتان ما بيني وبينك، فإنك لا تنفك تتحسر على ما كان لك في الدنيا من الملك والسلطان وزخرف الحياة، وأما أنا فلا يحزنني شيء ولا يكدرني الآن مكدر، ولم أترك في الحياة شيئًا آسف عليه ويوجعني فراقه، ولئن خطر الزنبيل الذي كنت أسكنه في الدنيا على بالي يومًا لكان للاغتباط بأن مسكني الآن في بطن الأرض أوسع لي مجالًا وأحسن منزلًا، ولكن لي في قلوب أهل الدنيا ذكرًا حسنًا، وأثرًا من الفضائل خالدًا لا تمحوه الأيام ولا يبلى ببلاء الزمن، فأين مكانك أيها المغرور من مكاني، وأين ذكرك أيها المفتون من ذكري؟
الباشا : ما أحكمَ الموعظة وأجلَّ العبرة!
الحكيم : ولو علمتم أن «المسيو إيفيل» صاحب هذا البرج العظيم قد انتهى أمره بتهمة السرقة والاختلاس وسُجن في قضية «بناما» الشهيرة لاشتدَّ بكم العجب في نتيجة هذه الآثار، وذهاب أصحابها بسوء السمعة والأخبار.
والآن فقد أحطتم بمشاهد المدينة ومناظرها في صنائعها بآلاتها وأدواتها، من بطن الأرض إلى سطح البرج، متجلية لكم في هذا المعرض بأجلى مظاهرها وأسنى مراتبها، فإن كان من عزمكم العودة متعجلين إلى بلادكم، فقد كفاكم ما شاهدتموه مما يملأ الصدر مهابة والعيون حسنًا، وأودعكم مع الأسف الشديد لفراقكم، فقد رأيت فيكم من حسن العشرة ولطف الخلطة وذكاء القريحة، ودقة الفكر ما لم أكن أتوسمه من قبل في كثير من أهل الشرق، وإن كان في نيتكم الإقامة زمنًا بيننا، وكان الميل فيكم شديدًا لاستطلاع العالم الأدبي بعد العالم المادي في هذه الحضارة الغربية، وأحببتم الوقوف على ما تجري عليه أحوال الجمعية البشرية، وما تدور به المعاملات في المعايش والمرافق، وما تنطوي عليه من الأخلاق والصفات، ويتسلط عليها من الطباع والعادات، فأنا حاضر بين أيديكم لمصاحبتكم ومرافقتكم، والفضل كل الفضل لكم فيما أجده من الأنس بكم ولذة النفس في مباحثتكم ومناقشتكم.
قال عيسى بن هشام: فحبب إلينا البقاء بكلامه، وحمدناه على حسن صنعه وإكرامه، وصادف رأيه لدينا حسن القبول، ففضلنا الإقامة على القفول، وبهذا انتهينا من زيارة معرض النفائس والأعلاق، لنبدأ بالنظر في معرض الأطوار والأخلاق.


١ العوان: بعد البكر.
٢ الآطام: الحصون.
٣ الشنف: القرط.


===================
محمد إبراهيم عبد الخالق المويلحي (1858 - 1930) أديب وصحفي مصري، شارك مع والده في تأسيس عدة صحف وتولى رئاسة تحرير مصباح الشرق. مؤلف كتاب من حديث عيسى ابن هشام وعدة كتب أخرى. شارك في الثورة العرابية فنفي إلى إسطنبول من 1882 إلى 1887.

الولادة والنشأة
ولد في القاهرة في عام 1858 م، لأسرة من الأشراف مقرَّبة جدّاً إلى الخديوي إسماعيل، والده إبراهيم المويلحي الأديب والصحفي. وأصله من المويلح في شمال الحجاز وأول من انتقل إلى مصر من أسلافه جده أحمد المويلحي

نشاطه السياسي والصحفي
ألقي القبض عليه سنة 1882 في أثناء الثورة العرابية وهو يوزِّع منشورات وحُكم عليه بالإعدام بيد أن الحكم خُفِّف وبدِّل إلى حكم بالنفي، فالتحق بأبيه إبراهيم وبالخديوي إسماعيل في أوربَّا وشارك مع أبيه في تأسيس عدة جرائد منها الاتحاد. ثم قضى مدة من الزمان بالأستانة حيث أتيح له أن ينسخ مخطوطات منسية لعدة أدباء من العرب المشهورين أمثال أبو العلاء المعري ونشرها فيما بعد في مصباح الشرق. ترك أباه بالأستانة سنة 1887م وعاد إلى مصر حيث استأنف نشاطه الصحافي فنشر عدة مقالات في المقطم متعلقة بالقضية الوطنية. تقرَّب إلى الأميرة نازلي فاضل واتصل بمن حولها من الإصلاحيين أمثال محمد عبده وقاسم أمين وحافظ إبراهيم. عاد أبوه إبراهيم إلى مصر سنة 1895م وأسَّس صحيفة مصباح الشرق فتولى محمد بالتدريج رئاسة تحريرها ونشر فيها أشهر عمل له تحت عنوان فترة من الزمان.

نشاطه الأدبي
حديث عيسى بن هشام، أو (فترة من الزمن) هي سلسلة من مقالات منسوجة على منوال بديع الزمان الهمذاني مسجوعة سجعًا منقنًا. الراوي، عيسى بن هشام نفس راوي مقامات الهمذاني. بيد أن الشكل إن كان كلاسيكيًا فإن الفحوى حديثة جدًّا إلى درجة أن هذا العمل اعتُبِر همزة وصل بين الأدب العربي القديم وبين الأشكال الفنية الجديدة. ذلك أن نزهة عيسى وصاحبه الباشا في مصر أواخر القرن التاسعَ عشرَ تؤدِّي إلى نقد اجتماعي لاذع بعيد كل البعد عن التطلعات العاطفية والفلسفية التي كانت تَسِمُ الرواية العربية الناشئة. فجمعت هذه المقالات سنة 1907 تحت عنوان حديث عيسى بن هشام وأعيدت طباعتها مرات كثيرة. في نفس الجريدة نشر محمد المويلحي نقد ديوان شوقي وعلاج النفس (وهي سلسلة من المقالات الفلسفية).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى